الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج32)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 201

قضيت بسنة وحكمت عدلا * ولم ترث الحكومة من بعيد وإبراهيم بن هشام خال الخليفة هشام بن عبد الملك. وسأل هشام جليسه في فاتحة القرن الثاني للهجرة عن فقهاء الأمصار. قال: من فقيه المدينة؟ قال: نافع مولى ابن عمر. قال: فمن فقيه أهل مكة؟ قال: عطاء بن أبي رباح. قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى. قال: فمن فقيه اليمن؟ قال: طاوس بن كيسان. قال: مولى أم عربي، قال: مولى. قال: فمن فقيه أهل اليمامة؟ قال: يحيى ابن أبي كثير. قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى. قال فمن فقيه أهل الشام؟ قال: مكحول. قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى. قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال: ميمون بن مهران. قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى. قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال: الضحاك بن مزاحم. قال: مولى أم عربي؟ قال مولى. قال: فمن فقيه أهل البصرة؟ قال: الحسن وابن سيرين. قال: موليان أم عربيان؟ قال: موليان. قال: قال فمن فقيه أهل الكوفة؟ قال: إبراهيم النخعي. قال: مولى أم عربي؟ قال: عربي قال: كادت نفسي تزهق ولا تقول واحد عربي. ومن هذا التعصب للعرق وتمييز الغرب ثار من عدا العرب في خراسان (ما وراء العراق حتى وسط آسيا) وأجاء أهل خراسان بني العباس إلى الخلافة بشعارين يكمل كل منهما الآخر: إعادة حكم الدين وتولية أهل البيت، مساواة الموالي والعرب. وانطبعت الدولة العباسية في أغلب أمرها بطابع غير عربي. يقول الجاحظ عن المائة الأولى من عمرها: دولتهم أعجمية خراسانية، ودولة بني أمية عربية أعرابية. وكان مؤسسوا الدولة العباسية يشيرون إلى خراسان على أنها باب الدولة. وفي خواتيم المائة الأولى حاول الرشيد أن يستعيد مقاليد الأمور من الفرس فكانت مصارع البرامكة، فلم يلبث الفرس إلا سنين حتى قتلت جيوشهم الأمين العرب الأب والأم وجاءوا بالمأمون إلى عرش الخلافة وأمه خراسانية.

ص 202

وشهدت المائة الثانية من عمر الدولة دولا قادمة من خراسان تستقل بممالكها أو تحكم الدولة العباسية كلها: بني سامان (261 - 389) يحكمون في الشرق من خراسان من عهد المستعين (248) والدولة الصفارية في عهد المعتز (252) ثم بني بويه (324 - 423) يحكمون فارس والري وأصفهان والجبل. ولم تنشأ دولة عربية إلا في الموصل وديار بكر وربيعة وهي دولة بني حمدان (317 - 385). وقال أيضا في ص 317: العدل ونزاهة الحكم: في حياة علي ومبادئه، وخطبه وأقضيته، عن هذين، ما لا نظير له في أي عصر، والمقام يضيق عن الاستقصاء. فحسبنا أن نقف قليلا عند فقرات من عهده لمالك بن الحارث (الأشتر النخعي) فهذا عهد مقطوع القرين في شكله وموضوعه، في التراث العالمي والإسلامي، وبخاصة في السياسة الإسلامية، والحكم الصالح، سواء في صياغته أو محتوياته. وهذا العهد يضع اسم علي في ذروة المؤسسين للدول واضعي الدساتير حيث يتكلم عما يسمى في الدساتير العصرية بالمقومات الأساسية، وواجبات الولاة نحو الأمة، وطريقة قيامهم بحقوق الجماعة، بالتفصيل اللازم. والتنبيه على ملء الفراغ، فيما سكت عنه، بالرجوع إلى أصل الشريعة: القرآن والسنة. ولقد تتابعت على هذا العهد شروح الأئمة من بعد، فرأينا لزين العابدين في رسالة الحقوق تفصيلات جديدة يقتضيها الزمان. وشهدنا الإمام جعفر الصادق يضيف التطبيق، والتفصيل الدقيق، لما تضمنته رسالة زين العابدين وعهد علي فيجعل من تنفيذها وشروحه لهما، عهدا جديدا للمسلمين وللشيعة، تبلع به مجتماعتهم أو دولهم مبالغها كما التزموها أو قاربوا الإلتزام بهما. يبدأ عهد علي بتحديد مهمة الوالي حين ولاه مصر، جباية خراجها وجهاد عدوها

ص 203

وإصلاح أهلها وعمارة بلادها، فهو قد جمع له ولاية الخراج وولاية الحكم، قال: واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غني ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الأنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلا قد سمى الله سهمه. فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبيل الأمن. وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالى لهم من الخراج ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمون عليه من خواص الأمور وعوامها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، وعلى الوالي حق بقدر ما يصلحه. أما ولاية الإدارة عامة، والعمال والكتاب خاصة. فيقول عنها: فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ورسوله ولإمامك، وأطهرهم جيبا وأفضلهم حلما، ثم الصق بذوي المروءات ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ولا تحقرن لطفا تتعاهدهم به وإن قل وليكن آثر جندك من واساهم في معونته وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد بظهور مودة الرعية. وأما عن العدالة، وقوامها القضاء، فيبدأ المشترع العظيم في التعبير الأوربي الكلام فيها عن القانون الواجب التطبيق فيقول: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فالرد إلى الله

ص 204

الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ويقرن القانون الإلهي بالقاضي كما يتطلبه الإسلام فيعقب على ما سبق بقوله عن صميم القضاء: ثم اختر بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تحكمه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر عن الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه: أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح علته وتقل حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. ولئن كانت رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري قد جمعت جمل الأحكام في كلمات مختصرة، لا يجد محق عنها معدلا، إن عهد علي للأشتر كان في زمان مختلف، فجاء جامعا، بل مضيفا في الموضوع الذي وردت في رسالة عمر أمورا شتى يحتاجها زمان علي وكل زمان بعده. وورود القانون، والدعوى، واختيار القاضي، وسلوكه، وطريقة القضاء، واستقلال القضاء، في فقرتين بين فقرات ذلك العهد، مظهر من مظاهر شموله واتساع نطاقه، وأسباب خلوده. أما الإدارة العامة عمال الوالي ففيهم يقول أمير المؤمنين: انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا ولا تولهم محاباة وأثرة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم.

ص 205

وأما الكتاب ففيهم قوله: ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم أو أخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك، بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستقامتك وحسن الظن منك ولكن اختبرهم بما ولوا للصاحين قبلك فاعمد لأحسنهم في العامة أثرا. ثم يقول عن الضعفة: وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، واجعل لذوي الحاجات منك مجلسا عاما، فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما. الشورى والعناية بالعامة: في بداية العهد إلى الأشتر أمران: الأول خاص بالأشتر، والثاني خاص بالعامة والخاصة. والأمران عصريان في كل عصر، ومطلوبان في كل مكان، ومن كل الحكام: أما بالأول: ففيه قوله له إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك. ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري بهم على ألسنة عباده، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله. وقوله: وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك. فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختار. أنصف الله وأنصف الناس من

ص 206

نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم. ويقول عن الشورى: ولا تدخلن في مشورتك من يعدل بك عن الفضل ويعد الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشر بالجوار، فإن البخل والجبن غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله، والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة. وأما الثاني ففيه قوله: وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية. فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأخف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة. فليكن صغوك لهم وميلك معهم. بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، إن رسول الله يقول: اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء، وأنت في طليعة أهل الجنة تحب أكثر أهلها عددا في الحياة الدنيا، ومن أجل ذلك تكرم العامة، وهم كثرة الأمة، وتؤثر منها الفقراء. ولقد كنت دائما قدوة، وأردت الخاصة على أن تكون قدوة، وحذرتها من مطامعها ومزالقها، ولو حذرت للزمت الجادة، وصلح أمر هذه الأمة. إن من يضع دستور في العصر الحديث خليق بأن يرتوي من عهدك، ويروي الأمة من ينابيعك، في تطبيق الشريعة، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وأمانة الولاة ونزاهة الإدارة، واحترام العامة، وإلزام الخاصة أن تكون قدوة في الأمة. يقول ابن المقفع في شأن الخاصة بعد مائة عام، في كتابه لأبي جعفر: وقد علمنا علما لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل نفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من

ص 207

قبل إمامها، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله له كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك. ومنهم جماعة من الفضلاء في علي بن أبي طالب - نظرة عصرية جديدة (ص 46 ط بيروت) قالوا: يروي التاريخ أنه عقب معرك الجمل (36 ه‍ / 656 م) قام أهل نيسابور بزعامة بنت لكسرى، وأعلنوا العصيان على حكم الإمام، فزحف إليهم خليد بن كأس عامل الإمام على خراسان واستطاع إخماد العصايان وكان من الأسرى هده الكسروية. وبعث خليد بها إلى الإمام علي بالكوفة، وكانت من أجمل نساء قومها، فرحب بها الإمام وأكرمها، ثم عرض عليها أن يزوجها لابنه الحسن رضي الله عنه فلم تقبل وقالت: لا تزوج أحدا على رأسه أحد. ثم عرضت نفسها على الإمام قائلة: فإن أحببت رضيت بك، فقال لها: إني شيخ كبير وظل يعدد لها ما يتحلى به الحسن من فضائل وحسن الخلق، ومن كمال الطباع، ولكنها أصرت على الرفض وقالت: قد أعطيتك الجملة أي أعطيتك ردي النهائي. وكان حاضرا هذا الحوار رجل من قواد الفرس السابقين، الذين دخلوا في الطاعة يسمى نرمي فقال: يا أمير المؤمنين قد بلغك أني من سنخ المملكة وأنا قرابتها فزوجنيها. فقال الإمام: هي أملك لنفسها، ثم التفت إلى الأسيرة وقال لها: انطلقي حيث شئت، وانكحي من أحببت لا بأس عليك. أرأيت كيف كان رضي الله عنه، يحترم ميول المرأة، ولا يقبل أن تكره على شيء تأباه، ولا ينظر إليها كما كان ينظر لها قبل الإسلام. فالمرأة عنده لا يجب أن يستهان بحقها لضعفها، ولا تغبن لقلة حيلتها، ولا أن تكره على زواج رجل لا تقبله. لقد كان في استطاعته وهو أمير المؤمنين، والقائد المنتصر أن يرغم أسيرته على ما

ص 208

أحب وأراد، أو أن يهبها لأحد من رجاله كما كان يفعل القادة المنتصرون في ذلك الزمان، ولكن خلقه الكريم أبى عليه ذلك وأنها لصفة فيه نبيلة انفرد بها كما انفرد بمولده وإسلامه اكتسبها من صفات ابن عمه العظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن حكم الإسلام الذي أعطى المرأة حقها في الحياة أعطاها. ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العك المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في مختصر حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص 56 ط دار الإيمان - دمشق وبيروت) قال: وأخرج الترمذي والحاكم عن الشعبي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا، فعرف علي رضي الله عنه الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، وكان قاضي المسلمين شريحا، كان علي استقضاه فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس قضائه وأجلس عليا في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني. فقال علي: أما يا شريح لو كان خصمي مسلما لقعدت معه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصافحوهم، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضايق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله، اقض بيني وبينه يا شريح. فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين! الدرع درعي. فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح. فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، وأمير المؤمنين يجيئ إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فأنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال علي: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس.

ص 209

وعند الحاكم عن الشعبي قال: ضاع درع لعلي رضي الله عنه يوم الجمل، فأصابها رجل فباعها، فعرفت عند رجل من اليهود، فخاصمه إلى شريح، فشهد لعلي الحسن ومولاه قنبر. فقال شريح: زدني شاهدا مكان الحسن، فقال: أترد شهادة الحسن؟ قال: لا، ولكن حفظت عنك أنه لا تجوز شهادة الولد لوالده. وأخرجه الحاكم في الكنى وأبو نعيم في الحلية (4 / 139) من طريق إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه مطولا، وفي حديثه: فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها. فقال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك أما سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟ ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضى، صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فوهبها له علي وأجازه بسبع مائة، ولم يزل معه حتى قتل يوم صفين. كذا في كنز العمال (4 / 6). ونقل إبراهيم محمد الجمل في مواعظ الصحابة في الدين والحياة (ص 18 ط الدار المصرية اللبنانية): مثل ما تقدم عن مختصر حياة الصحابة بعينه. ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام (ص 148 ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1406) قال: إن إيمانه العميق، وتشبعه بروح التقوى والعدل جعلاه رحمة الله عليه يتجاوز النظرة القبلية الضيقة ومصلحة القبيلة، ولو كانت هذه القبيلة هي قريش ذاتها، وهو

ص 210

ابنا الأصيل، بل ابن أعرق بيوتها مجدا وزعامة بين العرب. إن مفهوم مصلحة الأمة الإسلامية الجديدة قد حل عند التيار الذي يمثله الإمام علي، وابنه الحسين عليه السلام فيما بعد محل مفهوم النعرة القبلية، وما يكمن وراءها من حماية للمصالح، ودفاعا عن الامتيازات، وهو ما تكشف عنه النصوص يكل وضوح بالنسبة للتيار الآخر الذي تزعمه بنو أمية، وعلى رأسهم معاوية، وقد انضم إليهم كل من هددت مصالحه السياسية المالية التي اتبعها الإمام علي كرم الله وجهه، وبينهم عدد من الهاشميين أنفسهم، فالصراع إذن ليس بين بني عبد شمس وبني هاشم كما تقدمه النظرة الكلاسيكية لتاريخ مجتمع صدر الإسلام، بل بين تيار عمل جاهدا لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك كسروي، وما يتبع الملك من سياسة اقتصادية ومالية وفئوية، فهو تيار أهل الدنيا واللهو. وتيار رفع السلاح للمحافظة على أسس المفهوم الجديد في تاريخ النظم السياسية: مفهوم الخلافة الإسلامية وقيمها، ورؤيتها الاقتصادية بصفة خاصة، وتمثل السياسة المالية الأس المتين لهذه الرؤية. فلا غرو إذن أن تبغض قريش كلها الإمام علي رضي الله عنه أشد البغض، فلما انتشرت أخبار هذه السياسة المالية الجديدة تحرك ذوو المصالح الكبرى من زعماء قريش لمواجهتها، فكتب عمرو بن العاص من أيلة بأرض الشام، وقد أتاها حيث وثب الناس على عثمان، إلى معاوية قائلا: ما كنت صانعا فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقد قلقت طائفة من أصحاب علي عليه السلام من ظاهرة فرار عدد من زعماء العرب وأشرافهم من صفوفه، والتحاقهم بمعاوية لما كان يبذله من الأموال لأنصاره فمشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره، وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال، فقال لهم: أتأمرونني أن أطلب

ص 211

النصر بالجور! لا والله لا أفعل ما طلعت شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم. ثم سكت طويلا واجما ثم قال: الأمر أسرع من ذلك، قالها ثلاثا. وقد مال الناس إلى معاوية لأنه كان يبذل كل مطلوب، ويسمح بكل مأمول، ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح، وعلي عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة، حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلياء بن الهيثم، وهو يحمله على مفارقة علي عليه السلام، واللحاق بمعاوية: اتق الله يا علياء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا يؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب فلم يفعل. إن شدة الإمام علي رضي الله عنه في السياسة المالية، مبتدئا بتطبيقها على نفسه وأهله نابعة مما عرف عنه من زهد في الدنيا حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب، ومن تمسكه الشديد بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من أدرى الناس بأن الرسول عليه السلام كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وأنه مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة لم يبت قط في ملكة دينار، ولا درهم، وكان يأكل على الأرض ما وجد، ويخصف نعله بيده ويرقع ثوبه، وأنه كان يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء. فمنذ بداية حياته كان فقيرا حتى قال نساء المدينة لفاطمة رضي الله عنها: زوجك أبوك فقيرا لا مال له، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأفضلهم حلما؟ قالت: بلى، رضيت يا رسول الله، ولما أصبح يملك بعد الفتوحات ما لا بينبع تصدق به، فقد قال رضي الله عنه: رأيتني وأنا رابط الحجر على بطني من الجوع، وأن صدقتي لتبلغ في اليوم أربعة

ص 212

آلاف دينار، وفي رواية: أربعين ألف دينار. إن السياسة التي انتهجها علي عليه السلام، مجددا بها السنة النبوية التي سار على منوالها كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لم تعمر طويلا، فقد تحولت مؤسسة الخلافة بعد مقتل الإمام علي رحمة الله عليه إلى ملك كسروي في دمشق، وقد نبه المسلمين إلى خطر التحول، ذلك أنه خطب فيهم بالمدينة إثر بيعته قائلا: ألا وأن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه، والدي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا. وبرزت معالم هذا التحول أيام معاوية، واستفحل الأمر أيام ابنه يزيد حتى قال عبد الله بن الزبير: لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم، وانتصرت بهم.

مستدرك ما ورد في زهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وعدله وسماحته وإنفاقه في سبيل الله تعالى

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن نفسه وعن الأئمة من أولاده عليهم السلام والصحابة والتابعين وعلماء العامة قد تقدم نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج 4 ص 490 وج 8 ص 256 وص 578 وج 15 ص 77 وج 17 ص 80 وج 18 ص 22 وج 21 ص 595 ومواضع أخرى من هذا السفر الشريف، ونستدرك هيهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق:

ص 213

فمنهم العلامة المعاصر الشيخ محمد توفيق بن علي البكري الصديقي المتولد سنة 1287 والمتوفى 1351 في بيت الصديق (ص 272 ط مصر) قال: روى عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله (صلعم) يقول لعلي بن أبي طالب: يا علي إن الله عز وجل زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها: الزهد في الدنيا فجعلك لا تنال من الدنيا شيئا ولا تنال الدنيا منك شيئا (1).

