الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج28)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 451

ابن محمد الذي اشتهر فيهم باسم جعفر الصادق . ذلك أنه كان صافي النفس ، واسع الأفق ، مرهف الحس ، متوقد الذهن ، كبير القلب ، يلتمس في غضبه الأعذار للآخرين ، حاد البصيرة ، ضاحك السن ، مضئ القسمات ، عذب الحديث ، حلو المعشر ، سباقا إلى الخير ، برا طاهرا . وكان صادق الوعد ، وكان تقيا . هو من العترة الطاهرة عترة رسول الله (ص) . . جده لأمه هو أبو بكر الصديق وجده لأبيه هو الإمام علي بن أبي طالب ، وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره . ولد في المدينة سنة 80 ه‍ ومات فيها سنة 148 ه‍ . وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة ، والعلم الغزير ، وإشراقاته الروحية ، واستنباطه العقلي . وكان مع جلال هذا الحسب متواضعا لله ، يلتقي في أعماقه علم الصاحبيين العظيمين وصلاحهما ، وحسن بلائهما ، وتراث تقواهما ، ولا يزدهيه على الرغم من ذلك كبرياء من يجمع في نفس واحدة أطراف ذلك المجد كله ، وتلك الروعة كلها . وعى منذ طفولته نصيحة أبيه الإمام محمد الباقر ما دخل في قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله . تعهده وهو صغير جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر بقدر ما تعهده جده لأبيه علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فإذا به وهو صبي يحفظ القرآن ويتقن تفسيره ، ويحفظ الأحاديث والسنة من أوثق مصادرها عن آل البيت ، تواترا عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعن الصديق رضي الله عنه وعن سائر الصحابة من رواة الأحاديث الصادقين . وأتاح له توفر هذه المصادر جميعا أن يتقن دراسة الحديث وفهمه ، وأن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي .

ص 452

ثم نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه لأنه يزلزل أركان الاستبداد ، فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون في إخفاء ما رواه علي بن أبي طالب من السنة . وانتهى نظر الإمام جعفر إلى أنه لا يوجد حديث شريف يخالف أو يمكن أن يخالف نصوص القرآن الكريم ، وأن كل ما ورد من أحاديث مخالفا لكتاب الله فهو موضوع ينبغي ألا يعتد به . وكان عصره متوترا مشوبا بالأسى ، تخضب الرايات المنتصرة فيه دماء الشهداء من آل البيت ، ويطغى الأنين الفاجع على عربدة الحكام . كان عصر الفتوحات الرائعة ، والفزع العظيم والدموع . فالدولة الأموية تضع العيون والأرصاد على آل البيت منذ استشهاد الإمام الحسين ابن علي في كربلاء . وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم ، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة . استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين أبي الشهداء ، وبكاه الإمام جعفر أحر البكاء . وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار : أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام ، وأنظار الحكام على السواء . عرف منذ مطلع صباه أن الإمام عليا بن أبي طالب رئيس البيت العلوي يلعن على المنابر في مساجد الدولة في صلاة الجمعة . وعلى الرغم من أن أم المؤمنين أم سلمة كانت قد أرسلت إلى معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له : إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون عليا بن أبي طالب ومن يحبه ، وأشهد أن الله ورسوله يحبانه . على الرغم من تلك النصيحة فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر ، وتلعن معه زوجه فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام .

ص 453

وسمع جعفر هذه اللعنات طيلة صباه وجزء من صدر شبابه ، حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فتبرأ إلى الله من هذا العار ، وكان يحمل للإمام علي ابن أبي طالب ما يحمل لغيره من الخلفاء الراشدين الثلاثة من إجلال وتوقير . وأمر الخطباء أن يتلوا - بدلا من لعن علي في ختام خطبة الجمعة - الآية الكريمة التي ما زالت تتلى إلى الآن : (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وطابت نفس جعفر كما طابت نفوس الصالحين وأهل التقوى والعلم بما صنعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، وأعلن الإمام جعفر في مجلسه إعجابه بالخليفة عمر سبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وكان الإمام جعفر منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد ، كان قد أخذ بمبدأ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية ، اتقاء شرهم ، وحذر للفتنة ، وهم إذ ذاك غلاظ شداد على من لا يوالونهم . فآثر أن يهب نفسه للعلم ، وألا يفكر في النهوض والاقضاض على السلطان الجائر ، حقنا لدماء المسلمين . ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية ، وتزكيهم وتحركهم إلى الدفاع عن حقوق الانسان التي شرعها الإسلام وإلى حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة . وكان قد تعلم من جده الإمام علي زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول (ص) أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله ، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء . وكان قد رأى جده الإمام زين العابدين رضي الله عن يخطو في المسجد حتى يجلس في حلقة أحد الفقهاء من غير آل البيت ، فيقول له أحد الحاضرين : غفر الله لك أنت سيد الناس . وتأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا

ص 454

العبد الأسود . فيرد زين العابدين : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع وإن العلم يطلب حيث كان . ولقد وعى الصغير دلالة هذا كله ، وانتفع به طيلة حياته . ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين ، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله نصائح أبيه إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر ، إنك إن كسلت لم تؤد حقا ، وإن ضجرت لم تصبر على حق ، إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد ، إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا ، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص . ثم وصيته ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق : الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة ، والبخيل يقطع المال حين الحاجة ، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد ، والأحمق يريد ينفع فيضر ، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله . مضى الإمام جعفر الصادق - وقد ورث الإمامة عن أبيه - بكل ما تعلمه من أبيه وجديه يخوض غمرات الحياة المضطربة . . وفي تلك الأيام عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة شابا ورعا يتفكر في خلق السموات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي ، يرفض الاشتغال بالسياسة اتقاء البطش ، على وجهه شعاع من نور النبوة . وهداه عكوفه على دراسة القرآن والحديث إلى أن واجب المسلم أن يؤمن عن اقتناع وتدبر وتفكر في ظواهر الحياة والكون ، فهي دليله إلى الإيمان بوحدانية الله . وهداه هذا التفكير إلى الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس ، وتحرر الفكر ، وتهديه إلى الإيمان العميق الحق الراسخ . وتتلمذ عليه جابر بن حيان ، وكان أبوه شيعيا قتل دفاعا عن الحقيقة وفي حب آل

ص 455

البيت ، فاصطنع الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم ، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس . . وخصص له وقتا في كل يوم يتدارسان فيه علوم الطبيعة والكيمياء والطب ، وكشف له من تبصره بالفقه كثيرا من المعارف العلمية وهداه بالمعارف العلمية إلى التمكن من الفقه . وعلم وهو في المدينة أن في العراق مذاهب تدعو إلى الإلحاد والزندقة ، فخرج يناقش زعماء هذا المذهب ، لم يقعد مكتفيا بالحكم عليهم بالكفر ، أو يصب اللعنات عليهم ، بل ناقشهم بمنطقهم ، ليثبت لهم وجود الله ، وقادهم مما يعلمون إلى ما لا يعلمون . واشتهر في ذلك الزمان طبيب هندي برع في علوم الطب والصيدلة ، فحرص الإمام جعفر على أن يلتقي به ويتعرف إلى علمه ، وتبادلا المعارف معا ثم أخذ يحاوره في الإسلام وفي إثبات وجود الله . بهذه الحكمة والموعظة الحسنة عاش الإمام جعفر يدعو إلى سبيل ربه فأقنع كثيرا من الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين بالاسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأضافوا بفكرهم ثراء إلى الفقه وإلى العلوم في ذلك الزمان . آمن بالتجربة والنظر العقلي والجدل طريقا إلى الإيمان وسلحته معرفته الواسعة العميقة بالعلوم في الاستدلال والاقناع ، وجذب أصحاب العقول المبتكرة إلى الدين ، وهو مع انشغاله بكل ذلك ، كان يتحرى أحوال الناس ، ويحمل على كتفه جرابا فيه طعام ومال فيوزع على أصحاب الحاجة ، دون أن يدع أحدا يعرف على من يتصدق . ولكم أساء إليه بعض صنائع الحكام الذين خشوا التفاف الناس حوله فما قابل الاساءة إلا بالاحسان ، وهو يردد قول الله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) . وفي الحق أنه استطاع أن يحول كل الذين دسوا عليه ليسيئوا إليه إلى أولياء

ص 456

حميمين . كان يزدري الانتقام ويعلم الناس فضيلة العفو مرددا قول جده رسول الله (ص) ما زاد عبد بالعفو إلا عزا . ولكن أقارب جعفر لم يتركوه لما هو فيه من علم ودراسة ليؤدي دوره في تنوير العقول ، فقد حاولوا أكثر من مرة أن يقحموا عليه السياسة . ودعوه إلى الثورة على الدولة الأموية ، واجتمعت عليه الألسنة تلح ليتولى أمر الخلافة ، فرفض وصرفهم عما هم آخذون فيه . فعادوا يطالبونه بالبيعة لواحد منهم ولكنه لم يوافق . وكانت الثورة ضد حكم الدولة الأموية تشتد ، ووميض النار خلل الرماد يوشك أن يكون له ضرام . وكان بعض المنتسبين إلى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني أمية وزينوا لهم الاستبداد وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض ، وأنهم لا يسألون عما يفعلون . وقد ساء رأي الناس في هذه الفئة من المنتسبين إلى الفقه والعلم ، لأنهم باعوا شرفهم بالمناصب والجاه . وكان الصادق من أكثر الناس حرصا على حماية الأمة من سموم هؤلاء المرتزقة . وفي الحق أن الحكام الأمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين ، فيجزلون لهم العطاء ويولون بعضهم . وكان بعض هؤلاء الولاة يحب أن يبدو فقيها عالما على الرغم من جهله المركب ، وقد تعود أحد هؤلاء المرتزقة المنافقين أن يتقرب إلى الخليفة الأموي بلعن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وسب فاطمة الزهراء رضي الله عنها . . بعد أن كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد أبطل تلك الأحدوثة الشائنة : سب علي وفاطمة ! ولكن عمر بن عبد العزيز كان قد مات بكل عدله وحزمه وصفائه ، وما بقي في الدولة

ص 457

من رجال إلا هذا الصنف من الضالين وصناع الضلال . وعرف الصادق أن ذلك الفقيه المرتزق الذي كان قد كوفئ بتعيينه واليا ، ما زال يسب عليا وفاطمة ويهدد الناس إن خالفوه ، والناس قد أسكتهم الخوف . وإذ بالإمام الصادق يذهب ويستمع له ثم ينتفض مقاطعا المنافق المرتزق ويكشف للناس جهله ونفاقه ، ويوضح للناس وهو يعظهم أن مثل هذا المنافق الذي يبيع شرفه وضميره بالمنصب أو بالجاه أو المال ، ويبيع آخرته بدنياه ، إنما هو ضال مضلل وهو أبين الناس خسرانا يوم القيامة ، وأن محض افتراءاته وكشف جهله واجب . حقا . . ما كان الإمام الصادق يستطيع أن يسكت عن كل هذا التزييف على أنه ما من شيء كان يوجع الإمام الصادق مثل انحدار الذين ينتسبون إلى العلم والثقافة والفقه والدين إلى حضيض النفاق ، والمراءاة ، والانحناء ، وبيع الضمير . وما كان أنشط النخاسين في التقاط من ارتضوا أن يصبحوا عبيدا وإماء . . لقد شعر الإمام الصادق منذ استشهاد عمه الإمام زيد أنه يعيش في نهاية عصر . إنها نهاية عصر . . حقا . . ! وانتهى العصر . . سقطت دولة بني أمية وأرسل الثوار إلى جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة . وجاءته الرسالة وهو مشغول في تأملاته ودراساته وتجاربه فأحرق الرسالة ولم يرد . كان يحلق في سماء المعرفة ، يضرب في أغوار العلم ، ويشعر أنه أقوى من الملك . . أي ملك في الأرض . وأنه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس . كان يقول : من طلب الرياسة هلك . على أن الرياسة ظلت تطلبه وهو يرفض . وإذ رفض الخلافة بايع الناس أبا العباس حفيد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب

ص 458

وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين . وتأمل الإمام الصادق فيمن يحيط بالخليفة الجديد . لقد انتهى عصر . . هذا حق . . انتهى بكل خيره وشره ، وجاء عصر جديد يتطلع فيه الناس إلى الحربة ، والنظافة ، والطهارة ، والعدل ، فإذا بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة ، الدولة العباسية . ومات أبو العباس ، وورثه الخليفة المنصور وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون بالخليفة الثاني في العصر الجديد . وإذ بهم يوسوسون له بالآراء نفسها ، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض ، حتى لقد جعلوا المنصور يحمل الناس على تقبيل الأرض بين يديه ، أنهم أشباه رجال اشتهر عنهم الجهل والتخلف والغباء والحمق ووجهوا كل نشاطهم للنفاق . نفوس كريهة زرية مهينة محتقرة . وحكم الصادق على العهد الجديد بمن يمثلونه ويفيدون منه . أي أمل للناس في الخليفة وقد أصبحت الشورى لذوي الضمائر المتهرئة والألسنة المستهلكة ؟ لقد مضوا يدعون إلى التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلى الناس باسم الدين ، لينصرف المستبدون إلى جمع المال ، وينصرفوا هم إلى الارتزاق . لقد شرعوا للبغي وأحدثوا خرقا في الإسلام . لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله ، بل بالزهد في كل شيء ، والانصراف عن كل حق . ثم وصل فجور هؤلاء المرتزقة إلى آخر مدى فوضعوا الأحاديث النبوية لخدمة الطبقة الحاكمة حتى الأحاديث الشريفة لم تسلم من تزييفهم . وعلى الرغم من كل هذه المظالم ، وعلى الرغم مما عاناه الإمام جعفر من آلام وهو يعيش محنة خيبة الأمل في النظام الجديد ، فإنه ظل آخذا بالتقية قائلا : التقية ديني ودين آبائي . والتقية ألا يجهر المرء بما يعتقد اتقاء للأذى أو حتى تتحسن

ص 459

الظروف. والأصل في التقية هو قول الله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة) . وكان الخليفة المنصور قد غالى في القسوة على مخالفيه، ومنهم بعض آل البيت من العلويين والإمام الصادق يسكت تقية، ولكنه آثر مع ذلك أن ينصح الخليفة بالحسنى فقال له: عليك بالحلم فإنه ركن العلم. فإنه كنت تفعل ما تقدر عليه كنت كمن أحب أن يذكر بالصولة. واعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل . وهكذا مضى الإمام الصادق يؤدي دوره في تنوير الناس حكاما ومحكومين . . والخصومة تشجر حول القضاء والقدر، والجبر والاختيار، فيقول الإمام للناس: إن الله أراد بنا أشياء ، وأراد منا أشياء، فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا. وكان هذا لا يروق للطبقة الحاكمة، ولا للمتنطعين والمرتزقة من المنتسبين إلى العلم والفقه. ذهب الإمام جعفر الصادق إلى أن القول بالجبر ضد الشرع ، لأنه لا حساب ولا عقاب إذا لم يكن للمرء حرية اختيار ما يفعل . وإلا فمن أين تنبع المسؤولية إن لم تك للانسان حرية الفعل ؟ وهكذا مضى الإمام الصادق بكل إيمانه بدوره ، يعلم الناس بعض ما خفي عنهم من تفسير القرآن ووجد أن الأمراء والولاة يقترفون الظلم ، ويأكلون ما ليس لهم من حقوق الرعية ثم يستغفرون الله ، ويحسبون أن الله سيتوب عليهم ، فمضى يشرح معنى الاسغفار مفسرا بضع آيات من سورة نوح (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) فالاستغفار إذن يجلب السعادة والغنى . ولكن الاستغفار الحق ليس هو ترديد الكلمة باللسان ، ولكنها توبة القلب،

ص 460

وإعمال العقل ، والعمل الصالح الذي يحقق خير الأمة . الاستغفار أن تمتثل الأمر لله تعالى بالعدل والاحسان . ذلك أن المرء يجب أن يفكر في الله بكل ما يملك العقل من قدرات ، ليعرف الله ويعرف كيف يتقيه وكيف يحقق أهداف شرائعه وما أهداف الشرائع إلا تحقيق المصلحة للبشر وإعمار الأرض . ولقد سأله أحد الناس : يا بن بنت رسول الله ، لقد قال تعالى : (ادعوني أستجب لكم) فما لنا ندعوه فلا يجيب ؟ فقال له الإمام : لأنك تدعو من لا تعرف . إنه يطالب الناس أن يفكروا ليعرفوا الله . . أن يعرفوا الله بعقولهم ليستقر إيمانهم على أساس وطيد . كان الإمام علي غزارة علمه متواضعا رقيقا مع كل من يعرف ومن لا يعرف ، وكم تلقى من إساءات من بعض الحمقى والأغبياء وذوي النفوس المعقدة أو الضمائر العفنة أو ذوي الفظاظة ، فما قابلها إلا بالابتسام أو بالصبر . كان يتمثل قول الله تعالى (وأعرض عن الجاهلين) . وكان يكره الخصومة ويسعى جهده إلى الصلح فإن عرف أن هناك خصومة على مال تبرع من ماله خفية ليعطي طالب المال ، وكان يقول : لا يتم المعروف إلا بثلاثة : بتعجيله وتصغيره وستره . ناضل الإمام الصادق لإقرار التسامح الديني ولإرساء قواعد شريفة للتعامل بين المسلمين وأهل الكتاب من نصارى ويهود وكان حربا على التعصب الذي يسئ إلى الشريعة وإلى إنسانية الانسان . ذلك أنه وجد بعض المتنطعين والأراذل يحاولون أن يسيئوا معاملة المسيحيين ، فأثبت عليهم مخالفة قواعد الشرع وأوامر الرسول (ص) ، لأن الإسلام أمر المسلمين بأن يتعايشوا مع المسيحيين إخوانا متحابين ، وألا يكرهوا الناس على أن يكونوا مسلمين ، فلا إكراه في الدين . يجب أن يترك أهل الكتاب وما يدينون به فقد نهى الإسلام عن إثارة الفتنة في

ص 461

الدين والفتنة أشد من القتل ، ولقد أمر الرسول عليه السلام باحترام حرية العقيدة واحترام أهل الكتاب ، فمن لم يتعامل معهم كما أمر الرسول (ص) فليس من الإسلام في شيء ، ولو زعم في تنطعه وتعصبه أنه رجل شرع أو أنه أفقه الناس . ولقد أعادت هيبة الإمام الصادق ، كثيرا من الذين انحرفوا إلى حظيرة الدين . . فتعايش المسلمون والمسيحيون إخوانا متحابين كما أمر الله ورسوله . وهذا التسامح الذي ينبع من فهم عميق للاسلام وكان صفة أصيلة في الإمام فقد كان يدعو الله أن يغفر لمن أساء إليه ، وما عرف عنه أنه انتقم من أحد ، فقد كان يرى في الانتقام مع القدرة ذلا وأن الصبر عفو يثاب عليه المرء ، من أجل ما غضب من إساءة أو من اغتياب . وقد امتدت سماحته إلى الذين يخدمونه ، تلك السماحة التي تخالجها الرقة والعذوبة . كان له غلام كسول يحب النوم ، فأرسله يوما في حاجة فغاب وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه ، فخرج يبحث عنه ، فوجده نائما في بعض الطريق ، فجلس الإمام عند رأسه ، وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ فقال له ضاحكا : تنام الليل والنهار ؟ لك الليل ولنا النهار . لكل هذا الصدق والصفاء في التعامل مع الحياة والناس والأشياء ، لكل هذه السماحة والعذوبة والرقة والتسامح ، ولإشراقه الروحي الرائع ، وذكائه المتوقد الخارق وبجسارته في الدفاع عن الحق ، وقوته على الباطل ، وبكل ما تمتع به من طهارة وسمو وخلق عظيم ، التف الناس على اختلاف آرائهم حول الإمام الصادق جعفر بن محمد . وكما كان حكام بني أمية يراقبون التفاف الناس حوله بفزع ، أخذ الخليفة العباسي المنصور يراقب الإمام جعفر متوجسا من جيشان العواطف نحوه وإعجاب الناس به . كان المنصور يعرف بتجربته الخاصة أن الإمام جعفر بن محمد عازف عن الاشتغال بالسياسة ، وكان يعرف أن الإمام رفض إهابة الشيعة به أن ينهض ، ورفض

ص 462

إلحاحهم بالبيعة ، ولكن المنصور مع ذلك ما كان ليستريح لالتفاف الناس حول الصادق في كل مكان . في المدينة حيث يقيم وفي العراق حيث يلم ليعلم الناس أو ليحاور الزنادقة والملحدين وأصحاب الآراء الذين يخالفونه في أمور الدين . نقل الناس إلى الخليفة أن أحد فصحاء الزنادقة وفجارهم قد التقى بالإمام جعفر ، فعجز الرجل عن الحوار ، فسأله الإمام الصادق : ما يمنعك من الكلام ؟ فقال الرجل : إجلالا لك ومهابة ، وما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما داخلتني هيبتك . أخذ المنصور يتربص بالإمام جعفر وعرف أن الإمام يحارب الزهاد ، وكانت جماعات الزهاد تحبب إلى الناس الفقر ، وتدعوهم إلى العزوف عن الدنيا ، وإلى عدم التفكير في شؤونهم ، وقد شجع حكام بني أمية هذه الجماعات ليصرفوا الناس عن التفكير في المظالم ويصرفوهم عن المقارنة بين غنى الحكام وفقر المحكومين ، وشجع بنو العباس هذا الاتجاه إلى الزهد حتى لقد قويت الدعوة إلى الانصراف عن هموم الحياة . ورأى الإمام جعفر أن هذه الدعوة تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وأنها ليست من الله في شيء ، فهي تزين للفرد ألا يهتم بمصلحة الأمة ، وألا يحاسب الحكام ، وتتيح للحكام أن يعطلوا الشورى وهي أساس الحكم في الإسلام . ولقد انخدع بعض الصالحين بهذا الاتجاه إلى تمجيد الفقر ، فنادوا بتحريم الطيبات من الرزق وزينة الحياة التي أحلها الله لعباده ، حتى أن أحد الصالحين من الفقهاء رأى الإمام الصادق في ثوب حسن فأنكر هذا قائلا : هذا ليس من لباسك . فقال له الإمام الصادق : اسمع مني ما أقول لك فإنه خير لك آجلا أو عاجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على البدعة ، أخبرك أن رسول الله (ص) كان في زمان مقفر مجدب فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها أبرارها لا فجارها ، ومؤمنوها لا منافقوها . ومضى الإمام الصادق يناقش الزاهدين فالزهد كما يفهمه الإمام الصادق هو

ص 463

الاكتفاء بالحلال لا التجرد من الحلال . ورأى المنصور في الدعوة ضد الزهد والفقر تحريضا لعامة المسلمين على أن يستمتعوا بحقوقهم في المال ، ودعوة إلى إثارة التمرد . ولكن المنصور سكت وظن يراقب الإمام جعفر بن محمد ، ما عساه يصنع بعد ؟ لعله يسكت . ولكن الإمام جعفر ظل يناضل بالكلمة دفاعا عن كل آرائه وعن حرية العقل والإرادة وشرف المثقفين ، ورأى التفاف بعض الطيبين الفقهاء حول الحكام من غير ضرورة ، خوفا أو طمعا فقال للناس : إذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا للسلاطين فاتهموهم ، وتخوف كثير من الفقهاء بعد هذا من مخالطة السلاطين والحكام من غير ضرورة . ثم إنه أخذ ينشر من فتاوى الإمام علي وأقضيته ما حرص الحكام والمستغلون على إخفائه ، فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان في الأمة صاحب حاجة ، حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو علاج أو دواء أو ما يركبه . وأفتى بأن السارق إذا اضطر إلى السرقة لا يعمل ، فولي الأمر المسؤول وهو الآثم ، فإذا سرق السارق لأنه لا يحصل على الأجر الذي يكفيه هو وعياله فالذي يستغله أولى بقطع اليد . وكان استبداد المنصور قد استشرى ، وكما فعل الحكام الأمويون من قبل ، بطش المنصور بكل من يخالف رأيه ووجه بطشه إلى آل البيت ، فقد ناهضه بعض أقربائه من آل البيت ، فقتلهم شر قتلة ، واتهم جعفر بن محمد بأنه يحرض عليه ، وبأنه يطمع في الخلافة على الرغم من أنه يعلم أن الإمام لا طمع له في الملك . وخشي المنصور أن يصنع مع الإمام جعفر كما صنع الخليفة الأموي مع عمه الإمام زيد بن علي . وآثر المنصور أن يناقش جعفر فاستدعاه إلى العراق واتهمه بأنه يريد الخلافة . فقال له الصادق : والله ما فعلت شيئا من ذلك ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم

ص 464

أنهم أعدى الخلق لنا ولكن وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي فكيف أصنع هذا الآن وأنت ابن عمي وأمس الخلق بي رحما. فقال المنصور: أظنك صادقا. وعاد الإمام الصادق إلى المدينة مكرما. كان ما يغيظ المنصور حقا هو فكر الإمام الصادق والتفاف الناس حوله، وتوقيرهم إياه. والمنصور لا يجهل أن أحد كبار فقهاء العصر دخل على الخليفة وإلى جواره الصادق فما اهتم بالخليفة، وجعل كل اهتمامه بالإمام الصادق، وقال الرجل: أخذني من هيبة جعفر الصادق ما لم يأخذني من هيبة الخليفة. على أن الصادق عاد إلى المدينة لا ليسكن، بل ليواصل دوره الثقافي الجليل. ومن عجب أن المنصور على الرغم من ضيقه بآراء الإمام ما كان يملك إلا أن يجله، ويقول عنه أنه بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه، ولكن المنصور حاول أن يحرج الإمام الصادق فاستدعى أبا حنيفة النعمان وقال له: فتن الناس جعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد. ثم استدعى الإمام الصادق وأبا حنيفة وجلس الناس وما انفك أبو حنيفة يسأل الإمام في أربعين مسألة، والإمام يجيبه عن كل مسألة، فيقول فيها رأي فقهاء الحجاز ورأي فقهاء العراق، ورأي فقهاء آل البيت، ورأيه هو. وطرب أبو حنيفة وقال عن الإمام جعفر : إنه أعلم الناس فهو أعلمكم باختلاف الفقهاء . وصحبه أبو حنيفة النعمان بعد ذلك مدة سنتين يتلقى عنه العلم . ما كان توجس المنصور وشكوكه هو كل ما يعاني منه الإمام الصادق فقد كابد تطرف بعض فرق الشيعة وسبهم للشيخين أبي بكر وعمر ولعثمان بن عفان ، وشططهم في تمجيد بعض آل البيت وفي تمجيده هو نفسه إلى حد العبادة ، وتحللهم

ص 465

من التكاليف الدينية ، فأعلن البراءة منهم واتهمهم بالشرك بالله ، وأثبت عليهم الكفر ودعا الناس إلى نبذهم ، كان هؤلاء من المتعصبين ضعاف العقول ، أو من المندسين لتشويه آل البيت أو من أعداء الإسلام وآل البيت جميعا . على أن الإمام الصادق على الرغم من شدته على هؤلاء كان رفيقا في تعامله مع الفقهاء الذين يختلفون معه مهما تكن مذاهبهم واتجاهاتهم داعيا إلى التقريب بين الآراء ، مقاوما باسلا للطائفية ، ولكم بذل من جهد للقضاء على الخصومة في الدين ، وعلى التعصب بكل صوره وأشكاله . وكان يعتمد في حواره على الأدلة العلمية ، وعلى الاستقراء والاستنباط لا على المسلمات . نادى بتحكيم العقل حيث لا يوجد حكم في الكتاب أو السنة ، فبما أن هدف الشريعة هو تحقيق المصلحة للبشر ، وربما أن العقل قادر على معرفة الخير والشر وتمييز الحسن من القبيح ، فإن العقل يهدي إلى ما فيه المنفعة والخير فيؤخذ ، وإلى ما فيه الضرر فيترك . وهو يعتمد على العقل والتدبر ليصل المسلم إلى الإيمان . لقد أمر الله بالعدل والاحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، والعقل هو الذي يحدد الانسان كيف يجري العدل والاحسان ، وكيف يقاوم الفحشاء والمنكر والبغي، وكيف ينفذ التكاليف الشرعية بما يرضى الله ، وهو الذي يقر الإيمان في القلوب . والعقل هو الذي يقود الانسان إلى معرفة ما هو مباح عندما لا يوجد نص ، وإلى معرفة المصلحة التي هي هدف الشريعة ليكون تحقيق المصلحة هو أساس الحكم ومناطه . وقد هداه نظره إلى القول بحرية الإرادة ، وإلى الدفاع عن حرية الرأي التي هي أساس قدرة الانسان على تنفيذ أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 466 وحرية الانسان هي أساس مسؤوليته ، مسؤوليته أمام الله تعالى ، يحاسبه على ما يفعله لا على قضاء الله فيه ، فالله تعالى يسأل الانسان : لماذا كفرت ؟ لماذا أذنبت ؟ ولكنه لا يسأله لماذا مرضت ؟ وهكذا عاش الإمام في المدينة يعلم الناس ويجتهد في استنباط أصول الفقه . وعلى الرغم من أن كل هذه الآراء لم تكن تروق الخليفة المنصور ، فقد كان الخليفة حريصا على أن يقرب منه الإمام جعفر ، ولقد أرسل إليه الخليفة يوما يسأله : لم لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟ فكتب إليه الإمام جعفر : ليس منا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنئك ، ولا نراها نقمة فنعزيك . فكتب إليه المنصور : تصحبنا لتنصحنا . فأجابه الإمام الصادق : من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك . ولم يرق هذا للمنصور ، فاستدعاه واتهمه بأنه يجمع الزكاة وجمع الزكاة حق للخليفة وحده فهو إذن يدعو لنفسه ، وشهد ضد الإمام شاهد زور ، فكذب الإمام أقوال الشاهد ، فطلب المنصور من الإمام أن يحلف بالطلاق ، ولكنه رفض فقد كان يفتي بأن الحلف بالطلاق لا يجوز وقال : إنه لن يحلف بغير الله . فقال له الخليفة محتدا : لا تتفقه علي ، وقال الإمام هادئا مبتسما : وأين يذهب الفقه مني ؟ ثم إن الإمام طلب من الشاهد أن يحلف على دعواه فحلف شاهد الزور ، وكان الخليفة قد اقتنع بأن الإمام صادق في قوله ، فقد عرفه الجميع بالصدق وروع شاهد الزور وكبر عليه أن يفتري على هذا الإمام الطاهر ، وكبر عليه أن يحلف كذبا ، وها هو ذا آخر الأمر يجد الخليفة غاضبا عليه ، فما كسب شيئا بعد ، وسقط الرجل ميتا ، وحمل عن مجلس الخليفة ، أما الإمام فقد دعا للرجل بالرحمة ، وحطت ذبابة على وجه الخليفة لم يفلح في إبعادها إذ كانت تعود فتحط على وجهه . فسأله : لماذا خلق الله الذباب ؟ فقال الإمام : ليذل به الجبابرة . فقال له الخليفة متلطفا وجلا : سر من غدك إلى حرم جدك إن اخترت ذلك ، وإن

ص 467

اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك فوالله لا قبلت قول أحد فيك بعدها أبدا . وخرج الإمام إلى حرم جده في المدينة المنورة ، وهو إذ ذاك شيخ قد جاوز الخامسة والستين ، وأقام بالمدينة لا يبرحها ، يعلم الناس ويفقهم ، ويواصل وضع أصول الفقه ويشرع للفقهاء كيف يستنبطون الأحكام عندما لا يجدون الحكم في الكتاب أو السنة . وفي الثامنة والستين مات الإمام الصادق . وعندما عرف الخليفة المنصور أخذ يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : إن سيد الناس وعالمهم وبقية الأخيار منهم توفي ، إن جعفر ممن قال الله فيهم : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . مات الإمام جعفر الصادق إمام الشيعة وشيخ أهل السنة بعد أن ترك ثروة من الفقه والعلم والتأملات ، وأنشأ في الحياة الفكرية تيارا جديدا خصبا أعلى فيه العقل والنظر والتأمل والعلم ، وجمع المعارف كلها وعلوم الدنيا والدين . عادت النفس مطمئنة إلى ربها راضية مرضية ، وقد خلف الإمام في كل البلاد مئات الفقهاء السنيين يروون عنه ويعلمون الناس فقهه وشروحه وآراءه ، فضلا عن الفقهاء الشيعة . توفي الإمام جعفر الصادق الذي درس عليه الإمام مالك وروى عنه أبو حنيفة النعمان وتعلم منه ، وصحبه سنتين كاملتين قال عنهما أبو حنيفة النعمان : لولا السنتان لهلك النعمان . ومنها

قول المستشار الجندي

وهو الفاضل المعاصر المستشار عبد الحليم الجندي في الإمام جعفر الصادق (ص 63 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، القاهرة) قال :

ص 468

وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم ، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده . ولما استمسك بإمامته وقنع بمنصبه التعليمي ، علا قدره في أعين طلاب السلطة ، وأمنوا جانبه واتخذوا من زهده فيها شهادة لهم ضد من ينازعونهم . لكنه كان الغرض الذي تنجذب إليه الأنظار : فهو يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الإسلام ، وما يتبعه من رضى العامة عنهم ، أو سخطها عليهم . وهو بوجه خاص حجر الزاوية من صرح أهل البيت ترنو إليه أبصار الذين يدعون الخلافة بدعوى أنهم من أهل البيت . وهو مقيم في المدينة العاصمة الأولة والدائمة للاسلام ، يتحلق فيها المتفقهة حول علماء الإسلام في مسجد الرسول ، يحملون بأيديهم مصابيح السنة ، أو يعلنون شرعية الحكومة أو عدمها ، وحسن السيرة أو فسادها ، وإقرار أهل العلم أو إنكارهم . وهي أمور أساسية تحرص عليها الدولة العادلة وتتجنب الاتهام بمخالفتها أي دولة . وإذا كانت دمشق قد أدارت ظهرها لمدينة الرسول أو كانت بغداد قد فتحت أبوابها على العالم وأوصدتها دون أهل المدينة ، فالمسلمون يأتون إلى مدينة الرسول كل عام ، خفافا وعلى كل ضامر ، إذ يحجون إلى البيت العتيق بمكة ، ويزورون قبر الرسول ويشهدون آثاره في المدينة . وإذا كان الخليفة المنصور يقول عن نفسه : إنما أنا سلطان الله في الأرض فهو يحس وطأة سلطان الدين والعلم في المدينة ، حيث إمام المسلمين غير منازع جعفر بن محمد الذي يصفه الناس - وأبو جعفر المنصور في طليعتهم - بالصادق . ومن أوصافه كذلك : الطاهر والفاضل والصابر .

ص 469

وقال أيضا في ص 82 : روى الإمام الصادق ما كان بعد أن هدأت الأحوال . قال : لما قتل إبراهيم بن عبد الله بباخمرى حسرنا عن المدينة ولم يترك فينا محتلم حتى قدمنا الكوفة . فمكثنا فيها شهرا نتوقع القتل . ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال : أين هؤلاء العلوية ؟ ادخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى . فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد . فلما دخلنا عليه قال : أأنت الذي تعلم الغيب ؟ قلت : لا يعلم الغيب إلا الله . قال : أنت الذي يجبى إليه هذا الخراج ؟ قلت : إليك يجبى يا أمير المؤمنين الخراج . قال : أتدرون لم دعوتكم ؟ قلت : لا . قال : أردت أن أهدم رباعكم وأروع قلوبكم وأعقر نخلكم وأترككم بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق ، فإنهم لكم مفسدة . قلت له : يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطي فشكر ، وإن أيوب ابتلي فصبر ، وإن يوسف ظلم فغفر ، وأنت من ذلك النسل . فتبسم وقال : أعد علي ما قلت . فأعدت ، فقال : مثلك فليكن زعيم القوم وقد عفوت عنكم ووهبت لكم جرم أهل البصرة ، حدثني الحديث الذي حدثتني عن أبيك عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : حدثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : صلة الرحم تعمر الديار وتطيل الأعمار وإن كانوا كفارا . قال : ليس هذا . قلت : حدثني أبي . . عن رسول الله صلى الله عليه وآله : الأرحام معلقة بالعرش تنادي : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني . قال : ليس هذا . قلت : حدثني أبي : أن الله عز وجل يقول : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتها بتته . قال : ليس هذا الحديث . قلت : حدثني أبي . . أن ملكا من الملوك كان في الأرض كان بقي من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه ، فجعلها الله ثلاثين سنة . ص 470 قال : هذا الحديث أردت . أي البلاد أحب إليك ؟ فوالله لأصلن رحمي إليكم . قلنا : المدينة . فسرحنا إلى المدينة ، وكفى الله مؤنته . وقال في ص 98 : لقد أخطأ معاوية في إقامة دولته وفي حربه . وكان لزاما أن يقوده خطؤه إلى أن يجعل الدولة هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل . فيكون ابنه يزيد أشأم وألام خلف لسلف . لكن أحدا لا يتنازع في أن دولته - وإن لم تمثل دولة الدين - قد انتشرت في البر والبحر ونشرت الإسلام وجاهد في غزواتها الصحابة وبنوهم والعلماء والفقهاء ، بل غزا وجاهد فيها بين جيوش المسلمين أبو الشهداء الحسين بن علي ، في فتح أفريقية وغزو جرجان وطبرستان والقسطنطينية . ومعاوية هو الذي مهد لدولة ابن عمه مروان بن الحكم . وعبد الملك بن مروان هو المؤسس الحقيقي للدولة المروانية التي أينعت فروعها بالأندلس وأبقت الإسلام في أوربا ثمانمائة عام ، لتهيئ للحضارة الحديثة أن تنطلق من جامعات الأندلس وجوامعها ، وهو عم عمر بن عبد العزيز وصهره . وعمر : خامس الراشدين في مدة خلافته الذي كتب لعامله على المدينة يوم ولي الخلافة : اقسم في ولد فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فقد طالما تخطتهم حقوقهم . وقال معلنا حق علي وباطل بني أمية ومروان (كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج . فقلت : يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا ؟) قال : أو فطنت إلى ذلك ؟ يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده . لكن أبا جعفر كان أثقل الثلاثة حملا . إذا كان معاوية وعبد الملك قد سبقاه ففصلا بين الدين والدولة فجزءا نظرية الدولة الإسلامية ، وكان هو قد سار على الدرب الذي اختطاه ، إن المعارك التي خاضها من أجل دولته كانت أوسع مدى .

