شرح إحقاق الحق (ج32) |
ص 451 وقال في ص 295: كتاب معاوية إلى الزبير بن العوام وكان أول الأحداث في خلافة الإمام علي أن السيدة عائشة وطلحة والزبير ومن تبعهم خرجوا إلى البصرة يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه. وروى ابن أبي الحديد أن عليا عليه السلام لما بويع بالخلافة كتب إلى معاوية يأمره أن يبايع له، فلما قدم رسوله على معاوية وقرأ كتابه، بعث رجلا من بني عميس، وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنه لا شيء بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما. فسر الزبير بهذا الكتاب، وأعلم به طلحة، ولم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام. (شرح ابن أبي الحديد 1 / 77) وقال في ص 317: كتاب طلحة والزبير إلى كعب بن سور ولما أجمعت عائشة وطلحة والزبير وأشياعهم على المسير إلى البصرة، قال الزبير لعبد الله بن عامر - وكان عامل عثمان على البصرة، وهرب عنها حين مصير عثمان بن حنيف عامل علي إليها -: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة كلهم سيد مطاع: كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة، والأحنف بن قيس في البصرة. فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور: أما بعد، فإنك قاضي عمر بن الخطاب، وشيخ أهل البصرة، وسيد أهل اليمن، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى، فاغضب ص 452 له من القتل، والسلام. (الإمامة والسياسة 1 / 47) رد كعب بن سور على طلحة والزبير فكتب كعب بن سور إلى طلحة والزبير: أما بعد، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى والغير باللسان، فجاء أمر الغير فيه بالسيف، فإن يكن عثمان قتل ظالما فما لكما وله؟ وإن كان قتل مظلوما فغيركما أولى به، وإن كان أمره أشكل على من يشهده، فهو على من غاب عنه أشكل. (الإمامة والسياسة 1 / 48) كتابهما إلى الأحنف بن قيس وكتبا إلى الأحنف بن قيس: أما بعد، فإنك وافد عمر، وسيد مضر، وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام. (الإمامة والسياسة 1 / 48) رد الأحنف عليهما وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا أيديكم ثقة، والسلام. (الإمامة والسياسة 1 / 48) وقال في ص 318: كتابهما إلى المنذر بن ربيعة وكتبا إلى المنذر: أما بعد، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية، وسيد في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق، يقال كاد أو لحق، وقد قتل عثمان من أنت خير منه، وغضب له من هو خير منك، والسلام. ص 453 (الإمامة والسياسة 1 / 48) رد المنذر عليهما وكتب المنذر إليهما: أما بعد، فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلا أن أكون خيرا من أهل الشر، وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم، وبدا لكم هذا الرأي؟ فلما قرءا كتب القوم ساءهما ذلك وغضبا. (الإمامة والسياسة 1 / 48) وقال أيضا في ص 323: كتاب طلحة والزبير إلى أهل الأمصار وأصبح طلحة والزبير وبيت المال في أيديهما، والناس معهما، وبعثت عائشة: لا تحبسا عثمان بن حنيف ودعاه، ففعلا فخرج عثمان فمضى لطيته، وثار حكيم بن جبلة فيمن تبعه لنصرة ابن حنيف، وهو يقول: لست بأخيه إن لم أنصره، وجعل يشتم عائشة، وقالت عائشة: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، ونادوا من لم يكن من قتلة عثمان فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان، ولا نبدأ أحدا، فأنشب حكيم القتال: واقتتل الفريقان قتالا شديدا، وكان النصر لأصحاب عائشة. ثم كتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه: إنا خرجنا لوضع الحرب، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع، والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردنا عن ذلك، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم. وخالفنا شرارهم ونزاعهم، فردونا بالسلاح، وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتهم بالحق وحثتهم عليه، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة أمير المؤمنين، فخرجوا إلى مضاجعهم، فلم يفلت منهم مخبر إلا حرقوص بن زهير، والله سبحانه مقيده إن شاء الله، وكانوا كما وصف الله عز وجل، وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما ص 454 نهضنا به فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا، وقضينا الذي علينا. وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله، وكذا إلى أهل اليمامة وأهل المدينة. (تاريخ الطبري 5 / 181) كتاب معاوية إلى طلحة بن عبيد الله فكان كتاب طلحة: أما بعد، فإنك أقل قريش في قريش وترا، مع صباحة وجهك، وسماحة كفك، وفصاحة لسانك، فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفه وفضله، فسارع - رحمك الله - إلى ما تقلدك الرعية من أمرها، مما لا يسعك التخلف عنه، ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به، فقد أحكمت لك الأمر قبلي، والزبير فغير متقدم عليك بفضل، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام، والأمر من بعد للمتقدم له، سلك الله بك قصد المهتدين، ووهب لك رشد الموفقين، والسلام. كتاب معاوية إلى الزبير بن العوام وكتب إلى الزبير: أما بعد، فإنك الزبير بن العوام، ابن أبي خديجة، وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه وسلفه، وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث، فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع، كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين، وسبقت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة. واعلم يا أبا عبد الله أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي، فسارع - رحمك الله - إلى حقن الدماء، ولم الشعث، وجمع الكلمة، وصلاح ذات البين، قبل تفاقم الأمر، وانتشار الأمة، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار، عما قليل ينهار إن لم يرأب، فشمر لتأليف الأمة وابتغ إلى ربك سبيلا، فقد أحكمت الأمر من قبلي لك ولصاحبك على أن الأمر للمقدم، ثم لصاحبه من بعده، جعلك الله من أئمة الهدى ص 455 وبغاة الخير والتقوى، والسلام. ومنهم الفاضل المعاصر محمد رضا في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين (ص 79 ط دار الكتب العلمية - بيروت) قال: وفي أثناء تجهز أمير المؤمنين لمحاربة معاوية بلغه الخبر عن مكة بخروج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم على أمير المؤمنين وكان طلحة والزبير استأذناه في العمرة فأذن لهما، وروي أنه قال لهما: والله ما تريدان العمرة، وإنما تريدان الغدرة، وخوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة. واعترض بعضهم على أنه ترك طلحة والزبير حتى خرجا إلى مكة وأذن لهما في العمرة، فانضما إلى عائشة وأثارا الفتنة وكان الرأي أن يحبسهما. وأجيب بأنه ما كان يجوز له في يأن يحبسهما ولا في السياسة، أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الانسان بما لا يفعل وعلى ما يظن منه ويجوز أن لا يقع، وأما في السياسة فلأنه لو أظهر التهمة لهما وهما في أفاضل السابقين وجلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى ومن الطعن عليه ما هو معلوم، بأن يقال ليس من إمامته على ثقة فلذلك يتهم الرؤساء. فلما بلغ عليا خبر خروج عائشة وطلحة والزبير خطب الناس وقال: إن الله عز وجل جعل لظالم هذه الأمة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنجاة، فمن لم يسعه الحق أخذ الباطل. ألا وإن طلحة، والزبير، وعائشة قد تمالئوا على سخط إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا وأقتصر على ما بلغني عنهم. وقد كانت عائشة رضي الله عنها خرجت إلى مكة معتمرة قبل أن يقتل عثمان رضي الله عنه بعشرين يوما، ولما خرج ابن عباس على الحج كما أمره عثمان ليتلو على أهل مكة كتابه رضي الله عنه، مر بعائشة في الصلصل (بنواحي المدينة على سبعة ص 456 أميال منها) فقالت: يا بن عباس أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا (نشيطا) أن تخذل عن هذا الرجل (تعني عثمان) وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد جم، وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل (الخلافة بعد عثمان) يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر رضي الله عنه. فقال لها ابن عباس رضي الله عنه: يا أمه، لو حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا (يعني لو قتل عثمان لبايع الناس عليا) فقالت: إيها عنك! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك. فقد كانت عائشة رضي الله عنها تريد أن يخذل ابن عباس عن عثمان. وتود أن يلي الخلافة طلحة الذي كان شديدا على عثمان فتعود الخلافة تيمية كما كانت، وتكره أن يلي الخلافة علي. لكنها لما علمت أن الناس سيبايعونه إذا قتل عثمان خرجت إلى مكة، ولما خرجت من مكة تريد المدينة لقيها بسرف رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانية. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك (أي ليت السماء انطبقت على الأرض) ردوني، ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه. فقال لها: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا (عثمان) فقد كفر، وفي رواية (فقد فجر). قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا: وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب (وهو عبيد بن أبي سلمة): فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكسف شمسنا والقمر وقد بايع الناس ذا تدراء * يزيل الشبا ويقيم الصعر ص 457 ويلبس للحرب أثوابها * وما من وفي مثل من قد غدر ثم انصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه فاجتمع الناس حولها. خطبة عائشة في أهل مكة: خطبت عائشة رضي الله عنها فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس، ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادوا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا، لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، والثوب من درنه إذ ماصوه ما يماص الثوب بالماء استعداد عائشة لمحاربة أمير المؤمنين: بعد أن خطبت عائشة رضي الله عنها بمكة، قال عبد الله بن عامر الحضرمي وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب، فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤسهم. وكان أول ما تكلموا بالحجاز، وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقد م عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، وقدم عليهم يعلى بن أمية، وهو ابن منبه من اليمن، وكان عاملا لعثمان ومعه ستمائة بعير، وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، ولا يمنعون أنفسهم، انهضوا إلى هذه الغوغاء. وقال طلحة والزبير لعائشة: إن أطعتنا طلبنا بدم عثمان. قالت: وممن تطلبون دمه؟ قالا: إنهم قوم معروفون وإنهم بطانة علي. ورؤساء أصحابه. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد ص 458 كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي فيها صنائع، ولهم في طلحة هوى. قالوا: قبحك الله فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك، ثم تأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جوابا مقبولا. فاستقام الرأي على البصرة وقالوا لها: نترك المدينة، فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء، ونأتي بلدا مضيعا وسيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضنهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردناه، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد، فأجابتهم إلى ذلك. طلحة والزبير يكاتبان عظماء البصرة: قبل أن تسير عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، قال الزبير لعبد الله بن عامر: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة كلهم سيد مطاع، كعب بن سور في اليمن والمنذر بن ربيعة في ربيعة والأحنف بن قيس في البصرة. فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور: أما بعد، فإنك قاضي عمر بن الخطاب وشيخ أهل البصرة، وسيد أهل اليمن، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى، فاغضب له من القتل، والسلام. وكتبا إلى الأحنف بن قيس: أما بعد، فإنك وافد عمر وسيد مضر وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام. وكتبا إلى المنذر بن ربيع: أما بعد، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق، يقال كاد أو لحق، وقد قتل عثمان من أنت خير منه، وغضب له من هو خير منك، والسلام. ثلاثة كتب مختصرة تدعوهم إلى الانضمام إلى طلحة والزبير. فلما وصلت كتبهما، قام زياد بن مضر، والنعمان بن شوال وعزوان، فقالوا: ما لنا ولهذا الحي من قريش؟ أيريدون أن يخرجونا من الإسلام بعد أن دخلنا فيه، ويدخلونا في الشرك ص 459 بعد أن خرجنا منه؟ قتلوا عثمان وبايعوا عليا، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. الرد على الكتب: كتب كعب بن سور إلى طلحة والزبير: أما بعد، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى والغير باللسان ، فجاء أمر الغير فيه بالسيف. فإن يك عثمان قتل ظالما فما لكما له. وإن كان قتل مظلوما فغيركما أولى به. وإن كان أمره أشكل على من شهده، فهو على من غاب عنه أشكل. وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا. فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا في أيديكم ثقة، والسلام. وكتب المنذر: أما بعد فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلا أن أكون خيرا من أهل الشر وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم، وبدا لكم هذا الرأي؟ فلما قرأآ كتب القوم ساءهما ذلك وغضبا. دعوة ابن عمر إلى الانضمام إلى عائشة: ثم كلم طلحة ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إنه والله لرب حق ضيعناه وتركناه فلما حضر العذر قضينا بالحق وأخذنا بالحظ، إن عليا يرى إنفاذ بيعته، وإن معاوية لا يرى أن يبايع له، وإنا نرى أن نردها شورى، فإن سرت معنا ومع أم المؤمنين صلحت الأمور، وإلا فهي الهلكة. فقال ابن عمر: إن يكن قولكما حقا ففضلا ضيعت، وإن يكن باطلا فشر منه نجوت، واعلما أن بيت عائشة خير لها من هودجها، وأنتما بالمدينة خير لكما من البصرة، والذل خير لكما من السيف، ولن يقاتل عليا إلا من كان خيرا منه، وأما الشورى فقد والله كانت فقدم وأخرتما، ولن يردها ألا أولئك الذين حكموا فيها، فاكفياني أنفسكما. فانصرف طلحة والزبير، وكان الذي أشار عليهما بالكتابة إلى ص 460 عظماء البصرة ودعوة ابن عمر هو مروان، فلما رفض ابن عمر قال مروان لهما: استعينا عليه بحفصة. فأتيا حفصة فقالت: لو أطاعني أطاع عائشة. دعاه فاتركاه. لما عولت عائشة رضي الله عنها على المسير إلى البصرة للمطالبة بدم عثمان بناء على ما استقر عليه رأيهم، دعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم فأبى وقال: أنا في أهل المدينة أفعل ما يفعلون، فتركوه. وكان أزواج رسول الله معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى منادي عائشة: أن أم المؤمنين، وطلحة، والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين، والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز، فليأت. فحملوا ستمائة على ستمائة بعير، وساروا في 1000 وقيل: في 900 من أهل المدينة ومكة ولحقهم الناس فكانوا في 3000 رجل. ولندع عائشة رضي الله عنها ومسيرها إلى البصرة للمطالبة بثأر عثمان، ومعها من انضم إليها وطلحة والزبير لنرى الحالة بالمدينة. الحالة بالمدينة وخروج علي منها: بينما علي رضي الله عنه يستعد لقتال معاوية، ويدعوا أهل المدينة لقتال أهل الفرقة، بلغه خبر خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة للمطالبة بدم عثمان. فقال: إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين، وما كان عليهم في المقام فينا مئونة ولا إكراه، فاشتد الأمر على أهل المدينة فتثاقلوا. فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي (وقيل: بعث عمارا) فجاء به، فقال انهض معي. فقال: أنا مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم، وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لا أفارقهم، فإن يخرجوا أخرج، وإن يقعدوا أقعد. قال فاعطني زعيما بألا تخرج. قال: ولا أعطيك زعيما (كفيلا). قال: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتني، دعوه فأنا به ص 461 زعيم. فرجع عبد الله بن عمر إلى المدينة، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع؟ فإن هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضئ لنا ويسفر. فخرج من ليلته، وأخبر أم كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة، وأنه يخرج معتمرا مقيما على طاعة على ما خلا النهوض، وكان صدوقا فاستقر عندها. وأصبح علي فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشد عليك من طلحة والزبير، أم المؤمنين ومعاوية. قال: وما ذلك؟ قال: خرج ابن عمر إلى الشام. فأتى على السوق ودعا بالظهر (الدابة)، فحمل الرجال، وأعد لكل طريق طلابا، وماج أهل المدينة، وسمعت أم كلثوم بالذي هو فيه. فدعت ببغلتها فركبتها في رحل ثم أتت عليا وهو واقف في السوق يفرق الرجال في طلبه. فقالت: ما لك؟ لا تزند من هذا الرجل، إن هذا الأمر على خلاف ما بلغته، وحدثته. قالت: أنا ضامنة له. فطابت نفسه. وأتى عمار بن ياسر وكلم محمد بن سلمة الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص ليخرجا مع علي، فأبيا إلا الاعتزال كما أبى ابن عمر. فقال علي لعمار: دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحمود، وذنبي إلى محمد بن مسلمة، أني قتلت أخاه يوم خيبر، مرحب اليهودي. ولما رأى علي من أهل المدينة ما لم يرض طاعتهم حتى يكون معها نصرته، قام فيهم وجمع إليه وجوه أهل المدينة وقال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله. فقد رأيتم عواقب قضاء الله عز وجل على من مضى، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فأجابه رجلان من أعلام الأنصار أبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت، وليس بذي الشهادتين، فإن ذا الشهادتين مات في زمن عثمان بن عفان. وعن الشعبي قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة بدريين ما ص 462 لهم سابع، أو سبعة ما لهم ثامن (1)، وقال لعلي رضي الله عنه زياد بن حنظلة لما رأى تثاقل الناس عنه: من تثاقل عنك؟ فإنا نخف معك ونقاتل دونك. والسبب في تثاقل الناس عن النهوض مع علي رضي الله عنه أنهم علموا بانتقاض معاوية ومعه أهل الشام وقد تجهز لهم علي، ثم سمعوا بخروج عائشة ومعها طلحة والزبير للمطالبة بدم عثمان فهالهم الأمر، وقال أبو قتادة لعلي: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلدني هذا السيف، وقد شمته (أغمدته) فطال شيمه، وقد أنى (حان) تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لم يألوا الأمة غشا فإن أحببت أن تقدمني فقدمني، وقامت أم سلمة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا أمير المؤمنين ، لولا أن أعصى الله عز وجل، وإنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابني عمر والله لهو أعز علي من نفسي، يخرج معك فيشهد مشاهدك، فخرج معه فلم يزل معه، واستعمله على البحرين ثم عزله، واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. ولما بلغ عليا سير جيش عائشة إلى البصرة سار حتى نزل بذي قار وكان مسيره إليها ثماني ليال، ومعه جماعة من أهل المدينة. اختلاف رأي أصحاب عائشة فيمن يصلي بالناس ومن يولونه الأمر: لما خرجت عائشة ومن معها من مكة: أذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأوذن بالصلاة؟ فقال عبيد الله بن زبير: على أبي عبد الله - يعني أباه الزبير - وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد - يعني أباه طلحة - فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا؟ ليصل بالناس ابن أختي - تعني عبد الله بن الزبير - وقيل: بل صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل. فكان معاذ بن عبيد يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان (هامش) (1) قد مر قبيل هذا عن الذهبي في تاريخ الإسلام ج 3 ص 484 أنه قال: وقال المطلب ابن زياد، عن السدي: شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدريا وسبعمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله. (*) ص 463 الزبير يترك طلحة والأمر، ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر، وعلى ذلك كان طلحة والزبير يتنازعان الأمر. تبع عائشة رضي الله عنها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام فلم ير يوم كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم، فكان يسمى (يوم النحيب). فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها. فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ (يعني عائشة وطلحة والزبير) فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني، فلا نجعله لأحدنا: أينا اختاره الناس. قال بل تجعلونه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام؟! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف، فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد. وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع، فرجع. معلوم أن عائشة ومن معها خرجوا للمطالبة بدم عثمان لكنهم قبل أن يشتبكوا مع علي في قتال، وقبل أن يعرفوا على من تكون الدبرة اختلفوا فيمن يتولى الخلافة فيما إذا انتصروا، أو هزم علي رضي الله عنه. هذا وعائشة تندب الإسلام وتبكي وتبكي حتى علا النحيب. جمل عائشة رضي الله عنها: مضى القوم قاصدين البصرة، ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان. وأعطى يعلى بن منية عائشة جملا اسمه (عسكر) اشتراه بثمانين دينارا فركبته. وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة. قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب، فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحدا إلا أدركته، ولا طلبني وأنا عليه أحد إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده؟ لأم المؤمنين عائشة. فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه ص 464 فأعطوني ناقة مهرية، و400 درهم، وقالوا لي: يا أخا عرينة، هل لك دلالة بالطريق؟ قتل: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء. كلاب الحوأب: نقول: وقد ذكرنا نباح كلاب الحوأب فيما تقدم. الوصول إلى البصرة: ارتحل جيش عائشة رضي الله عنها حتى بلغوا البصرة فكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة ومكثت تنتظر الجواب بالحفير، ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان ابن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليسألا عائشة عن مسيرها، فقدما عليها وسألاها فقال: إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه آووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر. فاستحلوا الدم الحرام، وسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام. فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء، وما الناس فيه وراءنا، وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت (لا خير في كثير من نجواهم) الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به، ومنكر ننهاكم عنه. فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة، وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليا؟ فقال: بلى والسيف على عنقي، وقال الزبير مثل ذلك (1). (هامش) (1) قال الفاضل الدكتور دوايت. رونلدسن في عقيدة الشيعة تعريب ع. م (ص 48 ط مؤسسة المفيد - بيروت): ولما قدم القوم البصرة وعامل على عثمان بن حنيف فمنعهم من الدخول فقالا: لم نأت لحرب وإنما جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا إنهم لا يحدثون حدثا وإن كل فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته (*) ص 465 اختلاف أهل البصرة بشأن عائشة: عاد عمران بن حصين وأبو الأسود الدؤلي إلى عثمان بن حنيف وأخبراه بما سمعا من عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، وكان عثمان قد ولاه على البصرة، فاستشار عمران فقال له: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، وانصرف عمران إلى بيته، وقام عثمان في أمره. فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتق لا يرتق، وصدع لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس، وأمرهم بلبس السلاح. فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلا اسمه قيس بن العقدية الحميسي أن يندس ليرى رأي الناس فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان فأطيعوني، وردوهم من حيث جاءوا. فقام الأسود بن سريع السعدي فقال: أو (هامش) وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه وانتهبوا المال. فلما حضر وقت الصلاة نرى أن طلحة والزبير تنازعا وجذب كل واحد منهما صاحبه حتى فات وقت الصلاة وصاح الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد، ويذكر أن عائشة اقترحت أن يصلي كل منهما يوما فاصطلحوا على ذلك. ولما سار علي من المدينة إلى البصرة خرج معه أربعمائة راكب مع أصحاب رسول الله، فلما صار إلى أرض أسد وطئ تبعه منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار وبقي هناك حتى وافاه ستة آلاف رجل من الكوفة. فسار بهذا الجيش الكبير إلى البصرة. وكان على يسهل تمييزه بقلنسوته المصرية البيضاء، أما وصفه فيقول المسعودي: كان أسمر عظيم البطن أصلع أبيض الرأس واللحية أدعج عظيم العينين ليس بالطويل ولا بالقصير تملأ لحيته صدره ولا يغير شيبه. يكاد أن يتفق جميع الكتاب بأنه كان عظيم اللحية جدا قد ملأت ما بين منكبيه بيضاء كأنها قطن، ولا شك أنه كان قد بلغ من العمر ما يدعو إلى الاحترام، وكان الناس ينظرون إليه كواحد من أربعة أمر الله رسوله بمحبتهم. (*) ص 466 زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس (رجموه بالحصباء) فعرف عثمان أن لأصحاب عائشة بالبصرة ناصرا فكسره ذلك، فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد (محبس الإبل) فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها (وعلى ذلك كان قسم من أهل البصرة مع عائشة، وقسم مع عثمان بن حنيف، والى البصرة من قبل علي رضي الله عنه). فاجتمع القوم بالمربد فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد، وعثمان بن حنيف في ميسرته. فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله، وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك والزبير. فقال: من في مدينة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا عليا ثم جاءا يقولان. وعند ذلك تحاصب الفريقان وأثاروا الغبار. ثم تكلمت عائشة رضي الله عنها، وكانت جهورية الصوت. فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشروننا فيما يخبروننا عنهم فننظر في ذلك فنجده بريئا تقيا وفيا، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا، كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا غدر. الا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) الآية. ولما سمع أصحاب عثمان خطبة عائشة افترقوا فرقتين. فرقة قالت: صدقت وبرت. وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به. فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد مع موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان. ص 467 الاعتراض على خروج عائشة رضي الله عنها: أقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين، والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح. إنه قد كان لك من الله ستر، وحرمة فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك يرى قتلك، لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس. الاعتراض على طلحة والزبير: وخرج شاب من بني سعد (لا أدري ما اسمه) إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك وأرى أمكما (عائشة) معكما، فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكما في شيء؟ واعتزل. وقال السعدي في ذلك. صنتم حلائلكم وقدتم أمكم * هذا لعمرك قلة الإنصاف أمرت بجر ذيولها في بيتها * فهوت تشق البيد بالإيجاف غرضا يقاتل دونها أبناؤها * بالنبل والخطى والأسياف هتكت بطلحة والزبير ستورها * هذا المخبر عنهم والكافي السؤال عن قتلة عثمان: وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة، وكان محمد رجلا عابدا. فقال أخبرني عن قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال: نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج (يعني عائشة)، وثلث على صاحب الجمل الأحمر (يعني طلحة)، وثلث على علي بن أبي طالب فضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال، ولحق لعلي وقال في ذلك شعرا: سألت ابن طلحة عن هالك * بجوف المدينة لم يقبر فقال ثلاثة رهط هم * أماتوا ابن عفان واستعبر فثلث على تلك في خدرها * وثلث على راكب الأحمر ص 468 وثلث على ابن أبي طالب * ونحن بدوية قرقر فقلت: صدقت على الأولين * وأخطأت في الثالث الأزهر فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة باردة ذات رياح وندى، ثم قصدا المسجد، فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها فأبطأ عثمان بن حنيف، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، ثم اقتتلوا في المسجد وأخرجوا عثمان ونتفوا شعره. فلما بلغ عائشة الخبر أمرت بإخلاء سبيله. وعن سهل بن سعد قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره. قالت: اقتلوه. فقالت امرأة: نشدتك الله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ردوا أبانا فقالت: احبسوه ولا تقتلوه قال: لو علمت أنك تدعيني لهذا الأمر لم أرجع، فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه، وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أربعين سوطا ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. إلى أن قال في ص 100: قال ابن الأثير: وقيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير، لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنها الخالص زيد ابن صوحان: أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس على علي. فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت ورجعت إلى بيتك، وإلا فأنا أول من نابذك. وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما ص 469 أمرت به، وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه. وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف. فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا، وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فاكتب إليه، فاعلم ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه. فوقفوا عنه فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظفروا به وأرادوا قتله، ثم خشوا غضب الأنصار (لأنه أنصاري)، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة (من إثم). إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان، فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه. فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان، وأظهر عيب علي، ورماه بقتل عثمان. دفاع رجل من عبد القيس عن علي رضي الله عنه: بعد أن قال طلحة والزبير ما قالا، قام رجل من عبد القيس. فقال للزبير: أنصت حتى نتكلم: يا معشر المهاجرين، أنتم أول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لكم بذلك فضل، ثم دخل الناس في الإسلام، ولم تستأمرونا في شيء من ذلك فجعل الله للمسلمين في أمارته بركة. ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلمنا. فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان، وبايعتموه عن غير مشورة منا، ثم أنكرتم منه شيئا فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم عليا عن غير مشورة منا. فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفئ أو عمل بغير الحق، أو أتى شيئا تنكرونه فتكون معكم عليه. وإلا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل فقام من دونه عشيرته، وفي الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه فقتلوا سبعين رجلا. حكيم بن جبلة يقاتل ثم يقتل: (25 ربيع الآخر سنة 36) ص 470 بلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره فجاء في جماعة من عبد القيس، ومن تبعه من ربيعة، وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يوزعه على أصحابه. فقال له عبد الله: ما لك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلوا عثمان، فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي. وأيم الله لو أجد أعوانا عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا حلال بمن قتلتم. أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان. قال: فالذين قتلتم قتلوا عثمان؟ أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع عليا، فقال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف. وتقدم فقاتلهم فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة. اللهم لا تبق منهم أحدا. فاقتتلوا قتالا شديدا. ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلاثمائة، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول: أضربهم باليابس * ضرب غلام عابس من الحياة آيس * في الغرفات نافس فضرب رجل رجله فقطعها فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال: يا ساقي لن تراعي * إن معي ذراعي * أحمي بها كراعي وقال: ليس علي أن أموت عار * والعار في الناس هو الفرار ص 471 والمجد لا يفضحه الدمار فأتى عليه رجل وهو جريح رأسه على آخر. فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت. قال من قتلك؟ قال وسادتي. فاحتمله فضمه في سبعين من أصحابه فتكلم يومئذ حكيم، وإنه لقائم على رجل وإن السيوف لتأخذهم فما يتعتع ويقول: إنا خلفنا هذين وقد بايعا عليا وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان بن عفان ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجوار. اللهم إنهما لم يريدا عثمان. لقد أبدى حكيم منتهى الشجاعة في الدفاع عن علي رضي الله عنه، وخاف أن يموت بجراحه قبل أن يقول كلمته، وقد اعتبر طلحة والزبير مخالفين ومفرقين. فنادى مناد: يا خبيث جزعت حين عضك نكال الله عز وجل إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم من الجماعة، وأصببتم من الدماء، ونلتم من الدنيا، فذق وبال الله عز وجل وانتقامه. وحكيم بن جبلة هذا كان رجلا صالحا في قومه وهو الذي بعثه عثمان على السند فنزلها، ثم قدم عليه فسأله عنها فقال: ماؤها وشل (قليل) ولصها بطل، وسهلها جبل، إن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا. فلم يوجه عثمان رضي الله عنه أحدا حتى قتل، قيل قتله يزيد بن الأسحم الحراني. قيل ليس يعرف في جاهلية ولا إسلام رجل فعل مثل فعله. قتلى الموقعة: قتل حكيم وذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فلجئوا إلى قومهم، ونادى منادي طلحة والزبير بالبصرة: ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجئ بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا، فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا إلا حرقوص بن زهير، ثم كتب طلحة والزبير إلى أهل الشام بما تم، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان بهم، وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن علي، وحثتهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما ص 472 كان منهم وسيرت الكتب، وبايع أهل البصرة طلحة والزبير، ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال ما شئتم، أما إن سهل بن حنيف وال على المدينة، فإن قتلتموني انتصر فخلوا سبيله. إلى أن قال في ص 107: أمر علي على المدينة تمام بن العباس، وبعث إلى مكة قثم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق، وأراد أن يعترضهم فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه، وجاء بالخبر عطاء بن رئاب مولى الحارث بن حزن، وقيل: خرج علي يبادرهم في تعبئته التي كان تعبى بها إلى الشام، وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في 700 رجل وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها، فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها، ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فسبوه فقال: دعوا الرجل فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وسار حتى انتهى إلى الربذة. وكتب علي رضي الله عنه لما كان بالربذة كتابا إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم وحبكم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق وقضى الله عليه. وأتته جماعة من طئ منهم من يريد الخروج معه ومنهم من يريد التسليم عليه فقال: جزى الله كلا خيرا، فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. ثم دخلوا عليه فقال: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. قال: جزاكم الله خيرا، فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. خطبة سعيد بن عبيد الطائي: نهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين، إن من يعبر لسانه ص 473 عما في قلبه، وإني والله ما كل أجد في قلبي يعبر عنه لساني، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى لك من الحق ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال علي: رحمك الله قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. وسرح رضي الله عنه من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق، وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه. فمضى الرجلان وبقي على بالربذة يتهيأ وأرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس وخطبهم. خطبة علي بالربذة: إن الله عز وجل أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخوانا بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد فجرى الناس على ذلك ما شاء الله. الإسلام دينهم، والحق فيهم، والكتاب إمامهم حتى أصيب هذا الرجل (عثمان) بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة. إلا أن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم. فنعوذ بالله من شر ما هو كائن أن يكون. ألا وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، واتبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله جل وعز ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرآن حكما وإماما. إن عليا رضي الله عنه كان من فحول العلماء وخطيبا مفوها وقد توقع افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وحض المسلمين على التمسك بالكتاب والسنة. ص 474 بعد ذلك خرج أمير المؤمنين من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر الجراح والراية مع محمد بن الحنفية، وعلى الميمنة عبد الله بن عباس، وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وخرج وهو في 760. واستأذن الأشتر أن يبعثه أمير المؤمنين إلى الكوفة لأنه يرجو أن لا يخالفه أحد منهم، فقال له علي الحق بهم، وكان علي أرسل ابنه الحسن قبل الأشتر، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم ويقول اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس فدخله وأبو موسى في المسجد يخاطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك وتنح عن منبرنا، وعمار ينازعه. فأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى، قد دخل الأشتر القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج لا أم لك، أخرج الله نفسك. فقال أجلني هذه العشية. فقال هي لك ولا تبين في القصر الليلة، ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر. وقال: أنا له جار فكفوا عنه. وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. وأقبلت القبائل على علي بذي قار في ناس معهم فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: خطبة على في أهل الكوفة: يا أهل الكوفة. أنتم قاتلتم ملوك العجم، وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوهم. وقد دعوتكم لتشهدوا معنا أخواننا من أهل البصرة. فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بظلم ولم ندع أمرا فيه إصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله. إرسال القعقاع لمفاوضة عائشة (1): (هامش) (1) قال الفاضل المعاصر ظافر القاسمي في الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام (ص 472 ط دار العلم للملايين - بيروت): وفي حوادث سنة (36 ه) عند الطبري، خلال البحث عن (نزول أمير المؤمنين = (*) ص 475 ثم دعا أمير المؤمنين القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال الق هذين الرجلين (طلحة والزبير). - وكان القعقاع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما التفرقة. فلم يكن علي رضي الله عنه يبغي حربا، بل كان يدعو إلى الألفة والجماعة، وقد صرح بذلك مرارا، وكانت هذه دعوته إلى رسله. خرج القعقاع بناء على أمر أمير المؤمنين حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها. فسلم عليها وقال: أي أمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني الإصلاح بين الناس. قال فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا. فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح بين الناس. فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا متابعان. قال فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا يصلح، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، قال قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم. قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة (هامش) = ذا قار) أي: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه: دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال له: إلق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية - وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما، مما ليس عندك فيه وصاة مني؟ فقال: نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي، اجتهدنا الرأي، وكلمناهم على قدر ما نسمع، ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. ا ه. وقال الفاضل المعاصر محمود شلبي في حياة الإمام علي عليه السلام (ص 422 ط دار الجيل في بيروت): فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة - فذكر القصة مفصلا. (*) ص 476 آلاف. فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر، أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. قالت عائشة فماذا تقول أنت؟ قال أقول إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا. فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر. وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المآل. فآثروا العافية، ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا، وإياكم. وأيم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل. قالوا: قد أصبت وأحسنت، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو علي حين نزل ذي قار. فجاء وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال. فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة، وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم سأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى تمثل له: ألا أبلغ بني بكر رسولا * فليس إلى بني كعب سبيل سيرجع ظلمكم منكم عليكم * طويل الساعدين له فضول وتمثل علي عندها: ص 477 ألم تعلم أبا سمعان أنا * نرد الشيخ مثلك ذا الصداع ويذهل عقله بالحرب حتى * يقوم فيستجيب لغير داع فدافع عن خزاعة جمع بكر * وما بك يا سراقة من دفاع انهزام أصحاب الجمل: خندق طلحة والزبير وخرج صبيان العسكرين فتسابوا ثم تراموا ثم تتابع عبيد العسكرين والسفهاء ونشبت الحرب وألجأتهم إلى الخندق فاقتتلوا عليه حتى أقبلا إلى موضع القتال فدخل منه أصحاب علي وخرج الآخرون ونادى علي: ألا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور ونهى الناس، ثم بعث إليهم أن اخرجوا للبيعة فبايعهم على الرايات. وكان جيش علي 12000 وهم الذين قدم بهم البصرة. وسأل مالك بن حبيب عليا. فقال له: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أن الإصلاح، الكف عن هذا الأمر. فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلا القتال فصدع لا يلتئم. قال فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه، وقام علي فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس املكوا أنفسكم وكفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم واصبروا على ما يأتيكم، وإياكم أن تسبقونا، فإن المخصوم غدا من خصم اليوم. ولما التقى علي رضي الله عنه بطلحة قال له طلحة يبرر خروجه عليه: قد ألبت الناس على عثمان رضي الله عنه. قال علي: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) يا طلحة، تطلب بدم عثمان رضي الله عنه، فلعن الله قتلة عثمان، يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس به زهو ولتقاتلنه وأنت له ظالم؟ فقال: اللهم نعم، ولو ذكرت ص 478 ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدا، فانصرف علي إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. وقيل: قال علي: يا زبير ارجع، فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان؟ هذا والله العار الذي لا يغسل. فقال: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار، فرجع الزبير يقول: اخترت عارا على نار مؤججة * ما إن يقول لها خلق من الطين نادى علي بأمر لست أجهله * عار لعمرك في الدنيا وفي الدين فقلت حسبك من عدل أبا حسن * فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني فقال ابنه عبد الله: جمعت بين هذين العارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟ أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد (يريد أنه خافهم) قال: إني قد حلفت ألا أقاتله وأحفظه ما قال له. فقال كفر عن يمينك وقاتله. فدعا بغلام له يقال له (مكحول) فأعتقه. فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي: لم أر كاليوم أخا إخوان * أعجب من مكفر الأيمان بالعتق في معصية الرحمن وقال رجل من شعرائهم: يعتق مكحولا يصون دينه * كفارة لله عن يمينه والنكث قد لاح على جبينه وقيل إنما عاد الزبير عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر مع علي فخاف أن يقتل عمارا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمار تقتلك الفئة الباغية فرده ابنه عبد الله ص 479 كما ذكر. افترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال، منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما، وكان أصحاب علي عشرين ألفا. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله أن يصلح بك. فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت وهي على الجمل بحيث تسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار بن ياسر فجعل يحوزه بالرمح. والزبير كاف عنه ويقول: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول: لا يا عبد الله، وإنما كف الزبير عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتل عمارا الفئة الباغية. ولولا ذلك لقتله. وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجة شديدة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو شر؟ قالوا: بشر. فما فاجأها إلا الهزيمة، فمضى الزبير من وجهه إلى وادي السباع. وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيرا لما ذكر له علي. وأما طلحة فأتاه سهم غرب فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي: إلى عباد الله الصبر الصبر. فقال له القعقاع بن عمرو: يا أبا محمد، إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل، فادخل البيوت، فدخل ودمه يسيل وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى يرضى. فلما امتلأ خفه دما وثقل، قال لغلامه: اردفني وأمسكني وأبلغني مكانا أنزل فيه. فدخل البصرة فأنزل في دار خربة فمات فيها. وقيل: إنه اجتاز به رجل من أصحاب علي فقال له أنت من أصحاب أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: أمدد يدك أبايعك له. فبايعه فخاف أن يموت وليس في عنقه بيعة. ولما قضى دفن في بني سعد وقال لهم لم أر شيخا أضيع دما مني. وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير: فإن تكن الحوادث أقصدتني * وأخطأهن سهمي حين أرمي ص 480 فقد ضيعت حين تبعت سهما * سفاهة ما سفهت وصل حلمي ندمت ندامة الكسعي لما * شريت رضا بنى سهم برغمي أطعتهم بفرقة آل لأي * فألقوا للسباع دمي ولحمي وكان الذي رمى طلحة مروان بن الحكم وقيل غيره. وزعم بعض أهل العلم أن عليا دعا طلحة فذكره أشياء من سوابقه على ما قال للزبير فرجع عن قتاله واعتزل في بعض الصفوف فرمي بسهم في رجله، وقال مروان بعد ذلك: لا أطلب بثأري بعد اليوم والتفت إلى أبان بن عثمان فقال: قد كفيت بعض قتلة أبيك، وكان طلحة شديدا على عثمان ولذلك قال: ندمت ندامة الكسعي. وكان عمره حين قتل ستين سنة (1). (هامش) (1) قال الحافظ عبد الرزاق الصنعاني المولود سنة 126 والمتوفى سنة 211 في كتابه المصنف (ص 241): أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: لما ولي الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولي. قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيهما في سقيفة بني ساعدة فقال: أتحبه يا زبير؟ فقال: وما يمنعني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف أنت إذا قاتلته وأنت ظالم له؟ قال: فيرون أنه إنما ولي لذلك. وقال العلامة أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي القيرواني المغربي المالكي المولود سنة 251 والمتوفى سنة 333 في كتابه المحن (ص 95 ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1403): وحدثني يحيى بن محمد بن يحيى بن سلام، عن أبيه، عن جده، عن شريك بن عبد الله، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن قال: قال رجل للزبير: أقتل عليا. قال: كيف تقتله؟ قال: أخبره أني منه ثم أقتله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتله مؤمن. وحدثني محمد بن علي بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن علي الدعشي، عن = (*) ص 481 (هامش) = إسماعيل بن أبان، عن يزيد بن أبي زياد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: سمعت عليا يقول يوم الجمل: أين الزبير؟ فجعلت أكلل الدواب حتى نظرت إليهما قد اختلفت أعناق دابتيهما وعلي يقول له: أتذكر؟ أتذكر؟ فانصرف الزبير راجعا فقال طلحة: ما شأنه؟ فأخبروه، فركب يشيعه فرماه مروان بن الحكم فقتله. وقال الفاضل المعاصر مأمون غريب المصري القاهري في خلافة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 84 ط مكتبة غريب في القاهرة) قال: أمام مخيلاتهم ما أكثر الأفكار التي كانت تتزاحم في رؤوس المتحاربين، فالزبير كما يروي بعض الرواة قد شعر بالأحزان تملأ قلبه، عندما علم أن عمار بن ياسر من أتباع علي، وأنه قدم معه، لقد دارت في رأسه الأفكار والهواجس، فقد سمع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له ذات يوم: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية. وسمية هي أم عمار بن ياسر وكانت أول شهيد في الإسلام، فماذا لو قتل عمار؟ إن معنى ذلك أن الفئة الباغية قتلته، وهو في الفئة التي تحارب ضده. ومهما كانت الظروف التي دفعت الزبير إلى التورط في هذه الفتنة، فقد كان الرجل محبا لرسول الله تقيا، لا يريد أن يكون من الفئة الباغية، ومن هنا كان موقفه من علي ابن أبي طالب، عندما انسحب من المعركة، مؤثرا سلامة دينه، فقد ناداه علي بن أبي طالب من بين الصفوف ليحادثه، وقد خرج الإمام بلا سلاح، وعندما تقابل الرجلان تعانقا! وعاتبه الإمام وسأله: ما الذي أخرجك؟ - دم عثمان. وهنا ذكره الإمام بتلك القصة التي حدثت بينهما ذات يوم، قال له: أما تذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني بياضة وهو راكب حماره، فضحك إلى رسول الله، وضحكت أنت معه، فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه. فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: إني والله لأحبه. فقال لك: إنك والله ستقاتله وأنت له ظالم، وتذكر الزبير هذه الحادثة فقال للإمام: أستغفر الله، لو ذكرتها ما خرجت، وطلب منه الإمام الرجوع، ولكن الزبير سأل الإمام كيف يرجع = (*) ص 482 (هامش) = والجيشان على أهبة القتال، وأي عار سوف يلحقه لو انسحب، فقال له الإمام: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار، وقرر الزبير أن يترك ميدان القتال، وانسحب عندما قامت المعركة حيث اغتيل في وادي السباع. واضح إذن أن الثائرين في موقفهم هذا كانت تتفاعل في نفوسهم مشاعر متباينة حتى أم المؤمنين عائشة هي الأخرى قد انتابتها هذه المشاعر المتباينة، وأصابها الفزع وهي في طريقها إلى البصرة.. فقد رأت ماء، وسمعت الكلاب تنبح، وعندما سألت عن هذا المكان.. قالوا لها أنه ماء الحوأب. لقد تذكرت حديث الرسول الكريم يوم قال النبي لنسائه في إيثار: ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب. وقال الفاضل المعاصر جميل إبراهيم حبيب البغدادي في سيرة الزبير بن العوام (ص 142 ط الدار العربية للموسوعات): وفي كتاب وقعة الجمل نفسه للغلابي البصري جاء في صدد اللقاء بين علي وطلحة ولقى علي عليه السلام في حملته طلحة فقال: يا أبا محمد ما أخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان، فقال علي: قتل الله قاتل عثمان، أما تذكر يا أبا محمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال طلحة: أستغفر الله، لو ذكرتها ما خرجت. فرجع - يعني طلحة - فقال مروان: فلما رأيت طلحة قد رجع قلت: ما أبالي أرميت بسهمي هاهنا أم هاهنا، فرميت طلحة فأصبت أكحله فقتلته. جاء تاريخ خليفة بن خياط: في رواية منسوبة إلى علي بن عاصم قال: حدثنا حصين قال: حدثني عمر بن جلوان قال سمعت الأحنف بن قيس قال: لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبيد الله. وعن يحيى بن سعيد عن عمه قال: رمى مروان طلحة بن عبيد الله بسهم، ثم التفت إلى أبان بن عثمان فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك. وعن يحيى بن سعيد - كذلك - قال: قال طلحة: ندمت ندامة الكسعي لما * شربت رضى بني جرم برغمي = (*) ص 483 (هامش) = اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. وفي رواية: عن الأحنف قال: لما انحاز الزبير، فقتله عمرو بن جرموز بوادي السباع. وفي رواية جامعة لمقتل كل من طلحة والزبير: عن يحيى بن سعيد، عن عمه أن مروان رمى طلحة بسهم فقتله وانحدر الزبير منصرفا، فقتل بوادي السباع، قتله عمير ابن جرموز المجاشعي. يذكر العاملي أنه: خرج الزبير في أحد الأيام للمبارزة، فذهب علي إليه بنفسه وقابله وناداه ونادى طلحة وذكرهما بالله في حقن الدماء وإيقاف القتال، فبدأ بطلحة ثم تكلم مع الزبير. وجاء في كتاب وقعة الجمل للغلابي البصري: فخرج علي فركب فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتجز ولم يأخذ معه سلاحا ولا سيفا ولا رمحا فنادى: يا طلحة يا زبير، أخرجا إلي، فلم يخرجا، فنادى: يا زبير، أخرج إلي، فخرج وهو شاك في السلاح.. الخ. وتنتهي المحاورة بينهما بالعناق الحار والتفاهم التام والرجوع عن الحرب والرواية مشهورة تأخذ بها كل الكتب الأساسية في التاريخ. ونفس الرواية يقررها الأستاذ العاملي - ولعلها الأقرب إلى الصواب - كما يرى ذلك: أن عليا التقى بالزبير وحده في الميدان بعد ما دعاه مرارا مناديا: يا أبا عبد الله، وكان علي حاسرا والزبير دارع مدجج، فجرى بينهما كلام، بدأ فيه الإمام أول ما بدأ بتذكير الزبير بن العوام بحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: تقاتله وأنت له ظالم، فيجيب الزبير عليا صحيح ولكني نسيت أو بمعنى لو تذكرت ما جئت. ويقال إنه قال له قبل أن ينصرف فإني لا أقاتلك، ثم انصرف. إلى أن قال في ص 144: وانتفض الجمع، وعاد الزبير أدراجه وهو عازم على العودة إلى المدينة، فتصدى له ولده عبد الله ومنعه، الخ، لكن الزبير قرر في النهاية العودة إلى المدينة والكف عن القتال وفاء لما جرى بينه وبين الإمام علي من شروط. = (*) ص 484 (هامش) = والرواية هنا تأتي بشكل آخر في كتاب أسد الغابة كما يلي: وشهد الزبير الجمل مقاتلا فناداه علي فانفرد به، وقال له: أتذكر إذ كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلي وضحك وضحكت فقلت أنت لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال صلى الله عليه وسلم ولتقاتلنه وأنت له ظالم، فذكر الزبير ذلك وانصرف عن القتال. وهناك مصادر أخرى تقول: إنه لما التقيا مع بعض تعانقا ثم تحاورا فكان من جملة ما دار كلامهما تذكير علي الزبير بالحديث الذي مر ذكره، وبعد ذلك انصرف الإمام علي إلى أصحابه وهو يحمل إليهم البشرى باعتزال أحد أكبر قادة جيشهم من المعركة وهو الزبير بن العوام، فقال لهم: أما الزبير فقد أعطى عهدا أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. ثم ذكر لهم عن عزمه بالخروج من المعركة وانسحابه منها وذهابه إلى المدينة لكن ابنه عبد الله أخذ يلح عليه في البقاء والثبات متهما إياه بالخوف والجبن، من رايات ابن أبي طالب، ولأجل أن يدفع الزبير تهمة الجبن عن نفسه، انصل اسنان رمحه وحمل على عسكر علي برمح لا سنان له، فقال علي: أفرجوا له، فإنه محرج ثم حمل ثانية ثم قال لابنه: أجبنا؟ ويلك ترى؟ فقال: لقد أعذرت، فأنشد الزبير أثر ذلك وكان شاعرا: نادى علي بأمر لست أنكره * وكان عمر أبيك الخير منذ حين فقلت حسبك من عذلي أبا حسن * فإن بعض الذي قلت اليوم يكفيني ترك الأمور التي تخشى مغبتها * لله أمثل في الدنيا وفي الدين فاخترت عارا على نار مؤججة * أنى يقوم لها خلق من الطين وخرج الزبير بعد دلك من ساحة المعركة، وأخذ يسير مسرعا باتجاه المدينة، فنزل بوادي السباع، وقام يصلي، فأتاه ابن جرموز، وكان يتبعه، فقتله، وجاء بسيفه إلى علي، فقال علي رضي الله عنه: إن هذا سيف طالما فرج الكرب عن رسول الله، ثم قال علي قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن جرموز: بشر قاتل ابن صفية بالنار. = (*) ص 485 إلى أن قال: وأما الزبير فإنه مر بعسكر الأحنف بن قيس فقال: والله ما هذا انحياز، جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضا ثم لحق ببيته. وقال الأحنف: من يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه أنا، فاتبعه. فلما لحقه نظر إليه الزبير. فقال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. فقال غلام الزبير اسمه عطية: إنه معد. قال: ما يهولك من رجل، وحضرت الصلاة، فقال ابن جرموز: الصلاة. فلما نزلا وسجد الزبير استدبره ابن جرموز فطعنه بالسيف حتى قتله وأخذ فرسه وسلاحه وخاتمه وخلى عن الغلام، فدفنه بوادي السباع ورجع إلى الناس بالخبر. وقال الأحنف لابن جرموز: والله ما أدري أحسنت أم أسأت؟ فأتى ابن جرموز عليا فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير، فقال علي ائذن له، وبشره بالنار، وأحضر سيف الزبير عند علي، فأخذه فنظر إليه، وقال: طالما خلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى عائشة. وكان قتل الزبير لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 36 ه. وقيل: إن ابن جرموز استأذن على علي، فلم يأذن له وقال: بشره بالنار، فقال: أتيت عليا برأس الزبير * أرجو لديه به الزلفة فبشر بالنار إذ جئته * فبئس البشارة والتحفة (هامش) = وقال الفاضلان عبد مهنا وسمير جابر في أخبار النساء في العقد الفريد (ص 151 ط دار الكتب العلمية - بيروت): قال أبو الحسين: لما انحاز الزبير يوم الجمل، مر بماء لبني تميم، فقيل للأحنف بن قيس: هذا الزبير قد أقبل. قال: وما أصنع به أن جمع بين هذين الغزيين وترك الناس وأقبل؟ - يريد بالغزيين: المعسكرين - وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي، فلما سمع كلامه قام من مجلسه وأتبعه حتى - فذكر مثل ما تقدم. (*) ص 486 وسيان عندي قتل الزبير * وضرطة بذي الجحفة وقيل: إن الزبير لما فارق الحرب وبلغ سفوان أتى انسان إلى الأحنف بن قيس فقال: هذا الزبير قد لقي بسفوان. فقال الأحنف: ما شاء الله كان، قد جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف، ثم يلحق ببيته وأهله. فسمعه ابن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع بن غواة من تميم فركبوا، فأتاه ابن جرموز من خلفه فطعنه طعنة خفيفة وحمل عليه الزبير وهو على فرس له يقال له (ذو الخمار) حتى إذا ظن أنه قاتله نادى صاحبيه فحملوا عليه فقتلوه. وكان عمره لما قتل سبعا وستين سنة، وقيل أكثر. وقد رثته الشعراء وذكرت غدر ابن جرموز به، وممن رثاه زوجته عاتكة بنت زيد ابن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد، فقالت: غدر ابن جرموز بفارس تهمة * يوم اللقاء وكان غير معدد يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد هبلتك أمك إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد ما إن رأيت ولا سمعت يمثله * فيمن مضى ممن يروح ويغتدي كان أو من قتل طلحة وقتل الزبير وهما من كبار الصحابة، وكان قتلهما خسارة كبيرة، وقد أسف عليهما علي رضي الله عنه أسفا شديدا. احتدم القتال، وانجلت الوقعة عن انهزام أصحاب الجمل. فلما كانت الهزيمة قالت عائشة لكعب بن سور: خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه وناولته مصحفا، فاستقبل القوم فأصابه سهم فقتل، ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي البقية البقية يا بني، ويعلو صوتها كثرة: الله أكبر، الله أكبر، اذكروا الله والحساب ، فأبوا إلا إقداما. فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو وضج الناس بالدعاء. فسمع علي فقال ما هذه الضجة؟ قالوا عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال علي: اللهم العن قتلة ص 487 عثمان، وحمل علي بنفسه وقاتل حتى اثنى سيفه. احتدام القتال: لما رأت عائشة رضي الله عنها أن الناس لا يكفون عن القتال، وأنهم يريدونها، أرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أثبتا مكانكما وحرضت الناس فحملت مضر البصرة، حتى قصفت مضر الكوفة، حتى زحم علي. فنخس قفا ابنه محمد، وكانت الراية معه، وقال له أحمل. فتقدم حتى لم يجد متقدما إلا على سنان رمح لشدة التزاحم، فأخذ علي الراية من يده. وقال: يا بني بين يدي، وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا أمام الجمل حتى خرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا ومع علي قوم من غير مضر منهم زيد بن صوحان فأصيب هو وأخوه، واشتد القتال، فما رؤى وقعة كانت أعظم منها من قبلها ولا بعدها أكثر ذراعا مقطوعة، ولا رجلا مقطوعة وعائشة تحرض جيشها على القتال وصار مجنبتا علي إلى القلب، وصار كلما أخذ الخطام أحد قتل، وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل، وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته، وهو أزدى، وجرح مروان بن الحكم وجرح عبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية (1). (هامش) (1) قال الفاضل الأمير أحمد حسين بهادر خان الحنفي البريانوي الهندي في كتابه تاريخ الأحمدي (ص 182 ط بيروت سنة 1408): وفي تاريخ أبي الفداء ، قال علي: اعقروا الجمل فضربه رجل فسقط فبقيت عائشة في هودجها إلى الليل وأدخلها محمد بن أبي بكر أخوها إلى البصرة وأنزلها في دار عبد الله بن خلف. وقال الفاضل المعاصر حسن كامل الملتاوي في كتابه رسول الله في القرآن (ص 340 ط دار المعارف - القاهرة): وروى الطبري: ونادى علي أن اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل = (*) ص 488 (هامش) = فسقط، فما سمع صوت أشد من عجيج الجمل. ولما احتملت السيدة عائشة رضي الله عنها بهودجها أمر الإمام بالجمل أن يحرق ثم يذر في الريح، وقال: لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثم قرأ كرم الله وجهه: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا). وتفرق الناس بعد موت الجمل، فنادى منادي أمير المؤمنين: ألا يجهز على جريح ، وألا يتبع مول ، وألا يطعن مدبر ، ولا يستحلن فرج ولا مال . ولما استشار سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الأسرى الذين وقعوا في أيديهم وقال له: أقتل هؤلاء الأسرى يا أمير المؤمنين؟ قال الإمام: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع، فبايع الأسرى وأخلى سبيلهم. ولما قال له أنصاره: ما لنا في هؤلاء الناس، أجابهم: لكم ما في عسكرهم وعلى نسائهم العدة (أي نساء القتلى)، وما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله. فقال له أنصاره: يا أمير المؤمنين كيف تحل لنا أموالهم ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم؟ فقال: لا يحل ذلك لكم، فلما أكثروا عليه قال: اقترعوا هاتوا بسهامكم، أيكم يأخذ أمكم عائشة في سهمه. فقالوا: نستغفر الله، فقال: وأنا أستغفر الله. وقال الحافظ الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 في فاكهة الصيف وأنيس الضيف (ص 266 ط مكتبة ابن سينا بالقاهرة): علي بن أبي طالب هو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ويكنى أبا الحسن، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ولم تكن الخلافة لمن كان أبواه هاشميين غير علي وولده الحسن ومحمد الأمين بن زبيدة. بويع له بالخلافة يوم قتل عثمان رضي الله عنه فولى مصر سعد بن قيس وفي السنة السادسة والثلاثين سار الزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله إلى مكة ونكثا بيعة علي وأظهرا أنهما يطلبان دم عثمان فكان عائشة بمكة فلما بلغها قتل عثمان ألبت الناس على علي، ودعتهم إلى أخذ ثأر عثمان، ثم سارت عائشة وطلحة والزبير من مكة قاصدين البصرة في جيش كثيف فاستولوا عليها، ونهبوا بيت مالها فسار إليهم علي في جمع عشرين ألفا ومع عائشة وطلحة والزبير ثلاثون ألفا = (*) ص 489 (هامش) = فالتقيا بالبصرة يوم الخميس عاشر جمادى الأول [كذا] فقتل طلحة وهو عائد دون قتال رماه مروان بن الحكم بسهم فقتله وهو ابن أربعة وستين سنة وانهزم الزبير وأصحاب عائشة بعد أن قتل من الفريقين ما ينيف عن ثلاثين ألفا. وقيل: كانت عدة المقتولين من أصحاب الجمل ثمانية عشر ألفا وقتل من أصحاب علي نحو ألف. وقيل: قطع على خطام الجمل سبعون يدا كلهم من بني ظبة كلما قطعت يد رجل قدم آخر، ثم لما كثر القتل على خطام الجمل قال علي: اعقروا الجمل بعد أن صار كالقنفذ من السهام، والذي عقره الأشتر بن مالك النخعي وعمار بن ياسر، ثم احتملوا الهودج ونجوا عائشة منه في سبعين امرأة. ويقال: إن عليا أمر بحمل الهودج من بين القتلى ثم جهز عائشة في أربعين امرأة من بني عبد الله بن قيس في ملابس الرجال وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر وانتصر علي رضي الله عنه. وقال الفاضل الدكتور دوايت. رونلدسن في عقيدة الشيعة تعريب ع. م (ص 25 ط مؤسسة المفيد): ووجه ابن عباس إلى عائشة فلما دخل عليها قالت أخطأت يا ابن عباس مرتين دخلت بيتي بغير إذني وجلست على متاعي بغير أمري ولما دخل عليها علي (رض) فقال لها: يا حميراء، ألم تنهي عن المسير؟ فقالت: يا بن أبي طالب، قدرت فاسجح. فقال: اخرجي إلى المدينة وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله أن تقري فيه. فقالت: أفعل. ويقول آخرون: إنها لما رأت قوة حزب علي أرادت البقاء وأن تكون معه على أعدائه فلم يقبل علي وأمرها بالعودة. وفي تقسيم الأسلاب بعد وقعة الجمل يقال: إن عليا (رض) أعطى الناس بالسوية لم يفضل أحدا على أحد وأعطى الموالي كما أعطى الصلبية، ويقال: إنه أمر بدفن القتل وبقي ثلاثة أيام قبل أن يدخل البصرة فلما دخلها قسم بين الناس، ما وجد في بيت المال من المال. ثم رجع قافلا إلى الكوفة بعد أن قضى أياما في البصرة فقدمها في = (*) ص 490 ثم ضاع خطام الجمل ونادى علي اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلا. وقيل في عقر الجمل: إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل فقال: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك. وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحارث وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب أمام الجمل، وزفر بن الحارث يرتجز ويقول: يا أمنا مثلك لا يراع * كل بنيك بطل شجاع ليس بوهواه ولا يراع وقال القعقاع: إذا وردنا آجنا جهرناه * ولا يطاق ورد ما منعناه وزحف إلى زفر بن الحارث وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا. فقال القعقاع لبجير بن دلجة، وهو من أصحاب علي: يا بجير بن دلجة صح بقومك فليقروا الجمل قبل أن تصابوا، وتصاب أم المؤمنين. فقال بجير: يا آل ضبة يا عمرو بن دلجة، ادع بي إليك فدعاه، فقال أنا آمن حتى أرجع عنكم. قال نعم فاجتث ساق البعير فرمى نفسه على شقه، وجرجر البعير. فقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير (هو حزام القتب الذي يجعل تحت البعير) وحملا الهودج فوضعاه وكان كالقنفذ لكثرة ما فيه من السهام التي أصابته، ثم أطافا به. وفر من وراء ذلك الناس. عند ذلك أمر علي نفرا أن يحملوا الهودج من بين القتلى وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة. وقال انظر هل وصل إليها شيء من جراحة، فأدخل رأسه في هودجها، فقالت من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: الحمد لله الذي عافاك. (هامش) = رجب سنة ست وثلاثين. (*) ص 491 وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه، فأدخل محمد يده فيه فقالت من هذا؟ فقال أخوك البر. قالت: عقق (أي عاق ). قال: يا أخية، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذا الضلال؟ قالت: بل الهداة. وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه؟ قالت: لست لك بأم. قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم. هيهات! والله لن يظفر من كان هذا دأبه. ثم أبرزوا هودجها فوضعوها بعيدا عن الناس. وأتاها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء أعين بن ضبيعة بن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج. فقالت إليك لعنك الله. فقال والله ما أرى إلا حميراء. فقالت له: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانا في خربة من خرابات الأزد. وكان علي يقول ذلك اليوم بعد أن فرغ من القتال: إليك أشكو عجزي وبجري * ومعشرا أغشوا علي بصري قتلت منهم مضرا بمضري * شفيت نفسي وقتلت معشري القتلى ودفنهم: فلما كان الليل أدخل محمد بن أبي بكر عائشة رضي الله عنها البصرة، فأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة، وكانت دار عبد الله أعظم دار بالبصرة، وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلا فدخلوا البصرة، فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثا وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم وطاف علي في القتلى. فلما أتى على كعب بن سور، قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء، وهذا الحبر قد ترون، وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يعني أنهم كانوا يطيفون به. واجتمعوا على الرصافة لصلاتهم. ومر علي على طلحة بن عبيد ص 492 الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشا صرعى. وجعل كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء، وهذا العابد المجتهد فيهم. وصلى علي على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء. وأمر فدفنت الأطراف (الأيدي والأرجل والرؤس) في قبر عظيم. وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة، وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان. وكان جميع القتلى من أهل البصرة 10000 نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة، وقتل من أهل الكوفة 5000 وقتل من ضبة ألف رجل، ومن بني عدى حول الجمل 70 رجلا كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ. إلى أن قال في ص 301: عنيت بإثبات المراسلات والخطب والأحاديث من أهم المصادر لأنها في نظرنا أعظم ما يستند إليه المؤرخ ومنها يتبين روح العصر ومقاصد الرجال الذين كان لهم شأن في تحريك الحوادث وتفاصيل الوقائع وهي العمدة التي يبني عليها المؤرخ حكمه، وإن لدينا والحمد لله مستندات ووثائق كثيرة من هذا النوع تتجلى منها الحقائق التاريخية. بقي علينا أن نستخلص للقارئ زبدة الحوادث ونربط بعضها ببعض مع تعليلها وتعليل نتائجها وتقدير الظروف، فنقول وعلى الله عز وجل التوفيق: بعد أن قتل عثمان رضي الله عنه، هرب أقاربه إلى مكة وأقبل أهل المدينة يبايعون عليا رضي الله عنه وكان يومئذ أحق الصحابة بالخلافة لأنه من أسبقهم إلى الإسلام وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وربيبه وصهره ولجهاده في سبيل نصرة الدين وعلمه وفضله، فبايعه المهاجرون والأنصار وتلكأ طلحة والزبير ثم بايعاه ص 493 وقالا بعد ذلك أنهما إنما بايعاه مرغمين، وما لبثا أن استأذناه في العمرة فأذن لهما بعد تردد، فقدما مكة واجتمعا بعائشة هنالك واتفق رأيهم على الطلب بثأر عثمان ومحاربة علي لأنه عندهم اشترك في قتله وطالبوه بأن يقتص من القتلة. أما معاوية فأبى أن يبايع الخليفة لأنه علم أنه سيعزله من ولاية الشام بعد أن ثبت قدمه فيها إذ المحاصرون لعثمان رضي الله عنه كانوا يطالبونه بعزل أقاربه، فأراد علي رضي الله عنه أن لا يبقيهم في مراكزهم فضا للخلاف الذي أدى للثورة وقتل عثمان وعد بقاءهم نقصا في دينه، وكان معاوية عاملا للخليفة فله أن يبقيه أو يعزله، ولم يكن مرشحا للخلافة بعد عثمان. فأراد أن يستقل بالشام لكنه كتم ذلك، وتظاهر بالمطالبة بثأر عثمان، فحرض أهل الشام على محاربة علي لذلك. علم علي بتخلف معاوية عن بيعته ففاوضه، فأبى فاستعد لمحاربته بعد أن يئس منه. ولم يكن يتوقع أن يشتبك في قتال عائشة وجيشها فلما علم بمسيرها حول اتجاهه وسار إليها، ولم يفلح في إقناعها بالعدول عن الحرب وتمسكت بالمطالبة بثأر عثمان مع أنها كانت تحرض الناس عليه قبل أن يقتل. فكيف إذن تنقلب هذا الانقلاب؟ قالوا إنها حقدت عليه منذ حادثة الإفك (راجع هذا الباب في كتاب محمد رسول الله للمؤلف)، وكانت تريد أن يلي الخلافة طلحة. فلما بايع الناس عليا جمعت الجموع بمكة وخطبت في الناس تحثهم على محاربة علي وأصحابه طلبا بثأر عثمان، واعتبرت عليا من قتلته وهو برئ من ذلك كما صرح مرارا، وكما تدل على ذلك الحوادث. ثم إنه كان ناقما من سياسة عثمان. تلك السياسة التي ألبت الناس عليه. لكن عثمان رضي الله عنه كان متأثرا بأقار به فلم يستطع أن يعالج الحالة وأصر على الاحتفاظ بمراكزهم بالرغم من كل تهديد، ومن الحصار الشديد الذي ضربوه حول منزله. وهذا ما أوجب حيرة علي فعجز أولا أن يفك الحصار ويصرف المحاصرين نهائيا، وإن كان قد صرفهم. لكنهم عادوا بعد أن تأكدوا أن عثمان ماض على ما كان عليه لا يجيب لهم طلبا. فأقام علي رضي الله عنه على باب عثمان حراسا من ابنيه وأبناء الصحابة وشدد عليهم. ولم يكن لدى علي ص 494 جيش يقاوم به المحاصرون أو يصرفهم. ثم إن الخليفة المحصور آثر أن يموت شهيدا من أن يسفك دما. لذلك نهى عن أن يقاتلهم أحد، ولم يرسل إليه معاوية نفسه جيشا لإنقاذه إلا متأخرا، وقيل: إنه تعمد الابطاء في إرسال الجيش. فكيف يقال إذن عليا اشترك في قتل عثمان مع أن طلحة والزبير اللذين انضما إلى عائشة كانا شديدين عليه؟! إلى آخر كلامه. ومنه الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة الأزهر في موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية (ج 1 ص 616 ط مكتبة النهضة المصرية) قال: موقعة الجمل: أخذت هذه الموقعة اسمها من الجمل الذي كانت تركبه عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله وبنت أبي بكر الصديق، وخروج عائشة إلى المعركة لتحارب عليا كان حدثا غير عادي، ومن ثم ارتبطت هذه الموقعة بعائشة وبجملها، وإن كان دور عائشة في الحقيقة ضئيلا جدا في هذه المعركة. وتحليل موقف عائشة يحتاج إلى شيء من الفراغ لن نضن به، فقد كانت هناك عوامل تحث عائشة على عدم الاشتراك في هذه المعمعة، وهناك عوامل أخرى كانت تدفع عائشة إلى الاشتراك فيها، وقبل أن نتكلم عن هذه العوامل وتلك نذكر أن عائشة - كأغلب المسلمين - كانت ثائرة على عثمان، وكانت هي وطلحة من أشد الناس انتقادا له، ولما حوصر عثمان تركت عائشة المدينة وذهبت إلى مكة، فلما قتل عثمان خرجت من مكة تقصد المدينة. فلما عرفت أن البيعة تمت لعلي غضبت وقالت: والله لا يكون هذا الأمر أبدا، قتل عثمان مظلوما، والله لأطالبن بدمه، وعادت إلى مكة وقدم عليها بمكة طلحة والزبير، وقد استأذنا عليا بحجة أنهما يريدان العمرة كما قدم يعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن ومعه ما كان في بيت مال اليمن من الأموال، ص 495 وقدم كذلك عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، والتف حول عائشة بطبيعة الحال بنو أمية الذين كانوا بالحجاز وحثت عائشة الجميع على المطالبة بدم عثمان، وخرجت ومعها أتباعها تريد البصرة لتستعين بسكانها فيما أقدمت عليه. هل كان حزن عائشة على عثمان هو الذي دفعها إلى ذلك العمل؟ الحقيقة لا، فقد كانت هناك دوافع أبعد غورا، نذكر أهمها فيما يلي: 1 - كانت هناك وحشة بين علي وعائشة عبرت عنها عائشة بقولها: إنه والله ما كان بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها. ولعل بعضها يرجع إلى موقف علي من عائشة في حادثة الإفك. 2 - نفس علي على أبي بكر الخلافة وامتنع عن مبايعته زمنا، فلماذا تسرع عائشة لمبايعة علي! ولماذا تتركه يهنأ بهذه الخلافة من أول يوم؟ 3 - العامل الأكبر والمهم هو عبد الله بن الزبير؟ فهو ابن أختها أسماء، وإذ لم يكن لعائشة أولاد فقد أخذته من أختها وربته في بيتها وصار كأنه ابنا لها حتى كانت تسمى أم عبد الله وكان عبد الله طموحا يطمع في الخلافة، ولكن وجود علي كان يحول بينه وبين تحقيق هذه الأمنية، فدفع عائشة لتخوض هذه المعركة ضد علي، لعل عليا يسقط فيها قيخلو له الجو، وكثيرا ما ترددت عائشة من مواصلة العمل لهذه المعركة، ولكن عبد الله كان يحاول دائما أن يزيل ترددها ويحملها هذا المحمل الصعب، فمن الممكن أن نقول إن عائشة دفعت لهذا العمل وإن الذي دفعها هو عبد الله، والمرأة هي المرأة على كل حال، تضعف أمام حيل الرجال، ولا تقوى أمام وسائلهم، وقد روي أن عائشة سمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم فقالت: المنازعة في الحرب خور، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء. وفي الحوار الرائع الذي جرى بين ابن الزبير ومعاوية في خلافة الأخير يقول معاوية لابن الزبير:.. وخدعتم أم المؤمنين، ولم تراعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبرزتم زوجته للحتوف ومقارعة السيوف، ولعل عبد الله هو الذي دفع أباه أيضا ليشترك في ص 496 هذه الموقعة، وهناك أدلة كثيرة تقود إلى هذه النتيجة، فمن ذلك ما روي أن عليا قال للزبير: كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء، ففرق بيننا. ومن ذلك ما روي أن عليا ذكر الزبير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ستقاتل عليا وأنت له ظالم، فتذكر الزبير وعزم على أن يدع الحرب، وأعلن عزمه، فجاءه ابنه عبد الله وحمسه بقوله: لعلك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أمجاد وأن تحتها الموت الأحمر، فجبنت. ولعلنا نستطيع أن نسبق التاريخ فنقرر أن طموح عبد الله بن الزبير استمر يدفعه بعد فشل معركة الجمل لينتهز فرصة أخرى ليضع نفسه خليفة، وقد واتته الفرصة بعد مقتل الحسين في عهد يزيد بن معاوية، فأعلن نفسه خليفة، وظل يكافح عن ملكه المزعوم حتى دفع رأسه ورؤوس الآلاف فداء لهذا الطموح. وقد أوردنا تفصيل ذلك في الجزء الثاني من هذه الموسوعة. هذه هي العوامل التي دفعت عائشة لتشترك في قيادة الثائرين على علي، أما العوامل التي كانت تعوقها عن الخروج فهي: 1 - شهدت عائشة بكاء الآلاف يوم خرجت من مكة لهذه الرحلة المشؤومة، حتى سمي ذلك اليوم يوم النحيب، ولكن ذلك لم يمنعها من الخروج. 2 - تلقت عائشة خطابا طويلا من أم سلمة تعظها وتذكرها أن خروجها للحرب هتك للحجاب الذي ضربه عليها رسول الله. 3 - أهم من هذا كله الآية الكريمة (وقرن في بيوتكن) التي لم يغب عن عائشة مغزاها. ولكن دفع عبد الله بن الزبير كان أقوى من كل شيء، فإذا عائشة تفقد كل مقاومة، وإذا بها توضع في الهودج ويمشي بها الركب، وكانت تتجدد فيها المقاومة، ولكن ابن الزبير كان يسرع فيخمد هذا الخاطر، روي أن كلابا نبحتها في الطريق فسألت: أين نحن؟ فقيل لها: عند ماء الحوأب. فقالت: ما أراني إلا راجعة لأني سمعت ص 497 الرسول يقول لنسائه: كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب. ولكن ابن الزبير سرعان ما جاءها بمن يقسم لها إن ذلك ليس ماء الحوأب، واستشهد لها ببعض الأعراب وكان قد اكتراهم لذلك. إلى أن قال: ووصلت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، وانضم إليهم خلق كثير، كان فيهم مروان بن الحكم وبعض بني أمية، وأيدها بعض أهل البصرة وعارضها آخرون، ووقعت مناوشات بين الطرفين قتل فيها بضع مئات وبخاصة من معارضي عائشة، ثم قدم علي بجيشه الكبير، وفيه كثيرون من السبئيين ومن الذين اشتركوا في الثورة على عثمان، وحاول علي أن يثني عائشة وأصحابها عن قصدهم، ويذكر الذين بايعوه منهم ببيعتهم، وأوشكت هذه السفارات أن تنجح وأن يكفي الله المؤمنين شر القتال. ولكن السبئيين الذين أشعلوا الثورة على عثمان وحرضوا على قتله أدركوا أن الصلح بين الطائفتين سيكون على حساب رقابهم، فعقدوا العزم على بدء الحرب، مدركين أن الحرب وحدها هي التي يمكن أن تحميهم من المقصلة، وهكذا بدءوا المعركة في غفلة من علي. وأجابهم أتباع عائشة، والتحم الفريقان. وكانت معركة عنيفة فر منها الزبير لا جبنا ولا خوفا من الموت، ولكن لعدم إيمانه بأنه على حق فيما أقدم عليه، وعند عودته مر بماء لبني تميم، فرآه الأحنف بن قيس فقال: جمع الزبير هذين العسكرين ثم ولى وتركهما، فثار عمرو بن جرموز لذلك، وكان في مجلس الأحنف، فلحق بالزبير خفية حتى جلس هذا تحت شجرة ليستريح ثم اضطجع وغفا، فقتله عمرو وهو نائم. أما طلحة فيروى أن مروان بن الحكم عندما رآه في مطلع المعركة قال: لا أنتظر بعد اليوم بثأري في عثمان، فانتزع له سهما فقتله. أما عبد الله بن الزبير فقد ضربه الأشتر أحد قادة علي الأشداء حتى سقط، ولكن لم يجهز عليه وبقي في خندق فلم يشترك في معركة بعد ذلك واعتبر ص 498 ذلك منه فرارا. وقد ظل ابن الزبير يعير بفراره وفرار أبيه من المعركة، فقد روي أنه هاجم عبد الله بن العباس مرة في المسجد الحرام، فكان مما قاله ابن العباس له مدافعا عن نفسه: وأما قولك يا ابن الزبير إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، أما أنت وأبوك فقد قاتلتما عليا، فإن كان علي مؤمنا فقد ظللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف. وبعد أن اختفى هؤلاء القادة بالموت أو الفرار ظلت المعركة تدور بدون قائد أو تحت قيادة عائشة شكليا، وسقط الآلاف في حماية الجمل وحماية أم المؤمنين أو في الهجوم على عائشة وعلى جملها كما قلنا، ثم عقر الجمل وانتهت المعركة بنجاح علي، ولكنه أكرم عائشة وأعادها إلى مكة معززة مكرمة. ومنهم جماعة من الفضلاء في علي بن أبي طالب - نظرة عصرية جديدة (ص 85 ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت) قال الدكتور محمد الطبيب في ما وقع بين علي عليه السلام وعائشة: قصة هذا الصراع الرهيب قصة دامية، وأحداثه أليمة، تكتنفها ظلمات متكاثفة، ومن أجل ذلك يتحرج بعض المؤرخين المسلمين عن الخوض في التفصيلات الدقيقة لمثل هذه الموضوعات. ولكننا نجد من واجبنا ألا نغمض عيوننا أمام هذه الأحداث وألا نضع أصابعنا في آذاننا ، فالواقع الذي سجله التاريخ لا يمكن أن يرتفع ولا ينبغي أن يزيف أو يحرف، وإنما يجب أن نتلمس من خلاله العبرة والموعظة الحسنة، فالعبرة دائما هي ضالة المؤمن والهدف المرجو لكل عاقل والمنارة الساطعة التي تضئ طريق الخير وتهدي للتي هي أقوم. ولقد بدأ الصراع بين عائشة وعلي على أثر مقتل عثمان رضي الله عنه، فيروي ص 499 الطبري أن عائشة رضي الله عنها خرجت من مكة إلى المدينة بعد مقتل عثمان فلقيها رجل من أخوالها قال: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي والأمر أمر الغوغاء، فقالت: ما أظن ذلك تاما، ردوني، فانصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذا دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي وكان أمير عثمان عليها فقال: ما ردك يا أم المؤمنين؟ فقالت: ردني أن عثمان قتل مظلوما، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام، فكان أول من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي ثم تبعه سائر بني أمية، وقدم عليهم طلحة والزبير من المدينة، ثم قالت عائشة لهم بعد نظر طويل: أيها الناس، إن هذا حدث عظيم وأمر منكر فانهضوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم، لعل الله عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم. ومن هذه الرواية التي ذكرها الطبري نلاحظ أن السيدة عائشة قد قررت الخروج على ولي الأمر الشرعي ودعت الناس إلى ذلك وكان الدافع لها هو المطالبة بثأر عثمان وبالقصاص من قاتليه، على أن هذا الدافع الذي خرجت من أجله عائشة على علي لا يصلح في تقديرنا عذرا لعائشة ولا تعلة يمكن أن تدافع بها عن نفسها دفاعا يقبله المحايدون المنصفون، وقد بينت السيدة أم سلمة رضي الله عنها خطأ تلك الفكرة التي تملكت عائشة وحاولت أن تثنيها عنها، فلم تستجب عائشة لهذا الصوت العاقل الوقور. وإليكم ما قالته أم سلمة: من أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد جمع القرآن ذيولك فلا تسحبيها، وسكر خفارتك فلا تبتذليها، ولو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت بأنه قد نهاك عن الفراطة في الدين، فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع، إن ص 500 جهاد النساء غض الأطراف وضم الذيول، ما كنت قائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض الفلوات ناصة قعودا من منهل إلى منهل. وغدا تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم لو قيل لي: يا أم سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتكة حجابا ضربه علي، فاجعليه سترك وقاعة البيت حسنك. وقد ردت عليها عائشة فقالت: من عائشة، أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد فما أقبلني لوعظك، واعرفني لحق نصيحتك، وما أنا بمعتمرة بعد تعريج - يعني وما أنا راجعة إلى مكة بعد أن خرجت منها - ولنعم المطلع فرقت به بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد فعن غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى لي عن الازدياد منه. إلى أن قال: ولنرجع بعد ذلك إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، إنهما من أصحاب رسول الله الأجلاء. ولهما في تاريخ الإسلام بلاء وكفاح. وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهما، وكان ذلك هو الأساس الذي سوغ لعمر بن الخطاب في آخر لحظات حياته أن يجعلهما في ضمن الستة الذين يختار الخليفة من بينهم، فما الذي أخرجهما على علي بعد أن بايعاه والبيعة عهد الله المسؤول. لقد ذكرت بعض المراجع التاريخية أن الزبير كان يطمع في ولاية العراق وطلحة في ولاية اليمن. فلما أرسل علي الولاة ولم يكن لهما حظ في الولاية نقما عليه وتكلما في شأنه وندما على بيعتهما فاستأذنا عليا في الخروج إلى مكة لأداء العمرة، ولكنه لم يخف عليه أمرهما فقال لهما: والله ما العمرة تريدان. وإذن فقد كانت المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان ستارا يخفون تحته أغراضهم في الحكم والسلطان وانتزاع الخلافة من علي.
|
شرح إحقاق الحق (ج32) |