(هامش)

(1) قال الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في علي إمام المتقين (ج 2 ص 23 ط مكتبة غريب الفجالة): وخلال إقامته في الكوفة منذ رجب سنة ست وثلاثين للهجرة، حتى تركها زاحفا بجنده إلى الشام، تعود أن يفقه الناس في الدين، وأن يجلس إليهم بعد كل صلاة يعلم ويفتي، ويقول لهم: اسألوني وما قالها أحد غيره. كما تعود أن يذهب إلى سوق المدينة فيشتري حاجته وحاجة أهل بيته من طعام ونحوه، فيأمر أهل السوق بتقوى الله، وصدق الحديث والعدل في في الميزان. اشترى ذات يوم قميصين، فقال لغلامه: اختر واحدا منهما. ولقد تحدث إليه بعض الذي لحقوا به من أتقياء أهل الشام وقرائهم عن بذخ معاوية، وعن إغداقه على من يصطنعهم، فزعموا أن على مائدة معاوية عشرة أصناف من الحلوى وحدها، وأنه يرتدي كل يوم حلتين، وقد اتخذ لسيفه مقبضا من ذهب، وما هو إلا أحد الولاة، فما بال أمير المؤمنين لا يملك غير إزار قصير، من غزل أهل بيته، لا يغطي إلا نصف ساقه، وما بال طعامه أخشن طعام، وما باله يحمل سيفه على حبل من ليف، وقد اتخذ من حصير المسجد سرير ملكه. يا له من إمام للمتقين وإمام للمساكين! وضحك الإمام وقال لهم: أما والله ما أحب الفقر، ولو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته، ولكني والله لا أرزأ من أموالكم شيئا. ولاحظ أحد الحاضرين أن أمير المؤمنين يرتعد من البرد، وليس عليه ما يكفي من الثياب فسأله: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا، فلم تفعل بنفسك هذا. فتبسم قائلا: إن مس الحصير كان يوجع جنب رسول الله صلى = (*)

ص 214

(هامش)

= الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهله من طعام قط وقد حيزت له الدنيا وما فيها، وأنا على سنته، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل للخليفة من بعدي من مال الله إلا قصعة يأكلها هو وأهله وقصعة يتصدق بها وحلة للصيف وحله للشتاء، على أني أعيش على ما يأتيني من ينبع، وأستغني به عن بيت المال. وسكت قليلا ثم تنهد وقال: كم من جامع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصاب به حراما، واحتمل به آثاما، فناء بوزره وقدم على ربه آسفا لاهثا خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين صدق الله العظيم. ألا إنه لا شرف أعلى من الإسلام، ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحسن من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا كنز أغنى من القناعة، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، والرغبة مفتاح النصب، ومطية التعب، والحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب، ألا فاعلموا أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بماء متع به غنى، والله تعالى سائلهم عن ذلك. ولكم عجب الذين سمعوه وسمعوا معاوية: إن معاوية يقرب الناس إليه بما يغدق من منصب أو مال، وبما يبذل من وعود، أما علي فيصارح الناس بمنهجه ولا يطمعهم في عطاء لا يستحقونه، أو في منصب لا يستأهلونه، فالمال مال الله وهو أمين عليه، فهو يستنفر في الرجل تقاه، ويزهده في دنياه، ليستغني عن الناس بالله. إنه ليتصدق بكل ماله الخاص، ولا يبقى لنفسه أو لأهله إلا ما يكفيهم لما هو ضروري لاستمرار الحياة من الطعام والكساء، وحين خوطب في هذا قال كرم الله وجهه ورضي الله عنه: الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك، فلا تحمل هم سنتك على هم يومك! فإن تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم فإن الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك، لن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب، لن يبطئ عنك ما قدر لك. ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة = (*)

ص 215

(هامش)

= البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب، ومن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها. وألح عليه بعض أصحابه أن يأكل ما طاب ليقوي على القتال فهو لا يأكل إلا رغيفين من خبر الشعير كل يوم، وأن يكون أحسن الناس مظهرا فهو أمير المؤمنين وإمامهم. فقال: إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرص (الرغيف) ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا (ممتلئ البطن (وحولي بطون غرثى (خالية) وأكباد حرى، أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها وما خلقت لأترك سدى، أو أجر حبل الضلالة، أو اعتسف طريق المتاهة، وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأقل خمودا. وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد، وقد كان رسول الله يأكل أخشن مما آكل ويلبس أخشن مما ألبس، وأنا على سنته حتى ألحق به. إلا وإن لكل إمام مأموما يقتدى به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (إزار ورداء)، ومن طعامه بقرصيه (رغيفيه). ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولا أطالبكم به، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا حزت من أرضها شبرا. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك. إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من جبائلك أغربي عني، فوالله = (*)

ص 216

(هامش)

= لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله لأروضن نفسي رياضة تهش معا إلى القرض إذا قدرت عليه مطعوما - أي تفرح بالرغيف من شدة الحرمان وتقنع بالملح مأدوما، أيأكل علي من زاده فيهج فلا قرت إذن عينه، إذن أصبح بعد السنين المتطاولة كالبهيمة والسائمة طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون). ثم مضى يعظهم: فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم وتزودوا من الدنيا في الدنيا ما تحفظون به أنفسكم غدا، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة وأن تؤديه أيامه إلى شقوة، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية. وبكى وبكى معه بعض أصحابه مما يسمعون، فنظر إليهم الإمام، وما زالت في عينيه الدموع، فرأى من خلال الدمع صاحبا له قد بنى دارا كبيرة فقال له: لقد اتخذت دارا واسعة، فما تصنع بهذه الدار في الدنيا أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج. فأجابه صاحبه في حياء وندم: بلى يا أمير المؤمنين. قال الإمام: إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري بها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها. وقد حسب بعض المستمعين أنه كرم الله وجهه، يدعوهم إلى الخروج عما أحل الله من متاع الدنيا، فترك أحدهم أهله وبنيه، ولبس مرقعة واعتكف للعبادة، فدعاه الإمام وقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى أن الله أحل الطيبات وهو يكره أخذك منها، لقد علمتكم أن للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل. فدع التواضع في الثياب تخوفا * فالله يعلم ما تجن وتكتم فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة * عند الإله وأنت عبد مجرم = (*)

ص 217

(هامش)

= وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن * تخشى الإله وتتقي ما يحرم فاعلم رحمك الله أنه لا بأس بالغنى لمن اتقى، واعلم أن الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل زيادة على عملك، وأن تتقي الله في حديث غيرك فلا تعتزل الناس، فلا رهبانية في الإسلام وتدبر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: رهبانية أمتي الجهاد. وتعلم وعلم غيرك، فما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. وكفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه لغيرك، فخذ من الدنيا ما أتاك، وتول عما تولى عنك، أو ليس الله تعالى يقول: (والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)؟ أوليس الله يقول: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) إلى قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ المرجان)؟ وقد قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث). فظل الرجل صامتا لا يرد على الإمام. فقال: تكلم يا رجل ليعرف الناس من أنت، فإن المرء مخبوء تحت لسانه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين تنهاني عن العزوف عن زينة الحياة التي أحل الله لعباده والطيبات من الرزق، فعلام اقتصرت في مطعمك على الطعام الغليظ وفي ملبسك على الخشونة؟ وتركت قصر الإمارة ونزلت منزل أفقر أهل الكوفة؟ فضحك الإمام كرم الله وجهه، وقال: إن الله الذي جعلني إماما لخلقه فرض على التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي ومسكني كضعفاء الناس، لأن الله أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدى بهم الغني، ولا يزري بالفقير فقره. فوالله ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر، ولو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته، فالفقر هو الموت الأكبر، وإني لأعرف أن الفقر غربة في الوطن، والغنى وطن في الغربة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت له: اغرب عني. فعند الصباح يحمد القوم السرى. والله لأن أبيت على حسك السعدان (الشوك الحاد) = (*)

ص 218

(هامش)

= مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد أو غاصبا لشيء من الحطام. وإن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسوة، إذ قبضت عنه أطراف الدنيا، وفطم عن رضاعها، وزوى عن زخارفها، وكان يلبس ويطعم أخشن مما ألبس وأطعم. وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الطعام الغليظ، وكان سراجه بالليل القمر، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه. وجاء بعض الموالي من أهل الكوفة يشكون الولاة وأعوانهم، فقال لهم: وأين علماؤكم؟ لقد أخذ الله عليه العلماء ألا يقروا ظالما ولا يسكتوا عن مظلوم. ثم سألهم عن أعوان الولاة، فعلم أن الولاة لا يحاسبونهم فقال: يجب على الوالي أن يتعهد، أموره، ويتفقد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسئ، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك أعوانه تهاون المحسن واجترأ المسئ، وفسد الأمر. فقال أحد الموالي: سأل الإسكندر حكماء بابل أيها أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل لم نحتج للشجاعة. فقال الإمام: يجب على السلطان أن يلزم العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان، ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، فلا يقوم سلطان لأهل الإيمان والكفر إلا بهما. والإمام العادل كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. فقال رجل آخر من الموالي: قال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر. فقال الإمام ضاحكا: حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذي هو ضده لا يقوم إلا به، وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم، احتاجوا إلى استعمال العدل في اقتسامهم، وإلا أضر ذلك بهم. فقال رجل ثالث من الموالي: جاء في كتب الهند: رأس الحزم للملك معرفته = (*)

ص 219

(هامش)

= بأصحابه، وإنزالهم منازلهم، واتهام بعضهم على بعض. وقال رجل رابع من الموالي: قال أحد حكمائنا ينصح كسرى أنو شروان: كلمة منك تسفك دما، وأخرى تحقن دما، وسيفك مسلول على من سخطت عليه، ورضاك بركة مستفادة على من رضيت. وما نقول لك إلا هذا يا أمير المؤمنين، فاختر لولايتك أحد رجلين إما أن يكون وضيعا فرفعته، أو صاحب شرف مهمل فاصطنعته. وعجب بعض العرب من أصحاب الإمام فصاح: ويلكم أتعلمون أمير المؤمنين وهو باب مدينة العلم. فنصح الإمام أصحابه بالحلم، وطلب منهم أن يجعلوا الحكمة ضالتهم، فقد علمهم الرسول أن الحكمة ضالة المؤمن وأن عليه أن ينشدها، وقال لمن أنكر على الموالي أن يشيروا على أمير المؤمنين: لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فتقطع بذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الفخر، ولكن الانتفاع. ثم التفت الإمام إلى أصحابه قائلا: ما هلك امرؤ عن مشورة، ونعم المؤازرة المشاورة، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواضع الخطأ، مع الاستشارة خير من الصواب مع الاستبداد، فتعوذوا من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة، واعلموا أن الرأي يسد ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي. فلا يرفع أحدكم صوته بغير حجة على أحد من الموالي، واعلموا أن الظفر لمن احتج، لا لمن لج. ثم التفت إلى أحد الذين صاحوا في وجه الموالي الأربعة وقال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، ولا يتعصب أحدكم لقبيلته أو لقومه من العرب، فقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة من عقول السفهاء. وشرع الإمام يكتب إلى عماله الذين اشتكاهم الموالي، فكتب لأحدهم: اتق الله، ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، فإن الله لا يحب المتكبرين، واعلم أن من آذى إنجيليا فقد آذاني (*)

ص 220

(هامش)

= وكتب لوال آخر: أما بعد، فإن دهاقين بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا وجفوة، ولهم في ذمتنا عهد فامزج بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله. وكتب لثالث: بلغني أنك تعمر دنياك بآخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، لئن كان الذي بلغني عنك حقا، لجمل أهلك وشعث نعلك خير منك، ومن كان بصفاتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله. وكتب لرابع: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك، أنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك (اختارك) من أعراب قومك، لئن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا، ولتخفن عندي ميزانا. فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق آخرتك، فتكون من الأخسرين أعمالا. وكتب لعامل غيره: بلغني أنك جردت الأرض، فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك. وكتب لجميع عماله على أهل البلاد المفتوحة (أهل البلاد المفتوحة هم الموالي): انظروا في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الملوك والأكاسرة والأباطرة أربابا لهم فتركوهم عالة مساكين. وكتب إلى أحد عماله: أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين؟ أتطمع وأنت متمرغ في النعيم، تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدقين؟ فماذا لو أكلت طعامك مرة وأطعمت الفقير الجائع مرة؟ إنما المرء يجزى بما أسلف، والسلام. وكتب لآخر: انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قبلك (عندك) من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات (الحاجات) وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا. = (*)

ص 221

(هامش)

= كتب لغيره: إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية، وفي يديك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزانة حتى تسلمه إلي. وقال لأصحابه: اعلموا أن الولاة هم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة وقال: إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يعذر من علم كيف المرجع ولقد أصبحت في زمان قد أتخذ أكثر أهله الغدر كيسا (عقلا)، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا ورع له. فقال الذين جاءوا من الشام: إن معاوية قد اصطنع أهل الشام جميعا، وكلهم حديث عهد بالإسلام، وكلهم لا يعرف إلا معاوية، وما يغدقه معاوية، ثم إنه ليصطنع رؤساء القبائل العربية، فيجزل لهم العطاء أضعافا مضاعفة، من أجل ذلك نكث الولاة الذين خافوا الإمام على ما كسبوه بغير حق وفروا إلى معاوية. فقال أصحاب الإمام له: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب ومن قريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس. فقال لهم متعجبا منكرا: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه، ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى خدمتهم فشر خدين وألأم خليل، إنه لا يسعنا أن نعطي أحدا أكثر من حقه، إن هذا المال ليس لي وليس لكم. ولكنه مال الله يقسم بين الناس بالسوية فلا فضل لأحد على أحد. فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين أنت تنصف الوضيع من الشريف، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به، واغتموا = (*)

ص 222

(هامش)

= من العدل إذ صاروا فيه، ورأوا صنائع من أهل الغنى فباعوا أنفسهم وأكثرهم يشتري الباطل، فإن تبذل المال يمل إليك أعناق الرجال ويستخلص ودهم. فرد الإمام: أما ما ذكرت من عملنا ومسيرتنا فإن الله عز وجل يقول: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد)، وأنا من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف. وأما ما ذكرت أن الحق ثقل عليهم ففارقونا، فعلم الله أنهم لم يفارقونا عن جور، ولا لجأوا إلى عدل. وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال فإنه لا يسعنا أن نؤتي أحدا من المال فوق حقه. وقد عليه أخوه عقيل بن أبي طالب من المدينة فقال له: ما أقدمك يا أخي؟ قال: تأخر العطاء عنا، وغلاء السعر ببلدنا، وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني. فقال علي: والله ما لي مما ترى شيئا إلا عطائي، فإذا خرج فهو لك. قال عقيل: أشخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ مني عطاؤك وما يدفع من حاجتي؟ فقال الإمام: هل تعلم لي ما لا غيره؟ أم تريد أن يحرقني الله في نار جهنم في صلتك بأموال المسلمين؟ وما بقي من نفقتنا في ينبع غير دراهم معدودة، والله يا أخي إني لأستحي من الله أن يكون ذنب أعظم من عفوي أو جهل أعظم من حلمي، أو عورة لا يواريها ستري، أو خلة لا يسدها جودي. فلما ألح عقيل عليه، قال لرجل: خذ بيد أخي عقيل وانطلق إلى حوانيت أهل السوق، فقل له: دق هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت. فقال عقيل: أتريد إن تتخذني سارقا؟ فقال الإمام: وأنت تريد أن تتخذني سارقا؟ أن آخذ من أموال المسلمين فأعطيكها دونهم. فقال: والله لأخرجن إلى رجل هو أوصل لي منك. لآتين معاوية. فقال الإمام: أنت وذاك، راشدا مهديا. فلما قدم على معاوية، رحب به وقال: مرحبا وأهلا بك يا عقيل بن أبي طالب، ما = (*)

ص 223

(هامش)

= أقدمك علي؟ قال: قدمت لدين عظيم ركبني، فخرجت إلى أخي ليصلني فزعم أنه ليس له مما يلي إلا عطاؤه، فلم يقع ذلك مني موقعا، ولم يسد مني مسدا، فأخبرته أني سأخرج إلى رجل هو أوصل منه لي، فجئتك. فازداد معاوية فيه رغبة، وقال للناس: يا أهل الشام هذا سيد قريش وابن سيدها، عرف الذي فيه أخوه من الغواية والضلالة، لجاءني، ولكني أزعم أن جميع ما تحت يدي لي، فما أعطيت فقربة إلى الله، وما أمسكت فلا جناح لي عليه. ثم قال لعقيل: يا عقيل بن أبي طالب هذه مائة ألف تقضي بها ديونك، ومائة ألف تصل بها رحمك، ومائة ألف توسع بها على نفسك. فوقف عقيل فقال: صدقت، لقد خرجت من عند أخي علي هذا القول، وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد والله رجلا من أهل بدر ولا المهاجرين والأنصار، ولا والله ما رأيت من معسكر معاوية رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال معاوية: يا أهل الشام أعظم الناس من قريش عليكم حقا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد قريش، وها هو ذا تبرأ مما عمله أخوه. وضج أهل الشام استحسانا لما يقوله معاوية. وعجب عقيل، كيف يفقهون وكيف يسومهم معاوية؟ إنهم ليلغون عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، ولا يعون أو يفقهون أو يسمعون أو يبصرون إلا ما يريده معاوية. فوقف عقيل يقول: أيها الناس، إني أردت أخي عليا على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه، فاختارني على دينه. وشعر معاوية أن بعض رؤساء العرب قد فهموا عن عقيل، وأنهم قد يشرحون لسواهم من غير العرب من أهل الشام، ففض الناس، وأمرهم أن يتجهزوا للزحف إلى العراق، ليغنموا أرضه الشاسعة الخصبة وأمواله الطائلة ونساءه الحسان. ووجد معاوية أحد رؤساء العرب يسخر من كل هذا، وينظر إلى معاوية وعمرو شزرا فسأله: لم أحببت عليا علينا؟ فقال: لثلاث خصال: حلمه إذا غضب، وصدقه إذا = (*)

ص 224

ومنهم الشريف عباس أحمد صقر وأحمد عبد الجواد في جامع الأحاديث (القسم الثاني 4 ص 425 ط دمشق) قالا: عن أبي عمرو بن العلاء، عن أبيه قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس ولله الذي لا إله إلا هو، ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب فقال: أهداها إلي دهقان. (عب) وأبو عبيد في الأموال، ومسدد والحاكم في الكنى وابن الأنباري في المصاحف، (حل). وقالا في ص 432: عن علي بن الأرقم، عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعرض سيفا له في رحبة الكوفة ويقول: من يشتري مني سيفي هذا؟ والله لقد جلوت به غير مرة من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن عندي ثمن إزار ما بعته، يعقوب

(هامش)

= قال، وعدله إذا حكم. وكان عليه السلام قد تعود أن يأخذ الجزية والخراج (الضرائب) من أهل كل صنعة وعمل، حتى ليأخذ من أهل الأبر والمال والخيوط والحبال ثم يقسمهم بين الناس. وكان لا يدع في بيت المال مالا يبيت فيه، بل يقسمه إلا أن يغلبه مشغل فيصبح إليه. وكان يكنس بيت المال بعد أن يفرع من توزيع ما فيه، ويتخذه مسجدا يصلي فيه. وقد كانت له بالكوفة امرأتان، فإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم، وإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم، وكان ينفق هذه النفقة من شيء يأتيه من الحجاز. وكان يوصي كل عامل يوليه على الخراج: لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم، ولا تتبعن لهم رزقا، ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعملون عليها، ولا تقيمن رجلا قائما في طلب درهم، فقال له أحد عماله: يا أمير المؤمنين إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك؟. قال الإمام: أمرنا نأخذ منهم الفضل (ما زاد عن الحاجة). (*)

ص 225

ابن سفيان، (طس، حل، كر). وقالا أيضا في ص 433: عن علي رضي الله عنه قال: أهديت لي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان فراشنا ليلة أهديت إلا مسك كبش. ابن المبارك في الزهد وهناد، (ه‍، ع) والدينوري في المجالسة، والعسكري في المواعظ. وقالا أيضا في ص 434: عن علي رضي الله عنه قال: كنت أدلو الدلو بتمرة وأشترط أنها جلدة. (ض، ه‍). عن علي رضي الله عنه قال: نكحت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا فراش إلا فروة كبش، فإذا كان الليل بتنا عليها، وإذا أصبحنا فقلبنا وعلفنا عليها الناضج. العسكري والعدني. عن صالح بياع الأكسية عن جدته قالت: رأيت عليا رضي الله عنه اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته، فقيل: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟ فقال: أبو العيال أحق بحمله. (كن). عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قميصا رازئا إذا مد ردنه بلغ طرفه الأصابع، وإذا تركه رجع إلى قريب نصف الذراع. (هناد). (كر). وقالا أيضا: عم عمرو بن حريث قال: أتيت عليا في القصر وقد اختلف الناس عليه وهو يزودهم بدرته. فقال: يا عمرو بن حريث كنت أرى أن الوالي يظلم الرعية. فإذا

ص 226

الرعية تظلم الوالي. في كتاب المداراة. عن عمرو بن قيس قال: رؤى على علي بن أبي طالب إزار مرقوع، فقيل له، فقال: يقتدي به المؤمن، ويخشع به القلب. (هناد، حل). عن عطاء أبي محمد قال: رأيت على علي رضي الله عنه قميصا من هذه الكرابيس غير غسيل. (ش وهناد). عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه أتى بالمال، فأقعد بين يديه الوزان والنقاد، فكوم كومة من ذهب، وكومة من فضة، فقال: يا حمراء ويا بيضاء احمري وابيضي وغري غيري، هذا جناي وخياره فيه، وكل جان يده إلى فيه. أبو عبيد، (حل، كر). عن مجمع: إن عليا رضي الله عنه كان يكنس بيت المال ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة أنه لم يحبس المال عن المسلمين. (حم) في الزهد ومسدد. (حل). عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي خلفي: ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، وخذ من رأسك أن كنت مسلما. فإذا هو علي رضي الله عنه ومعه الدرة، فانتهى إلى سوق الإبل فقال: بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة، ثم أتى صاحب التمر فإذا خادم تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: باعني هذا تمرا بدرهم، فأبى مولاي أن يقبله، فقال: خذه وأعطها درهمها فإنه ليس لها أمر، فكأنه أبي، فقلت: ألا تدري من هذا؟ قال: لا، قلت: علي أمير المؤمنين، فصب تمره وأعطاها درهمها، وقال: أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين، قال: ما أرضاني عنك إذا وفيتهم، ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال: أطعموا المسكين يربو كسبكم، ثم مر مجتازا حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال: لا يباع في سوقنا طاف، ثم أتى دار بزاز وهي سوق الكرابيس. فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا، ثم أتى آخر، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا،

ص 227

ثم أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين، فجاء صاحب الثوب، فقيل له: إن ابنك باع من أمير المؤمنين قميصا بثلاثة دراهم، قال: فهلا أخذت منه درهمين؟ فأخذ الدرهم ثم جاء به إلى علي فقال: أمسك هذا الدرهم، قال: ما شأنه؟ قال: كان قميصنا ثمن درهمين، باعك ابني بثلاثة دراهم، قال: باعني برضاي وأخذت برضاه، ابن راهويه (حم) في الزهد، وعبد بن حميد، (ع، ق، كر) وضعف. عن عبد الله بن شريك عن جده: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى بفالوذج فوضع قدامه، فقال: إنك طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم، ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد. (عم) في الزهد، (حل). عن عدي بن ثابت: أن عليا أتى بفالوذج فلم يأكل. (هناد، حل). عن زياد بن مليح: أن عليا أتى بشيء من خبيص فوضعه بين أيديهم، فجعلوا يأكلون، فقال علي: إن الإسلام ليس ببكر ضال: ولكن قريش رأت هذا فتناحرت عليه. (عم) في الزهد، (حل). عن زيد بن وهب، قال: خرج علينا علي رضي الله عنه وعليه رداء وإزار قد رقعه بخرقة. فقيل له، فقال علي: إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو، وخيرا لي في صلاتي وسنة للمؤمنين. ابن المبارك. وقال أيضا في ص 606: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اشترى علي بن أبي طالب قميصا بثلاثة دراهم وهو خليفة، وقطع كمه موضع الرصغين وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه. الدينوري، (كر). عن علي رضي الله عنه: أنه كان يلبس القميص ثم يمد الكم حتى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضل ويقول: لأفضل للكمين على اليدين. ابن عيينة في جامعه، والعسكري

ص 228

في المواعظ، (ص، هب، كر). عن أبي مطر: أن عليا رضي الله عنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم فلبسه وقال: الحمد لله الذي كساني من الرياش ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا قال هكذا. (ع). ومنهم الشريف أبو الحسن علي الحسني في المرتضى سيرة سيدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب (ص 39 ط دار العلم - دمشق) قال: معيشة علي وفاطمة رضي الله عنهما: وكانت معيشة علي وفاطمة وهما أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله أحب الخلق إلى الله معيشة زهد وتقشف، وصبر وجهد. ومنهم العلامة شمس الدين أبو البركات محمد الباعوني الشافعي في كتاب جواهر المطالب في مناقب الإمام أبي الحسنين علي بن أبي طالب (ص 99 والنسخة مصورة من المكتبة الرضوية بخراسان) قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن عباس بن الفضل مولى لبني هاشم، عن جده بن أبي رافع أنه كان خازنا لعلي بن أبي طالب على بيت المال، قال: فدخل يوما وجد زينب بنته بلؤلؤة من بيت المال كان قد عرفها، فقال رضي الله عنه: من أين لهذه اللؤلؤة؟ لله علي أو أقطع يدها. قال: فلما رأيت الجد منه في ذلك قلت: أما والله زينب بنت أخي أخذتها فخلعتها وإلا فمن أين يقدر هذه على أخذها لو لم أعطها. ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام (ص 146 ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1406) قال:

ص 229

كان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خازنا لعلي على بيت المال، فدخل علي يوما وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال فقال: من أين لها هذه؟ لأقطعن يدها فلما رأى أبو رافع جده فذكر مثل ما تقدم عن جواهر المطالب . ومنهم الفاضل المعاصر عبد المنعم الهاشمي في كتابه أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص 77 ط دار الهجرة - بيروت) قال: فذكر قصة اللؤلؤة مثل ما تقدم عن جواهر المطالب - وزاد: أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها، فقال علي موجها كلامه لرافع: لقد تزوجت أمها فاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها وردها إلى بيت المال. وأيضا أم كلثوم ابنته: كان عمرو بن سلمة واليا على أصبهان من قبل الإمام علي كرم الله وجهه، فجاء من ولايته يحمل من مال المسلمين وأيضا كان مما يحمل عسل وسمن، فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلا - فذكر مثل ما يأتي عن ابن منظور باختلاف في اللفظ. ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة 711 في مختصر تاريخ دمشق (ج 18 ص 60 ط دار الفكر) قال: قال عمرو بن يحيى: سمعت أبي يحدث عن أبيه عمرو قال: كان علي بن أبي طالب استعمل يزيد بن قيس على الري، ثم استعمل مخنف بن سليم على أصبهان، واستعمل على أصبهان عمرو بن سلمة. فلما أقبل عمرو بن سلمة عرض له الخوارج بحلوان. فلما قدم عمرو بن سلمة على علي أمره فليضعها في الرحبة، ويضع عليها أبناءه حتى يقسمها بين المسلمين، فبعثت إليه أم كلثوم بنت علي: أرسل إلينا من

ص 230

هذا العسل الذي معك، فبعث إليها بزقين من عسل، وزقين من سمن. فلما أن خرج علي إلى الصلاة عدها فوجدها تنقص زقين، فدعاه، فسأله عنهما، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسلني عنهما، فإنا نأتي بزقين مكانهما، قال: عزمت عليك لتخبرني ما قصتهما، قال: بعثت إلي أم كلثوم فأرسلت بها إليها، قال: أمرتك أن تقسم فئ المسلمين بينهم. ثم بعث إلى أم كلثوم أن ردي الزقين، فأتى بهما مع ما نقص منهما، فبعث إلى التجار: فزموهما مملوءتين وناقصتين، فوجدوا فيهما نقصان ثلاثة دراهم وشيء، فأرسل إليها أن أرسلي إلينا بالدراهم، ثم أمر بالزقاق فقسمت بين المسلمين. ومنهم العلامة شمس الدين أبو البركات محمد الباعوني الشافعي في كتاب جواهر المطالب في مناقب الإمام أبي الحسنين علي بن أبي طالب (ص 40 والنسخة مصورة من المكتبة الرضوية بخراسان) قال: وعن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن جده قال: قدم عمرو بن سلمة أصبهان - فذكر مثل ما تقدم. ومنهم العلامة محمد بن حسن الآلاني الكردي المتوفى سنة 1189 في رفع الخفا شرح ذات الشفا (ج 2 ص 279 ط عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية) قال: روى الفقيمي عن قنبر مولى علي كرم الله وجهه قال: دعاني الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال لي: يا قنبر عندي أربع نسوة حرائر والله ما بقي في بيت واحدة منهن فضل فن قوتها، فاستلق لي درهما اشترى به طعاما لهذا الضيف، فأتيته بدرهم واشتريت به طعاما، فقال: هذا الطعام يعني الخبز فأين الأدم؟ ثم قال: هذه زق عسل جاءت من اليمن، فأعطنا منها مقدار ما يأتدم به الضيف، فقلت: كيف أعطيك قبل أن يقسمها أمير المؤمنين، فقال: إن لنا فيها حقا فإذا أعطانا حقنا رددنا ما أخذناه، قال قنبر: فقمت إلى زق منها فأخذت منه مقدار رطل، فلما كان من الغد جاء علي كرم الله

ص 231

وجهه ليقسم العسل، فلما نظر إلى ذلك الزق قال: يا قنبر حدث في هذا حدث، فأخبرته بالقصة، فغضب وقال: علي بالحسن، فأتي به فرفع الدرة [عليه] ليضربه. فأقسم عليه حتى سكن غضبه فقال: ما حملك على ما صنعت؟ أخذت من العسل قبل أن أقسمه، فقال: يا أمير المؤمنين إن لنا فيه حقا، فإذا أعطيتنا رددنا ما أخذنا، فقال: فداك أبوك ليس لك أن تنتفع بحقك قبل المسلمين، لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل هذا منك لأوجعتك ضربا، ثم دفع إلى قنبر درهما ليشتري به أجود عسل، ففعل ثم أمره أن يفرغه في الزق وعلي يبكي، ويقول: اللهم اغفرها للحسن، فإنه لم يعلم. ومنهم العلامة حميد بن زنجويه المتوفى سنة 251 في كتابه الأموال (ج 2 ص 562 ط مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية) قال: حدثنا حميد، أنا أبو نعيم، أنا عبد الرحمن بن عجلان، حدثتني جدتي أم كفلة إنها انطلقت مع مولاها حتى أتت عليا وهو في الرحبة وهو يقسم بين الناس أنواع الأبزار والخردل والحرف والكمون والكشنيز، يوزعه بينهم كله، يصرونه صررا حتى لم يبق منه شيئا. ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام (ص 158 ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1406) قال: وروى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا عليه السلام: إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فسألتاه فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء، فقالت إحداهما: إني امرأة من العرب، وهذه من العجم، فقال: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفئ فضلا على بني إسحاق.

ص 232

ومنهم الفاضل المعاصر المحامي الدكتور صبحي محمصاني في تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء (ص 101 ط دار العلم للملايين - بيروت) قال: روي عن الإمام علي أنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف، ولا عربيا على أعجمي. فقد دفع مرة طعاما ودراهم بالتساوي إلى امرأتين، إحداهما عربية، والثانية أعجمية. فاحتجت الأولى، قائلة إني والله امرأة من العرب، وهذه من العجم. فأجابها علي: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفئ فضلا على بني إسحاق. وكذلك، لما طلب إليه تفضيل أشراف العرب وقريش على الموالي والعجم، قال: لا والله لو كان المال لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟ ومنهم العلامة شمس الدين أبو البركات محمد الباعوني الشافعي في كتاب جواهر المطالب في مناقب الإمام أبي الحسنين علي بن أبي طالب (ق 39 والنسخة مصورة من المكتبة الرضوية بخراسان) قال: وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا وأكلوا التراث أكلا لما وأحبوا المال حبا جما واتخذوا دين الله غلا ومال الله حولا؟ قلت: أتركهم وما اختاروا واختار الله ورسوله والدار الآخرة وأصبر على مصيبات الدنيا وملؤها حتى ألحق بك إن شاء الله. قال: صدقت، اللهم افعل ذلك به. خرجه الحافظ من الأربعين. وعن علي بن أبي شعبة (ربيعة) أن علي بن أبي طالب جاءه ابن النباج فقال: يا أمير المؤمنين امتلأت بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر! فقام متوكئا على ابن النباج حتى قام على المال فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال للمسلمين فهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ها وها، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضيح وصلى فيه ركعتين. أخرجه أحمد في المناقب وصاحب الصفوة.

ص 233

وقال في ق 40: وعن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: رأيت عليا بالرحبة في يوم مورود (نيروز)، فجاء قنبر فأخذ بيده وقال: يا أمير المؤمنين إنك رجل لا تبق [كذا، والظاهر لا تبقى] شيئا وإن لأهل بيتك في هذا المال نصيبا وقد خبأت لك خبية. قال: وما هي؟ قال: انطلق وانظر ما هي، فأدخله بيتا مملوا آنية ذهب وفضة مموهة بالذهب، فلما رآها قال: ثكلتك أمك لقد أردت (أن) تدخل بيتي نارا عظيمة، ثم جعل يزنها ويعطي كل عريف بحصته ثم قال: هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه لا تغريني وغري غيري. وقال أيضا: وقال سفيان الثوري رحمه الله: ما بنى علي لبنة ولا آجرة ولا قصبة على قصبة. وقال زادان: رأيت عليا يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) الآية، وقال: نزلت هذه الآية في حق أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس. وقال أيضا في ق 40: وعن سعيد قال: رأيت عليا بالسوق وهو يقول: من عنده ثوب قميص صالح بثلاث دراهم؟ فقال رجل: عندي، وجاء به فأعجبه فأعطاه ثم لبسه فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه فأمر بقطع ما فضل عن أطراف الأصابع. خرجه الملا في سيرته. وقال أيضا:

ص 234

وعن الحسن بن جرموز قال: رأيت علي بن أبي طالب يخرج من مسجد الكوفة وعليه بردان متوزر بواحد ومزيد لآخر وإزاره إلى نصف الساق وهو يطوف بالأسواق ومعه درة يأمرهم بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن البيع (و) وفاء الكيل والميزان. أخرجهما القلعي. وقال أيضا: وعن عمرو بن قيس قال: قيل لعلي: يا أمير المؤمنين لم ترفع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن. وقال أيضا: وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليا خرج وعليه قميص غليظ رازي (دارس) إذا مد كم القميص بلغ (إلى) الظفر وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وقال أيضا: وقال عبد العزيز بن محمد: إن عليا أتي بمال فأقعد بين يديه الوزان والنقاد فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة وقال: يا حمراء احمري ويا بيضاء ابيضي وغري غيري. هذا جناي وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه وقال أيضا: وقال صالح بن الأسود: رأيت عليا وقد ركب حمارا ودلى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهبت الدنيا. وقال أيضا:

ص 235

وقال الحسن بن صالح: نذكر الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال: قائل فلان وفلان فقال عمر: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقال أيضا في ق 42: وعن هارون بن عنترة قال: دخلت على علي بن أبي طالب في الخورنق وهو يرعد تحت شمل قطيفة فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما تصنع، فقال: والله ما أرزاكم شيئا من مالكم وإنها لقطيفتي التى خرجت بها من منزلي بالمدينة. وقال أيضا: وعن أبي جمارة التميمي عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب على المنبر يقول: من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقام إليه رجل وقال: أنا أسلفك ثمن إزار. قال عبد الرزاق: وكانت الدنيا إذ ذاك بيده إلا الشام. خرجه أبو عمر. وقال أيضا: وعن ابن عمر قال: حدثني رجل من ثقيف أن عليا قال له: إذا كان عند الظهر فرح إلي. قال: فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبا يجبني دونه ووجدته خاليا وعنده قدح وكوز من ماء، فدعا بظبية فقلت في نفسي: لقد أمنني حين يخرج إلى جواهر ولا أدري ما فيها، فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم فإذا فيها سويق فأخذ منه قبضة فصبها في القدح وصب عليها ماء فشرب وسقاني، فلم أجر وقلت: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق وطعامه أكثر من ذلك؟! فقال: والله ما أختم عليه بخلا به ولكني ابتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يفنى فيوضع فيه من غيره مما لا أعرفه فأحفظه لذلك وأكره أن

ص 236

أدخل إلى جوفي ما لا أعرفه ولا أحب أن أدخل فيه إلا طيبا. أخرجه صاحب الصفوة. وقال أيضا: وعن سفيان، عن الأعمش قال: كان علي يعشي ويغدي ولا يأكل إلا من شيء يجيئه من المدينة. وقال أيضا: وعن أبي غسال، عن أبي داود، عن علي رضي الله عنه إنه أتي بفالوذج، فلما وضع بين يديه قال: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد. وقال أيضا: عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا قتيبة، قال: ثنا عبد الله الوارث بن مسعود، عن أبي عمر بن العلا، عن أبيه: أن عليا خطب الناس فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت من فيئكم إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه، وقال: أهداها لي دهقان، ثم دفعها بخازن بيت المال. خرجه الملا. ومنهم حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي المتوفى سنة 505 في الحلال والحرام (ص 127 ط بيروت سنة 1407) قال: وروي عن علي رضي الله عنه، أنه كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه، فقيل: أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه؟! فقال: أما إني لا أختمه بخلا به، ولكن أكره أن يجعل فيه ما ليس منه، وأكره أن يدخل بطني غير طيب.

ص 237

ومنهم العلامة الشيخ يس بن إبراهيم الشنهوتي الشافعي في كتابه الأنوار القدسية (ص 23 ط السعادة بمصر) قال: كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه - فذكر مثل ما تقدم. ومنهم العلامة الشيخ محمد بن داود بن محمد البازلي الكردي الحموي الشافعي المتوفى سنة 925 في كتابه غاية المرام (ص 70 والنسخة مصورة من مكتبة جستربيتي بإيرلندة) قال: وأما زهده فمما اشترك في معرفته الخاص والعام: كان الحاصل من غلته أربعين ألف دينار وجعل كلها لتصدقه. وكان عليه إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم، ولم يترك حين توفي إلا ستمائة درهم أعدها ليشتري به خادمة لأهله. وقال فيه أيضا: قال علي بن أبي طالب: الدنيا جيفة وطالبها كلاب، فمن أراد منها شيئا فليصبر على مخالطة الكلاب. وقال فيه أيضا: قال عمار بن ياسر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب: يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها الزهد في الدنيا فجعلك لا تنال من الدنيا شيئا ولا تنال الدنيا منك شيئا، ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماما ورضيت بهم أتباعا، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فحق على الله أن يذيقهم [كذا] موقف الكذابين يوم القيامة.

ص 238

وقال في ص 70 أيضا: قال سفيان: ما بنى علي لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة. وقال فيه أيضا: قال أبو بحر: رأيت على علي إزارا غليظا اشتراه بخمسة دراهم، فقال: من أرغبني فيه درهما بعته. وقال: ورأيت معه دراهم مصرورة فقال: هذه بقية نفقتنا من ينبع يعني البلد المعروف. وقال فيه أيضا: قال أبو التيار: أتاني علي ومعه غلام فاشترى مني قميصين كرابيسين فقال لغلامه: اختر أيهما شئت، فأخذ أحدهما وأخذ علي الآخر، ثم مد يده بعد لبسه فقال: اقطع القدر الذي يفضل من يدي، فقطعه وكفه وذهب. وقال فيه أيضا: وقال رجل من ثقيف: استعملني على مدرج سابور فقال: لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقا ولا كسوة شتاء ولا صيفا ولا دابة يعملون عليها، ولا تقيمن رجلا قائما في طلب درهم، قلت: يا أمير المؤمنين إدا أرجع إليك كما ذهبت من عندك. قال: وإن رجعت ويحك، إنما أمرنا أن نأخذ العفو منهم يعني الفضل. وزهده وعدله لا يمكن استقصاؤه. ومنهم الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 597 في كتابه سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز (ص 274 ط

ص 239

دار الكتب العلمية في بيروت) قال: وعن حسين بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز، فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب عليه السلام. ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة 711 في مختصر تاريخ دمشق (ج 18 ص 56 ط دار الفكر) قال: وعن حسن بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: - فذكر مثل ما تقدم عن السيرة بعينه. ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 140 ط القاهرة سنة 1399) قال: عن محمد بن كعب القرظي: حدثني من سمع علي بن أبي طالب يقول: حرجت في يوم شات من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت إهابا معطوبا، فحولت وسطه فأدخلته عنقي، وشددت وسطي فحزمته بخوص النخل وإني لشديد الجوع، ولو كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام لطعمت منه، فخرجت ألتمس شيئا، فمررت بيهودي في مال له وهو يسقي ببكرة له، فاطلعت عليه في ثلمة في الحائط. فقال: ما لك يا أعرابي؟ هل لك في كل دلو بتمرة قلت: نعم فافتح الباب حتى أدخل. ففتح فدخلت فأعطاني دلوه، فكلما نزعت دلوا أعطاني تمرة حتى إذا امتلأت كفي أرسلت دلوه وقلت: حسبي. فأكلتها. ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت المسجد فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. ومنهم العلامة الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية المتوفى سنة

ص 240

751 في عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص 235 ط دار الآفاق الجديدة في بيروت سنة 1403) فذكر مثل ما تقدم إلا أن فيه: معطوفا معطوبا و فجولت بدل فحولت و في عنقي و شددت به وسطي و واختلاف يسير في الباقي. وقال الدكتور عبد المعطي أيضا: عن ابن عباس قال: أصاب نبي الله خصاصة، فبلغ ذلك عليا فخرج يلتمس عملا يصيب به شيئا ليقيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بستانا لرجل من اليهود فاستقى له سبعة عشر دلوا كل دلو بتمرة، فخيره اليهودي من تمره سبع عشرة عجوة فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعن علي قال: كنت أدلو بتمرة وأشترط أنها جلدة. ومنهم العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن فرح القرطبي الخزرجي الأندلسي في قمع الحرص بالزهد والقناعة (ص 179 ط دار الصحابة بطنطا) قال: وأما علي رضي الله عنه، فقال بعض الثقات: دخلت على علي بالخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، وإن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال حظا فأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما رزأتكم من مالكم شيئا وإنها لقطيفتي، أي خرجت بها من منزلي، يعني من المدينة. واشترى قميصا له بدراهم فلبسه فإذا هو يفضل على أطراف أصابعه، فأمر به فقطع ما فضل عن أطراف أصابعه. وجاءه ابن النباح فقال: امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، فأتى بيت المال فجمع مستحقيه، وأعطى جميع ما فيها، وهو يقول: يا صفراء اصفري، ويا بيضاء ابيضي غري غيري ها وها. حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه، وصلى

ص 241

فيه ركعتين رجاء أن يشهد يوم القيامة. وأتي بفالوذج فوضع قدامه، فقال: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده. ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة 711 في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (ج 18 ص 58 ط دار الفكر) قال: وعن عنترة قال: دخلت على علي بالخورنق - فذكر مثل ما تقدم عن قمع الحرص - إلى: يعني من المدينة. ومنهم العلامة الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 في الأموال (ص 284 ط دار الكتب العلمية - بيروت) قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: دخلت على علي بالخورنق، وعليه سمل قطيفة - فذكر مثل ما تقدم - إلى: من المدينة. ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العك المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في مختصر حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص 253 ط دار الإيمان - بدمشق وبيروت) قال: وأخرج أبو عبيدة، عن عنترة قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه سمل قطيفة وهو يرعد فيها من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين - فذكر مثل ما تقدم عن قمع الحرص باختلاف يسير في اللفظ. ومنهم العلامة الشيخ أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن علي ابن حمدون في كتابه التذكرة الحمدونية (ص 69 ط بيروت) قال: قال مجاهد: خرج علينا علي عليه السلام يوما معتجرا فقال: جعت - فذكر مثل ما

ص 242

تقدم. وقال أيضا: ودخل عليه بعض أصحابه بالخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة - فذكر مثل ما تقدم عن قمع الحرص بالزهد . وقال أيضا: وقسم عليه السلام ما في بيت المال على سبعة أسباع، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر، ثم دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم. وقال أيضا في ص 70: واشترى علي عليه السلام بالكوفة تمرا فحمله في طرف ردائه، فتبادره الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين نحمله عنك. فقال: رب العيال أحق بحمله. ومنهم العلامة حميد بن زنجويه المتوفى سنة 251 في كتابه الأموال (ج 2 ص 609 ط مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية) قال: حدثنا حميد، قال أبو عبيد: أنا عباد بن العوام، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: دخلت على علي بالخورنق، وعليه شمل قطيفة، وهو يرعد فيها. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: إني والله لا أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي - أو قال: من المدينة. حدثنا حميد، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن موسى بن طريف قال: دخل علي بيت المال فأضرط به ثم قال: لا أمسى حتى أقسمه أو نقسمه. فدعا رجلا من بني سعد بن ثعلبة، فقسم إلى الليل فقالوا له: لو أعطيته.

ص 243

قال: إن شاء أعطيته وهو سحت. قال: لا حاجة لي فيه. ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة 711 في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (ج 18 ص 58 ط دار الفكر) قال: قال موسى بن طريف: دخل علي عليه السلام بيت المال - فذكر مثل ما تقدم عن الأموال إلا أنه ليس فيه: قال: لا حاجة لي فيه. ومنهم الفاضل محمد رضا في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين (ص 12 ط دار الكتب العلمية - بيروت) قال: عن خالد بن أمية قال: رأيت عليا وقد لحق إزاره بركبتيه. وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليا عليه قميص رازي، إذا مد كمه بلغ الظفر، فإذا أرخاه بلغ نصف ساعده. وعن عطاء أبي محمد قال: رأيت على علي قميصا من هذه الكرابيس غير غسيل. وكان يلبس إزارا مرقوعا، فقيل له، فقال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن. ورؤى رضي الله عنه وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان: إزار إلى نصف الساق، ورداء مشمر قريب منه، ومعه درة له، يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم. وابتاع رضي الله عنه مرة قميصا سنبلانيا بأربعة دراهم، فجاء الخياط فمد كم القميص، فأمره أن يقطعه مما خلف أصابعه. وعن هرمز قال: رأيت عليا متعصبا بعصابة سوداء ما أدري أي طرفيها أطول، الذي قدامه أو الذي خلفه، يعني عمامة. وعنه قال: رأيت عليا عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه. وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان إزارك

ص 244

واسعا فتوشح به، وإذا كان ضيقا فأتزر به. وكانت قلنسوته لطيفة، وتختم في يساره، وكان نقش خاتمه في صلح الشام محمد رسول الله ونقش على خاتمه أيضا الله الملك . ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام (ص 158 ط دار الغريب الإسلامي في بيروت سنة 1406) قال: وروى بكر بن عيسى، قال: كان علي عليه السلام يقول: يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي وغلامي فلان، فأنا خائن. فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هو الثريد بالزيت. وروى معاوية بن عمار، عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: ما اعتلج على علي عليه السلام أمران في ذات الله، إلا أخذ بأشدهما، ولقد علمتم أنه كان يأكل (يأهل) الكوفة عندكم من ماله بالمدينة، وإن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب، ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره، ومن كان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام. وروى النضر بن منصور، عن عقبة بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام، فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا الحق به. وروى عمر بن مسلمة، عن سويد بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام بالكوفة، فإذا بين يديه قعب لبن أجد من شدة حموضته، وفي يده رغيف ترى

ص 245

قشار الشعير على وجهه وهو يكسره، ويستعين أحيانا بركبته، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه، فقلت: يا فضة، أما تتقون الله في هذا الشيخ ألا نخلتم دقيقه؟ فقالت: إنا نكره أن نؤجر ويأثم، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه. قال: وعلي عليه السلام لا يسمع ما تقول، فالتفت إليها فقال: ما تقولين؟ قالت: سله، فقال لي: ما قلت لها؟ قال: إني قلت لها: لو نخلتم دقيقه، فبكى، ثم قال: بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه، قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكسية، أن جدته لقيت عليا عليه السلام بالكوفة، ومعه تمر يحمله، فسلمت عليه، وقالت له: أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك، فقال: أبو العيال أحق بحمله، قالت: ثم قال لي: ألا تأكلين منه؟ فقلت: لا أريد، قالت: فانطلق إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة. وفيها قشور التمر، فصلى بالناس فيها الجمعة. وقال أيضا في ص 159: وروى عنبسة العابد، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن، قال: أعتق علي عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مملوك مما مجلت يداه وعرق جبينه، ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس. وروى العوام بن حوشب، عن أبي صادق، قال: تزوج علي عليه السلام ليلى بنت مسعود النهشلية، فضربت له في داره حجلة، فجاء فهتكها، وقال: حسب أهل علي ما هم فيه. وروى حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: ابتاع علي عليه السلام في خلافته قميصا سملا بأربعة دراهم، ثم دعا الخياط، فمد كم

ص 246

القميص، وأمره بقطع ما جاوز الأصابع. ومنهم الدكتور عبد الحليم محمود في قضية التصوف المنقذ من الضلال (ص 74 الطبعة الثالثة دار المعارف - القاهرة) قال: وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخلافة قد اشترى إزارا بأربعة دراهم واشترى قميصا بخمسة دراهم، فكان في كمه طول، فتقدم إلى خراز أي خياط فأخذ الشفرة فقطع الكم مع أطراف أصابعه، وهو يفرق الدنيا يمنة ويسرة. ومنهم الفاضل المعاصر محمد رضا في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين (ص 13 ط دار الكتب العلمية - بيروت) قال: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها، هي زينة الأبرار عند الله الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا منك شيئا، ووصب لك المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا ويرضون بك إماما. وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه السلام: يا علي كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لما وأحبوا المال حبا جما، واتخذوا دين الله دغلا ومال الله دولا؟ قلت: أتركهم ألحق بك إن شاء الله تعالى. قال: صدقت، اللهم افعل ذلك به. وجاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر، فقام متوكئا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء، غري غيري هاء وهاء، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين. إلى أن قال في ص 15:

ص 247

ودخل علي مرة بيت المال فرأى فيه شيئا، فقال: لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه. فأمر به فقسم، وأمر بالبيت فكنس ونضح فصلى فيه أو قال فيه، يعني نام. واشترى رضي الله عنه قميصا بثلاثة دراهم، وهو خليفة وقطع كمه من موضع الرسغين، وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه. وعن علي بن ربيعة قال: كان لعلي امرأتان فكان إذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم، وإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم. ودخل علي رضي الله عنه على فاطمة، والحسن والحسين يبكيان فقال: ما يبكيهما؟ قالت: الجوع، فخرج علي فوجد دينارا في السوق فجاء فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقا، فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقا، فقال اليهودي، أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخذ دينارك ولك الدقيق، فخرج علي حتى جاء فاطمة به فأخبرها فقالت إذهب إلى فلان الجزار فخذ لنا بدرهم لحما. فذهب فرهن الدينار بدرهم على لحم. فجاء به فعجنت ونصبت وخبزت وأرسلت إلى أبيها فجاءهم، فقالت: يا رسول الله أذكر لك، فإن رأيته حلالا أكلنا وأكلت، من شأنه كذا وكذا، فقال: كلوا بسم الله، فأكلوا، فبينما هم مكانهم إذا غلام، ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعى له، فسأله فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي اذهب إلى الجزار فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك أرسل إلي الدينار ودرهمك علي فأرسل به فدفع إليه. وصعد رضي الله عنه المنبر يوما، وقال: من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته. فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار؟ ومنهم الفاضل المستشار عبد الحليم الجندي في الإمام جعفر الصادق عليه السلام (ص 46 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة) قال:

ص 248

ولما مات لم يوجد بخزائنه إلا ستمائة درهم استبقاها ليشتري بها خادما. بل وكما لخص حياته سفيان الثوري: ما بنى لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وإن كان ليؤتي بحبوته في جراب. الحبوة الخراج. وكما يقول محمد بن كعب القرظي: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لقد رأيتني وأنا أربط الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار. ولما قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي عليا، قال فيما قال: كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحدته، وكان الله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ونحن والله مع تقريبه لنا ودنوه منا لا نكلمه هيبة له. لا يطمع القوي في باطلة ولا ييأس الضعيف من عدله، يبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوفت، فهيهات هيهات! غري غيري. ومنهم الدكتور السيد الجميلي في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار (ص 62 ط دار الكتاب العربي - بيروت) قال: وعلي بن أبي طالب من خيرة وصفوة السابقين الأولين إلى الإسلام له فضل السبق فضلا عن فضل القربى، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصه برعاية وحدب وحب منقطع النظير. وتزداد كرامة المؤمن عند ربه بازدياد زهده في الدنيا، وتتفاوت أقدار الهمم المشحوذة في السعي إلى الآخرة بصالحات الأعمال حسب عزوفها عن الدنيا ورغبتها عنها. وكان علي رضي الله عنه أصدق مثال على هذا الزهد في الدنيا والصدوف عنها لأنها في نظره لا قيمة لها رغم إن المفتونين فيها كثير، ولم يكن زهدا في القول فحسب وإنما قولا وعملا ومنهجا انتهجه وسبيلا سلكه. وجادة استقام عليها. وكان

ص 249

دائما يردد في نفسه ما لم يخفه عن أحبابه: من طلب الجنة سارع إلى الطاعات، ومن أشفق من النار، رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها. وتأبى نفسه الكريمة إلا أن تلتحف بأديم الأرض وتؤثر خبزا غير مأدوم، متحففة من زاد الدنيا ضاربة بها عرض الحائط لا تلوي على شيء فيها، متزودة للآخرة متأهبة للرحيل، منتظرة لقاء الحق أية لحظة، لأن جوار الكريم ضالة منشودة، ونهاية محمودة ينشرح لها صدور المؤمنين المتقين. كان أحب الأسماء إليه أبو تراب الذي أسماه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أبى أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة وهو أمير، ثم آثر عليه الأرض الخلاء العراء البراح وقال: قصر الخبال لا أنزله أبدا. ليس هذا فحسب إنما يلتذ من خشن الملبس، قائلا في نفسه: إن الزهد يصرف عنه، ويساعده على الخشوع في الصلاة، إن الذي يركن إلى الدنيا مثله كمثل من يركن إلى جدار متصدع منهار، قال تعالى في كتابه الكريم: (والعاقبة للتقوى) (والعاقبة للمتقين). والترف واللهو مطمع النفوس الدنيئة التي ترغب العاجلة، ولا تلقي بالا للآجلة، هذا هو عين الضيق الفكري والعقلي معا. وقال الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني المصري في المدخل إلى التصوف (ص 53 ط دار الثقافة بالقاهرة): وكان علي مثلا بارزا في الزهد والتقشف والدعوة إليهما، فقال لعمر بن الخطاب: إذا أردت أن تلقى صاحبك، فاقع قميصك، واخصف نعلك، وقصر أملك، وكل دون الشبع. وقد قال عنه ابن عيينة: إنه كان أزهد الصحابة، وشهد له الإمام الشافعي بأنه كان عظيما في الزهد.

ص 250

مستدرك من عدله عليه السلام كان يأمر ببيت المال فيكنس ثم ينضح ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.

قد مر نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج 8 ص 256 و257 وص 278 وج 17 ص 604 وص 609 وج 18 ص 20 ومواضع أخرى من هذا الكتاب المستطاب، ونستدرك هيهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق: فمنهم قائد الحنابلة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتولد سنة 164 والمتوفى 241 في الزهد ص (ص 162 ط دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1403) قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان، حدثني مجمع: أن عليا رضي الله عنه كان يأمر بيت المال فيكنس ثم ينضح ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة أنه لم يحبس في المال عن المسلمين. ومنهم علامة التاريخ صارم الدين إبراهيم بن محمد بن إيدمر بن دقماق القاهري المتولد سنة 750 والمتوفى سنة 809 في الجوهر الثمين في سيرة الخلفاء والسلاطين (ج 1 ص 65 ط عالم الكتب في بيروت سنة 1405) قال: وروي أن عليا قسم ما في بيت المال بين المسلمين، ثم أمر به فكنس، ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة. ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العك المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في مختصر حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص 246 ط

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

شرح إحقاق الحق (ج32)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب