شرح إحقاق الحق (ج19) |
ص 551 جملة من كلماته عليه السلامرواها في التذكرة الحمدونية (ص 111 و269 ط بيروت) قال: قال موسى بن جعفر: وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد بك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك من ذنبك. معنى هذه الأربع، الأولى: وجوب معرفة الله تعالى التي هي اللطف، الثانية: معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر والعبادة، الثالثة: أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك وندبك إلى فعله على الحد الذي أراده منك فتستحق بذل الثواب، الرابعة: أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه. وقال علي بن موسى بن جعفر: من رضي من الله عز وجل بالقليل من الرزق رضي منه بالقليل من العمل. وقال: لا يعدم المرء دائرة السوء مع نكث الصفقة، ولا يعدم تعجيل العقوبة مع ادراع البغي. ص 552 وقال: الناس ضربان: بالغ لا يكتفي وطالب لا يجد. وقال موسى بن جعفر: من لم يجد للإساءة مضضا لم يكن للاحسان عنده موقع. وقال: ما استب اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل. وقال آخر: ما استب اثنان إلا غلب آلامهما. وقال موسى أيضا: من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله وخاب أمله، ومن ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه منها لم ينل جسيما، ومن أبطرته النعمة وقره زوالها. (ومن كلام عليه السلام)إذا أقبلت الدنيا على انسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. رواه في سير أعلام النبلاء (ج 9 ص 388 ط بيروت) عن علي بن موسى الرضا عن أبيه. ص 553
مستدرك ما أوردناه
(في فضائل الإمام الثامن علي بن موسى الرضا) (عليه السلام)قد تقدم نقل جملة مما ورد منها في كتب أعلام أهل السنة وأعاظمهم في المجلد الثاني عشر (ص 344 إلى ص 411) ونستدرك هيهنا بعض ما لم ننقله هناك أو نقلناه عن غير من ننقل عنه هيهنا:
نسبه وتاريخ ولادته ووفاته
فممن لم ننقل عنه سابقا العلامة العارف الخواجة المولوي عبد الفتاح ابن محمد نعمان الحنفي الهندي المتوفى سند 1096 في مفتاح العارف (ص 79 مخطوط) قال: الإمام علي بن موسى ع لقب بالرضا وكنيته أبو الحسن، وكان أبوه موسى بن جعفر ع يقول: أعطيته كنيتي. ولد يوم الخميس وقيل يوم الجمعة حادي عشر من شهر ربيع الثاني سنة ص 554 مائة وخمسين، وكانت أمه أم ولد وروى عنها، قالت: لم أجد ثقلا مدة الحمل به وكنت أسمع منه حين المنام صوت التسبيح. ومنهم العلامة الشيخ يسن بن إبراهيم السنهوتي الشافعي في الأنوار القدسية (ص 39 ط السعادة بمصر) قال: الإمام علي الرضا رضي الله عنه عقد جيد جلالة الرسالة ووشاح عطف سلالة الشرف وشرف السلالة، جعل الله تعالى وجوده العزيز على قدرته أعظم دلالة، فلا يسمع ساعيا في إطرائه براعة عبارة، ولا يدرك عرفانه إلا بلسان الإشارة. كان عظيم الشأن والقدر مشهور الفضل حميد الذكر، أحله المأمون محل مهجته وأشركه في مملكته وعقد له على ابنته وعهد إليه بالخلافة من بعده بعد ما أراد أن يخلع نفسه ويفوضها في حياته إليه، فمنعه بنو العباس فمات قبله، فأسف كل الأسف عليه. وله كرامات كثيرة. إلى أن قال: وقال بعض أصحاب أبي نؤاس: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمرا ولا طربا ولا معنى إلا فلت فيه شيئا وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا. فقال: والله ما تركت ذلك إلا إعظاما له وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة: قيل لي أنت أحسن الناس طرا * في فنون من الكلام النبيه لك من جيد القريض مديح * يثمر الدر في يد مجتنيه فعلام تركت مدح ابن موسى * والخصال التي تجمعن فيه قلت لا أستطيع مدح إمام * كان جبريل خادما لأبيه وقال فيه أيضا: ص 555 مطهرون نقيات جيوبهم * تجرى الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر الله لما برى خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور قلت: ومن هذا الجواب يلتمس العذر لأبي نؤاس وأمثاله من كبار الشعراء المجيدين عن عدم جرأتهم على مدح الحضرة المحمدية لا كما يتوهم بعض القاصرين. لا يقال: كيف مدحه المتأخرون إذا؟ لأنا نقول: إنما قصد المتأخرون بذلك مجرد التبرك لا أداء حقه، والمتقدمون علموا أن أداء حقه للبشر مستحيل فتوقفوا، ولكل وجهة. وكانت ولادته رضي الله عنه يوم الجمعة سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة وتوفي آخر صفر سنة اثنتين ومائتين بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد. قيل: سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل بل كان مسموما فاعتل منه فمات رضي الله عنه. ومنهم العلامة شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء (ج 9 ص 387 ط بيروت) قال: الإمام السيد، أبو الحسن، علي الرضا بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر، بن علي، بن الحسين، الهاشمي العلوي المدني، وأمه نوبية اسمها سكينة. مولده بالمدينة في سنة ثمان وأربعين ومائة عام وفاة جده. إلى أن قال: وكان من العلم والدين والسؤدد بمكان. ص 556 إلى أن قال: قال الصولي: حدثنا أحمد بن يحيى أن الشعبي قال: أفخر بيت قيل قول الأنصار يوم بدر: وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد ثم قال الصولي: أفخر منه قول الحسين بن هانئ في علي بن موسى الرضا: قيل لي أنت واحد الناس في ك * ل كلام من المقال بديه لك في جوهر الكلام بديع * يثمر الدر في يدي مجتنيه فعلام تركت مدح ابن موسى * بالخصال التي تجمعن فيه قلت: لا أهتدي لمدح إمام * كان جبريل خادما لأبيه ومنهم العلامة ابن خلكان المتوفى سنة 681 في وفيات الأعيان (ج 2 ص 432) قال: وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل: بل ولد سابع شوال، وقيل: ثامنه، وقيل: سادسه، سنة إحدى وخمسين ومائة. وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين، وقيل: بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة، سنة ثلاث ومائتين، بمدينة طوس وصلى عليه المأمون، ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سببه موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل: بل كان مسموما فاعتل منه، ومات رحمه الله تعالى. ثم ذكر ما تقدم من إنشاء أبي نؤاس لما قيل له: ما رأيت أوقح منك - الخ. ثم ذكر الأبيات بعين ما تقدم عن الأنوار القدسية وكذا أبياته الأخرى أيضا بعين ما تقدم فيه. ص 557 ومنهم العلامة المحدث أحمد بن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 202 ط القاهرة) قال: علي الرضا وهو أنبههم ذكرا وأجلهم قدرا. من ثم أحله المأمون محل مهجته وأنكحه ابنته وأشركه في مملكته وفوض إليه أمر خلافته، فإنه كتب بيده كتابا سنة إحدى ومائتين بأن عليا الرضا ولي عهده وأشهد عليه جمعا كثيرين. لكنه توفي قبله فأسف عليه كثيرا. وأخبر قبل موته بأنه يأكل عنبا ورمانا مبثوثا ويموت، وأن المأمون يريد دفنه خلف الرشيد فلم يستطع، فكان ذلك كله كما أخبر به. ومنهم العلامة عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي في الاتحاف بحب الأشراف (ص 58 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر) قال: الثامن: من الأئمة علي الرضا. كان رضي الله عنه كريما جليلا مهابا موقرا، وكان أبوه موسى الكاظم يحبه حبا شديدا. ووهب له ضيعة اليسيرية التي اشتراها بثلاثين ألف دينار. ويقال: إن عليا الرضا أعتق ألف مملوك وكان صاحب وضوء وصلاة ليله كله، يتوضأ ويصلي ويرقد ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ويرقد وهكذا إلى الصباح. قال بعض جماعته: ما رأيته قط إلا ذكرت قوله تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . قال بعضهم: علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق فاق أهل البيت شأنه وارتفع فيهم مكانه وكثر أعوانه وظهر برهانه حتى أحله الخليفة المأمون محل مهجته وأشركه في خلافته وفوض إليه أمر مملكته وعقد له على رؤس الأشهاد ص 558 عقد نكاح ابنته، وكانت مناقبه علية وصفاته سنية ونفسه الشريفة هاشمية وأرومته الكريمة نبوية. وكراماته أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر، فذكر جملة من كراماته ثم قال: وعن محمد بن يحيى الفارسي: قال نظر أبو نؤاس إلى علي الرضا بن موسى ذات يوم وقد خرج على بغلة فارهة فدنا منه وسلم، وقال: يا ابن رسول الله قلت فيك أبياتا أحب أن تسمعها مني. فقال له: قل، فأنشأ أبو نؤاس يقول: مطهرات نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم كلما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر القوم أهل البيت عندهم * علم الكتاب وجاءت به السور إلى آخر أبيات ما سبق إليها أحد، ما معك يا غلام من فاضل نفقتنا. قال: ثلاثمائة دينار. ثم بعد أن ذهب إلى بيته قال: لعله استقلها سق يا غلام إليه البغلة. ومنهم العلامة الشبلنجي في نور الأبصار (ص 152 ط المكتبة الشعبية بمصر) قال: ولد علي بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة، وقيل سنة ثلاث وأربعين ومائة، وأمه أم ولد يقال لها أم البنين، واسمها أروى، وكنيته أبو الحسن، وألقابه الرضا والصابر والزكي والولي، وأشهرها الرضا. صفته أسود معتدل، لأن أمه كانت سوداء. دخل يوما حماما، فبينما هو في مكان من الحمام إذ دخل عليه جندي فأزاله عن موضعه وقال: صب على رأسي يا أسود، فصب على رأسه فدخل من عرفه، فصاح: يا جندي هلكت أتستخدم ابن بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلم. فأقبل الجندي يقبل رجليه ويقول: هلا عصيتني إذ ص 559 أمرتك. فقال: إنها لمثوبة وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه، ثم أنشأ يقول: ليس لي ذنب ولا ذنب لمن * قال لي يا عبد أو يا أسود إنما الذنب لمن ألبسني * ظلمة وهو الذي لا يحمد كذا في تاريخ القرماني، شاعره دعبل الخزاعي، بوابه محمد بن الفرات نقش خاتمه حسبي الله ، معاصره الأمين والمأمون. إلى أن قال: قال إبراهيم بن العباس: ما رأيت الرضا سئل عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقت عصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال من كل شيء فيجيبه الجواب الشافي، وكان قليل النوم كثير الصوم لا يفوته صوم ثلاثة أيام من كل شهر ويقول ذلك صيام الدهر، وكان كثير المعروف والصدقة وأكثر ما يكون ذلك منه في الليالي المظلمة، وكان جلوسه في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح. فذكر جملة من كراماته تقدم نقلها عنه في ج 12. وفي (ص 158 من الطبع المذكور): حكي أن المأمون وجد في عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلا من الخروج إلى الصلاة، فقال لأبي الحسن علي الرضا: قم يا أبا الحسن اركب وصل بالناس العيد. فامتنع وقال: قد علمت ما كن بيني وبينك من الشروط فأعفني من الصلاة. فقال المأمون: إنما أريد أن أنوه بذكرك ويشتهر أمرك بأنك ولي عهدي والخليفة من بعدي، وألح عليه في ذلك. فقال له الرضا: إن أعفيتني من ذلك كان أحب إلي وأن أبيت إلا أن أخرج للصلاة، فإنما أخرج للصلاة على الصفة التي كان النبيّ صلّى عليه وآله وسلم يخرج عليها. فقال المأمون: افعل كيفما أردت. وأمر المأمون القواد والجند وأعيان دولته بالركوب في خدمته إلى المصلى ص 560 فركب الناس إلى بيته وحضر القراء والمؤذنون والمكبرون إلى بابه ينتظرون أن يخرج فخرج إليهم الرضا وقد اغتسل ولبس أفخر ثيابه وتعمم بعمامة وألقى طرفا منها على عاتقه ودهن طيبا وأخذ عكازا في يده وخرج ماشيا ولم يركب وقال لمواليه وأتباعه افعلوا كما فعلت ففعلوا كفعله وصاروا بين يديه عند شروق الشمس رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير فلما رآه القواد والجند على تلك الحالة لم يسعهم إلا أن نزلوا عن خيولهم ومراكبهم وساروا بين يديه وتركوا دوابهم مع غلمانهم خلف الناس، وكان كلما كبر الرضا كبر الناس بتكبيره وكلما هلل هللوا بتهليله وهم سائرون بين يديه حتى خيل للناس أن الحيطان والجدران تجاوبهم بالتكبير والتهليل وارتفع البكاء والصراخ فبلغ ذلك المأمون فقال له الفضل: إن بلغ الرضا المصلى أفتتن به الناس وخفنا على دمائنا وأرواحنا وعليك في نفسك فابعث إليه ورده، فبعث إليه المأمون قد كلفناك يا أبا الحسن ولا تصب أن تلحقك مشقة ارجع إلى بيتك ويصلي بالناس من كان يصلي بهم من قبل، فرجع علي الرضا إلى بيته وركب المأمون فصلى بالناس. (فائدة) قال المأمون لعلي الرضا رضي الله عنه: أنشدنا أحسن ما رويت في السكوت عن الجاهل وعتاب الصديق، فقال: إني ليهجرني الصديق تجنبا * فأرى بأن لهجره أسبابا وأراه إن عاتبته أغريته * فأي له ترك العتاب عتابا فإذا بليت بجاهل متحكم * يجد الأمور من المحال صوابا أوليته مني السكوت وربما * كان السكوت عن الجواب جوابا ص 561
أنموذج من كراماته عليه السلام
رواها جماعة من أعلام القوم: منهم العلامة الشيخ يسن بن إبراهيم السنهوتي في الأنوار القدسية (ص 39 ط السعادة بمصر) قال: وله (علي بن موسى الرضا ع ) كرامات كثيرة: (منها) أنه أخبر أنه يأكل عنبا ورمانا فيموت، فيريد المأمون دفنه خلف الرشيد فلا يمكنه، فكان كذلك. (ومنها) أنه قال لرجل صحيح سليم: استعد لما لا بد منه، فمات بعد ثلاثة أيام. رواه الحاكم. (ومنها) ما رواه الحاكم أيضا عن محمد بن عيسى عن أبي حبيب قال: رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم في المنزل الذي ينزله الحاج ببلدنا، فوجدت عنده طبقا من خوص فيه تمر صيحاني فناولني ثمان عشره تمرة فبعد عشرين يوما، قدم علي الرضا من المدينة ونزل في ذلك المنزل وهرع ص 562 الناس للسلام عليه ومضيت نحوه فإذا هو جالس بالموضع الذي رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم قاعدا فيه وبين يديه تمر صيحاني فناولني قبضة فإذا عدتها بعدد ما ناولني المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقلت: زدني. فقال: لو زادك رسول الله صلّى عليه وآله وسلم لزدناك. وقال المأمون لعلي بن موسى الرضى: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب. فقال ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه وفرض طاعته على بنيه فأمر له بألف ألف درهم. وكان قد خرج أخوه زيد بن موسى بالبصرة على المأمون وفتك بأهلها فأرسل إليه المأمون أخاه عليا المنوه به يرده عن ذلك فجاء وقال له ويلك يا زيد فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلم والله لأشد الناس عليك رسول الله صلّى عليه وآله وسلم، يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطى به. فبلغ كلامه المأمون فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلّى عليه وآله وسلم. قال ابن خلكان: وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام علي زين العابدين المقدم ذكره، فقد قيل: إنه كان إذا سافر كتم نفسه، فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلّى عليه وآله وسلم ما لا أعطي. ومنهم الفاضل المعاصر الشيخ أحمد التابعي المصري في الاعتصام بحبل الإسلام (ص 239 ط السعادة بالقاهرة) روى عن هرثمة بن أعين - وكان من خدم الخليفة عبد الله المأمون، وكان قائما بخدمة الرضا. قال: طلبني سيدي أبو الحسن الرضا في يوم من الأيام وقال له: يا هرثمة إني مطلعك على أمر يكون سرا عندك لا تظهره لأحد مدة حياتي، فإن أظهرته حال حياتي كنت خصما لك عند الله. فحلفت له أني لا أتفوه بما ص 563 يقوله لأحد مدة حياته. فقال لي: اعلم يا هرثمة أنه قد دنا أجلي ولحوقي بآبائي وأجدادي، وقد بلغ الكتاب أجله وإني أطعم عنبا ورمانا مفتوتا فأموت، ويقصد الخليفة أن يجعل قبري خلف قبر أبيه هرون الرشيد، وإن الله لا يقدره على ذلك وإن الأرض تشتد عليهم فلا تعمل فيها المعاول ولا يستطيعون حفرها، فاعلم يا هرثمة أن مدفني في الجهة الفلانية من اللحد الفلاني موضع عينه لي، فإذا أنامت وجهزت فأعلمه بجميع ما قلت لك لتكونوا على بصيرة من أمري، وقل له: إذا أنا وضعت في نعشي وأرادوا الصلاة علي فلا يصلي علي وليتأن قليلا يأتكم رجل عربي متلثم على ناقة له مسرع من جهة الصحراء فينيخ ناقته وينزل عنها ويصلي علي فصلوا معه علي، فإذا فرغتم من الصلاة علي وحملت إلى مدفني الذي عينته لك فاحفر شيئا يسيرا من جهة الأرض تجد قبرا مطبقا معمورا في قعره ماء أبيض، فإذا كشفت عنه الطبقات نصب الماء فهذا مدفني فادفنوني فيه، الله الله يا هرثمة أن تخبر بهذا. قال هرثمة: فوالله ما طالت أيامه حتى أكل الرضا عند الخليفة عنبا ورمانا فمات. فدخلت على الخليفة المأمون لما بلغه موت أبي الحسن علي الرضا، فوجدت المنديل بيده وهو يبكي عليه فقلت: يا أمير المؤمنين ثم كلام أتاذن لي أن أقوله لك. قال: قل، فقصصت القصة عليه التي قالها لي الرضا من أولها إلى آخرها. فتعجب المأمون من ذلك ثم أمر بتجهيزه وخرجنا بجنازته إلى المصلى وأخرنا الصلاة عليه قليلا، فإذا بالرجل العربي قد أقبل على بعيره من جهة الصحراء كما قال، فنزل ولم يكلم أحدا فصلى عليه وصلى الناس معه وأمر الخليفة بطلب الرجل، فلم يروا له أثرا ولا لبعيره. ص 564 ومنهم العلامة عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي في الاتحاف بحب الأشراف (ص 58 مصطفى البابي الحلبي) قال: كراماته أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر: (منها) أنه لما جعله المأمون ولي عهده من بعده كان من حاشية المأمون أناس قد كرهوا ذلك وخافوا من خروج الخلافة عن بني العباس وعودها إلى بني فاطمة، فحصل عندهم من علي الرضا بن موسى نفور، وكان عادة الرضا إذا جاء إلى دار المأمون ليدخل عليه بادر من في الدهليز من الحجاب وأهل النوبة من الخدم والحشم بالقيام له والسلام عليه ويرفعون له الستور حتى يدخل، فلما حصل لهم هذه النفرة وتفاوضوا في أمر هذه القضية ودخل في قلوبهم منها شيء قالوا فيما بينهم: إذا جاء يدخل على الخليفة بعد اليوم نعرض عنه ولا نرفع له الستر. واتفقوا على ذلك، فبينما هم جلوس إذ جاء الرضا على جري عادته، فسلم يملكوا أنفسهم أن قاموا له وسلموا عليه ورفعوا له الستر على عادتهم، فلما دخل أقبل بعضهم على بعض يتلاومون في كونهم ما فعلوا ما اتفقوا عليه وقالوا: الكرة الآتية إذا جاء لا نرفعه له. فلما كان اليوم الثاني وجاء الرضا على عادته قاموا فسلموا عليه ولم يرفعوا الستر، فجاءت ريح شديدة فدخلت في الستر ورفعته له حين دخل وخرج، فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: إن لهذا الرجل عند الله منزلة وله منه عناية انظروا إلى الريح كيف جاءت ورفعت له الستر عند دخوله وعند خروجه من الجهتين ارجعوا إلى ما كنتم عليه من خدمته. وعن صفوان بن يحيى قال: لما مضى موسى الكاظم وقام ولده أبو الحسن من بعده وتكلم خفنا عليه من ذلك وقلنا له: إنك أظهرت أمرا عظيما وإنا نخاف عليك من هذا الطاغية - يعني هارون - قال: ليجهدن جهده فلا سبيل له علي. قال صفوان: ص 565 فحدثنا الثقة أن يحيى بن خالد البرمكي قال لهارون الرشيد: هذا علي الرضا بن موسى قد تقدم وادعى الأمر لنفسه. فقال هارون: يكفينا ما فعلنا بأبيه تريد أن تقتلهم جميعا. وعن مسافر قال: كنت مع أبي الحسن علي الرضا بمنى، فمر يحيى بن خالد البرمكي وهو مغط وجهه بمنديل من الغبار، فقال: مساكين هؤلاء ما يدرون ما يحل بهم في هذه السنة. فكان من أمرهم ما كان. قال: وأعجب من هذا أنا وهارون كهاتين - وضم أصبعيه السبابة والوسطى - قال مسافر: فوالله ما عرفت معنى حديثه في هارون إلا بعد موت الرضا ودفنه بجانبه وعن موسى بن مروان قال: رأيت عليا الرضا بن موسى في المسجد المدينة وهارون الرشيد يخطب، قال: تروني وإياه ندفن في بيت واحد. وعن حمزة بن جعفر الأرجاني قال: خرج هارون الرشيد من المسجد الحرام من باب وخرج علي الرضا من باب، فقال الرضا وهو يعني هارون: يا بعد الدار وقرب الملتقى أن طوس ستجمعني وإياه. ومن ذلك ما روي عن بكر بن صالح قال: أتيت الرضا فقلت: امرأتي أخت محمد بن سنان وكان من خواص شيعتكم وبها حمل فادع الله أن يجعله ذكرا. قال: هما اثنان فإذا ولدت سم واحدا محمدا والأخرى أم عمرو، فعدت إلى الكوفة فولدت لي غلاما وجارية، فسميت الذكر محمدا والأنثى أم عمرو كما أمرني، وقلت لأمي: ما معنى أم عمرو؟ قالت: كانت جدتي تسمى أم عمرو ومن كتاب أعلام الورى للطوسي قال: روى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن محمد بن عيسى بن أبي حبيب قال: رأيت النبيّ صلّى عليه وآله وسلم في المنام وكأنه قد وافى المنزل الذي ينزله الحجاج من بلدنا في كل سنة، وكأني مضيت إليه وسلمت عليه ووقفت بين يديه فوجدته وعنده طبق من خوص المدينة ص 566 فيه تمر صيحاني، وكأنه قبض قبضة من ذلك التمر فناولنيها فعددتها فوجدتها ثماني عشرة تمرة، فتأولت أني أعيش بعدد كل تمرة سنة، فلما كان بعد عشرين يوما وأنا في أرض لي تعمر بالزراعة إذ جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن علي الرضا ابن موسى من المدينة ونزوله في المسجد، ورأيت الناس يسعون إلى السلام عليه من كل جانب، فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي رأيت النبيّ صلّى عليه وآله وسلم فيه وتحته حصير مثل الحصير التي رأيتها تحته صلى الله عليه وسلم وبين يديه طبق من خوص وفيه تمر صيحاني، فسلمت عليه فرد علي السلام واستدناني وناولني قبضة من ذلك التمر، فعددتها فإذا هي بعدد ما ناولني رسول الله صلّى عليه وآله وسلم في النوم ثماني عشرة تمرة، فقلت: زدني. فقال: لو زادك رسول الله لزدناك. وروى الحاكم أيضا بإسناده مع سعيد بن سعد عن أبي الحسن الرضا أنه نظر إلى رجل فقال: يا عبد الله أوص بما تريد واستعد لما لا بد منه، فمات الرجل بعد ذلك بثلاثة أيام. وعن الحسن بن موسى قال: كنا حول أبي الحسن علي الرضا بن موسى ونحن شباب من بني هاشم، فمر علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رث الهيئة، فنظر بعضنا إلى بعض نظر مستهزئ به، فقال الرضا: سترونه عن قريب كثير المال كثير الخدم حسن الهيئة. فما مضى إلا شهر واحد حتى ولي أمر المدينة وحسنت حاله، وكان يمر بنا وحوله الخدم والحشم يسيرون بين يديه فنقوم ونعظمه وندعوا له. وعن الحسين بن يسار قال: قال لي علي الرضا: إن عبد الله يقتل محمدا. فقلت: عبد الله بن هارون يقتل محمد بن هارون. قال: نعم، وقد وقع ذلك. إلى أن قال: ص 567 قال إبراهيم بن العباس: ما رأيت الرضا سئل عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان والوقت. وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيبه الجواب الشافي، وكان قليل النوم كثير الصوم لا يفوته صوم ثلاثة أيام من كل شهر ويقول: ذلك صيام الدهر، وكان كثير المعروف والصدقة سرا، وكثيرا ما يكون ذلك في الليالي المظلمة. وهذه صورة كتاب العهد الذي كتبة المأمون الخليفة العباسي إلى الإمام علي الرضا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده، أما بعد فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام دينا واختار له من عباده رسلا دالين عليه وهادين إليه يبشر أولهم بآخرهم ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ودروس من العلم وانقطاع من الوحي واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين وجعله شاهدا عليهم ومهيمنا، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الرسالة جعل قوم الدين ونظام أمر المسلمين في الخلافة ونظامها والقيام بشرائعها وأحكامها، ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه وحمل ميثاقها وتجرع طعمها ومذاقها مسهرا لعينه مضنيا لبدنه مطيلا لفكره فيما فيه عز الدين وقمع المشركين وصلاح الأمة وجمع الكلمة ونشر العدل وإقامة الكتاب والسنة، وما بعد ذلك من الخفض والدعة ومهنأ العيش محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى مناصحا له في دينه وعباده، ويختار لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى بالاستخارة بذلك وسائله إلهامه لما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره، معملا ص 568 فكره في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه وبالغا في المسألة ممن خفي عليه منهم جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة وابتلى أخبارهم مشاهدة واستبرئ أحوالهم معاينة وكشف ما عندهم مسألة، وكانت خيرته بعد استخارته الله تعالى وإجهاده نفسه في قضائه حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا عليا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع وعلمه الرائع وورعه الشائع وزهده الخالص النافع وتخليه من الدنيا وتفرده عن الناس، وقد استسأل له ما لم تزل الأخبار عليه منطبقة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة والأخبار واسعة، ولما لم يزل يعرف به من الفضل يافعا وناشئا وحدثا وكهلا فلذلك عقد له بالعهد الخلافة من بعده، واثقا بخيرة الله تعالى في ذلك إذ علم الله أن فعله إيثار له وللدين ونظر للاسلام والمسلمين طلبا للسلامة وثبات الحجة والنجاح في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعوه الكل مطيعين مسارعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيره ممن هو أسبق رحما وأقرب قرابة، وسماه الرضا إذ كان رضيا عند الله تعالى وعند الناس، وقد آثر طاعة الله تعالى والنظر لنفسه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين. كتبه بيده عبد الله المأمون في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظم قدره سنة إحدى ومائتين . وزوجه المأمون ابنته أم حبيب في أول سنة اثنتين ومائتين والمأمون متوجه إلى العراق. وكانت وفاة علي الرضا بطوس من خراسان في أواخر صفر سنة ثلاث ومائتين، وله من العمر خمس وخمسون سنة وله من الأولاد خمسة ذكور وبنت. ص 569 ومنهم العلامة الشبلنجي في نور الأبصار (ص 160 ط المطبعة الشعبية بمصر) قال: عن هرثمة بن أعين - وكان من خدم الخليفة عبد الله المأمون وكان قائما بخدمة الرضا - قال: طلبني سيدي أبو الحسن الرضا في يوم من الأيام وقال لي: يا هرثمة إني مطلعك على أمر يكون سرا عندك لا تظهره لأحد مدة حياتي، فإن أظهرته حال حياتي كنت خصما لك عند الله. فحلفت له أني لا أتفوه بما يقوله لي لأحد مدة حياته. فقال لي: اعلم يا هرثمة أنه قد دنا رحيلي ولحوقي بآبائي وأجدادي، وقد بلغ الكتاب أجله وإني أطعم عنبا ورمانا مفتوتا فأموت، ويقصد الخليفة أن يجعل قبري خلف قبر أبيه هرون الرشيد وإن الله لم يقدره على ذلك وأن الأرض تشتد عليهم فلا تعمل فيها المعاول ولا يستطيعون حفرها. فاعلم يا هرثمة أن مدفني في الجهة الفلانية من اللحد الفلاني لموضع عينه لي، فإذا أنامت وجهزت فأعلمه بجميع ما قلت لك لتكونوا على بصيرة من أمري وقل له: إذا أنا وضعت في نعشي وأرادوا الصلاة علي فلا يصل علي وليتأن قليلا يأتكم رجل عربي متلثم على ناقة له مسرع من جهة الصحراء فينيخ ناقته وينزل عنها ويصلي علي فصلوا معه علي. فإذا فرغتم من الصلاة علي وحملت إلى مدفني الذي عينته لك فاحفر شيئا يسيرا من وجه الأرض تجد قبرا مطبقا معمورا في قعره ماء أبيض، فإذا كشفت عنه الطبقات نضب الماء فهذا مدفني فادفني فيه. الله الله يأمر ثمة أن تخبر بهذا. قال هرثمة: فوالله ما طالت أيامه حتى أكل الرضا عند الخليفة عنبا ورمانا فمات عن أبي الصلت الهروي قال: دخلت على علي الرضا وقد خرج من عند المأمون فقال: يا أبا الصلت قد فعلوها، وجعل يوحد الله ويمجده، فأقام يومين ومات في اليوم الثالث. ص 570 قال هرثمة: فدخلت على الخليفة المأمون لما بلغه موت أبي الحسن علي الرضا فوجدت المنديل بيده وهو يبكي عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين ثم كلام أتأذن لي أن أقوله لك. قال: قل، فقصصت القصة عليه التي قالها لي الرضا من أولها إلى آخرها. فتعجب المأمون من ذلك ثم أمر بتجهيزه وخرجنا بجنازته إلى المصلى وأخرنا الصلاة عليه قليلا فإذا بالرجل العربي قد أقبل على بعيره من جهة الصحراء كما قال، فنزل ولم يكلم أحدا فصلى عليه وصلى الناس معه، وأمر الخليفة بطلب الرجل فلم يروا له أثرا ولا لبعيره. ثم أن الخليفة قال: نحفر له من خلف قبر الرشيد لننظر ما قاله لك، فكانت الأرض أصلب من الصخر الصوان وعجزوا عن حفرها، فتعجب الحاضرون من ذلك وتبين للمأمون صدق ما قلته له، فقال: أرني الموضع الذي أشار إليه. فجئت بهم إليه، فما كان إلا أن انكشف التراب عن وجه الأرض فظهرت الأطباق فرفعناها فظهر قبر معمور فإذا في قعره ماء أبيض أشرف عليه المأمون وأبصره، ثم إن ذلك الماء نضب من وقته فواريناه فيه ورددنا الأطباق على حالها والتراب، ولم يزل الخليفة المأمون يتعجب مما رأى ومما سمعه مني ويتأسف عليه ويندم، وكلما خلوت معه يقول لي: يا هرثمة كيف قال لك أبو الحسن الرضا، فأعيد عليه الحديث فيتلهف ويتأسف ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكانت وفاته سنة ثلاث ومائتين في آخر صفر، وقيل غير ذلك، وله من العمر إذ ذاك خمس وخمسون سنة في قرية يقال لها سناباد من رستاق من أعمال طوس من خراسان، وقبره في قبلي قبر هرون الرشيد. ص 571
قصيدة دعبل الخزاعي (وأخبار الرضا عليه السلام أنه يدفن بطوس)
رواها جماعة من أعلام القوم: منهم العلامة القندوزي في ينابيع المودة (ج 3 ص 115 ط مكتبة العرفان في بيروت) قال: أخرج الحمويني الشافعي في فرائد السمطين عن أحمد بن زياد عن دعبل ابن علي الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا رضي الله عنه أولها: مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات وقبر ببغداد لنفس زكية * تضمنها الرحمن في الغرفات قال لي الرضا: ألحق هذين البيتين بقصيدتك. قلت: بلى يا ابن رسول الله. فقال: ص 572 وقبر بطوس يا لها من مصيبة * ألحت على الأحشاء بالزفرات إلى الحشر حتى يبعث الله قائما * يفرج عنا الهم والكربات قال دعبل: ثم قرأت باقي القصيدة عنده، فلما انتهيت إلى قولي: خروج إمام لا محالة واقع * يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات بكى الرضا بكاء شديدا ثم قال: يا دعبل نطق روح القدس بلسانك، أتعرف من هذا الإمام؟ قلت: لا إلا أني سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطا وعدلا. فقال: إن الإمام بعدي ابني محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم، وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، وأما متى يقوم فأخبار عن الوقت، لقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلّى عليه وآله وسلم قال: مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة. ومنهم العلامة أحمد بن أحمد الشهير بالصغير المصري الشافعي في تحفة الراغب (ص 19) ذكر بعض أبيات قصيدة دعبل وقال: إنها طويلة. ومن جملة ما ذكره هذه: ولولا الذي أرجوه في اليوم أوغد * لقطع قلبي بينهم قطعات خروج إمام لا محالة عادل * يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعمات والنقمات فيا نفس طيبي ثم يا نفس ابشري * فغير بعيد كلما هو آتي ولا تجزعي من مدة الجور واصبري * كأني بها قد آذنت بيتات ص 573 ومنهم العلامة الشبراوي الشافعي في الاتحاف بحب الأشراف (ص 61 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر) قال: ونقل الطوسي في كتابه عن أبي الصلت الهروي قال: دخل دعبل الخزاعي على علي الرضا بن موسى بمرو فقال: يا ابن رسول الله أني قلت فيكم أهل البيت قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك وأن تسمعها مني. فقال له علي الرضا: هات قل، فأنشأ يقول: ذكرت محل الربع من عرفات * فأجريت دمع العين بالعبرات وقد عز صبري ثم هاجت صبابتي * رسوم ديار أقفرت وعرات مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات لآل رسول الله بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمرات ديار علي والحسين وجعفر * وحمزة والسجاد ذي الثفنات ديار لعبد الله والفضل صنوه * نجى رسول الله في الخلوات منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسنات منازل جبريل الأمين يحلها * من الله بالتسليم والرحمات منازل وحي الله معدن علمه * سبيل رشاد واضح الطرقات قفا نسأل الدار التي خف أهلها * متى عهدها بالصوم والصلوات وأين الآلي شطت بهم غربة النوى * فأمسين في الأقطار مفترقات أحب قصي الدار من أجل حبهم * وأهجر فيهم أسوتي وثقاتي وهم آل ميراث النبي إذا انتموا * هم خير سادات وخير حماتي مطاعيم في الاعسار في كل مشهد * لقد شرفوا بالفضل والبركات أئمة عدل يقتفي بفعالهم * وتؤمن منهم زلة العثرات ص 574 فيا رب زد قلبي هدى وتبصرا * وزد حبهم يا رب في حسناتي لقد أمنت نفسي بهم في حياتها * وإني لأرجو إلا من بعد مماتي ألم تر أني مذ ثلاثين حجة * أروح وأغدو دائم الحسرات أرى فيأهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات إذا أوتروا مدوا إلى أهل وترهم * أكفا عن الأوتار منقبضات وآل رسول الله نحف جسومهم * وآل زياد أعلظ قصرات سأبكيهم ما دام في الأفق شارق * ونادى منادي الخير بالصلوات وما طلعت شمس وحان غروبها * وبالليل أبكيهم وبالغدوات ديار رسول الله أصبحن بلقعا * وآل زياد تسكن الحجرات وآل زياد في القصور مصونة * وآل رسول الله في الفلوات فلو لا الذي أرجوه في اليوم أوغد * تقطع نفسي أثرهم حسرات خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله بالبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات ويا نفس طيبي ثم يا نفس فاصبري * فغير بعيد كل ما هو آت وهذه قصيدة طويلة عدد أبياتها مائة وعشرون بيتا اقتصرت منها على هذا القدر. ولما فرغ دعبل من انشادها نهض أبو الحسن الرضا وقال: لا تبرح، فأنفذ إليه صرة فيها مائة دينار واعتذر إليه، فردها دعبل وقال: والله ما لهذا جئت وإنما جئت للسلام عليه والتبرك بالنظر إلى وجهه الميمون وأني لفي غنى، فإن رأى أن يعطيني شيئا من ثيابه للتبرك فهو أحب إلي. فأعطاه الرضا جبة خزورد عليه الصرة وقال: يا غلام قل له خذها ولا تردها فإنك ستصرفها أحوج ما تكون إليها. فأخذها وأخذ الجبة ثم أقام بمرو مدة فتجهزت قافلة تريد العراق فتجهز صحبتها ص 575 فخرج عليهم اللصوص في أثناء الطريق ونهبوا القافلة عن آخرها ولزموا جماعة من أهلها فشكفوهم وأخذوا ما معهم ومن جملتهم دعبل، فساروا بهم غير بعيد حتى جلسوا يقتسمون أموالهم فتمثل مقدم اللصوص وكبيرهم بقوله: أرى فيأهم في غيرهم متقاسما * وأيديهم من فيئهم صفرات ودعبل يسمعه، فقال: أتعرف هذا البيت لمن؟ قال: وكيف لا أعراف هو لرجل من خزاعة يقال له دعبل الشاعر شاعر أهل البيت قاله في قصيدة مدحهم بها. قال دعبل: فأنا والله هو وأنا صاحب القصيدة وقائلها فيهم. قال: ويلك أنظر ماذا تقول. فقال: والله الأمر أشهر من ذلك واسأل أهل القافلة وهؤلاء الذين معكم يخبرونكم بذلك، فسألوهم فقالوا جميعا بأسرهم: هذا دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت المعروف الموصوف، ثم إن دعبلا أنشدهم القصيدة من أولها إلى آخرها عن ظهر قلب. فقالوا: قد وجب حقك علينا وقد أطلقنا القافلة ورددنا جميع ما أخذناه إكراما لك يا شاعر أهل البيت. ثم أنهم أخذوا دعبلا معهم وتوجهوا به إلى قم ووصلوه بمال وسألوه في بيع الجبة التي أعطاه أبو الحسن الرضا إياها ودفعوا له ألف دينار، فقال: لا أبيعها وإنما أخذتها للتبرك معي من أثره. ثم إنه رحل من عندهم من قم بعد ثلاثة أيام، فلما صار خارج البلد على نحو ثلاثة أميال خرج عليه قوم من أحداثهم أخذوا الجبة منه، فرجع إلى قم وأخبر كبارهم بذلك فأخذوا الجبة منهم وردوها عليه، فقالوا له: نخشى أن تؤخذ هذه الجبة منك يأخذها غير نا ثم لا ترجع إليك فبالله إلا ما أخذت الألف منافيها أو تركتها، فأخذ الألف منهم وأعطاهم الجبة ثم سافر عنهم. وعن أبي الصلت الهروي قال: قال دعبل: لما أنشدت مولاي الرضا هذه القصيدة وانتهيت فيها إلى قولي: ص 576 خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله بالبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات بكى ثم رفع رأسه وقال: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، أفلا تدري من هذا الإمام الذي يقوم؟ قلت: ألا أدري إلا أني سمعت يا مولاي بخروج إمام منكم يملأ الأرض عدلا. فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعده علي ابنه، وبعده ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. ص 577
جواب المأمون الخليفة العباسي (عن سؤال اقربائه حين أراد أن يبايع علي الرضا عليه
السلام)
رواه جماعة من أعلام القوم: منهم العلامة الشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة (ج 3 ص 157 ط مكتبة العرفان) قال: ذكر ابن مسكويه صاحب التاريخ في كتابه نديم الفريد أن المأمون كتب إلى بني العباس ولفظه: فقد عرف أمير المؤمنين كتابكم، أما بعد إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد، ثم آمن به علي بن أبي طالب وله سبع سنين لم يشرك بالله شيئا ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم وأبو طالب فإنه كفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحبه ورباه ولم يزل مدافعا عنه ما يؤذيه ومانعا منه، فلما قبض حكم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم القوم ليقتلوه، فهاجر إلى المدينة إلى القوم الأنصار، ولم يقم معه صلى الله عليه وسلم أحد كقيام علي بن أبي طالب ص 578 فإنه وقاه بنفسه ونام في مضجعه ولا يولي على جيش إلا تأمر على الجيش ولا تأمر عليه أحد، وهو أشدهم وطأة على المشركين وأعظمهم جهادا في الله وأفقههم في دين الله وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم وفاتح خيبر وقاتل عمرو بن عبد ود وأخو النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين آخى بين المسلمين، وهو صاحب الآية ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، وهو ابن عم رسول الله صلّى عليه وآله وسلم وقد كفله ورباه، وهو نفس النبيّ صلّى عليه وآله وسلم يوم المباهلة وإن الله تعالى قال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ، والله جميع المناقب والآيات المادحة فيه. ثم نحن وبنو علي كنا يدا واحدة حتى قضى الله الأمر إلينا ضيقنا عليهم قتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم، هيهات إنه من يعمل مثقال ذرة شرا يره ، هيهات ما لكم إلا السيف يأتيكم الحسيني الثائر فيحصدكم حصدا ويحصد السفياني المرغم القائم المهدي، وعند القائم المهدي تحقن دماؤكم. وأنا أردت البيعة لعلي بن موسى الرضا إرادة أن أكون الحاقن لدمائكم باستدامة المودة بيننا وبينهم، وأرجو بها قطع الصراط والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر، ولا أظن عملا أزكى عندي من البيعة لعلي الرضا. وقولكم إني سفهت آراء آبائكم وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركو قريش إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ويلكم إن الدين لا يؤخذ من الآباء وإنما يؤخذ من الأمناء، ولعمري لمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد، ولا قوة لأمير المؤمنين إلا بالله وعليه توكلت وهو حسبي إنتهى. قال مقالا طويلا لكن اختصرت بحاصل معناه. ص 579
قصد ورود الرضا عليه السلام بنيسابور
رواها القوم وتقدم النقل عنه م في (ج 13 ص 387 إلى ص 393) وإنما ننقل هيهنا عمن لم ننقل عنهم هناك: منهم الفاضل المعاصر الشيخ أحمد التابعي المصري من علماء الأزهر في الاعتصام بحبل الإسلام (ص 205 ط السعادة بالقاهرة) قال: أورد صاحب كتاب تاريخ نيسابور أن عليا الرضا بن موسى الكاظم لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء وقد شق بها السوق، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو مسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث من لا يحصى فقالا: يا أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون ورويت لنا حديثا عن آبائك عن جدك نذكرك به. فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلائق برؤية طلعته، وإذا له ذؤابتان معلقتان على عاتقه والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصارخ ومتمرغ في التراب ومقبل حافر بغلته، وعلا الضجيج فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس أنصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم. وكان المستملي أبا زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي، فقال علي الرضا رضي الله عنه: حدثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه شهيد كربلاء، عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله ص ، قال حدثني جبريل عليه السلام، ص 580 قال حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال: كلمة لا إله إلا الله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي. ثم أرخى الستر على المظلة وسار، قال: فعد أهل المحابر وأهل الدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا عن عشرين ألفا. قال أحمد رضي الله عنه: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه. وقال أبو القاسم القشيري رضي الله عنه: اتصل هذا الحديث بهذا السند ببعض أمراء السامانية فكتبه بالذهب وأوصى أن يدفن معه في قبره، فرؤى في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بتلفظي بلا إله إلا الله وتصديقي أن محمدا رسول الله. أورده المناوي في شرحه الكبير على الجامع الصغير وغيره. ص 581 نبذة من كلماته عليه السلام
(فمن كلامه عليه السلام)
أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع: يوم يولد إلى الدنيا ويخرج المولود من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا. وقد سلم الله على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وقد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا . رواه في الاعتصام بحبل الإسلام (ص 243 ط السعادة بالقاهرة). عن ياسر الخادم عنه، وقد تقدم نقله عن غيره من كتب العامة.
(ومن كلامه عليه السلام)
لما سأله الفضل بن سهل في مجلس المأمون: هل الخلق مجبورون؟ الله أعدل من أن يجبر ثم يعذب، فقال: فهم مهملون؟ قال: الله أحكم من أن يهمل. فقال: فكيف؟ فقال: هم في ملك الحاجة إلى الله مجبورون ولا مطلقون. ص 582 رواه في ترجمة القاضي عبد الجبار للشيخ فؤاد سيد المغربي (ص 337 ط تونس).
(ومن
كلامه عليه السلام)
اللهم كما سترت علي ما أعلم فاغفر لي ما تعلم، وكما وسعني علمك فليسعني عفوك، وكما أكرمتني بمعرفتك فاشفعها بمغفرتك، يا ذا الجلال والاكرام. رواه في سير أعلام النبلاء (ج 9 ص 389 ط بيروت).
(ومن كلماته عليه السلام في الجبر والتفويض)
قال المبرد: عن أبي ثمان المازني قال: سئل علي بن موسى الرضا: أيكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك، قيل: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. رواه في سير أعلام النبلاء (ج 9 ص 391 ط بيروت). وفي البداية والنهاية (ج 10 ص 250 ط السعادة بمصر).
(ومن كلامه عليه السلام)
إن للقلوب إقبالا وإدبارا ونشاطا وفتورا، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت، وإذا انصرفت كلت وملت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها. رواه في التذكرة الحمدونية (ص 70 ط بيروت). ص 583
(ومن كلامه عليه السلام)
أصحب السلطان بالحذر، والصديق بالتواضع، والعدو بالتحرز، والعامة بالبشر. رواه في التذكرة الحمدونية (ص 377 ط بيروت).
(ومن كلامه عليه
السلام)
لما قال المأمون يوما له: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب فقال: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه، وفرض طاعته على بنيه، فأمر له بألف بألف درهم. وقد أراد عليه السلام من قوله وفرض طاعته على بنيه وفرض طاعة الله على بنيه. رواه في وفيات الأعيان (ج 3 ص 432).
(ومن منظومه عليه السلام)
كلنا يأمل مدا في الأجل * والمنايا هن آفات الأمل لا تغرنك أباطيل المنى * والزم القصد ودع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل * حل فيه راكب ثم ارتحل رواه في البداية والنهاية (ج 10 ص 250 ط مصر). ص 584
(ومن منظومه عليه السلام)
اعذر أخاك على ذنوبه * واصبر وغط على عيوبه واصبر على سفه السفي * ه وللزمان على خطوبه ودع الجواب تفضلا * وكل الظلوم إلى حسيبه رواه في الاتحاف بحب الأشراف (ص 62 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر). عن أبي الحسن الفرضي عن أبيه قال: حضرنا مجلس أبي الحسن الرضا فجاء رجل فشكا إليه أخا له، فأنشأ الرضا يقوله. ص 585 12مستدرك ما أوردناه
(في فضائل الإمام محمد بن علي الجواد) (عليه السلام)
قد تقدم جملة مما ورد منها في كتب أعلام أهل السنة وأعاظمهم في المجلد الثاني عشر (ص 414 إلى ص 439) ونستدرك هيهنا بعض ما لم ننقله هناك أو نقلناه عن غير من ننقل عنه هيهنا: فممن لم ننقل عنه سابقا العلامة العارف الخواجة المولوي عبد الفتاح ابن محمد نعمان الحنفي الهندي المتوفى سنة 1096 في مفتاح العارف (مخطوط) قال ما ترجمته: كان الإمام محمد بن علي الرضا يكنى بأبي جعفر، فهو سمي جده الباقر وكنيه، ولذلك يقال له أبو جعفر الثاني، وكان عليه السلام صاحب الخوارق والكرامة من طفوليته، ويقال إنه أخبر أن موته يكون ثلاثين شهرا بعد موت المأمون، فكان كما أخبر. ص 586 ومنهم العلامة المؤرخ الشهير المسعودي المتوفى سنة 346 في مروج الذهب (ج 3 ص 464 ط دار الأندلس في بيروت) قال: وفي هذه السنة - وهي سنة تسع عشرة ومائتين - قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وذلك لخمس خلون من ذي الحجة، ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش مع جده موسى بن جعفر، وصلى عليه الواثق، وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد ابن سبع سنين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك. وقيل: إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمته، وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا لأن أهل الإمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة البيان في أسماء الأئمة وما قالت في ذلك الشيعة من القطعية. ومنهم العلامة أحمد بن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 202 ط عبد الوهاب بن عبد اللطيف بالقاهرة) قال: ومما اتفق أنه (أي محمد بن علي الجواد ع ) بعد موت أبيه بسنة واقف والصبيان يلعبون في أزقة بغداد إذ مر المأمون، ففروا ووقف محمد وعمره تسع سنين، فألقى الله محبته في قلبه فقال له: يا غلام ما منعك من الانصراف؟ فقال له مسرعا: يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك وليس لي جرم فأخشاك والظن بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له. فأعجبه كلامه وحسن صورته فقال له: ما اسمك واسم أبيك؟ فقال: محمد بن علي الرضا. فترحم ص 587 على أبيه وساق جواده. وكان معه بزاة للصيد، فلما بعد عن العمار أرسل بازا على دراجة فغاب عنه ثم عاد من الجو في منقاره سمكة صغيرة وبها بقاء الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب، ورأى الصبيان على حالهم ومحمد عندهم ففروا إلا محمدا، فدنا منه وقال له: ما في يدي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكا صغارا يصيدها بازات الملوك والخلفاء فيختبر بها سلالة أهل بيت المصطفى فقال له: أنت ابن الرضا حقا، وأخذه معه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه. فلم يزل مشفقا به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنه، وعزم على تزويجه بابنته أم الفضل وصمم على ذلك، فمنعه العباسيون من ذلك خوفا من أنه يعهد إليه كما عهد إلى أبيه، فلما ذكر لهم أنه إنما اختاره لتميزه على كافة أهل الفضل علما ومعرفة وحلما مع صغر سنه فنازعوا في اتصاف محمد بذلك، ثم تواعدوا على أن يرسلوا إليه من يختبره فأرسلوا إليه يحيى بن أكثم ووعدوه بشيء كثير إن قطع لهم محمدا. فحضروا للخليفة ومعهم ابن أكثم وخواص الدولة، فأمر المأمون بفرش حسن لمحمد فجلس عليه فسأله يحيى مسائل أجابه عنها بأحسن جواب وأوضحه، فقال له الخليفة: أحسنت أبا جعفر فإن أردت أن تسأل يحيى ولو مسألة واحدة. فقال له: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار حراما، ثم حلت له ارتفاعه ثم حرمت عليه عند الظهر، ثم حلت له عند العصر، ثم حرمت عليه المغرب ثم حلت له العشاء، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر. فقال يحيى: لا أدري، فقال محمد، هي أمة نظرها أجنبي بشهوة وهي حرام، ثم اشتراها ارتفاع النهار، فأعتقها الظهر وتزوجها العصر، وظاهر منها المغرب، وكفر العشاء، وطلقها رجعيا نصف الليل، وراجعها الفجر. ص 588 فعند ذلك قال المأمون للعباسيين: قد عرفتم ما كنتم تنكرون، ثم زوجه في ذلك المجلس بنته أم الفضل، ثم توجه بها إلى المدينة فأرسلت تشتكي منه لأبيها أنه تسرى عليها، فأرسل إليها أبوها: إنا لم نزوجك له لنحرم عليه حلالا فلا تعودي لمثله. ثم قدم بها بطلب من المعتصم لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين، وتوفي فيها في آخر القعدة، ودفن في مقابر قريش في ظهر جده الكاظم، وعمره خمس وعشرون سنة - ويقال إنه سم أيضا - عن ذكرين وبنتين. ومنهم العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي في الاتحاف بحب الأشراف (ص 64 مصطفى البابي الحلبي بمصر) قال: (التاسع) من الأئمة محمد الجواد وهو أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ولد تاسع عشر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة، وكراماته رضي الله عنه كثيرة ومناقبه شهيرة. روي أنه لما توفي أبوه علي الرضا وقام الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاة علي الرضا بسنة اتفق أن المأمون خرج يوما يتصيد، فاجتاز في طريق فوجد فيه صبيانا يلعبون ومحمد الجواد واقف عندهم، فلما أقبل المأمون فر الصبيان ووقف محمد وعمره إذ ذاك تسع سنين، فلما قرب منه الخليفة نظر إليه فكأن الله تعالى ألقى في قلبه محبة وقبولا، فقال له: يا غلام ما منعك أن لا تفر كما فر أصحابك؟ فقال له محمد الجواد مسرعا: يا أمير المؤمنين فر أصحابي فرقا والظن بك أحسن أنه لا يفرق منك من لا ذنب له ولم يكن بالطريق ضيق فأتنحى عن ص 589 أمير المؤمنين. فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته فقال له: ما اسمك يا غلام؟ فقال: محمد بن علي بن موسى الكاظم. فترحم الخليفة على أبيه وساق جواده إلى نحو وجهته وكان معه بزاة الصيد فلما بعد عن العمارة أخذ الخليفة بازيا منهم وأرسله إلى دراجة، فغاب البازي عنه قليلا ثم عاد وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا من الحياة، فتعجب المأمون من ذلك غاية العجب، ثم إنه أخذ السمكة في يده وكر راجعا إلى داره وترك الصيد في ذلك اليوم وهو متفكر فيما صاده البازي من الجو. فلما وصل موضع الصبيان وجدهم على حالهم ووجد محمدا معهم، ففروا على جاري عادتهم إلا محمدا فلما دنا منه الخليفة قال له: يا محمد. فقال له: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: انظر ما في يدي، وذكر له القصة فأنطقه الله بأن قال: إن الله خلق في بحر قدرته المستمسك في الجو ببديع حكمته سمكا صغارا تصيد منها بزاة الخلفاء كي يختبر بها سلالة بنت المصطفى. فلما سمع المأمون كلامه تعجب أكثر مما كان وجعل يطيل النظر فيه وقال: أنت ابن الرضا حقا ومن بيت المصطفى صدقا، وأخذه معه وأحسن إليه وقربه وبالغ في إكرامه وإجلاله وإعظامه، ولم يزل مقبلا عليه لما ظهر له أيضا بعد ذلك من بركاته ومكاشفاته وكراماته. وعزم أن يزوجه ابنته أم الفضل وصمم على ذلك، فبلغ ذلك العباسيين وشق عليهم واستكرهوه وخافوا أن الأمر ينتهي معه إلى ما انتهى مع أبيه، فاجتمع الأعيان من العباسيين الدالين على الخليفة فدخلوا عليه وقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين إلا ما رجعت عن هذه النية وصرفت خاطرك عن هذا الأمر، فإنا نخاف ونخشى أن يخرج عنا ملكنا فينزع عنا عزنا الذي ألبسناه الله ويتحول إلى غيرنا، وأنت تعلم ما بيننا وبين هؤلاء القوم وما كان عليه الخلفاء من ص 590 قبلك من إبعادهم، وقد كنا في وجلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك، فالله الله أن تردها إلى غم قد انحسم، فاصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك ممن يصلح لذلك. فقال لهم المأمون: أما ما بين آل أبي طالب وبينكم فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى منكم بالأمر، وأما ما كان من الاستخلاف في الرضا فقد درج الرضا وكان أمر الله قدرا مقدورا، وأما ابنه محمد فأي شيء تنقمون منه. فقالوا: إن هذا صبي صغير السن وأي علم له اليوم أو معرفة أو آداب دعه حتى يكبر ثم اصنع به ما شئت. قال: كأنكم تشكون في قولي إن شئتم فاختبروه أو ادعوا من يختبره ثم بعد ذلك لوموا فيه أو اعذروا. قالوا: وتتركنا وذلك؟ قال: نعم. قالوا: فيكون ذلك بين يديك تترك من يسأله عن شيء من أمور الشريعة فإن أصاب لم يكن في أمره لنا اعتراض وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك كفينا خطبه ولم يكن لأمير المؤمنين عذر في ذلك. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم. فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على القاضي يحيى بن أكثم أن يكون هو الذي يسأله ويمتحنه، وتواعدوا ذلك مع القاضي يحيى ووعدوه بأشياء كثيرة متى قطعه وأخجله، ثم عادوا إلى المأمون وسألوه أن يعين لهم يوما يجتمعون فيه بين يديه لمساءلته، فعين لهم يوما واجتمعوا في ذلك اليوم بين يدي أمير المؤمنين المأمون، وحضر العباسيون ومعهم القاضي يحيى بن أكثم، وحضر خواص الدولة وأعيانها من أمرائها وحجابها وقوادها، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر محمد الجواد فرش حسن وأن يجعل عليه مصورتان، ففعل ذلك. وخرج أبو جعفر فجلس بين الصورتين وجلس القاضي يحيى مقابله وجلس الناس في مراتبهم على قدر طبقاتهم ومنازلهم، فأقبل ابن أكثم على أبي جعفر ص 591 فسأله عن مسائل أعدها له، فأجاب عنها بأحسن جواب وأبان فيها عن وجه الصواب بلسان ذلق ووجه طلق وقلب جسور ومنطق ليس بعيى ولا حصور. فعجب المأمون والقوم من فصاحة كلامه وحسن اتساق منطقه ونظامه، فقال المأمون: أجدت يا أبا جعفر، فإن رأيت أن تسأل يحيى كما سألك ولو عن مسألة واحدة. فقال: ذلك إليه يا أمير المؤمنين. فقال يحيى بن أكثم: يسأل فإن كان عندي في ذلك جواب أجبت به وإلا استفدت الجواب والله اسأل أن يرشد للصواب. فقال له أبو جعفر: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة في أول النهار بشهوة فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العشاء حلت له، فلما كان نصف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، فبم حلت هذه المرأة لهذا الرجل وبما ذا حرمت عليه في هذه الأوقات؟. فقال يحيى: لا أدري فإن رأيت أن تفيد بالجواب فذلك إليك. فقال أبو جعفر: هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها شخص من الناس في أول النهار بشهوة وذلك حرام عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من صاحبها فحلت له، فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان الفجر راجعها فحلت له. فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته فقال: هل أحد فيكم يستحضر أن يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟ فقالوا: ذلك فضل الله يؤتيه من ص 592 يشاء. فقال: قد عرفتم الآن ما كنتم تنكرون. وتبين في وجه القاضي يحيى الخجل والتغير عرف ذلك كل من في المجلس. فقال المأمون: الحمد لله على ما من به من السداد في الأمر والتوفيق في الرأي، وأقبل على أبي جعفر وقال: إني مزوجك ابنتي أم الفضل وإن رغم لذلك أنوف قوم فاخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي. فقال أبو جعفر: الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا بوحدانيته، وصلى الله على سيدنا محمد سيد بريته، والأصفياء من عترته. أما بعد فلما كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام وقال تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم . ثم إن محمد بن علي بن موسى خطب إلى أمير المؤمنين عبد الله المأمون ابنته أم الفضل، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهو خمسمائة درهم جياد، فهل زوجني إياها أمير المؤمنين على هذا الصداق المذكور. قال: زوجتك إياها على ذلك. قال الرماني: وأخرج الخدم مثل السفينة من الفضة مطلية بالذهب فيها الغالية مضروبة بأنواع الطيب والماورد والمسك، فتطيب منها جميع الحاضرين على قدر مراتبهم ومنازلهم، ثم وضعت موائد الحلوى فأكل الحاضرون منها وفرقت عليهم الجوائز وأعطيت على قدر منازلهم وانصرف الناس، وتقدم المأمون بالصدقة على الفقراء والمساكين وأهل الأربطة والخوانق والمدارس، ولم يزل عنده محمد الجواد مكرما معظما إلى أن توجه بزوجته أم الفضل إلى المدينة الشريفة. روي أن أم الفضل بعد توجهها مع زوجها إلى المدينة كتبت إلى أبيها المأمون تشكو أبا جعفر وتقول إنه يتسرى علي ويعيرني. فكتب إليها أبوها يقول: يا بنية إني لم أزوجك أبا جعفر لأحرم عليه حلالا فلا تعاودي لذكر شيء ص 593 مما ذكرت. وحكي أنه لما توجه أبو جعفر منصرفا من بغداد متوجها إلى المدينة الشريفة خرج معه الناس يشيعونه للوداع، فسار إلى أن وصل إلى باب الكوفة عند دار المسيب فنزل هناك مع غروب الشمس ودخل إلى مسجد قديم مؤسس بذلك الموضع يصلي فيه المغرب، وكانت في صحن المسجد شجرة نيق لم تثمر قط، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل الشجرة، فقام وصلى معه الناس المغرب فقرأ في الأولى بالحمد لله وإذا جاء نصر الله والفتح وقرأ في الثانية بالحمد لله وقل هو الله أحد، ثم بعد فراغه جلس هنية يذكر الله وقام فتنفل بأربع ركعات وسجد معهن سجدتي الشكر، ثم قام فودع الناس وانصرف، فأصبحت النبقة وقد حملت من ليلتها حملا حسنا. فرآها الناس وقد تعجبوا من ذلك غاية العجب. ثم كان ما هو أغرب من ذلك، وهو أن نبق هذه الشجرة لم يكن له عجم قط، فزاد تعجبهم من ذلك. وهذا من بعض كراماته الجليلة ومناقبه الجميلة. توفي محمد الجواد رضي الله عنه في آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين وله من العمر خمس وعشرون سنة وشهور، وترك ابنين وبنتين. ومنهم العلامة الشبلنجي الشافعي المدعو بالمؤمن في نور الأبصار (ص 160 ط الشعبية بمصر) قال: (فصل) في ذكر مناقب محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. أمه أم ولد يقال لها سكينة المريسية، وكنيته أبو جعفر ككنية جده محمد الباقر، وألقابه كثيرة الجواد والقانع والمرتضى، وأشهرها الجواد، صفته أبيض ص 594 معتدل، شاعره حماد، بوابه عمر بن الفرات، نقش خاتمه نعم القادر الله ، معاصره المأمون والمعتصم. ولد أبو جعفر محمد الجواد بالمدينة تاسع عشر شهر رمضان المعظم سنة خمس وتسعين ومائة من الهجرة. قال صاحب كتاب مطالب السؤال في مناقب آل الرسول: هذا محمد أبو جعفر الثاني، فإنه قد تقدم في آبائه أبو جعفر محمد الباقرين علي، فجاء هذا باسمه وكنيته واسم أبيه فعرف بأبي جعفر الثاني، وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة. نقل غير واحد أن والده عليا الرضا لما توفي وقدم المأمون بغداد بعد وفاته بسنة اتفق أن المأمون خرج يوما يصيد فاجتاز بطريق البلد وثم صبيان يلعبون ومحمد الجواد واقف عندهم، فلما أقبل المأمون فر الصبيان ووقف محمد وعمره إذ ذاك تسع سنين، فلما قرب منه الخليفة نظر إليه فألقى الله في قلبه حبه، فقال له: يا غلام ما منعك من الانصراف كأصحابك؟ فقال له محمد مسرعا: يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له. فأعجبه كلامه وحسن صورته فقال له: ما اسمك واسم أبيك؟ فقال: محمد بن علي الرضا. فترحم على أبيه وساق جواده إلى مقصده. وكان معه بزاة الصيد، فلما بعد عن العمران أرسل بازا على دراجة، فغاب عنه ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة فيها بقايا الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب ورجع فرأى الصبيان على حالهم ومحمد عندهم، ففروا إلا محمدا فدنا منه وقال له: يا محمد ما في يدي. فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكا صغارا تصيده بازات الملوك والخلفاء كي يختبر ص 595 سلامة بني المصطفى صلى الله عليه وسلم كرامة له. فقال له: أنت ابن الرضا حقا، وأخذه معه وأحسن إليه وقربه وبالغ في إكرامه. ولم يزل مشغوفا به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عقله وظهور برهانه مع صغر سنه، وعزم على تزويجه بابنته أم الفضل وصمم على ذلك، فمنعه العباسيون من ذلك خوفا من أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه، فلما ذكر لهم أنه إنما اختاره لتميزه عن كافة أهل الفضل علما ومعرفة وحلما مع صغر سنه نازعوه في اتصاف محمد بذلك، ثم تواعدوا على أن يرسلوا إليه من يختبره فأرسلوا إلى يحيى بن أكثم ووعدوه بشيء كثير إن قطع لهم محمدا وأخجله، فحضر الخليفة وخواص الدولة ومعهم يحيى بن أكثم، فأمر المأمون بفرش حسن لمحمد فجلس عليه، وسأله يحيى مسائل فأجاب عنها بأحسن جواب وأوضحه، فقال له الخليفة: أحسنت يا أبا جعفر فإن أردت أن تسأل يحيى ولو مسألة واحدة. فقال له يحيى: يسأل فإن كان عندي جواب أجبت به وإلا استفدت الجواب والله أسأل أن يرشدني للصواب. فقال له أبو جعفر محمد الجواد: ماذا تقول في رجل نظر إلى امرأة في أول النهار بشهوة فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما انتصف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، فبماذا حلت هذه المرأة لهذا الرجل وبماذا حرمت عليه في هذه الأوقات؟ فقال يحيى بن أكثم: لا أدري فإن رأيت أن تفيد الجواب فذلك لك. فقال أبو جعفر: هذه أمة الرجل نظر لها شخص في أول النهار بشهوة وذلك حرام عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من صاحبها فحلت له، فلما كان وقت الظهر أعتقها ص 596 فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها طلقة واحدة فحرمت عليه، فلما كان وقت الفجر راجعها فحلت له. فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته فقال: هل فيكم أحد يستحضر أن يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟ فقالوا: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فقال: قد عرفتم الآن ما تنكرون. وظهر في وجه القاضي يحيى الخجل والتغير وعرف ذلك كل من بالمجلس. فقال المأمون: الحمد لله على ما من به علي من السداد في الأمر والتوفيق في الرأي، وأقبل على أبي جعفر وقال: إني مزوجك ابنتي أم الفضل وإن رغم لذلك أنوف قوم، فاخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وابنتي. فقال أبو جعفر: الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا بوحدانيته، وصلى الله على سيدنا محمد سيد بريته والأصفياء من عترته، أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ثم إن محمد بن علي بن موسى خطب إلى أمير المؤمنين عبد الله المأمون ابنته أم الفضل وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت رسول الله صلّى عليه وآله وسلم وهو خمسمائة درهم جياد، فهل زوجتني يا أمير المؤمنين إياها على هذا الصداق. فقال المأمون: زوجتك ابنتي أم الفضل على هذا الصداق المذكور. فقال أبو جعفر: قبلت نكاحها لنفسي على هذا الصداق المذكور. قال الرمالي: وأخرج الخدم مثال السفينة من الفضة مطلية بالذهب فيها الغالية مضروبة بأنواع الطيب والماورد والمسك، فتطيب منها الحاضرون على قدر ص 597 منازلهم، ثم وضعت موائد الحلواء فأكل الحاضرون وفرقت عليهم الجوائز على قدر رتبهم، ثم انصرف الناس، وتقدم المأمون بالصدقة على الفقراء والمساكين وأهل الأربطة والخوانيق والمدارس، ولم يزل عنده محمد الجواد معظما مكرما إلى أن توجه بزوجته أم الفضل إلى المدينة الشريفة. روي أن أم الفضل بعد توجهها مع زوجها إلى المدينة كتبت إلى أبيها المأمون تشكو أبا جعفر وتقول إنه يتسرى علي، فكتب إليها أبوها يقول: يا بنية إنا لم نزوجك أبا جعفر لتحرمي عليه حلالا فلا تعاوديني بذكر شيء مما ذكرت. (كراماته)
(الأولى)
عن أبي خالد قال: كنت بالعسكر فبلغني أن هناك رجلا محبوسا أتي به من الشام مكبلا بالحديد وقالوا: إنه تنبأ. قال فأتيت باب السجن ودفعت شيئا للسجان حتى دخلت عليه فإذا رجل ذو فهم وعقل ولب فقلت: يا هذا ما قصتك؟ فقال: إني كنت رجلا بالشام أ عبد الله تعالى في الموضع الذي يقال أنه نصب فيه رأس الحسين، فبينما أنا ذات ليلة في موضعي مقبلا على المحراب أذكر الله تعالى إذ رأيت شخصا بين يدي، فنظرت إليه فقال لي: قم، فقمت معه فمشى قليلا فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: تعرف هذا المسجد؟ فقلت: نعم هذا مسجد الكوفة. قال: فصل، فصليت معه ثم انصرف فانصرفت معه قليلا فإذا نحن بمكة المشرفة، فطاف بالبيت فطفت معه، ثم خرج فخرجت معه فمشى قليلا فإذا أنا بموضعي الذي كنت فيه أ عبد الله تعالى بالشام. ثم غاب عني فبقيت متعجبا حولا مما رأيت، فلما كان العام المقبل إذ ذاك الشخص قد أقبل علي فاستبشرت به، فداعاني فأجبت، ففعل معي كما فعل في العام الماضي، فلما أراد مفارقتي قلت له: بحق الذي أقدرك على ما رأيت منك إلا ما أخبرتني من أنت. فقال: أنا محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر، ص 598 فحدثت بعض من كان يجتمع بي في ذلك الموضع، فرفع ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات فبعث إلي من أخذني من موضعي وكبلني بالحديد وحملني إلى العراق وحبسني كما ترى وادعى علي بالمحال. فقلت له: فارفع قصتك إلى محمد بن عبد الملك الزيات، قال: أفعل، فكتبت عنه قصته وشرحت فيها أمره ورفعتها إلى محمد بن عبد الملك، فوقع على ظهرها قل للذي أخرجك من الشام إلى هذه المواضع التي ذكرتها يخرجك من السجن . قال أبو خالد: فاغتممت لذلك وسقط في يدي وقلت إلى غد آتيه وآمره بالصبر وأعده من الله بالفرج وأخبره بمقالة هذا الرجل المتجبر، فلما كان من الغد قال: باكرت إلى السجن فإذا أنا بالحرس والموكلين بالسجن في هرج، فسألت ما الخبر؟ فقيل لي: إن الرجل المتنبئ المحمول من الشام فقد البارحة من السجن وحده بمفرده وأصبحت قيوده والأغلال التي كانت في عنقه مرماة في السجن لا ندري كيف خلص منها وطلب فلم يوجد له أثر ولا خبر ولا يدرون أنزل في الأرض أم عرج به إلى السماء. فتعجبت من ذلك وقلت في نفسي: استخفاف ابن الزيات بأمره واستهزاؤه بقصته خلصه من السجن، كذا نقله ابن الصباغ.
(الثانية)
نقل بعض الحفاظ أن امرأة زعمت أنها شريفة بحضرة المتوكل، فسأل عمن يخبره بذلك فدل على محمد الجواد، فأرسل إليه فجاءه فأجلسه معه على سريره وسأله فقال: إن الله حرم لحم أولاد الحسين على السباع فتلقى للسباع، فعرض عليها ذلك فاعترفت المرأة بكذبها. ثم قيل للمتوكل: ألا تجرب ذلك فيه فأمر ثلاثة من السباع فجئ منها في صحن قصره، ثم دعا به فلما دخل من الباب أغلقه والسباع قد أصمت الأسماع من زئيرها، فلما مشى في الصحن يريد الدرجة مشت إليه وقد سكنت فتمسحت به ودارت ص 599 حوله وهو يمسحها بكمه ثم ربضت، فصعد للمتوكل فحدث معه ساعة ثم نزل ففعلت معه كفعلها الأول حتى خرج فأتبعه المتوكل بجائزة عظيمة. وقيل للمتوكل: افعل كما فعل ابن عمك فلم يجسر عليه وقال: تريدون قتلي، ثم أمرهم ألا يفشوا ذلك. إنتهى. لكن نقل المسعودي أن صاحب هذه القصة علي أبو الحسن العسكري ولده، وهو وجيه لأن المتوكل لم يكن معاصرا لمحمد الجواد بل لولده.
(الثالثة)
حكي أنه لما توجه أبو جعفر محمد الجواد إلى المدينة الشريفة خرج معه الناس يشيعونه للوداع، فسار إلى أن وصل إلى باب الكوفة عند دار المسيب، فنزل هناك مع غروب الشمس ودخل إلى مسجد قديم مؤسس بذلك الموضع ليصلي فيه المغرب، وكان في صحن المسجد شجرة نبق لم تحمل قط، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل الشجرة وقام يصلي، فصلى معه الناس المغرب، ثم تنفل بأربع ركعات وسجد بعدهن للشكر، ثم قام فودع الناس، وانصرف فأصبحت النبقة وقد حملت به ليلتها حملا حسنا، فرآها الناس وقد تعجبوا من ذلك غاية العجب.
(تتمة)
في الكلام على وفاته وأولاده وذكر شيء من كلامه رضي الله عنه: توفي أبو جعفر محمد الجواد ببغداد، وكان سبب وصوله إليها إشخاص المعتصم له من المدينة، فقدم بغداد معه زوجته أم الفضل بنت المأمون لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين، وكانت وفاته في آخر ذي القعدة من السنة المذكورة، ودفن في مقابر قريش في قبر جده أبي الحسن موسى الكاظم، ودخلت امرأته أم الفضل إلى قصر المعتصم وكان له من العمر يومئذ خمس وعشرون سنة وأشهر، ويقال إنه مات مسموما، يقال إن أم الفضل بنت المأمون سمته بأمر أبيها. وخلف من الولد عليا وموسى وفاطمة وأمامة. ص 600
نبذة من كلماته عليه السلام
رواها في التذكرة الحمدونية (ص 112 و269 و371 و377 ط بيروت) قال: منها قال محمد بن علي بن موسى: كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه؟ ومن انقطع إلى غير الله وكله الله تعالى إليه، ومن عمل على غير علم أفسد أكثر مما يصلح. ومنها قال: القصد إلى الله تعالى بالقارب أبلغ من اتعاب الجوارح بالأعمال. ومنها قال محمد ابنه: من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته المصادر.
|
شرح إحقاق الحق (ج19) |