ص 471

ففزعه من أبي مسلم وجنده لم يكن إلا رجع الصدى لصوت يتصايح في آفاق حياته ، وأعماق ذاته : أنهم سرقوا الدولة من أبناء علي . ومن هنا خوفه المستمر من انتقاض أهل خراسان الذين جاءوا لمبايعة الرضا من آل محمد . وأهل البيت أولى منه في أنظار الذي جاءوا به وبأخيه إلى السلطة . وخوفه من أعضاء بيته أشد ، فلقد كان عمه عبد الله بن علي قائد جيش الشام ، لكنه خرج عليه ، وأخمد فتنته أبو مسلم الخراساني ، حتى إذا استسلم على عهد حبسه أبو جعفر ليقتله بعد زمن من قتله أبا مسلم ذاته . وكذلك غدر بعيسى بن موسى الذي انتصر على محمد وإبراهيم فسلبه حقه في ولاية العهد ، وولى ابنه المهدي عهده . فكان غدره كهيئة ما غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد الأشدق في ولاية العهد ، قائلا : ما اجتمع فحلان في شول إلا أخرج أحدهما صاحبه . وما كان نقض معاوية عهده مع الحسن بن علي ، إلا درس المعلم الأول للرجلين أن يستعملا الزمن ، وأن ينتهزا الفرص ، وأن يحركا الحوادث بدهاء ، وأن يقطفا الثمر ثمرة ثمرة . وأبو جعفر لا يتردد في إعلان التشابه بينهم وفي تعطشه للدم ، فيعلن في الناس أن الملوك ثلاثة : معاوية وكفاه زياده ، وعبد الملك وكفاه حجاجه ، وأنا ولا كفاة لي . كأنما لم يكن فيما سفكه كفاية ، فكان يريد أن يسفك له دما أكثر سفاحون أصغر . إلى أن قال في ص 102 : فلقد يدس من أجهزته دسيسا بعد دسيس على بني الحسن والحسين ، مثل أن يدعوا ابن مهاجر ذات يوم فيقول له : خذ هذا المال وأيت المدينة والق عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد الصادق وأهل بيتهم وقل لهم : إني رجل من خراسان من شيعتكم وقد وجهوا إليكم هذا المال . فادفع إلى كل واحد منهم على هذا الشرط كذا وكذا . فإذا قبض المال فقل: إني رسول وأحب أن تكون معي خطوطكم بقبض ما

ص 472

قبضتموه مني . وذهب ابن مهاجر ، فلما رجع قال له أبو جعفر : ما وراءك ؟ قال : أتيت القوم وهذه خطوطهم ما خلا جعفر بن محمد . قال لي يا هذا : اتق الله ولا تغرن أهل بيت محمد . فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان ، وكلهم محتاج . فقلت : وما ذاك أصلحك الله . فقال : أدن مني . فدنوت فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك كأنه ثالثنا . قال المنصور : يا بن مهاجر إنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيهم محدث . وإن جعفر ابن محمد محدثنا اليوم . فالصادق يكشف للمنصور ودسيسه حقائق يعلمونها ، وينبههما على ألا يورطا أهل البيت من جراء حاجاتهم ، يريد لأهله السلامة وللخليفة الاستقامة ، وللأمة الطمأنينة ، وفي كل ذلك خير لأبي جعفر المنصور . ولقد كان المنصور نفسه يجعل الصادق حجة من حججه ، وإذا فاخر أهل البيت فاخرهم به . كتب إليه محمد بن عبد الله (النفس الزكية) يدعوه ليبايعه ، وعيره بأمهات العباسيين لأنهن أمهات ولد ، وأم المنصور بربرية تدعى سلامة ، يتردد اسمها على ألسنة الذين فاخروه فتولى المنصور كبره في الرد على محمد ، ولم يدع الفرصة تفوته ليستفيد حجة من مكانة الإمام الصادق . قال فيما قال : وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من علي بن الحسين زين العابدين ، وهو لأم ولد ولهو خير من جدك حسن ابن حسن . وما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي الباقر وجدته أم ولد ، ولهو خير من أبيك ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد ، وهو خير منك . وغض المنصور طرفه عن أم الولد في شجرة الباقر شاه زنان بنت كسرى ملك الفرس ، وأين منها بعد إذا أسلمت سلامة ! على أن اللقاءات أو الاحتكاكات بين الرجلين لا تتوقف . فهذان قطبان لكل منهما عالمه ، وهما ضدان لهما مستويان والشرف فيهما لرجل الدين والزهد والعلم ، والملوك أحوج إلى العلماء من العلماء إلى الملوك .

ص 473

وأبو جعفر حريص غدر ، يسلط على الصادق من وقت لآخر ، وفي مكان بعد آخر ، وجوها من التهديد لشخصه والاتهام لولائه والازراء بعلمه . يقول له ذات يوم في لقاء له بالكوفة : أنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل البيت من بني العباس ، وما يزيدك الله بذلك إلا شدة حسد ونكد ، وما تبلغ به ما تقدره . فيجيبه الصادق : والله ما فعلت شيئا من ذلك ، ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأنه لا حق لهم في هذا الأمر ، فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي . وكيف أصنع هذا الآن ، وأنت ابن عمي ، وأمس الخلق بي رحما ، وأكثر عطاء وبرا فكيف أفعل هذا . والصادق بهذا يسجل للخليفة بره ويقدر له أولية ذوي الأرحام عنده في البر بهم ، ويقرر له حقه في الخلافة ، وليس للمنصور فوق ذلك طلبات . وبهذا يستل الضغن من صدره ، ليدعه في ميدانه الذي يسره الله له . ومع ذلك يعاد المشهد في بغداد ، بعد سنة 145 ، فيستحضره المنصور لمواجهة جديدة . يقول له : يا جعفر ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلى بن خنيس ؟ قال الصادق : معاذ الله ما كان من ذلك شيء . قال المنصور : تحلف على براءتك بالطلاق والعتاق . قال الصادق : نعم أحلف بالله ما كان من ذلك شيء . قال المنصور : بل تحلف بالطلاق والعتاق . قال الصادق : ألا ترضى بيميني : الله الذي لا إلا إلا هو ! قال أبو جعفر : لا تتفقه علي . قال الصادق : وأين يذهب الفقه مني ؟ قال المنصور : دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك هذا حتى يواجهك .

ص 474

فأتوه بالرجل . قال الصادق : تحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح ؟ قال : نعم . ثم بدأ باليمين . قال : والله الذي لا إله إلا هو الغالب الحي القيوم . قال الصادق : لا تعجل في يمينك فإني أستحلفك . قال أبو جعفر : ما أنكرت من هذه اليمين ؟ قال الصادق : إن الله تعالى حي كريم إذا أثنى عليه عبده لا يعاجله بالعقوبة . ولكن قل أيها الرجل : أبرأ إلى الله من حوله وقوته وألجأ إلى حولي وقوتي إني لصادق بر فيما أقول . قال المنصور للرجل : إحلف بما استحلفك به أبو عبد الله . قال راوي الخبر : فحلف الرجل ، فلم يتم الكلام حتى خر ميتا . فارتعدت فرائص المنصور وقال للصادق : سر من عندي إلى حرم جدك إن اخترت ذلك ، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل جهدا في إكرامك ، فوالله لا قبلت بعدها قول أحد أبدا . وأين يذهب الفقه من إمام المسلمين ، وهو الذي يوجه اليمين ، ومن حقه صياغتها ، وفي الصيغة ما ذكر المفتري بعظم افترائه ، وبالخالق سبحانه (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) . ومن الانساني ، ومن جلال مقام الإمام عند الله والناس ، أن يخر صريعا من يفتري على الله وعلى الإمام ، في مجلس الخليفة . بهذه الآية هدى جبار السموات جبارا على الأرض لا يطأطأ رأسه . فإذا حركها عندما يناوشه الذباب سأل حضاره كالمستنكر : لم خلق الله الذباب ؟ ! وكان الصادق حاضرا يوما فأجاب : ليذل به الجبابرة . ولئن كان في وجود الذباب في المجلس تذكرة للجبابرة ففي سقوط المفتري على الإمام بين أيديهم آية ما بعدها آية . وكما يضمن أبو جعفر طاعة الإمام بالبغتات يصطنعها من حين لآخر ، لا يتورع عن محاولة إفحام الإمام بين علماء العصر ، أو تسخير أعظم علماء العراق لينصب منه شركا

ص 475

يوقع فيه الإمام ، وليس هوى أبي جعفر مع أي منهما . ولا بأس عنده إذا أعجز كل منهما ، أو أحدهما صاحبه . وإن المرء ليلمس خساسة الحيل الظاهرة من أبي جعفر ، باتخاذ العلم والفقه أداة للشر المدبر ، وعظماء العلماء وسائل للإساءة للمسالمين الذين يأمن جانبهم . فلنقس عليها فظاعة تدابيره السرية لمن يخشى العواقب منهم ، ولندرك جلالة الحق إذ ينتصر على الحيلة ، وجلجلة الحقيقة إذ تظهرها وسيلة أريد بها طمس معالمها ، ومكانة الإمام الصادق في العلم إذ يتواضع أمامه العظماء من الفقهاء ، في مجلس علمي يسيطر عليه خليفة عالم . أقدم المنصور الإمام الصادق من المدينة إلى العراق وبعث إلى أبي حنيفة فقال له : إن الناس قد افتتنوا بجعفر ، فهيئ له المسائل الشداد . ويقول أبو حنيفة عن لقائه بعد ذلك : بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته ، فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه . فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه ، فأومأ إلي فجلست . ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة . قال جعفر : إنه قد أتانا . ثم التفت إلي المنصور وقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله (الصادق) مسائلك . فجعلت ألقى عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا . وأهل المدينة يقولون كذا . ونحن نقول كذا . فربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة . ولقد قال أبو حنيفة في مقام آخر : ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس . وإنما يقصد أبو حنيفة باختلاف الناس الاجتهاد الفقهي للمقارنة بين مذاهب المجتهدين ، فأبو حنيفة - وهو الإمام الأعظم عند أهل السنة - يقرر أن الإمام الصادق أعلم الناس باختلاف الناس في المدينة حيث علم المحدثين ، وفي الكوفة حيث علم أهل الرأي . وكانتا قد بلغتا أوجهما ، على أيدي أبي حنيفة ومالك . وهما التلميذان في

ص 476

مجالس الإمام الصادق . وكمثلهما كان إمام العراق الآخر سفيان الثوري . وأبو حنيفة أكبر سنا من جعفر الصادق . ولد قبله بأعوام وسيموت بعده وكان أبو حنيفة كما قال مالك : لو حدثك أن السارية من ذهب لقام بحجته . والجاحظ كبير النقدة يقول بعد مائة عام : جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال إن أبا حنيفة من تلاميذه وكذلك سفيان الثوري وحسبك بهما في هذا الباب . والجاحظ يذكر تلاميذ العراق ولو ذكر تلاميذ المدينة لما نسي مالك بن أنس . وقال في ص 107 : بلغ الإمام الصادق بمسالمته للمنصور بعض آماله لأهل بيته ، بقية أيام حياته ، بل طوال خلافة أبي جعفر المنصور . فكان ميمون النقيبة بالسلام الذي نشده ، والأمان الذي دعا له ، وأطال زمانه ومنع كثيرا من الطغيان الذي طالما شكاه أبوه ، على ما سيروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون والجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس . وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة . ومن يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره . ثم لم يزل البلاء يزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل يقال له زنديق أحب إليه من أن يقال شيعة علي . وفي عصر الباقر كان الحسن البصري (110) الجسور قاضي عمر بن عبد العزيز وشيخه الذي لا يهاب الخلفاء إذا روى عن أمير المؤمنين علي قال (قال أبو زينب) :

ص 477

ليخفي الاسم الذي لا خفاء له . بل كان الشعبي (104) شيخ المحدثين بالعراق يقول : ماذا لقينا من آل علي إذا أحببناهم قتلنا وإذا أبغضناهم دخلنا النار . وكان طبيعيا في دولة هرقلية أن يكون همها الملك لا الدين ، تعاقب من تتوهم خطره عليها وتترك من تزندق ، أن تزداد الاستهانة بالدين في مقابل السلام الذي تنشده الدولة ، والبلهنية التي يؤثرها دعاة الدعة . بدأ ذلك من عهد معاوية وسيستمر استمرار فساد الدولة وستستبقيه لتصرف الناس عن الاهتمام بأهل بيت النبي ، أو توقع بهم لفرطات تفرط من أحدهم ، أو تعزى كذبا إليهم ، منتهزة للفرص حينا ، أو مفتعلة لها في أغلب الأحيان . كانت الأوامر تصدر من بغداد إلى أرجاء الامبراطورية التي تدين لبني العباس ومنها مصر أن لا يقبل علوي ضيعة ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد (والرقيق يومذاك قوة العمل) وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة فلا يقبل قول العلوي ويقبل قول خصمه بدون بينة . وكانوا يسفرون من الأطراف إلى العاصمة ليكونوا تحت الرقابة بل أمر الرشيد أن يضمن العلويون بعضهم بعضا ، وكانوا يعرضون على السلطان كل يوم ، فمن غاب عوقب ، وكأن أهل بيت النبي جالية من العدو أو شرذمة من المشبوهين . ولقد كان يكفي للحيطة أقل القليل من حاكم يريد أن يطمئن ، وإنما كان ذلك الكيد سياسة إبادة مستمرة ، يشترك في تنفيذها الخلفاء ، والأشياع الظلمة ، تدفع الثائرين إلى أن يثوروا ، فيؤخذوا بثوراتهم ، أو يؤخذ غيرهم بجرائر تنسب إليهم ، أما سياسة أهل البيت فواضحة من شعار أبناء علي في كلمة مسلم بن عقيل إنا أهل بيت نكره الغدر . قالها عندما عرض عليه البعض قتل عبيد الله بن زياد في إحدى زياراته . فنجا ابن زياد بهذا الشعار ليقتل مسلما فيما بعد . أما شعار حاشية معاوية فكان إن لله جنودا من عسل يقصدون دس السم إلى أعدائهم فيه .

ص 478

ولقد طالما استعمل الطغاة السم في أهل البيت في القرون التالية ، فإن لم يكن سم في خفاء فالقتل جهرة ، ومن الروايات أن أئمة أهل البيت الاثني عشر ماتوا مسمومين ما عدا أمير المؤمنين عليا وأبا الشهداء الحسين ماتا شهيدين . في أيام الخليفة الهادي (سنة 169) كان أهل بيت النبي في المدينة يستعرضون كل يوم لكل واحد منهم كفيل من نسيب أو قريب ، بل ولي عليهم واحد من ذرية عمر بن الخطاب هو عبد العزيز بن عبد الله . فولى بدوره على أهل البيت رجلا يقال له عيسى الحائك . فحبسهم الحائك في المقصورة فثارت لأجلهم المدينة إذ ثاروا وكسرت السجون . إلى أن قال في ص 150 : وليس أحد بحاجة في ترجمة أئمة أهل البيت ليسترسل في وصف خصال من يرث أخلاق الأنبياء ويعلمها . فلنستحضر ونحن في بيت النبي ، ما كان يصنعه النبي ولنتيقن أن الإمام الصادق كان يحاول أن يصنع نظيره ، ولنستحضر فعال علي وزهراء النبي ، والحسن والحسين وزين العابدين والباقر . فهي أصول يتلقاها الخلف عن السلف ، ليعملوا بها ، ثم يعلموا بها . وربما أجزأ في هذا المقام ذكر أمثال عادية من الحوادث اليومية تصور صميم الشخصية ، وفيما نذكره دلائل على كثير لم نذكره . فحياة الإمام مدرسة وتطبيقاتها ، والعمر أيام تتكرر ، والحياة جماع أعمال يدل بعضها على البعض الآخر ، ومنها الجزئي الذي يستنبط منه الكلي ، وكثيرا ما كان العمل الواحد رد فعل عفوي أو فوري ، صادرا عن عدة قواعد يجري عليها العقل أو الشعور أو السليقة أو الطريقة ، فردود الأفعال شهادات عيان بدخائل الانسان . 1 - مات بين يدي الإمام ولد صغير ، فبكى وقال : سبحانك ربي لئن أخذت لقد

ص 479

أبقيت ولئن ابتليت لقد عافيت . وحمله إلى النساء وعزم عليهن ألا يصرخن . وقال : سبحان من يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حبا . إنا قوم نسأل الله ما نحب فيعطينا فإذا نزل ما نكره فيمن نحب رضينا . فأي قلب في اطمئنانه واتزانه ، كمثل ذلك الذي يفيض بالشكر حيث يغيض الصبر عند الغير . 2 - ونهى أهل بيته عن الصعود فدخل يوما فإذا جارية من جواريه تربى بعض ولده قد صعدت السلم ، والصبي معها . فلما نظرت الإمام ارتعدت لعصيانها وسقط الصبي من يدها فمات ، فخرج الصادق متغير اللون . فسئل عن ذلك فقال : ما تغير لوني لموت الصبي ، وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب . ثم قال لها بعد ذلك : أنت حرة لوجه الله ، لا بأس عليك . فهذا أمر واحد عادي تبعته وقائع ثلاثة غير عادية ، أعقبها من الإمام تصرفات لا تصدر إلا عن الإمام في كل واحدة منها أنواع فضائل . تبدأ باحترام إنسانية الانسان . وتنتهي بعطاء دونه كل عطاء يختمه بالكلمة الطيبة لا بأس ويبدؤه بأعلى القيم الانسانية إذ يمنحها حريتها . 3 - وذهب مرة يعزى أحد المصابين بفقد ولده وانقطع في الطريق شسع نعله ، فتناوله من رجله ومشى حافيا ، فخلع ابن يعفور شسع نعله وقدمه له ، فأعرض عنه كهيئة المغضب وقال : لا ، فصاحب المصيبة أولى بالصبر عليها . فالإمام لا يلقى متاعبه على من دونه ، بل يتحمل الأذى ليتعلم الناس وجوب العمل ، ولزوم التحمل ، وليعلم الكبراء أنهم كبراء بما يضربونه من المثل ، وليدرك الجميع أن الصبر على المصيبة شطر الإيمان وأحق الناس به من أتيحت الفرصة له . 4 - وذات يوم دعا للطعام عابر سبيل لم يقرئه السلام . فراجعه حضاره متسائلين بين يديه : أليست السنة أن يسلم الرجل أولا ، ثم يدعى للطعام ؟ فأجاب الإمام : هذا

ص 480

فقه عراقي فيه بخل . ففقه الإمام علوي يبدأ بالعطاء وعملي فيه مبادرة واجتماعي يسعى به المعطي إلى الآخذ ، وإسلامي ، إنساني ، كله كرامة . لقد ولد في دار شعارها البدار بالعطاء مع الاخفاء حتى الصدقة ، يقول فيها الباقر : أعط ولا تسم ولا تذل المؤمن . وفي ذلك السنة . . وسنرى تطبيقات شتى من الإمام لهذا الفقه في المنهج الاقتصادي . 5 - وصحا رجل من الحاج فلم يجد هميانه - الكمر الذي يلفه المحرم حول بطنه وفيه نفقته من النقود - فخرج فوجد الإمام الصادق يصلي فتعلق به وهو يقول : أنت أخذت همياني . قال الصادق : كم كان فيه ؟ قال : ألف دينار . فأعطاه ألف دينار . ومضى الرجل فوجد هميانه فرجع يعتذر ويرد ألف دينار ، فأبى الصادق أن يأخذها وقال : شيء خرج من يدي فلا يعود . قال الرجل لمن حوله : من هذا ؟ قالوا : جعفر الصادق . قال : لا جرم هذا فعال مثله . فإمام المسلمين لا ينعزل عنهم ، فلا ينماز منهم ، حتى ليخطئ الجاهلون منهم في شخصه فيعرض عن الجاهلين ويخف ليخفف كرب المكروب ، لا يحزنه وهمه أو اتهامه ، وإنما تحزنه همومه ، فيشركه فيها بالصنيع النابه مرة إثر أخرى . والناس أسمع للصوت الذي لا صرير له ، وأبصر بالاخلاص الذي لا يتصايح صاحبه به . والأفضال أفعال تدرك آثارها الحواس الخمسة . ولا نستطرد في السرد . ففي كل واقعة سلفت عدسة صغيرة تريك العالم الكبير الذي وراءها من مناقب كالنجوم وإن كان أصحابها من البشر . هذه سماء تسعى على الأرض ، وهؤلاء بقية النبي عليه الصلاة والسلام يعيشون

ص 481

في الدنيا . مجالس العلم : شهد الإمام الصادق انحدار الناس بعد عصر الخلفاء الراشدين ، ورأى بعين الصبي المأمول من أهل بيت الرسول ما صنعه عمر بن عبد العزيز في خلافته بين سنتي 98 - 101 إذ أعاد الدين غضا في نحو من ثلاثين شهرا ، وأثبت للدنيا أن المدة كما سمى الناس خلافته ، كانت كافية لتعيد الناس إلى الإسلام الصحيح عندما يوجد خليفة صادق العزم ، يتخذ الخلافة كما قال سبيلا إلى الجنة . وكان بعض الصالحين يستعجلون عمر ليصنع كل ما صنع في أول يوم ولي الخلافة . قال له ابنه عبد الملك : يا أبت ما بالك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي القدور ، لكن عمر كان يتأتى للأمور في رفق وأناة وإصرار . قال : لا تعجل يا بني إن الله تعالى ذم الخمر مرتين ، وحرمها في الثالثة وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة ، فيدفعوه جملة ، فتكون فتنة . وبهذا قدر على أن يرد المظالم وأغنى الله الناس على يديه ، فأصبح عمر لا يجد فقراء يوزع المال عليهم في المدينة أو في القرية . لكن الإمام الصادق تعلم من حياة الخليفة الصادق العزم أن إصلاحاته لم تؤت ثمارها بعد مماته ، إذ دمرها الخلفاء الذين جاءوا بعد ه وتتابع الباقون يدمرون . وشهد الإمام الصادق مقدم بني العباس وكيف ناقضوا شعارات دولتهم وحكموا حكم جاهلية . هكذا رأى رأي العيان أن صلاح الأمر لا يكون بتولي السلطة ، أو بمجرد إصلاحها مدة قصيرة أو طويلة ، وكل عمر قصيرة ، وإنما الصلاح في إصلاح الأمة ، فكيفما تكونوا يولى عليكم ، ولكل أمة الحكومة التي تستحقها . . واستيقنت نفسه الصواب فيما صنعه أبوه وجده ، وهو أن يعلموا الأمة فإذا تعلمت صلحت فلم يستضعفها حكامها ، وهي عندئذ تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر وتشركهم تبعاتهم ،

ص 482

فالأمة القوية لا تظلم حكامها ولا يظلمونها . وبشعار الثقة بالله سبحانه (الله وليي وعصمتي من خلقه) وبنقش الخاتم الذي يعلن مصدر قوته (ما شاء الله لا قوة إلا بالله أستغفر الله) قصد إلى مجلس العلم ، في مسجد النبي أو في داره ، يستعمل البعد المكاني ، حيث يجلس للتعليم في مدينة الرسول ، والبعد الزماني ، فهو تابعي يعيش في جيل التابعين وتابعي التابعين ، والبعد الثالث وهو ارتفاع نسبه إلى النبي وعلي . أما البعد الرابع فعمق علمه وعلم أبيه وجده . في هذا المجلس المهيب بالمدينة أو بالكوفة يجلس رجل ربعة . ليس بالطويل ولا بالقصير ، أزهر له لمعان كالسراج ، يسعى نوره بين يديه ، رقيق البشرة ، أسود الشعر جعده ، أشم الأنف ، أنزع قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهرا ، له إشراق ، وعلى خده خال أسود ، المسلمون أيامئذ أحوج إليه ليعلمهم ، منهم إليه ليحكمهم . . كل ما يحيطه يوحى بالرجاء في فضل الله . فلما طعن في السن زاد جلالا وسناء وإحياء للأمل . يلبس الملابس التي عناها جده عليه الصلاة والسلام حينما قال : كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف لا مخيلة . رآه سفيان الثوري وعليه جبة خز دكناء فقال : يا بن رسول الله ما هذا لباسك . فقال : يا ثوري لبسنا هذا لله ، ثم كشف عن جبة صوف يلبسها ، وقال : ولبسنا هذا لكم . كان جده علي يختار الخشن من الألبسة ويلح الجوع عليه فيعلل معدته بقرص شعير ، يخيط نعله إن لم يكن مشغولا ، أو يتركه لمن يخيطه بأجر إذا انشغل . لكن الزمان يتغير فيغير الصادق ليظهر أثر النعمة . ويقول للناس : إذا أنعم الله على عبده بنعمة أحب أن يراها عليه لأن الله جميل يحب الجمال . ويقول: إن الله يحب الجمال والتجمل ، ويكره البؤس والتباؤس . والنظافة من الإيمان ، فيها الكرامة والسلامة للنفس وللأسرة وللمدينة فعلى المرء كما يقول الإمام : أن ينظف ثوبه ويطيب ريحه ويجصص داره ويكنس أفنيته .

ص 483

وذات يوم رآه عباد بن كثير البصري في الطواف فقال له : تلبس هذه الثياب في هذا الموضع وأنت في المكان الذي أنت فيه من علي ؟ فأجاب كما يروي الإمام نفسه : فقلت : فرقبي - نسبة إلى فرقب حيث تصنع ثياب كتان أبيض - اشتريته بدينار ، وقد كان علي في زمن يستقيم له ما لبس فيه ، ولو لبس مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس : هذا مرائي مثل عباد . قيل له يوما : كان أبوك وكان . . فما لهذه الثياب المروية (حرير مرو) . فأجاب : ويلك فمن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ وإنك لترى آثار النعمة على مالك وأبي حنيفة ، وإجابات مشتقة بدقة من هذه الإجابات ، في ردود الرجلين بشأن ملابسهما وأنعم الله عليهما - وكان كلاهما لباسا - فالمذموم من الثياب ما فيه خيلاء والمحمود ما كان إظهارا لنعمة الله على عبده حتى تلميذه العظيم الثالث سفيان الثوري وهو إمام الزهد والورع والحديث والفقه قد انتفع بدروس الإمام في الملبس فأمسى يقول : الزهد في الدنيا هو بقصر الأمل ، ليس بأكل الخشن ولا بلبس الغليظ . ازهد في الدنيا ثم نم . لا لك ولا عليك . إن الرجل ليكون عنده المال وهو زاهد في الدنيا ، وإن الرجل ليكون فقيرا وهو راغب فيها . وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يلبس ما تيسر من الصوف تارة ومن القطن تارة ومن الكتان تارة . وكانت مخدته من أدم حشوها ليف نخل . ولما قال له رجل : يا رسول الله أنا أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذاك ؟ قال : لا ، إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس . إلى أن قال في ص 158 : التلاميذ الأئمة : كان سفيان الثوري إمام العصر في الورع والسنن والفقه ، للعراق كافة . وكانت له في مجابهة الخليفة مواقف لا يمل الحديث فيها . وكان كثيرون من رواد المجلس

ص 484

كسفيان مكانة في المسلمين : منهم عمرو بن عبيد الذي نشأت على يديه فرقة المعتزلة وأبو حنيفة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ترب أبي حنيفة ، وإمام المدينة مالك بن أنس . وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم لأهل السنة ومالك أكبر من تلقى عليه الشافعي علما وأطولهم في تعليمه زمانا ، والشافعي شيخ أحمد بن حنبل . وكمثلهم كان المحدثون العظماء : يحيى بن سعيد محدث المدينة وابن جريج وابن عيينة محدثا مكة ، وابن عيينة هو المعلم الأول للشافعي في الحديث . فلندع للأئمة وصف مكانهم من الإمام وفيه وصف مجالس علمه : يقول مالك بن أنس : كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم ، فإذا ذكر عنده النبي اخضر واصفر . ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصليا وإما قائما وإما يقرأ القرآن . وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على الطهارة ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه . وكان من العلماء والعباد والزهاد الذين يخشون الله ، وما رأيته قط إلا ويخرج وسادة من تحته ويجعلها تحتي . وفي مقولة أخرى يضيف مالك - وكان كثير الحديث ، طيب المجالسة ، كثير الفوائد - إذا قال : قال رسول الله ، اخضر مرة واصفر أخرى حتى ينكره من يعرفه ، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام ، كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه ، وكاد أن يخر عن راحلته ، فقلت : يا بن رسول الله أو لا بد بك أن تقول ! قال : كيف أجرؤ أن أقول لبيك وأخشى أن يقول الله عز وجل : لا لبيك ولا سعديك . وإنا لنذكر ما كان يصنعه جده زين العابدين في هذا المقام . إلى أن قال : إنما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته ويحس ، أو يكاد يلمس شيئا

ص 485

ماديا ، يتسلسل من الجد لحفيده ، وأشياء غير مادية تملك اللب والقلب ، فالرؤية متعة والسماع نعمة . والجوار - مجرد الجوار - تأديب وتربيب . . وفي كل أولئك طرائق قاصدة إلى الجنة . وصاحب المجلس طهر كله ، لا يتحدث عن جده إلا على الطهارة ، يقول : الوضوء شطر الإيمان ، ومن أجل ذلك لم يعد الوضوء عنده أو في مذهبه مجرد وسيلة لغيره أي للصلاة بل أمسى مستحبا لذاته كالصلاة المستحبة يتهيأ به المتوضئ لدخول المساجد وقراءة القرآن بل الزوجان ليلة زفافهما والمسافر إلى أهله والقاضي ليجلس للقضاء والإمام الذي يفتي أو يعلم . إلى أن قال : تعلم مالك الكثير من السلوك على الإمام جعفر ، فكان إذا حدث لا يحدث إلا على الطهارة ويحمي مجلسه ممن يخرجونه عن قصده ، كما يكرم تلامذته ، بل صار إماما لليسر الذي تتمثل فيه خصائص المدينة ، وأمسى عنوانا على العلم ، فإذا خاصم السلطة خاصمها من أجل النزاهة العلمية فحسب . وفي منهجه الاحتفال الكامل بالواقع . وفي طريقته العمل للرزق ، حتى لا يحتاج لأحد ، مما يعبر عن اقتداء كامل بالإمام الصادق . وكهيئة الإمام الصادق لم يجار فقهاء العراق في قولهم أرأيت أرأيت . أي افتراض الفروض واستباق الحوادث وإبداء الرأي فيما لم يحدث حتى سماهم خصومهم (الأرأيتيين) . إلى أن قال في ص 161 : ولقد يدخل الإمام المسجد فيقدم إليه تلميذ من تلاميذه ابن أبي ليلى قاضي الكوفة . فيقول الإمام : أنت ابن أبي ليلى القاضي ؟ ويجيب : نعم . فينبهه الإمام على جلال خطر القضاء بقوله : تأخذ مال هذا وتعطيه هذا وتفرق بين المرء وزوجه

ص 486

لا تخاف في ذلك أحدا فما تقول إذا جئ بأرض من فضة وسماء من فضة ثم أخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال : يا ربي هذا قضى بغير ما قضيت . واصفر وجه ابن أبي ليلى مثل الزعفران لكنه خرج من المسجد مزودا بزاد من خشية الله زوده به ابن رسول الله . ولما سئل مرة : أكنت تاركا قولا أو قضاء لرأي أحد ؟ أجاب : لا ، إلا لرجل واحد ، هو جعفر بن محمد الصادق . وابن أبي ليلى قاضي بني أمية وبني العباس وهم أعداء الإمام . في هذا المجلس بالمدينة أو بالكوفة في إحدى قدمات الإمام جعفر إلى العراق دخل أئمة الكوفة مجتمعين : أبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة (144) على الإمام جعفر ، فجعل الصادق ينبه أبا حنيفة مكتشف أداة القياس على خطرها في حضور العالمين الآخرين ، وفي مواجهة هذين يقول الإمام الصادق لأبي حنيفة : اتق الله ولا تقس الدين برأيك . إلى أن قال في ص 162 : انقطع أبو حنيفة إلى مجالس الإمام طوال عامين قضاهما بالمدينة ، وفيهما يقول : لولا العامان لهلك النعمان ، وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقوله جعلت فداك يا بن بنت رسول الله . ولقد يتحدى الإمام الصادق في مجلسه أبا حنيفة ليختبر رأي صاحب الرأي فيسأل : ما تقول في محرم كسر رباعية الظبي ؟ ويجيب أبو حنيفة : يا بن رسول الله لا أعلم ما فيه . فيقول له الإمام الصادق : أنت تتداهى أو لا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية ! وإنما سكت أبو حنيفة لأنه لم يعلم كما قال ، أو لأنه يمتنع عن أن يصحح للإمام السؤال ، وما كان أعظم أدب أبي حنيفة بين نظرائه ، فما بالك به بين يدي الإمام . فإذا جاء ابن شبرمة وحده يسأل عما لم يقع - كدأب تلاميذ أبي حنيفة ومدرسة

ص 487

الكوفة - لم يتردد الإمام في دفعه بالحسنى . ذهب إليه ذات يوم يسأله عن القسامة في الدم فأجابه بما صنع النبي. فقال ابن شبرمة: أرأيت لو أن النبي لم يصنع هذا، كيف كان القول فيه؟ فأجابه: أما ما صنع النبي فقد أخبرتك به، وأما ما لم يصنع فلا علم لي به. والصادق عليم بالاختلاف بين آراء الفقهاء، أي بعلم المدينة وعلم الشام وعلم الكوفة، وهو يروي عشرات الآلاف من الأحاديث، في حين كانت قلة ما سلمه أهل العراق من الحديث آفة علمائه، حتى صوبهم . إلى أن قال في ص 163: والحسن بن زياد اللؤلؤي يعلن رأي صاحبه في إحاطة الإمام الصادق فيقول: سمعت أبا حنيفة وقد سئل من أفقه الناس ممن رأيت. فقال: جعفر بن محمد. ولما استفتى أبو حنيفة في رجل أوصى للإمام، بإطلاق الوصف، قال: إنها لجعفر ابن محمد. فهذا إعلان لتفرده بالإمامة في عصره. ولم تكن السنتان اللتان حيى بسببهما النعمان بن ثابت أبو حنيفة ولم يهلك، إلا تكملة لسنين سابقة كان يتدارس فيها فقه الشيعة، ومن ذلك كان يشد أزر زيد بن علي في خروجه على هشام بن عبد الملك. وقيل مال إلى محمد وإبراهيم ولدي عبد الله بن الحسن في خروجهما على المنصور، وأن قد جاءته امرأة تقول: إن ابنها يريد الخروج مع هذا الرجل في إبان خروج إبراهيم وأنا أمنعه . فقال لها: لا تمنعيه. ويروي أبو الفرج الأصفهاني عن أبي إسحق الفزاري: جئت إلى أبي حنيفة فقلت له: أما اتقيت الله. أفتيت أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل! فقال: قتل أخيك حيث قتل، يعدل قتله لو قتل يوم بدر، وشهادته مع إبراهيم خير له من الحياة . ولئن كان مجدا لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي ، أو مجدا للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل ، أو مجدا للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين ، إن التلمذة

ص 488

للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة ، أما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان . فالإمام مبلغ للناس كافة علم جده عليه الصلاة والسلام، والإمامة مرتبته . وتلمذة أئمة السنة له تشوف منهم لمقاربة صاحب المرتبة . لقد يجئ للمناظرة عمرو بن عبيد (144) زعيم المعتزلة ، الذي لم يضحك أبو حنيفة طول حياته بعد أن قال له عمرو إذ ضحك مرة في إبان مناظرته : يا فتى تتكلم في مسألة من مسائل العلم وتضحك ؟ والذي يبلغ من وقاره أن يراه الرائي فيحسبه أقبل من دفن والديه . فإذا انتهى الكلام قال عمرو للإمام : هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم . ويجئ إمام خراسان عبد الله بن المبارك وهو إمام فقه وبطل معارك . تلمذ للإمام زمانا ، ولأبي حنيفة ، فتعلم ما جعله يخفي بطولاته في الفتوح لأن من صنعها لأجله سبحانه مطلع عليها . وفي الإمام جعفر شعره الذي ورد فيه : أنت يا جعفر فوق ال‍ * مدح والمدح عناء إنما الأشراف أرض * ولهم أنت سماء جاز حد المدح من * قد ولدته الأنبياء فإذا كان الصادق في مواجهة مع المنصور ، حيث القواد والعلماء يجلسون على مبعدة منه ، فإن مجلس الإمام عن يمينه حتى ولو دعاه يخوفه ، فلقد طالما انتهت اللقاءات بالموعظة يلقيها الإمام من حديث رسول الله ، ولحديث رسول الله شرف المجلس ، ولابن رسول الله شرف من رسول الله . ولو جلس الصادق على مبعدة أو مقربة من الخليفة ، لكان الشرف حيث يجلس ، وربما قربه الخليفة ليلتمس لنفسه القربى إلى الناس في الدنيا ، ويوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، وعندما تلتمس الشفاعة . وأبو جعفر المنصور يقر بمكانه من العلم والتقوى مع ضيق صدره بمكانته في الأمة . يقول : هذا الشجي المعترض في حلقي أعلم أهل زمانه وإنه ممن يريد الآخرة

ص 489

لا الدنيا . وقال في ص 165 : ومن نص الاقرار ما يدل على أن مجلس الصادق للعلم ، لم يكن ليسلم من مراقبة أعوان السلطان ، وصاحب المجلس شجى معترض في حلقه وهو قد ينبئ عن أن الفرصة متاحة للإمام ليلقي دروسه ، مع الحيطة الواجبة ، حتى لا يغص الخليفة بريقه مما ينقل إليه وإن كان المؤكد أن مجرد وجود الإمام كان فيه الشجي المعترض . كل العلوم : والمجلس مورد عذب كثير الزحام لكل فيه ما يغنيه . فالإمام في مجلسه الرفيع يروي السنة عن آبائه . وما يقول يجري عند الشيعة مجرى الأصول . فإذا أبدى الرأي في واقعة معينة جعله الشيعة مجعل السنة والتزموها باعتبارها نصا عنه . أما أهل السنة فيأخذونه مأخذ اجتهاد الأئمة . واللسان العربي علم العلوم ، وإمام المسلمين إمام في البلاغة العربية ، عبر عن أسلوبه أبو عمرو بن العلاء حين قال عن أساليب العربية : العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها . وعند الصادق لكل مقام مقال . يسهب ويستطرد كما ستقرأ بعد ، أو يوجز ليحفظ عنه ويتذوق منه ، بحروف لها جرس في الأذن ونغم في الفم ، كأن يقول : لا تصل فيما خف أو شف . وكلاهما كاشف . ويجري على لسانه الشعر الرفيع مثل الذي يرويه عنه سفيان الثوري : لا اليسر يطرؤنا يوما فيبطرنا * ولا لأزمة دهر نظهر الجزعا إن سرنا الدهر لم نبهج لصحته * أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا مثل النجوم على مضمار أولنا * إذا تغيب نجم آخر طلعا

ص 490

أو مثل قوله جوابا لسفيان إذ يسأل : يا بن رسول الله لم اعتزلت الناس ؟ قال : يا سفيان قد فسد الزمان وتغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد ، وأنشد : ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب * والناس بين مخاتل وموارب يفشون بينهم المودة والصفا * وقلوبهم محشوة بعقارب ومثل قوله : فلا تجزع وإن أعسرت يوما * فقد أيسرت في زمن طويل ولا تيأس فإن اليأس كفر * لعل الله يغني عن قليل ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالجميل ومثل قوله : لا تجزعن من المداد فإنه * عطر الرجال وحلية الآداب فإذا جاءه المناظرون من كل فج عميق ، أو التلاميذ الفقهاء ، يمثلون أقطار الإسلام ، ويجادلون في الأصول أو الفروع ، فهو البحر لا تنزفه الدلاء ، يروي العقول ويشفي الصدور . فالديصاني زعيم فرقة ملحدة ، وصاحب الإهليلجة طبيب هندي ، وعبد الكريم ابن أبي العوجاء عربي ملحد ، وعبد الملك مصري يتزندق ، وعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة ، وأبو حنيفة إمام الكوفة ، ومالك إمام المدينة ، وسفيان الثوري ، وغيرهم ، كل هؤلاء تملأ مجادلاته معهم الكتب ، ولا يضيق صدرا بجدالهم ، بل يضرب الأمثال ، بمسلكه معهم واتساع صدره لهم ، على الحرية الفكرية التي يتيحها الإمام للناس في مجلسه ، ليفهموا العلم ، أو ليؤمنوا عن فهم ، دون إكراه أو إعنات ، وعلى سعة الخلاف الفقهي لكل اتجاهات المسلمين ، وعلى اليسر والرحمة في الشريعة . فكل هذه أسباب لنشر الإسلام وخلود فقهه . يقول ابن المقفع - وهو متهم بالمجوسية أو بالزيغ على الأقل - إذ يومئ إلى الصادق في موضع الطواف : هذا الخلق ما منهم أحد أوجب له بالانسانية إلا ذلك

ص 491

الشيخ الجالس . ويذهب ابن أبي العوجاء ليناظره فتعتريه سكتة . فيسأله الإمام : ما يمنعك من الكلام ؟ فيقول : إجلالا لك ومهابة منك ، وما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم ما تداخلني من هيبتك . رآه الإمام مرة بالحرم فقال له : ما جاء بك ؟ قال : عادة الجسد وسنة البلد . ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة . قال الصادق : أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم ؟ فذهب يتكلم . فقال الإمام : لا جدال في الحج ، ونفض رداءه من يده وقال : إن يكن الأمر كما تقول وليس كما نقول نجونا ونجوت . وإن يكن الأمر كما نقول وليس كما تقول نجونا وهلكت . وأي صبر في حرية الفكر كمثل هذا الصبر من الإمام الصادق ؟ وحيث تؤدى المناسك . وإنما ترك الإمام رجلا ملحدا سيقتل بع في إلحاده سنة 161 . وإذا لم يأخذ الملحدين بالشدة ، فتحا لأبواب الهداية لهم ، فهو صارم في صدد المغالين في علي ، أو فيه ، ليكفهم عن غلوائهم . ومنهم بيان بن سمعان التميمي . كان يعتقد ألوهية علي والحسن والحسين ثم محمد بن الحنيفة ، ثم ابنه أبي هاشم . بل زعموا أنه قال : إنه - بيانا - المراد بقوله تعالى (هذا بيان للناس) . وادعى المغيرة بن سعيد الانتماء إلى الباقر ، وصار يؤله عليا ثم جعفر الصادق ، ويكفر أبا بكر وعمرو من لم يوال عليا . وكذلك كان بشار الشعيري . يقول جعفر الصادق لمرازم : تقربوا إلى الله فإنكم فساق كفار مشركون . ويقول له : إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يا كافر يا فاسق أنا برئ منك . دخل عليه بشار يوما فصاح به : أخرج عني لعنك الله ، والله لا يظلني وإياك سقف أبدا . فلما خرج قال : ويحه . ما صغر الله أحد تصغير هذا الفاجر . والله إني عبد الله وابن أمته .

ص 492

ويقول عن المغيرة بن سعيد : لعن الله المغيرة بن سعيد . لعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق . فوالله ما نحن إلا عبيد ، خلقنا الله واصطفانا ، ما نقدر على ضرر ولا نفع إلا بقدرته ، ولعن الله من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا . ويقول : من قال إننا أنبياء فعليه لعنة الله ومن شك في ذل فعليه لعنة الله . وينبه الأذهان على دسائس خصوم الشيعة بالاختلاق عليهم فيقول : إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من يكذب علينا عند الناس ، يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا . ويقول لخيثمة : أبلغ شيعتنا أننا لا نغني من الله شيئا وأن لا ينال ما عند الله إلا بالعمل ، وأن أعظم الناس يوم القيامة حسرة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره . وهي مقولات لا تترك مجالا لدعاوي المغالين في جعفر الصادق وآبائه وبنيه من الأئمة وتنفى عنه ما ادعوه من علم الغيب ، فلا يعلم الغيب إلا الله ، كما تجعل الأئمة مجعل البشر ، وهي آراء أبيه وجده . سأل سائل جده زين العابدين : متى يبعث علي ؟ فأجاب : يبعث والله يوم القيامة ، وتهمه نفسه ، أي أنه يحاسب يوم الحساب كما يحاسب غيره . وأما تعبير الأحلام فالصادق يرى أنها لو كانت كلها تصدق كان الناس كلهم أنبياء ، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة ، بل كانت فضلا لا معنى لها ، فكانت تصدق أحيانا لينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها ، أو مضرة يحذر منها ، وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد . فرؤى الأنبياء حقائق من هدى النبوة ، أما رؤى الآخرين فأصداء أفكار تتحرك في باطنهم ، منها ما يصدقه الواقع ومنها ما يكذبه . روى هشام بن الحكم : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله الإمام الصادق أشياء . فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه وقيل له إنه خارج بمكة . فخرج إلى مكة ، ونحن مع أبي عبد الله ، فصادفنا في الطواف ، وكان اسمه عبد الملك وكنيته

ص 493

أبو عبد الله . فضرب كتفه كتف أبي عبد الله ، فقال له أبو عبد الله : فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ من ملوك الأرض أو من ملوك السماء ؟ وأخبرني عن ابنك عبد إلاه السماء أم عبد إلاه الأرض ؟ قل ما شئت تخصم . إذا فرغت من الطواف فائتنا . فلما فرغ أتاه الزنديق فقعد بين يديه . قال أبو عبد الله : أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ولا حجة للجاهل . يا أخا مصر إن الذين يذهبون إليه ويظنون أنه الدهر ، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم ؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم ؟ يا أخا مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طبقاتها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها ؟ قال الزنديق : أمسكهما الله ربهما وسيدهما . فآمن الزنديق . وقال في ص 184 : ولقد يفد على المجلس الكميت شاعر أهل البيت كما كان يدخل على زين العابدين والإمام يعرف انبعاث الشاعر ويخشى عليه من الخيال الصادق في تصوير ظلم يعانيه أهل البيت . وشعر الكميت من أسير الشعر في الأدب العربي - والبرد تنقل للخليفة الخبء من أي شيء - فيستأذن الكميت الإمام قائلا : جعلت فداك ألا أنشدك ؟ فينبهه الإمام قائلا : إنها أيام عظام . فيقول الكميت عن القصيدة : إنها فيكم . ويقول الإمام : هات فينشده قصيدته التي مطلعها : ألا هل عم في رأيه متأمل * وهل مدبر بعد الاساءة مقبل إلى أن قال : كلام النبيين الهداة كلامنا * وأفعال أهل الجاهلية تفعل رضينا بدنيا لا نريد فراقها * على أننا فيها نموت ونقتل ونحن بها مستمسكون كأنها * لنا جنة مما نخاف ونعقل

ص 494

فكثر البكاء وارتفعت الأصوات ، إلى أن قال : كأن حسينا والبهاليل حوله * لأسيافهم ما يختلي المتقبل فلم أر مخذولا أجل مصيبة * وأوجب منه نصرة حين يخذل فرفع جعفر الصادق يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر ، وما أسر وما أعلن ، وأعطه حتى يرضى . ثم أعطاه ألف دينار وكسوة . قال الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هي لديه ، ولكني أحببتكم للآخرة ، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فإني أقبلها لبركتها ، أما المال فلا أقبله . وقال في ص 186 : وبالتدوين الفقهي استقر المذهب في صدور الحفظة والنقلة ، من علي إلى بنيه ، فبنيهم وبخاصة زين العابدين وزيد والباقر والصادق . ثم عملت مجالس الإمام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره ، وأدرك الأئمة الذين تلمذوا له وتلاميذهم أمورا ترفع مجلس الصادق فوق المجالس ، سواء مجالس أهل السنة أو أهل البيت منها : 1 - أن الذي يلقى هذا العلم إمام موصى إليه باسمه من أبيه . وبهذا ينماز من عمه زيد بن علي صاحب المذهب الزيدي ومن غيره من الشيعة . 2 - أن هذا الإمام يقف بين العلماء جميعا في مكان خاص . فالسنة عند الشيعة بعد موته تثبت عن طريقه - إلا ما ندر - فعنه يروى آلاف ، وعنهم جاءت الأحاديث المروية في كتبهم . 3 - أن الآراء الفقهية في أصول الدين وأصول الفقه وفروع المعاملات والعبادات سيراها اللاحقون منسوبة إليه . وربما اقترن به أبوه الباقر ، أو أشير إلى رأي جده السجاد لكن نبع العلم منه هو الأشهر والأكثر .

ص 495

وإذا لم يعرف التاريخ إماما في السنن من درجته أو إماما في الفقه من مرتبته فالتاريخ كذلك لا يعرف إماما اجتمعت له الإمامتان مثله . 4 - أنه الإمام الذي يوثقه أئمة المسلمين جميعا . ويستوي في ذلك من أهل السنة أئمة الرأي فهم تلاميذه ، وأئمة الحديث فهو في القمة منهم . وروايته للحديث يوثقها واضع الأساس العلمي لقبول الحديث الشافعي ، وعلماء الجرح والتعديل كيحيى بن معين وأبي حاتم والذهبي وابن حنبل والآخرين . وتتردد في كتب الصحاح أحاديثه كما يبايعه إمام أهل البيت الذي سبق بفرقة عظيمة وفقه خالد عمه زيد بن علي زين العابدين صاحب المذهب الزيدي . ويضعه موضع الإمامة فيقول : في كل زمان رجل من أهل البيت يحتج به الله على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من كان من شيعته ولا يهتدي من خالفه . 5 - أن هذا الإمام هو أول وآخر واحد من صلب آبائه وأجداده من الله على بهذه الفرصة ، أواخر الدولة المروانية المشغولة عنه بتثبيت دعائهما المهتزة ، وأوائل عهد الدولة العباسية ، التي تمد إليه بسبب من السلام أو الخصام ، وآصرة من النسب ، تخدمانه أو تخدمانها - وهي ترفع شعار أهل البيت والدفاع عن الدين - وبهذا أتيحت له حرية الجلوس لكل الناس ، والتدريس لكل العلوم ، وأن تسيل الأباطح بأعناق المطي إليه من بقاع العالم ، في حقبة ممتازة من التاريخ العالمي والاسلامي . 6 - أنه الإمام الذي طمأن الخلفاء (الملوك) في الدولتين ، وكانوا سفاحين غلاظ الأكباد ، فهو كما يقول الشهرستاني وأبو نعيم في الملل والنحل وحلية الأولياء : ما تعرض للإمامة قط ولا نازع في الخلافة أحدا . ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط . 7 - أنه الإمام الذي أتيح له على مدار ثلث قرن من الزمان بعد موت أبيه سنة 114 أن يكون الإمام . فامتد به عصر سلام ، ضروري لنشر العلم ، باطمئنان طالبه وواهبه ، والدولة التي ينتشر في رعاياها .

ص 496

وقال أيضا في ص 369 : كان الإمام في لقاءاته الأخيرة مع الخليفة أبي جعفر المنصور يقول له : لا تعجل ، لقد بلغت الرابعة والستين وفيها مات أبي وجدي . فلقد كان يحس باقتراب يومه ويلتمس من ذلك قوة عند اللقاء . تؤيده في الصدام معه والثبات في وجهه ، والدفاع عن حقوق الله والناس عنده ، وتذكيره بالآخرة . وهو إلى ذلك يهيئ الدولة والناس لما بعد موته . والناس الذين يتساءلون متى نصر الله ، يولون وجوههم شطر الإمام مذ قطع أبو جعفر أسباب الأمل في الأمان والاطمئنان بالنكال يصبه على من عارضه ، وخص أهل البيت بكفل زاخر من عذابه ، فمال الكثيرون عنه إليهم . ولم يكن باقيا من مشيختهم إلا الإمام الصادق . تهوي إليه الأفئدة من بعيد وقريب ، ويتكأب عليه التلامذة من أشياخ العلماء . ومضت الأيام والناس بين البأساء والنعماء ، والفزع والرجاء ، والإمام في دروسه ومجالسه يرسي مبادئه للأجيال القادمة ، ويهدي بالقول والعمل ، وبمجرد أن به حياة . وجاء ذلك اليوم الذي قال فيه وهو رخي البال : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للناس جميع ما تحتاج إليه . وهو إفصاح عن اكتمال المذهب الشيعي في تعاليمه ، ونظام الدولة الشيعية ، إن أمكن أن تظهر ، والمجتمع الشيعي في كل حال ، وإن شئت قلت : مقالة المجتمع الجعفري أو مقال الفقهاء مجتمع الشيعة الإمامية . وجاءت ساعة الموت وهو في تمام صحوة ، وأهل البيت حافون حوله . قالت زوجه حميدة أم الإمام موسى الكاظم ، وكانت من البربر ، لرجل من أصحابه : لو رأيت أبا عبد الله عند الموت لرأيت عجبا ، فتح عينيه ثم قال : إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة . أما رواية الإمام موسى الكاظم فنصها : لما حضرت أبي الوفاة قال لي : يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة .

ص 497

فهذا إمام تنتهي إمامته يعهد لإمام تبدأ أيامه فينبهه والناس على حقهم في شفاعة أهل البيت ، وواجبهم لينالوها بإقامة عمود الدين . وتضيف مولاته سالمة ساعة الموت حسنات فتقول : غمي عليه ، فلما أفاق قال : أعطوا الحسن بن علي (بن علي بن الحسين) سبعين دينارا ، وأعطوا فلانا كذا ، وفلانا كذا . قلت : أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك ؟ قال : أتريدون ألا أكون من الذين قال عنهم الله عز وجل (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) ؟ نعم يا سالمة ، إن الله خلق الجنة وطيب ريحها ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم . أجل ، كان الإمام قطعة من صميم الإسلام ، جده عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن ، أما هو فخلقه سنة جده ، وجده يعلن سنته حيث يقول : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح . ويقول : إن أول الواجبات في المال بعد الزكاة بر الرحم إذا أدبرت . فالإمام في ساعة الموت يوصي لمن يليه ، ويذكر الشفاعة والصلاة وصلة الرحم وهو يريح رائحة الجنة . وأبو جعفر ليس الرجل الذي ينتظر حتى ينكشف له أمر فيه غرر بل هو يبتدر الخطر . قال أبو أيوب الجوزي : بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل ، فدخلت عليه وهو جالس على الكرسي وبين يديه شمعة ، وفي يده كتاب . فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي ، وهو يبكي ، وقال : هذا ابن سليمان (والي المدينة) يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قالها ثلاثا . ثم قال : وأين مثل جعفر ؟ ثم قال : اكتب . فكتبت صدر الكتاب . ثم قال : اكتب إن كان قد أوصى إلى رجل يعينه فقدمه واضرب عنقه . هكذا يأمر بقتل من يجهله ، ويحرمه حق المحاكمة لمجرد أن من فحوى الوصية

ص 498

لرجل بعينه أنها رسالة للأمة تعلن الإمام الجديد . لكن الله كف بطش أبي جعفر ، فرجع الجواب إليه أن الإمام أوصى إلى خمسة هم : أبو جعفر المنصور وابن سليمان وعبد الله وموسى وحميدة . والأخيرون ولدا الإمام وزوجه . فليس هنا وصي بعينه ، والأولان أبو جعفر ذاته وواليه ، وليس إلى قتل هؤلاء من سبيل . وما كانت وصية الصادق لأبي جعفر وواليه إلا توصية لهما بالأمة ، وتذكيرا لهما بأنهما ملاقيا الله مثله . وأبو جعفر أجدر خلق الله بأن يذكره الناس بالموت وأن يذكروه عند الموت ، إن محبين له وإن مبغضين . ولما قرن الإمام أبا جعفر بابنيه وزوجه كان يذكره أن يخاف الله فيهم وفي ذوي رحمه . كان أبو جعفر يسابق الموت إلى من تتم الوصية إليه وحده ، ففوتت عليه وصية الإمام بغيا لم يمنعه من مقارفته تساقط دمعه ، أو أن يسترجع الله مرات ثلاثة ، وكأنه يجعل الدمع مدادا لأمر يهتبل الفرصة لإصداره ليقطع رأس إمام جديد من أهل البيت يطاف بها في المدائن . وأنسته شياطين الفزع والطمع أن يذكر ما علمه الصادق من صلة الرحم ، وازداد نسيانا يوم لا أحد ينسى ! ومنها

قول ابن روزبهان

وهو العلامة فضل الله روزبهان الخنجي الأصفهاني المتوفى سنة 927 في وسيلة الخادم إلى المخدوم در شرح صلوات چهارده معصوم (ص 183 ط كتابخانه عمومى آية الله العظمى نجفى بقم) قال :

ص 499

اللهم صل وسلم على الامام السادس ودرود وصلوات ده وسلام فرست بر ششم امام . از اينجا شروع در صلوات است . بعد از پدر خود امام محمد باقر (ع) امام شده وبرادر بزرگ آن حضرت بعد از امام محمد باقر (ع) دعوى امامت مى كرده ومردم را به متابعت خود دعوت مى نموده . يك روز امام جعفر در خانه خود آتشى روشن كرده وكسى را فرستاده نزد برادر ، واو را طلب نموده ، چون برادر آمده آن حضرت سخنى مى فرموده وبسيارى از اكابر شيعه حاضر بوده اند آن حضرت برادر را نشانيده وخود برخاسته ودر ميان آتش در رفته ، وساعتى در آنجا نشسته وسخن فرموده وارشاد ونصيحت كرده واصلا آتش در او اثر نكرده وهيچ جامه ورخت او نسوخته ، چه جاى آنكه در بدن مبارك او اثر كند . بعد از آن بيرون فرموده وبا برادر گفته : برخيز وهمچو من در آتش نشين ، اگر راست مى گوئي برادر چون حال ديده برخاسته وردا بر زمين كشيده وبيرون رفته وبعد از آن ترك دعوى امامت كرده وامامت حضرت امام جعفر بر همگنان ظاهر شده . المقرب السابق المؤدب الموافق آن حضرت نزديك گردانيده شده به حضرت حق سبحانه وتعالى است وسابق است در اعمال صالحه ، واين اشارت است بدانكه آن حضرت از مقربان حق تعالى واز سابقان است وآن حضرت تأديب كرده شده به آداب الهيست ، چنانچه حضرت پيغمبر صلى الله عليه وآله وسلم فرمود كه : أدبني ربي فأحسن تأديبي ، يعنى تأديب من وتعليم آداب من حق تعالى فرموده ، پس نيكو تأديب فرموده مرا ، واين اشارت است بدانكه ادب ائمة كرام از تأديبات وتعليمات الهيست وآن حضرت موافق است با حضرت پيغمبر صلى الله عليه وآله وسلم در اخلاق حميده واعمال پسنديده . واين اشارت است به متابعت سنت وطريقه كه آن حضرت را بوده .

ص 500

والمغيث للملهوفين عند الطوارق وآن حضرت فرياد رسنده ويارى كننده ضعيفان وعاجزان است نزد حوادث وبليات كه بر ايشان نازل شود ، واين اشارت است به رحم وعطوفت آن حضرت بر عاجزان ، چنانچه روايت كرده اند كه هر كس را حادثه يا فقرى پيش آمدى در مدينه پناه به جوار لطف واحسان آن حضرت نمودى واز خوان نوال وافضال آن حضرت بهره وافى يافتى ، چنانچه شيمه كريمه اهل البيت بوده . الملتجى بحرز الله عند نزول كل طارق وآن حضرت التجا برنده است به حرز وحفظ الله تعالى نزد فرود آمدن هر بلايى كه درآيد . واين اشارت است بدانكه آن حضرت در واقعه قصد ابو جعفر دوانيقى پناه به حرز الهى برد ، وبر آن دشمن غدار كه قصد آن حضرت كرده بود غالب وفائق آمد ، چنانچه روايت كرده اند از ربيع كه حاجب ابو جعفر منصور دوانيقى عباسى بود كه او گفت : روزى منصور دوانيقى پادشاهى بسيار قهار بى زنهار متسلط جبار بوده ونزد او بعضى مفسدان افساد كرده بوده اند كه حضرت امام جعفر صادق (ع) مى خواهد كه بر تو خروج كند ومردم عراق با او موافقند . ربيع گفت : صباح آن شب كه اين افساد كرده بودند ، چون بر مسند نشست با من گفت : برو وجعفر بن محمد را حاضر گردان ، خداى بكشد مرا كه من او را نكشم . من بسيار حضرت امام را دوست مى داشتم وسخت انديشه افتادم كه مبادا از شر آن ظالم غيشوم آن حضرت را مضرتى برسد . بيرون رفتم وبه خدمت حضرت امام آمدم وآن شرح بازگفتم وبا آن حضرت گفتم : من سخت بر تو مى ترسم از شر اين ظالم كه او چنين سوگندى خورده وقصد تو دارد وندانم كه تو چگونه از او خلاص شوى . آن حضرت فرمود : هيچ انديشه مكن كه

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج28)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب