ص 670
البيعة ليزيد، وطلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا، فقال المسور بن مخرمة: عجل أبو
عبد الله، وابن الزبير الآن يلفته ويزجيه إلى العراق ليخلو بمكة. فقدما مكة، فنزل
الحسن دار العباس بن عبد المطلب، ولزم ابن الزبير الحجر ولبس المعافري، وجعل يحرض
الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين، ويشير عليه أن يقدم العراق،
ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك، فكان عبد الله بن عباس ينهاه عن ذلك، ويقول: لا تفعل.
ومنهم العلامة كمال الدين عمر بن أحمد جرادة المولود 588 والمتوفى 660 في (بغية
الطلب في تاريخ حلب) (ج 6 ص 2608 ط دمشق) قال: فذكر مثل ما مر عن ابن منظور وذكر
أيضا في ص 2572 مثله. ومنهم الفاضل المعاصر الشيخ محمد الخضري بك المفتش بوزارة
المعارف والمدرس التاريخ الإسلامي بالجامعة المصرية في (محاضرات تاريخ الأمم
الإسلامية) (ج 2 ص 124 ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر) قال: جاء الحسين مكة فكان
أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق وابن الزبير قد لزم
جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا
يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأن أهل الحجاز لا
يبايعونه ما دام الحسين بالبلد. لما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وبيعة يزيد أرجفوا
بيزيد واجتمعت الشيعة إلى منزل كبيرهم سليمان بن صرد الخزاعي واتفقوا أن يكتبوا إلى
الحسين يستقدمونه ليبايعوه، فكتبوا إليه نحوا من 150 صحيفة. ولما اجتمعت الكتب عنده
كتب إليهم: أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي
من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه
قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكا إن
شاء
ص 671
الله فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق
والسلام. ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة، وأمره بتقوى الله وكتمان
أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين عجل إليه بذلك فسار مسلم نحو الكوفة وأميرها
النعمان بن بشير الأنصاري فأقبلت إليه الشيعة تختلف إليه. ولما بلغ ذلك النعمان صعد
المنبر وقال: أما بعد، فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك
الدماء وتغصب الأموال وكان النعمان حليما ناسكا يحب العافية ثم قال إني لا أقاتل
إلا من يقاتلني ولا أثب على من لا يثب علي ولا أنبه نائمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ
بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم
فوالله الذي لا إله إلا هو لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي منكم
ناصر ولا معين أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل فقام
إليه رجل من شيعة بني أمية وقال له إنه لا يصلح ما ترى إلا المغشم إن هذا الذي أنت
عليه رأي المستضعفين فقال أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من
الأعزين في معصية الله ونزل، فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل
ومبايعة الناس له ويقول إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك
ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان رجل ضعيف أو يتضعف فعزل يزيد النعمان وولى على
الكوفة عبيد الله بن زياد أمير البصرة فجعله والي المصرين وأمره بطلب مسلم بن عقيل
وقتله أو نفيه فقام ابن زياد إلى الكوفة وخطب في أهلها فقال: أما بعد فإن أمير
المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم
وبالاحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدة على مريبكم وعاصيكم وأنا متبع فيكم أمره
ومنفذ فيكم عهده فأنا لمحسنكم كالوالد البر ولمطيعكم كالأخ الشقيق وسيفي وسوطي على
من ترك أمري وخالف عهدي فليبق امرؤ على نفسه ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا
وقال اكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ومن فيكم من
ص 672
الحرورية وأهل الريب الذي دأبهم الخلاف والشقاق فمن كتبهم إلي برئ ومن لم يكتب لنا
أحدا فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغ
فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله وأيما عريف وجد في عرافته من بغية
أمير المؤمنين أحد لم يعرفه إلينا صلب على باب داره، ألقيت تلك العرافة من العطاء
وسير إلى موضع نعمان الزارة. سمع مسلم بمقال ابن زياد فاستجار بهانئ بن عروة
المرادي فأجاره متكرهين وصارت الشيعة تختلف إليه هناك فعلم ابن زياد بمقره بدار
هانئ فاستقدم هانئا فقدم عليه، ولما دنا منه قال عبيد الله: أريد حياته ويريد قتلي
* عذيرك من خليك من مراد فقال هانئ وما ذاك؟ فقال: يا هانئ ما هذه الأمور التي تربص
في دارك لأمير المؤمنين والمسلمين جئت بمسلم فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال
وظننت أن ذلك يخفى لك وقد أراد هانئ أن ينكر فلم يجد إلى الانكار سبيلا فطلب منه
ابن زياد أن يسلم إليه مسلما فامتنع خوف السبة والعار فأمر ابن زياد به فضرب وحبسه
بالقصر. ولما علم بذلك مسلم نادى في أصحابه بشعارهم يا منصور وكان قد بايعه ثمانية
عشر ألفا وحوله في الدور أربعة آلاف فاجتمع إليه ناس كثير فعبأهم وأقبل إلى القصر
فأحاط به وامتلأ المسجد والسوق من الناس ولم يكن مع ابن زياد إلا ثلاثون رجلا من
الشرط وعشرون رجلا من الأشراف وأهل بيته ومواليه وأقبل أشراف الناس يأتونه فدعا
كثير بن شهاب الحارثي وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ويخذل الناس عن ابن عقيل
ويخوفهم وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة فيرفع راية أمان لمن جاءه
من الناس وأمر بمثل ذلك غيره من الأشراف وأبقى عنده بعضهم استئناسا بهم فخرج الذين
أمروا بالخروج يخذلون الناس وأشرف الذين بالقصر على الناس فمنعوا أهل الطاعة وخوفوا
أهل المعصية. ولما رأى الناس ذلك شرعوا يتفرقون حتى لم يبق مع ابن عقيل في المسجد
إلا
ص 673
ثلاثون رجلا فحار في أمره أين يذهب واختفى فعلم ابن زياد بمكان اختفائه فأرسل إليه
محمد بن الأشعث فجاء به فقال مسلم لابن الأشعث إني أراك تعجز عن أماني فهل تستطيع
أن تبعث من عندك رسولا يخبر الحسين بحالي ويقول له عني ليرجع بأهل بيته ولا يغره
أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيه الذي كان فراقهم بالموت أو القتل ففعل ذلك ابن الأشعث
ولما جئ بمسلم إلى ابن زياد قتله ثم قتل بعده هانئ بن عروة المرادي. ومنهم الفاضل
المعاصر الأستاذ أحمد أبو كف في كتاب (آل بيت النبي صلى الله عليه وآله في مصر) (ص
22 ط دار المعارف القاهرة) قال: لقد آلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان وحولها
إلى ملك وراثي في دمشق. وكان الإمام الحسن، أخو الإمام الحسين، يستطيع أن ينقلب على
معاوية، لكنه حقنا لدماء المسلمين لم يفعل ذلك رغم أن الحسين لم يرض بما حدث. ولكن
الحسين ماذا يفعل وقد قطع أخوه الأكبر وعدا وعهدا، لا يمكن أن ينكصه. ولذلك، فبعد
موت الإمام الحسن، أصبح الحسين في حل من الاتفاق، ووضع أمامه نصيحة أبيه التي
أوصاهما بها قبل أن يموت. إذ جمع علي بن أبي طالب الحسن والحسين وقال لهما: أوصيكما
بتقوى الله، ولا تطلبا الدنيا وإن طلبتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوى عنكما.
افعلا الخير، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا. ولم يقبل الحسين أن يخلف معاوية
ابنه يزيد، وأن يكون على رأس الإسلام فتى فاسق وظالم. ولذلك، فإن الحسين لم يبايع
يزيد ولم يعترف به، رغم أن يزيد كان يعتبر بيعة الحسين له شيئا هاما. كان الحسين في
المدينة المنورة، حين طلب يزيد وألح على واليه هناك، الوليد ابن عتبة، أن يأخذ له
البيعة من الحسين وأصحابه. وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر فمبايعة
الحسين في رأي يزيد كانت تساوي مبايعة الملايين من المسلمين، الذين أرهبهم بالسيف
والوعد والوعيد أو الذين لم يرهبهم. ولذلك طلب
ص 674
يزيد من واليه على المدينة المنورة أن يأخذ الحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله
بن عمر أخذا شديدا، ليس فيه رحمة، إذا لم يبايعونه. وقد التقى الوليد بالحسين، وطلب
منه بيعة يزيد، ورفض الحسين. بينما فر عبد الله بن الزبير إلى مكة لاجئا إلى بيت
الله الحرام، وبايع عبد الله بن عمر. وفي المدينة بعد أن رفض الحسين مبايعة يزيد،
ذهب مروان بن الحكم شيخ الأمويين إلى الوليد ولامه، لأنه أذن للحسين بالانصراف من
مجلسه ولم يشدد عليه، ولم يحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه. وهنا يقول الحسين لمروان:
أأنت تضرب عنقي؟ ثم يلتفت إلى الوليد، ويقول: يا أمير، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن
الرسالة، بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة
معلن بالفسوق والفجور.. ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا
أحق بالبيعة والخلافة. خرج الحسين من دار الوليد بن عتبة، وقد عزم على الهجرة من
المدينة إلى مكة المكرمة. وفي مكة المكرمة ذاع خبر ما قاله الحسين للوليد ومروان،
ورفضه بيعة يزيد. وهنا تقاطر على الرسل من المسلمين عامة، وأهل الكوفة يبايعون
الحسين بالخلافة. وتقول رسائلهم التي نشرتها مصادر كثيرة بتوسع:.. الناس ينتظرونك،
لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل، يا ابن رسول الله، فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار،
واعشوشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت، فإنما تقدم على جنود مجندة لك
والسلام. هنا يعتزم الحسين أمرا. بعد أن بقي في مكة أربعة أشهر لقد اعتزم الخروج من
مكة المكرمة إلى الكوفة. ويستشير أصحابه فيما اعتزمه، فيحاول الكثير أن يثنيه عن
عزمه. ويقول له ابن الزبير لو أقمت بالحجاز، ثم أردت هذا الأمر - أي الخلافة - هنا
لما خالفناك، وإنما ساعدناك وبايعناك ونصحناك. ويرد الحسين على ابن الزبير بوجهة
نظرة قائلا: إن أبي حدثني أن لها - أي مكة المكرمة - كبشا تستحل به حرمتها،
ص 675
فما أحب أن أكون هذا الكبش. لكن الحسين، قبل أن يشد رحاله إلى الكوفة، يرسل ابن عمه
مسلم بن عقيل، ليمهد له ويتحاور مع أهل الكوفة ويرى إن كانوا جادين. ويذهب مسلم ابن
عقيل، ويرسل من يقول للحسين أن تعال إلى الكوفة، فالكل على بيعتك. بل تقول المصادر
التاريخية إن مسلم بن عقيل أبلغ الحسين، أن المبايعين له بلغوا 18 ألفا في تقدير
ابن كثير و30 ألفا في تقدير ابن قتيبة. ومنهم العلامة الحافظ أبو حاتم محمد بن أحمد
التميمي البشتي المتوفى 354 ه في (السيرة النبوية وأخبار الخلفاء) (ص 558 ط مؤسسة
الكتب الثقافية ودار الفكر في بيروت) قال: فلما بلغ الحسين بن علي الخبر بمصاب
الناس بمسلم بن عقيل خرج بنفسه يريد الكوفة، وأخرج عبيد الله بن زياد عمر بن سعد
إليه فقاتله بكربلاء قتالا شديدا حتى قتل عطشانا، وذلك يوم عاشوراء يوم الأربعاء
سنة إحدى وستين، وقد قيل: إن ذلك اليوم كان يوم السبت، والذي قتل الحسين بن علي هو
سنان بن أنس النخعي. وقتل معه من أهل بيته في ذلك اليوم: العباس بن علي بن أبي
طالب، وجعفر بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن علي بن أبي طالب الأكبر، وعبد الله
بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعون بن عبد
الله بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، واستصغر علي بن
الحسين بن علي فلم يقتل، انفلت في ذلك اليوم من القتل لصغره، وهو والد محمد بن علي
الباقر، واستصغر في ذلك اليوم أيضا عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب فلم يقتل
لصغره، وجرح في ذلك اليوم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب جراحة شديدة حتى حبسوه
قتيلا ثم عاش بعد ذلك، وقتل في ذلك اليوم سليمان مولى الحسن بن علي بن أبي طالب،
ومنجح مولى الحسين بن علي بن أبي طالب،
ص 676
وقتل في ذلك اليوم الخلق من أولاد المهاجرين والأنصار، وقبض على عبد الله بن يقطر
رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، وقيل: حمل إلى الكوفة ثم رمي به من
فوق القصر، أو قيد فانكسرت رجله، فقام إليه رجل من أهل الكوفة وضرب عنقه. وكانت أم
الحسين بن علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم
العباس بن علي بن أبي طالب أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة، والعباس يقال له:
السقاء، لأن الحسين طلب الماء في عطشه وهو يقاتل، فخرج العباس وأخوه، واحتال حمل
إداوة ماء ودفعها إلى الحسين، فلما أراد الحسين أن يشرب من تلك الاداوة جأ سهم فدخل
حلقه، فحال بينه وبين ما أراد من الشرب فاحترشته السيوف حتى قتل، فسمي العباس بن
علي السقاء لهذا السبب، وكانت والدة جعفر بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن علي بن
أبي طالب الأكبر ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب، وكانت أم عبد الله بن
الحسين بن علي بن أبي طالب الرباب بنت القاسم بن أوس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب،
وكانت أم القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عون بن عبد الله بن
جعفر ابن أبي طالب جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة، وكانت أم محمد بن عبد الله
بن جعفر بن عقيل بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي
طالب رقية بنت علي بن أبي طالب وكانت أم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خولة
بنت منظور بن زيان الفزاري، وكانت أم عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وقد
قيل: إن أبا بكر بن علي بن أبي طالب قتل في ذلك اليوم، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد
بن مالك بن ربعي. والذي تولى في ذلك اليوم حز رأس الحسين بن علي بن أبي طالب شمر بن
ذي الجوشن.
ص 677
بعث عمر بن سعد اللعين الرأس الشريف الحسيني إلى ابن زياد الخبيث واعتراض زيد بن
أرقم عليه في مجلسه لعمله الشنيع بالرأس الشريف 
رواه جماعة: فمنهم العلامة كمال
الدين عمر بن أحمد جرادة المولود 588 والمتوفى 660 في (بغية الطلب في تاريخ حلب) (ج
6 ص 2630 ط دمشق) قال: وبعث عمر بن سعد برأس الحسين من ساعته إلى عبيد الله بن زياد
مع خولي بن يزيد الأصبحي. وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثم أذن
في الناس بالرحيل وحملت الرؤوس على أطراف الرماح، وكانت اثنين وسبعين رأسا، جاءت
هوازن منها باثنين وعشرين رأسا، وجاءت تميم بأربعة عشر رأسا مع الحصين بن نمير،
وجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنو أسعد بستة رؤوس مع هلال
الأعور، وجاءت الأزد بخمس رؤوس مع عيهمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأسا مع
الوليد بن عمرو. وأمر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في
المحامل المستورة على إبل، وكانت بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قتل
الحسين خمسون عاما. قالوا: ولما ادخل رأس الحسين عليه السلام على ابن زياد فوضع بين
يديه جعل ابن زياد ينكت بالخيزرانة ثنايا الحسين، وعنده زيد بن أرقم، صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: مه، إرفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلثمها، ثم خنقته العبرة، فبكى، فقال له ابن زياد: مم
تبكي؟ أبكى الله عينيك، والله لولا أنك شيخ قد خرفت لضربت عنقك. قالوا: وكانت
الرؤوس قد تقدم بها شمر بن ذي الجوشن أمام عمر بن سعد. قالوا: واجتمع أهل الغاضرية
فدفنوا أجساد القوم.
ص 678
ومنهم العلامة الشريف أحمد بن محمد الحسيني الشافعي الخوافي في (التبر المذاب) (ص
85 المخطوط) قال: وروى ابن أبي الدنيا أنه كان عند ابن زياد زيد بن أرقم فقال له
إرفع قضيبك عن ثنايا الحسين عليه السلام فوالله لطال ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبل ما بين هاتين الشفتين ثم جعل زيد يبكي فقال له ابن زياد أبكى الله
عينيك لولا أنك شيخ قد خرفت لضربت عنقك فنهض زيد وهو يقول أيها الناس أنتم العبيد
بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة والله ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم
فبعدا لمن يرضى الذل والعار قال يا بن زياد لأحدثنك حديثا هو أغلظ عليك من هذا رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعد حسنا على فخذه اليمنى والحسين على اليسرى ثم وضع
يده على يافوخهما وقال اللهم إني أستودعك إياهما وصالح المؤمنين فكيف كانت وديعة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك يا بن زياد قال هشام بن محمد لما وضع الرأس بين
يدي ابن زياد لعنه الله قالت له كاهنته قم وضع قدمك على فم عدوك فقام فوضع قدمه على
فيه ثم قال لزيد بن أرقم كيف ترى فقال والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
واضعا فاه حيث وضعت قدمك. ومنهم العلامة ابن منظور في (مختصر تاريخ دمشق) (ج 7 ص
152 ط دمشق) قال: وفي حديث آخر عنه: أتي برأس الحسين في طست إلى ابن زياد، فجعل
ينكت فاه ويقول: إن كان لصبيحا، إن كان لقد خضب. وعن زيد بن أرقم قال: كنت عند عبيد
الله ابن زياد إذ أتي برأس الحسين بن علي فوضع في طست بين يديه، فأخذ قضيبا فجعل
يفتر به عن شفتيه وعن أسنانه فلم أر ثغرا قط كان أحسن منه، كأنه الدر، فلم أتمالك
أن رفعت صوتي بالبكاء فقال: ما يبكيك أيها الشيخ؟ قال: يبكيني ما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يمص موضع هذا القضيب ويلثمه، ويقول: اللهم إني أحبه فأحبه. وعن
زيد بن أرقم أنه خرج من عند ابن زياد يومئذ وهو يقول: أما والله لقد
ص 679
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: اللهم إني أستودعكه وصالح المؤمنين، فكيف
حفظكم لوديعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور محمد
جميل غازي في (استشهاد الحسين عليه السلام) (ص 107) خرجه من كتاب الحافظ ابن كثير
(ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) قال: وقال أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد
عن حميد بن مسلم قال: دعاني عمر ابن سعد فسر حتى إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله
عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، ودخل عليه الوفد الذين قدموا عليه،
فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين
ثناياه ساعة، فقال له زيد ابن أرقم: إرفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالله الذي
لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين
يقبلهما ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك
شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد
قال زيد بن أرقم كلاما لو سمعه ابن زياد لقتله، قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مر بنا
وهو يقول: ملك عبد عبيدا * فاتخذهم تليدا أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم،
قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فبعدا لمن
رضي بالذل. وقد روي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم بنحوه. ورواه الطبراني
عن طريق ثابت بن زيد. ومنهم الفاضلان المعاصران الشريف عباس أحمد صقر والشيخ عبد
الجواد المدنيان في (جامع الأحاديث) (المجلد السادس من القسم الثاني ص 432) قالا:
عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسا عند عبيد الله بن زياد إذ أتي برأس الحسين رضي الله
عنه فوضع بين يديه، فأخذ قضيبه فوضعه بين شفتيه، فقلت له: إنك لتضع
ص 680
قضيبك في موضع طالما لثمه رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: قم إنك شيخ قد ذهب
عقلك. (خط في المتفق). ومنهم الفاضل المعاصر سليمان سليم البواب في (مئة أوائل من
النساء) (ص 284 ط 2 دار الحكمة دمشق) قال: وبعد أيام سيقت قافلة السبايا ورؤوس
الشهداء المقطوعة إلى دمشق. حتى دخلوا على يزيد بن معاوية. ثم أمر برأس الحسين
فأبرز في طست. فتقدم منه وأخذ يلعب بثناياه بقضيب يحمله بيده. وهو يقول:
يا غراب
البين أسمعت فقل * إنما تذكر شيئا قد فعل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جذع الخزرج من
وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
لأهلوا واستهلوا فرحا *
ثم قالوا يا يزيد أن لا تشل
فجزيناهم ببدر مثلها * وأقمنا ميل بدر فاعتدل
لست
للشيخين إن لم أثأر * من بني أحمد ما كان فعل
فبكت جميع نساء هاشم، إلا زينب انتفضت
تصيح بالطاغية: صدق الله يا يزيد: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات
الله وكانوا بها يستهزؤون). أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف
السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هوانا على الله وأن بك عليه كرامة،
وأن هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك ونظرت في عطفيك، جذلان فرحا حتى رأيت الدنيا
مستوسقة لك والأمور متسقة عليك وقد أمهلت ونفست، وهو قول الله تبارك وتعالى: (لا
يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم
عذاب مهين).. وتابعت قولها: أتقول ليت أشياخي ببدر شهدوا، غير متأثم ولا مستعظم
وأنت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك. ولم لا تكون كذلك. وقد نكأت القرحة،
واستأصلت الشأفة
ص 681
بإهراقك دماء ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب..
والله ما فريت إلا في جلدك. ولا حززت إلا في لحمك. وسترد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم برغمك.. وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكم الله
والخصم محمد صلى الله عليه وسلم، وجوارحك شاهدك عليك. فبئس للظالمين بدلا، أيكم شر
مكانا وأضعف جندا. مع أني والله يا عدو الله وابن عدوه، أستصغر قدرك وأستعظم
تقريعك. غير أن العيون عبرى والصدور حرى، وما يجزي ذلك أن يغني عنا، وقد قتل الحسين
عليه السلام. وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء، ليعطوهم أموال الله على انتهاك
محارم الله. فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا. وتلك الجثث
الزواكي بعتامها عسلان الفلوات. فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذن مغرما حين لا تجد إلا ما
قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة، ويستصرخ بك. وتتعاوا وأتباعك عند الميزان. وقد وجدت
أفضل زاد زودك معاوية - وهو - قتل ذرية محمد صلى الله عليه وسلم. واستقبلت نساء
أمية زينب بالبكاء والعويل. وأقيمت المناحة ثلاثة أيام. ثم جهزهم يزيد وأرسلهم إلى
المدينة. وفي الطريق عرجوا على كربلاء. وكان قد مضى أربعون يوما على المذبحة. ولا
تزال فيها أشلا مرمية تركتها الوحوش. وجددن المناحة هناك ثلاثة أيام أخرى. وحين دخل
موكبهم إلى المدينة. علا البكاء والنواح من كل حدب وصوب. ومنهم العلامة المؤرخ محمد
بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى 711 ه في (مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر) (ج 26
ص 151 ط دار الفكر) قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين عليه السلام دخلوا مسجد
دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا
فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا: فوثب مروان فانصرف. وأتاهم أخوه
يحيى بن الحكم، فقال: ما صنعتم؟ فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد يوم
القيامة،
ص 682
إن أجامعكم على أمر أبدا، ثم قام وانصرف. ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه.
قال: فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كثير، وكانت تحت يزيد بن معاوية،
فتقنعت بثوبها وخرجت، وقال: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله. ثم أذن للناس، فدخلوا
والرأس بين يديه، ومعه قضيب فنكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وأنا كما قال الحصين
بن الحمام المري: [من الطويل]. نفلق هاما من رجال أحبة * إلينا وهم كانوا أعق
وأظلما فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: أبو برزة الأسلمي:
أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا كريما، رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنك يا يزيد، تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك،
ويجئ هذا يوم القيامة ومحمد صلى الله عليه وسلم شفيعه، ثم قام فولى. ومنهم الفاضل
المعاصر محمد رضا أمين مكتبة جامعة فؤاد الأول سابقا في كتابه: (الحسن والحسين سبطا
رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ص 109 ط دار الكتب العلمية بيروت) قال: قال عمار بن
معاوية الدهني: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، حدثني عن مقتل الحسين حتى
كأني حضرته قال: مات معاوية، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى
الحسين بن علي ليأخذ بيعته ليلته. فقال: أخرني وارفق بي. فأخره فخرج إلى مكة فأتاه
رسل أهل الكوفة فقالوا: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي
فاقدم علينا. وكان النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة. فبعث الحسين بن علي إليهم
ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي
ص 683
طالب. ليأخذ بيعتهم. فقال سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي. فإن كان حقا قدمت
إليه. فخرج مسلم حتى أتى المدينة فأخذ منها دليلين فمرا به في البرية. فأصابهم عطش.
فمات أحد الدليلين. فقدم مسلم الكوفة فنزل على رجل يقال له (عوسجة). فلما علم أهل
الكوفة بقدومه، دنوا إليه. فبايعه منهم 12000. فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية
إلى النعمان: لأن أكون ضعيفا أو مستضعف. قد فسد البلد. فقال له النعمان: لأن أكون
ضعيفا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا في معصيته. ما كنت لأهتك سترا. فكتب
الرجل بذلك إلى يزيد. فدعا يزيد مولى له يقال له سرحون فاستشاره. فقال له: ليس
للكوفة إلا عبيد الله بن زياد. وكان يزيد ساخطا على عبيد الله. وكان هم بعزله عن
البصرة. فكتب إلى رضاه وأنه قد أضاف إليه الكوفة. وأمره أن يطلب مسلم بن عقيل. فإذا
ظفر به قتله. فأقبل عبيد الله بن زياد في وجه البصرة حتى قدم الكوفة متلثما. فلا
يمر على أحد فيسلم إلا قال له أهل المجلس: عليك السلام يا ابن بنت رسول الله يظنونه
الحسين بن علي قدم عليهم. فلما نزل عبيد الله القصر، دعا مولى له فدفع إلى ثلاثة
آلاف درهم. فقال إذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايعه أهل الكوفة فادخل عليه وأعلمه
أنك من حمص وادفع إليه المال وبايعه. فلم يزل المولى يتلطف حتى دلوه على شيخ يلي
البيعة، فذكر له أمره فقال: لقد سرني إذ هداك الله، وساءني أن أمرنا لم يستحكم. ثم
أدخله على مسلم بن عقيل ودفع المال وخرج حتى أتى عبيد الله فأخبره، وتحول مسلم حين
قدم عبيد الله من تلك الدار إلى دار أخرى، فأقام عند هانئ بن عروة المرادي وكان
عبيد الله قال لأهل الكوفة: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني؟ فخرج إليه محمد بن
الأشعث في أناس من وجوه أهل الكوفة وهو على باب داره، فقالوا له: إن الأمير قد ذكرك
واستبطأك فانطلق إليه. فركب معهم حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده شريح القاضي،
فقال عبيد الله - لما نظر إليه - لشريح: أتتك بمائن رجلاه فلما سلم عليه قال له: يا
هانئ،
ص 684
أين مسلم بن عقيل؟ فقال: لا أدري. فأخرج إليه الذي دفع الدراهم إلى مسلم. فلما رآه
سقط في يده وقال: أيها الأمير، ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه علي. فقال:
ائتني به، فتلكأ. فاستدناه، فأدنوه منه. فضربه بالقضيب وأمر بحبسه فبلغ الخبر قومه،
فاجتمعوا على باب القصر، فسمع عبيد الله الجلبة. فقال لشريح القاضي: اخرج إليهم
فأعلمهم أنني ما حبسته إلا لأستخبره عن خبر مسلم لا بأس عليه مني. فبلغهم ذلك
فتفرقوا، فنادى مسلم بن عقيل لما بلغه الخبر بشعاره، فاجتمع إليه 40000 من أهل
الكوفة، فركب وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فأمر كل
واحد منهم أن يشرف على عشيرته فيردهم، فكلموهم، فجعلوا يتسللون فأمسى مسلم وليس معه
إلا عدد قليل منهم، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضا، فلما بقي وحده تردد في
الطريق بالليل فأتى باب امرأة فقال: اسقيني ماء، فسقته فاستمر قائما فقالت: يا عبيد
الله! إنك مرتاب فما شأنك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل
فدخل وكان لها ولد من موالي محمد بن الأشعث فانطلق إلى محمد بن الأشعث فأخبره، فلم
يفجأ مسلما إلا والدار قد أحيط بها، فلما رأى ذلك خرج بسيفه يدفعهم عن نفسه فأعطاه
محمد بن الأشعث الأمان فأمكن من يده، فأتى به عبيد الله فأمر به فأصعد إلى القصر ثم
قتله وقتل هانئ بن عروة وصلبهما. ولم يبلغ الحسين ذلك حتى كان بينه وبين القادسية
ثلاثة أميال فلقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا،
وأخبره الخبر، فهم أن يرجع وكان معه إخوة مسلم فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب
بثأرنا أو نقتل. فساروا وكان عبيد الله قد جهز الجيش لملاقاته فوافوه بكربلاء،
فنزلها ومعه خمسة وأربعون نفسا من الفرسان ونحو مائة راجل، فلقيه عمر بن سعد بن أبي
وقاص، وكان عبيد الله ولاه الري وكتب إليه بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين، فلما
التقيا قال له الحسين: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن ألحق بثغر من الثغور، وإما
ص 685
أن أرجع إلى المدينة، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية؟ فقبل ذلك عمر منه،
فكتب فيه إلى عبيد الله فكتب إليه: لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي. فامتنع الحسين
فقاتلوه، فقتل معه أصحابه وفيهم سبعة عشر شابا من أهل بيته، ثم كان آخر ذلك أن قتل
وأتي برأسه إلى عبيد الله فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد ومنهم علي بن الحسين
كان مريضا ومنهم عمته زينب. فلما قدموا على يزيد أدخلهم على عياله ثم جهزهم إلى
المدينة. هذه الرواية مضبوطة إلا أنه ينقصها بعض التفاصيل ومنها تفاصيل المعركة،
وها نحن أولا نوفي الموضوع حقه. كان عمر بن سعد كارها محاربة الحسين، فلما أمره
عبيد الله بن زياد أن يسير لقتاله تلكأ فقال له زياد: فاردد علينا عهدنا. قال:
فأسير إذن. فلما سار قال عمر لقرة بن سفيان الحنظلي، انطلق إلى الحسين فسله، ما
أقدمك؟ فأتاه فأبلغه، فقال الحسين: أبلغه عني أن أهل المصر (الكوفة) كتبوا إلي
يذكرون ألا إمام لهم ويسألونني القدوم عليهم، فوثقت بهم فغدروا بي بعد أن بايعني
منهم 18000 رجل فلما دنوت علمت غرور ما كتبوا إلي وأردت الانصراف إلى حيث منه أقبلت
فمنعني الحر بن يزيد وسار حتى جعجع بي (تعلق بي وكفني عن الذهاب) في هذا المكان ولي
بك قرابة قريبة ورحم ماسة فأطلقني حتى أنصرف. فرجع قرة إلى عمر بن سعد بجواب الحسين
فقال عمر: الحمد لله، والله إني لأرجو أن أعفى من محاربة الحسين. وكتب ابن زياد إلى
عمر بن سعد، أن امنع الحسين وأصحابه الماء، فلا يتذوقوا منه حسوة كما فعلوا بالتقي
عثمان بن عفان. فلما ورد على عمر بن سعد ذلك، أمر عمرو بن الحجاج أن يسير في
خمسمائة راكب فينيخ على الشريعة (مورد الناس للاستقاء) ويحولوا بين الحسين وأصحابه
وبين الماء وذلك قبل مقتله بثلاثة أيام، فمكث أصحاب الحسين عطاشا. قالوا ولما اشتد
بالحسين وأصحابه العطش، أمر أخاه العباس بن علي أن يمضي في ثلاثين فارسا وعشرين
راجلا مع كل رجل قربة حتى يأتوا الماء فيحاربوا من حال بينهم وبينه. فمضى العباس
نحو الماء وأمامهم
ص 686
نافع بن هلال حتى دنوا من الشريعة. فمنعهم عمرو بن الحجاج فجالدهم العباس على
الشريعة بمن معه حتى أزالوهم عنها. واقتحم رجالة الحسين الماء فملأوا قربهم. ووقف
العباس في أصحابه يذبون عنهم حتى أوصلوا الماء إلى عسكر الحسين. ثم إن ابن زياد كتب
إلى عمر بن سعد قائد الجيش الذي يحارب الحسين. أما بعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين
لتطاوله الأيام ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتكون شفيعه إلي. فاعرض عليه وعلى
أصحابه النزول على حكمي فإن أجابوك، فابعث به وبأصحابه إلي. وإن أبوا فازحف إليه
فإنه عاق شاق فإن لم تفعل فاعتزل جندنا وخل بين شمر ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد
أمرناه بأمرنا. كان عبيد الله بن زياد يريد أن يقضي على الحسين ورجاله في الحال
ويرى أن عمر ابن سعد يتمهل في قتاله فأمره إن هم رضوا بالنزول على حكمه أن يبعثهم
إليه وإلا يزحف عليهم. ومعلوم أن الحسين يرفض أن ينزل على حكم عبيد الله وعلى فرض
أنه ذهب هو ورجاله إليه فإنه يأمر بقتلهم، وقد كان عمر بن سعد كارها في الوقت نفسه
لقتال الحسين لكنه كان لا يريد أن يعتزل ويتخلى عن ولاية الري. فنادى في أصحابه، أن
انهضوا إلى القوم. فنهضوا إليه عشية الخميس وليلة الجمعة: لتسع ليال خلون من
المحرم. فسألهم الحسين تأخير الحرب إلى غد فأجابوه، فأمر الحسين أصحابه أن يضموا
مضاربهم بعضهم من بعض ويكونوا أمام البيوت وأن يحفروا من وراء البيوت أخدودا (شقا
في الأرض) وأن يضرموا فيه حطبا وقصبا كثيرا لئلا يأتوا من أدبار البيوت فيدخلوها
وذلك استعدادا للقتال والدفاع ولما صلى عمر بن سعد الغداة نهض بأصحابه وعلى ميمنته
عمرو بن صبيح الصيداوي وعلى ميسرته شمر ابن ذي جوشن واسمه شرحبيل بن عمرو بن معاوية
من آل الوحيد. وعلى الرجالة شبث بن ربعي والراية بيد زيد مولى عمر بن سعد. وعبأ
الحسين عليه السلام أيضا أصحابه وكانوا 32 فارسا و40 راجلا فجعل زهير ابن القين
البجلي على ميمنته وحبيب من مظاهر على ميسرته ودفع الراية إلى أخيه
ص 687
العباس بن علي. ثم وقف ووقفوا أمام البيوت. وانحاز الحر بن يزيد الذي كان جعجع
بالحسين إلى الحسين. فقال له: قد كان مني الذي كان وقد أتيتك مواسيا لك بنفسي،
أفترى ذلك لي توبة مما كان مني؟ قال الحسين: نعم إنها لك توبة فأبشر فأنت الحر في
الدنيا والحر في الآخرة إن شاء الله. ونادى عمر بن سعد مولاه زيدا أن قدم الراية
فتقدم بها وشبت الحرب. فلم يزل أصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون حتى لم يبق معه غير
أهل بيته. فكان أول من تقدم منهم، علي بن الحسين وهو علي الأكبر. فلم يزل يقاتل حتى
قتل ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه عمرو بن صبح الصيداوي فصرعه. ثم قتل عدي
ابن عبد الله بن جعفر الطيار. قتله عمرو بن نهشل التميمي. ثم قتل عبد الرحمن بن
عقيل بن أبي طالب رماه لقيط بن ياسر الجهني بسهم فقتله. ثم قتل أبو بكر بن الحسن
ابن علي، رماه عبد الله بن عقبة الغنوي بسهم فقتله. ولما رأى ذلك العباس بن علي قال
لإخوته عبد الله وجعفر وعثمان بني علي عليه السلام: تقدموا أنتم فحاموا عن سيدكم
حتى تموتوا دونه. فتقدموا جميعا. فصاروا أمام الحسين يقونه بوجوههم ونحورهم. فحمل
هانئ بن ثويب الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله. ثم حمل على أخيه جعفر بن علي
فقتله أيضا. ورمى يزيد الأصبحي عثمان بن علي بسهم فقتله ثم خرج إليه فاحتز رأسه
فأتى عمر بن سعد، فقال له أثبني. فقال عمر: عليك بأميرك (يعني عبيد الله بن زياد)
فسله أن يثيبك. وبقي العباس بن علي قائما أمام الحسين يقاتل دونه ويميل معه حيث مال
حتى قتل. وبقي الحسين وحده. فحمل عليه مالك بن سنان الكندي فضربه بالسيف على رأسه
وعليه برنس خز فقطعه وأفضى السيف إلى رأسه فجرحه. فألقى الحسين البرنس ودعا بقلنسوة
فلبسها ثم اعتم بعمامة وجلس. فدعا بصبي له صغير فأجلسه في حجره فرماه رجل من بني
أسد وهو في حجر الحسين بمشقص (بنصل) فقتله. وبقي الحسين مليا جالسا ولو شاؤوا أن
يقتلوه، قتلوه. غير أن كل قبيلة كانت تتكل
ص 688
على غيرها وتكره الإقدام على قتله. وعطش الحسين. فدعا بقدح من ماء. فلما وضعه في
فمه، رماه الحصين بن نمير بسهم فدخل في فمه وحال بينه وبين الماء. فوقع القدح من
يده. ولما رأى القوم قد أحجموا عنه، قام يتمشى على المسناة نحو الفرات فحالوا بينه
وبين الماء. فانصرف إلى موضعه الذي كان فيه. فرماه رجل من بني تميم يقال عمر الطهوي
بسهم فأثبته في عاتقه. فنزع الحسين السهم. وضربه زرعة بن شريك التميمي بالسيف
واتقاه الحسين بيده. فأسرع السيف في يده. وحمل عليه سنان بن أنس بن عمرو النخعي
الأصبحي فطعنه فسقط، ونزل إليه خولي بن يزيد الأصبحي ليحز رأسه فأرعد. فقال له سنان
بن أنس فت الله في عضديك وأبان يديك فنزل إليه فذبحه واحتز رأسه. ووجد بالحسين حين
قتل 33 طعنة و34 ضربة وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسن إلا شد عليه مخافة أن
يغلب على رأسه حتى أخذ رأس الحسين فدفعه إلى خولي وسلب الحسين ما كان عليه فأخذ
سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس قطيفة وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود وأخذ
سيفه رجل من بني أهل حبيب بن بديل. ومال الناس على الفرش والحلي والإبل فانتهبوها
وانتهبوا ملابس النساء. فلما جاء عمر بن سعد، أمرهم أن يردوا ما سلبوا. فما رد أحد
شيئا.
رأس الإمام الحسين الشهيد عند يزيد العنيد

رواه جماعة: فمنهم العلامة المؤرخ
محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى 711 ه في (مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر)
(ج 19 ص 220 ط دار الفكر) قال: قال عبد الواحد القرشي: لما أتي يزيد بن معاوية برأس
الحسين بن علي عليهما السلام، تناوله بقضيب، فكشف عن ثناياه، فوالله ما البرد بأبيض
من ثناياه ثم قال: [من الطويل]:
ص 689
يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما فقال له رجل عنده: يا هذا،
إرفع قضيبك، فوالله لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه يقبله،
فرفعه متذمرا عليه، فغضب. ومنهم العلامة الشريف أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني
الخوافي [الحافي] الشافعي في (التبر المذاب) (ص 88 المخطوط) قال: وذكر ابن أبي
الدنيا قال كان عند يزيد لعنه الله أبو برزة الأسلمي فقال له يا يزيد إرفع قضيبك
فوالله لطال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثناياه وكان علي بن الحسين
عليه السلام والنساء موثقين بالحبال فناداه علي يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا
على هذا الحال موثوقين بالحبال عرايا على أقتاب الجمال بغير غطاء ولا وطأ فلم يبق
(أحد) في القوم إلا بكى. وذكر أيضا في الحسن البصري رضي الله عنه قال ضرب يزيد رأس
الحسين عليه السلام ومكانا كان يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تمثل رضي
الله عنه بقوله: سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله (ص) ليس لها نسل ومنهم
العلامة الشريف أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني الخوافي [الحافي] الشافعي في (التبر
المذاب) (ص 88 المخطوط) قال: وحكى هشام بن محمد عن أبيه عن عبيد بن عمير قال كان
رسول قيصر حاضرا عند يزيد فقال ليزيد هذا رأس من فقال رأس الحسين قال ومن الحسين
قال ابن فاطمة قال ومن فاطمة قال بنت محمد قال ومن محمد قال نبينا قال تبا لكم
ولدينكم وما أنتم عليه وحق المسيح إن عندنا في بعض الجزائر دير فيه حافر حمار ركبه
عيسى السيد المسيح ونحن نحج إليه في كل عام من الأقطار ونبذل له النذور ونعظمه كما
تعظمون كعبتكم فأشهد أنكم على باطل ثم قام ولم يعد إليه. ومنهم أبو العرب محمد بن
أحمد القيرواني التميمي المغربي المالكي في (المحن) (ط
ص 690
دار الغرب الإسلامي في بيروت) قال: وحدثني بكر بن حماد قال: حدثنا زهير بن عباد
الرؤاسي قال: حدثنا أبو عمر الصنعاني عن حرام بن عثمان قال: أتي برأس الحسين بن علي
بن أبي طالب فألقي بين يدي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فجعل يضرب وجهه بقضيب
ويدخله في فمه وعينيه، فقال زيد بن أرقم: إرفع قضيبك عن مكانه، فقال يزيد: ولم،
قال: إني رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، فقال يزيد: إنك شيخ قد خرفت،
فاقتحم زيد عن السرير وكان جالسا عليه مع يزيد فقال: العجيب من هذا، فأشهد لقد رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يجلسه على فخذه اليسرى واضعا يده على رأسه وهو يقول:
اللهم إني استودعكه وصالح المؤمنين، فكيف حفظت وديعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال حزام بن عثمان: حدثت بهذا الحديث بالعراق، فلما قدمت المدينة حدثني سعيد بن
معاذ وغيره أنهم حضروا ذلك حين قاله زيد بن أرقم ليزيد.
الرأس الحسيني الشريف كيف
عاملوا به؟ 
رواه جماعة: فمنهم العلامة كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة المولود
588 والمتوفى 660 في (بغية الطلب في تاريخ حلب) (ج 6 ص 2646 ط دمشق) قال: وقال:
حدثنا محمود قال: حدثنا محمد بن موسى بن داود قال: وحدثني محمد ابن سعد قال: حدثني
الواقدي قال: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن الشعبي قال: أول رأس حمل في
الإسلام على خشبة رأس الحسين بن علي. ومنهم العلامة الشيخ إسماعيل بن هبة الله
الموصلي الشافعي في (غاية الوسائل في معرفة الأوائل) (والنسخة مصورة من مكتبة
السلطان أحمد الثالث في اسلامبول ص 102) قال:
ص 691
أول رأس رفع على خشبة في الإسلام رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما عن زر بن حبيش
قال: أول رأس رفع على خشبة رأس الحسن رضي الله عنه وكان قتل بنينوى من أرض العراق
في يوم عاشورا من سنة إحدى وستين. ومنهم الحافظ الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي
بكر السيوطي في (الوسائل في سامرة الأوائل) (ص 61 ط بيروت سنة 1406) قال: وأخرج ابن
سعد عن الشعبي أيضا قال رأس الحسين أول رأس حمل في الإسلام. وأخرج ابن سعد عن زر بن
حبيش قال: أول رأس رفع على خشبة رأس الحسين. ومنهم علامة التاريخ صارم الدين
إبراهيم بن محمد بن ايدمر بن دقماق القاهري المتولد سنة 750 والمتوفى سنة 809 ه في
(الجوهر الثمين في سيرة الخلفاء والسلاطين) (ج 1 ص 78 ط عالم الكتب في بيروت سنة
1405 ه) قال: ولما دخلت سنة إحدى وستين خرج الحسين يريد الكوفة، فتلقاه عسكر ابن
زياد، فقتلوه بالطف وقتلوا معه اثنين وسبعين رجلا من أولاده وإخوته وبني عمه
وأصحابه ومواليه، وسبوا حريمه وبعث عبيد الله بن زياد السبي والحريم ورؤوس القتلى
إلى عند يزيد بن معاوية، وكان يزيد بدمشق، فردهم إلى المدينة وحمل رأس الحسين على
رمح، وهو أول رأس حمل في الإسلام. ومنهم الفاضل المعاصر أبو هاجر محمد السعيد بن
بسيوني زغلول في (موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف) (ج 5 ص 36 ط عالم التراث
للطباعة والنشر بيروت) قال: رأيت الحسين أول رأس حمل في الإسلام. مجمع 9: 196. من
كرامات الرأس الشريف الحسيني 
رواها جماعة:
ص 692
فمنهم العلامة الحافظ أبو حاتم محمد بن أحمد التميمي البستي المتوفى سنة 354 ه في
(السيرة النبوية وأخبار الخلفاء) (ص 560 ط مؤسسة الكتب الثقافية دار الفكر بيروت)
قال: ثم أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء
والصبيان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقتاب مكشفات الوجوه
والشعور، فكانوا إذا نزلوا منزلا أخرجوا الرأس من الصندوق وجعلوه في رمح وحرسوه إلى
وقت الرحيل، ثم أعيد الرأس إلى الصندوق ورحلوا، فبينا هم كذلك إذ نزلوا بعض المنازل
وإذا فيه دير راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم وجعلوه في الرمح وأسندوا الرمح إلى
الدير، فرأى الديراني بالليل نورا ساطعا من ديره إلى السماء، فأشرف على القوم وقال
لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن أهل الشام، قال: هذا رأس من هو؟ قالوا: رأس الحسين بن
علي، قال: بئس القوم أنتم! والله لو كان لعيسى ولد لأدخلناه أحداقنا! ثم قال: يا
قوم! عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من أبي وأبي من أبيه، فهل لكم أن تعطوني هذا
الرأس ليكون عندي الليلة وأعطيكم هذه العشرة آلاف دينار؟ قالوا: بلى، فأحدر إليهم
الدنانير، فجاءوا بالنقاد، ووزنت الدنانير ونقدت، ثم جعلت في جراب وختم عليه، ثم
أدخل الصندوق، وشالوا عليه الرأس، فغسله الديراني ووضعه علي فخذه وجعل يبكي الليل
كله عليه، فلما أن أسفر عليه الصبح قال: يا رأس! لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهد أن لا
إله إلا الله وأن جدك رسول الله، فأسلم النصراني وصار مولى للحسين، ثم أحدر الرأس
إليهم فأعادوه إلى الصندوق ورحلوا، فلما قربوا من دمشق قالوا: نحب أن نقسم تلك
الدنانير، لأن يزيد إن رآها أخذها منا، ففتحوا الصندوق وأخرجوا الجراب بختمه
وفتحوه، فإذا الدنانير كلها قد تحولت خزفا، وإذا على جانب من الجانبين من السكة
مكتوب (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) وعلى الجانب الآخر (وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون)، قالوا: قد افتضحنا والله! ثم رموها في بردي نهر لهم،
فمنهم من
ص 693
تاب من ذلك الفعل لما رأى، ومنهم من بقي على إصراره، وكان رئيس من بقي على ذلك
الاصرار سنان بن أنس النخعي. ثم اركب الأسارى من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم من النساء الصبيان أقتابا يابسة مكشفات الشعور، وأدخلوا دمشق كذلك، فلما وضع
الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيته بقضيب كان في يده ويقول: ما أحسن
ثناياه! قد ذكرت كيفية هذه القصة وباليتها في أيام بني أمية وبني العباس في كتاب
الخلفاء، فأغنى عن إعادة مثلها في هذا الكتاب لاقتصارنا على ذكر الخلفاء الراشدين
منهم في أول هذا الكتاب. ومنها ما رواه جماعة: فمنهم العلامة محمد عبد الباقي
الأيوبي اللكنهوئي المدني في (المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة) (ص 183 ط دار
الكتب العلمية بيروت) قال: المسلسل بقول كل راو والله إني سمعته أرويه عن أحمد بن
عبد الله المكي، عن محمد بن محمد السقاف، عن صالح بن إبراهيم بن عبد اللطيف، عن
أبيه، عن أبي عبد الله محمد بن محمد بن الطيب، عن أبي طاهر محمد، عن أبيه إبراهيم
بن حسن، عن ابن الديبع، عن السخاوي قال: أخبرتني والله آمنة بنت نصر الله، عن أحمد
بن أبي بكر بن العز، عن القاضي سليمان ابن حمزة الصالحي، عن جعفر بن علي الهمداني،
عن الحافظ محمد بن أحمد الإصبهاني، عن أبي علي الحسن بن أحمد الحداد، عن أبي سعيد
إسماعيل أبي علي السماك، عن عبد الوهاب بن جعفر الميداني، عن أبي القاسم الفضل بن
جعفر بن محمد التيمي، عن أبي الحسن محمد بن أحمد العسقلاني، عن أبي الحسن علي بن
هارون الأنصاري، عن محمد بن أحمد المصري، عن صالح بن حكيم أبي شعيب البصري نزيل
مصر، عن معاذ بن أسد الخراساني، عن الفضل بن موسى السيناني،
ص 694
عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل قال: رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما أتى على
القنا وهو يقول (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) قال: قلت لسلمة آلله أنت سمعته؟
قال آلله إني سمعته منه بباب الفراديس من دمشق لا مثل لي ولا شبه. قال الفضل: فقلت
للأعمش آلله أنت سمعته من سلمة؟ فقال: إني سمعته منه. قال معاذ: فقلت للفضل أنت
سمعته من الأعمش؟ قال: آلله إني سمعته منه، قال السخاوي: وهكذا قال كل واحد من
الرواة إلى أن وصل إلينا، قال ابن الطيب: الحديث أخرجه الكتاني في مسلسلاته التي
اتصلت بالسلفي، عن تمام الرازي وأسد بن القاسم الحلبي، كلاهما عن الفضل. وقد صرحوا
بأنه ضعيف والتسلسل لا يخلو عن كلام على عادة المسلسلات - انتهى، والله أعلم. ومنها
سطوع النور مثل العمود من الإجانة التي فيها الرأس الشريف إلى السماء وترفرف الطيور
البيض حولها قد رويناه عن الكتب العامة في ج 11 ص 491 ومواضع أخرى ونستدرك هيهنا عن
كتبهم التي لم نرو عنها فيما مضى. رواه جماعة من العامة: فمنهم الفاضل المعاصر
الدكتور محمد جميل غازي في (استشهاد الحسين عليه السلام) (ص 105) خرجه من كتاب
الحافظ (ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) قال: ويقال: إن عمر بن سعد أمر عشرة
فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن
يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي ابن يزيد الأصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده
مغلقا، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة وقال لامرأته نوار بنت مالك: جئتك بعز
الدهر، فقالت: وما هو؟ فقال: برأس الحسين. فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت
أنت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله؟ والله لا يجمعني وإياك فراش
أبدا، ثم نهضت
ص 695
عنه من الفراش، واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد فنامت عنده. قالت المرأة الثانية
الأسدية: والله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الإجانة إلى السماء، وطيور بيضاء
ترفرف حولها. فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه، وقال إنه كان معه
رؤوس بقية أصحابه وهو المشهور. ومجموعها اثنان وسبعون رأسا، وذلك أنه ما قتل قتيل
إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى
الشام. ومنهم الفاضل المعاصر محمد رضا أمين مكتبة جامعة فؤاد الأول سابقا في كتابه:
(الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ص 131 ط دار الكتب العلمية
بيروت) قال: أقبل خولي بن يزيد الأصبحي برأس الحسين - فذكر مثل ما تقدم عن (استشهاد
الحسين عليه السلام) باختلاف قليل وزيادة ونقصان.
الاختلاف في مدفن الرأس الشريف

رواه جماعة: فمنهم الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي السجستاني في (تاريخ
الصحابة الذين روي عنهم الأخبار) (ص 67 ط بيروت) قال: وحمل رأس الحسين إلى الشام
وكان له يوم قتل ثمان وخمسون سنة. وقد قيل: ست وخمسون سنة. والذي قتله يومئذ سنان
بن أنس النخعي لعنه الله. وكان الحسين يخضب بالسواد. واختلف في موضع رأسه، فمنهم من
قال: إن رأسه على رأس عمود في مسجد جامع دمشق عن يمين القبلة وقد رأيت ذلك العمود
ومنهم من زعم أن رأسه في البرج الثالث من السور على باب الفراديس بدمشق ومنهم من
زعم أن رأسه في قبر معاوية وذلك أن يزيد دفن رأسه في قبر أبيه وقال: أحصنه بعد
ص 696
الممات، فأما جثته فبكربلاء، وفي قتله أخبار كثيرة تنكبنا ذكرها لأن شرطنا في هذا
الكتاب الاختصار ولزوم الاقتصار. وقال أيضا في كتابه (الثقات) ج 3 ص 68 ط حيدر آباد
مثل ما تقدم عن التاريخ وأشار إليه السيد علي الحريري المصري في كتابه (الحروب
الصليبية) ص 94 ط بيروت والدكتور عصام محمد شارد في (تعليقه على كتاب الحروب
الصليبية) في الصفحة المذكورة فقال: لما علم الصالح بن رزيك وزير مصر بوجود مشهد
سيدنا الحسين رضي الله عنه بتلك الجهة خاف عليه من هجمات الافرنج، فعزم على نقله
إلى مصر، فابتنى له جامعا مخصوصا خارج باب زويلة دعاه جامع الصالح نسبه إليه بنية
أن يجعل فيه الرأس الشريفة. فلما فرغ من بنائه لم يمكنه الخليفة من تلك بدعوى أنه
لا يليق أن يكون ذلك الأثر الشريف خارج سور المدينة، فكانت حجته حقا وأبى إلا أن
يجعله في بعض أجزأ قصر المدعو قصر الزمرد فأقام له مشهدا هناك. ثم في سنة 740 /
1139 احترق المشهد في ولاية السلطان الناصر محمد بن قلاوون الثالثة فأعيد بناؤه.
وقد اعتنى به السلاطين والأمراء في كل عصر بعمارته وزخرفته وتحليته وإعلاء شأنه،
وأخيرا أقيم في جواره جامع. حتى إذا كانت أيام الأمير عبد الرحمن كتخدا أحد أمراء
المماليك أعيد بناء المشهد الحسيني في سنة 1175 / 1761، وبد ذلك أعيد بناؤه برمته
في أيام الخديوي إسماعيل باشا سنة 1282 / 1865، وكان الناظر على الأوقاف المصرية
الأمير راتب باشا وتمت عمارته في 28 محرم سنة 1290 / 1873 إلا المأذنة فتمت في سنة
1295 / 1878 وادخل في الجامع عدة بيوت حتى أصبح كما نعرفه الآن، وهو الجامع المعروف
بجامع سيدنا الحسين تجاه خان الخليلي بالقاهرة. ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور كمال
الدين سامح في (العمارة الإسلامية في مصر) (ص 29 الهيئة المصرية العامة للكتاب)
قال:
ص 697
المشهد الحسيني بالقاهرة: دفن به الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب بعد نقله من
عسقلان إلى القاهرة وذلك بعد انشاء قبة المشهد الذي أنشئ خصيصا له في سنة (549 ه -
1154 م). وفي سنة (633 ه - 1235 م) بدأ أبو القاسم يحيى بن ناصر السكري بإنشاء
منارة على باب المشهد أتمها ابنه في سنة 1236 م وهي المنارة الحافلة بالزخارف
الجصية فوق الباب المعروف بالباب الأخضر والباقي منها قاعدتها المربعة وعليها
لوحتان تذكاريتان، وفي سنة 1248 م حصل حريق بالمشهد. وممن عنى بالمشهد بعد ذلك والي
مصر من قبل الدولة العثمانية السيد محمد باشا الشريف الذي تولى الحكم ما بين سنتي
(1595 - 1597 م) كذلك عنى به الأمير حسن كتخدا عزبان الجلفي المتوفى سنة (1124 ه -
1712 م) فقد وسعه وزاد فيه. وفي عهد الخديو إسماعيل سنة (1279 ه - 1862 م) أمر
بتجديده والزيادة فيه وتم بناؤه في سنة (1290 - 1873 م) ومنارته في سنة (1295 ه -
1878 م). ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى 711 ه في
(مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر) (ج 29 ص 121 ط دار الفكر) قال: أبو كرب قال: كنت في
القوم الذين دخلوا يريدون قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك. قال: وكنت فيمن نهب
خزائنه بدمشق، فدخلت إلى خزانة لهم فرأيت فيها سفطا مرفوعا، فأخذته، قلت: في هذا
غناي. قال: فركبت فرسي، وجعلته بين يدي، وخرجت من باب توما، فعدلت عن يميني، وفتحت
قفله فإذا أنا بحريرة في داخلها رأس مكتوب على بطاقة فيها: هذا رأس الحسين بن علي.
فقلت: ما لكم لا غفر الله لكم. فحفرت له بسيفي حتى واريته. ومنهم العلامة ابن فضل
الله العمري في (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) (ج 1 ص 220 ط مطبعة دار الكتب
المصرية بالقاهرة) قال: مشهد الحسين بعسقلان. كان رأسه بها. فلما أخذها الفرنج، نقل
المسلمون الرأس
ص 698
إلى القاهرة، ودفن بها في المشهد المعروف به، خلف القصرين، على زعم من قال ذلك.
والأغلب أنه لم يتجاوز دمشق. لأنه إنما حمل إلى يزيد بن معاوية. وكانت دمشق دار
ملكه وملك بني أمية. ومن المحال أن يتجاوز الرأس المحمول إلى السلطان لغير حضرته.
وله بدمشق مشهد معروف، داخل باب الفراديس. وفي خارجه مكان الرأس، على ما ذكروا. وقد
جاء في أخبار الدولة العباسية أنهم حملوا أعظم الحسين ورأسه إلى المدينة النبوية
حتى دفنوه بقبر أخيه الحسن. والمدى بعيد بين قتل الحسين ومبنى مشهد عسقلان. ومنهم
الفاضل المعاصر الأستاذ أحمد أبو كف في كتاب (آل بيت النبي صلى الله عليه وآله في
مصر) (ص 17 ط دار المعارف بالقاهرة) قال: رأس سيد الشهداء، تشدك إلى رحابها، محبون
وعاشقون، على موعد وغير موعد. أنت تجد دائما الحي الذي شرف باسم الحسين عامرا بكل
ألوان الناس من مختلف الجنسيات تجذبهم جميعا المحبة والعشق لآل بيت الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى ريحانة الرسول، وسبطه. مئات الألوف من المحبين والمتشيعين لآل البيت،
حتى وإن اختلفت المذاهب، فالكل في حب آل بيت النبي سواء. ولماذا الحسين؟ وحي الحسين
بالذات، هو مبتغى الناس في مصر ومن خارجها. ولماذا يستأثر سيد الشهداء بمثل هذا
الحب والاقبال؟ السؤال سهل. والجواب أكثر سهولة وصعوبة في الوقت نفسه! إنها قصة
البطولة والعبرة، وقصة الإيمان، الذي ميز آل بيت الرسول وقصة الدفاع عن المبدأ
والعقيدة إلى آخر مدى، ومهما كانت التضحيات. الإمام الحسين سبط الرسول الكريم عليه
أفضل الصلاة وأتم السلام. ولد في بيت النبوة، من ابنته البتول فاطمة الزهراء رضي
الله عنها. وهو أخو الإمام الحسن، ابنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ص 699
ومنهم العلامة العارف الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني القلقشندي في (مختصر تذكرة
القرطبي) (ص 222 ط دار الفكر بيروت) قال: قال أهل التاريخ ولما مات معاوية وأفضت
الخلافة إلى يزيد ولده وذلك في سنة ستين ووردت بيعته على الوليد بن عتبة بالمدينة
ليأخذ البيعة على أهلها أرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتى
بهما فقال بايعا فقالا مثلنا لا يبايع ليلا أو قال سرا ولكنا نبايع على رؤوس الناس
إذا أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من أهلهما إلى مكة وذلك ليلة الأحد لليلتين
بقيتا من رجب فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وخرج يوم التروية
يريد الكوفة فبعث عبيد الله بن زياد خيلا لمقتل الحسين وأمر عليهم عمر بن سعد بن
أبي وقاص فأدركه بكربلاء. وقيل إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي
أن جعجع الحسين قال أهل اللغة أراد حبسه وضيق عليه - والجعجع والجعجاع الموضع الضيق
من الأرض - ثم أمده بعمر بن سعد في أربعة آلاف ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر
ويستنفر الجماهير إلى أن بلغوا اثنين وعشرين ألفا وأميرهم عمر بن سعد ووعده أن
يملكه مدينة الري. فباع الفاسق الرشد بالغي. وفي ذلك يقول:
لأنزل ملك الري والري
منيتي * وأرجع مأثوما بقتل حسين
فضيق عليه اللعين أشد تضييق وسد بين يديه واضح
الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة وقيل يوم السبت العاشر من المحرم وقال ابن عبد البر
يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء ويعرف أيضا
بالطف وعليه جبة من خز دكناء وهو ابن ست وخمسين سنة قال نسابة قريش الزبير بن بكار
وكان مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة وفيها كانت غزوة ذات الرقاع
وفيها قصرت الصلاة وفيها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة واتفقوا على أن قتل
رضي الله عنه يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى وستين ويسمى عام الحزن وقتل
معه اثنان وثمانون رجلا من أصحابه مبارزة فيهم
ص 700
الحسن بن يزيد لأنه بارز وقتل مع الحسين ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بزين
العابدين فإنه كان مريضا فأخذ أسيرا بعد قتل أبيه وقتل أكثر أخوة الحسين وبني
أعمامه.
عين أبكي بعبرة وعويل * واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة كلهم لصلب علي * قد
أصيبوا وتسعة لعقيل
قال الإمام جعفر الصادق وجد بالحسين ثلاث وثلاثين طعنة وأربع
وثلاثون ضربة واختلفوا فيمن قتله فقال يحيى بن معين أهل الكوفة يقولون إن الذي قتل
الحسين عمر بن سعد بن أبي وقاص. قال يحيى وكان إبراهيم بن سعيد يروي فيه حديثا أنه
لم يقتله عمر بن سعد وقال ابن عبد البر إنما نسب قتل الحسين إلى عمر بن سعد لأنه
كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين وأمر عليهم
عمر بن سعد ووعد أن يوليه الري إن ظفر بالحسين وقتله وكان في تلك الخيل والله أعلم
قوم من مصر ومن اليمن وكان سليمان بن قنة يقول دم الحسين اشترك فيه جماعة ولعلهم من
ذكرنا من أهل مصر واليمن وقيل قتله سنان بن أويس النخعي وقال مصعب النسابة الثقة
قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي وهو جد شريك القاضي ويصدق ذلك قول
الشاعر:
وأي رزية عدلت حسينا * غداة تبيره كفا سنان
وقال خليفة بن خياط الذي ولي
قتل الحسين هو شمر بن ذي الجوشن وأمير الجيش عمر بن سعد وكان شمر أبرص وأجهز عليه
خولي بن يزيد الأصبحي من حمير فحز رأسه وأتى به إلى عبيد الله بن زياد وقال:
أوقر
ركابي فضة وذهبا * إني قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إن
ينسبوه نسبا
انتهى ما ذكره ابن عبد البر وقال غيره تولى حمل الرأس بشر بن مالك ودخل
به على ابن زياد وهو يقول هذا الشعر فغضب ابن زياد من قوله وقال فإذا علمت أنه
ص 701
كذلك فلم قتلته والله لا نلت مني خيرا أبدا ولألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه وقال
بعضهم إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل قاتل الحسين. وروى الإمام أحمد بن حنبل عبن
ابن عباس رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار أشعث
أغبر ومعه قارورة فيها دم يتتبعه من الأرض ويلتقطه فيها فقلت يا رسول الله ما هذا
فقال هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه من الأرض منذ اليوم قال عمار بن ياسر
فحفظنا ذلك اليوم فوجدنا الحسين قد قتل ذلك اليوم. قال الإمام القرطبي وهذا سند
صحيح لا مطعن فيه قال ابن عباس وساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
اليوم كما تساق الأسارى حتى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس وجعلوا ينظرون
إليهم وكان في الأسارى يومئذ علي بن الحسين رضي الله عنهما وكان شديد المرض قد جمعت
يداه إلى عنقه وزينب بنت علي من فاطمة الزهراء وأختها أم كلثوم وفاطمة وسكينة بنتا
الحسين وساق الفسقة معهم رؤوس القتلى وكان محمد بن الحنفية رضي الله عنه يقول قتل
مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها وكان الحسن
البصري رضي الله عنه يقول قتل مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا من أهل بيته لم يكن
على وجه الأرض له شبيه وقال غيره إنه قتل مع الحسين بن علي من ولده وإخوته وأهل
بيته ثلاثة وعشرون رجلا وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال أتي برأس الحسين إلى
عبيد الله بن زياد فجعل في طشت فجعل ينكت فيه ويقول في حسنه شيء وكان أنس يقول كذب
عبيد الله بن زياد كان الحسين أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
مخضوبا بالوسمة قال أهل اللغة ومعنى ينكت أي يضرب الرأس بالقضيب الذي في يده حتى
يؤثر فيه قال أصحاب السير ثم أمر عبيد الله بن زياد من فوره بالرأس حتى ينصب في
الريح فتحاماه أكثر الناس فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو المشئوم الملعون
المذموم فقوره ونصبه بباب ولد عبيد الله بن زياد ونادى في الناس ثم جمعهم في المسجد
الجامع وخطب بهم خطبة لا يحل لمسلم
ص 702
ذكرها ثم دعا بزياد بن حر الجعفي فسلم إليه رأس الحسين ورؤوس أخوته وبنيه وأهل بيته
وأصحابه ودعا بعلي بن الحسين فحمله وحمل عماته وأخواته إلى يزيد على بعير وطئ
والناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد ومنزل حتى قدموا دمشق فأقيموا على درج باب
المسجد الجامع حيث يقام السبي ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في
طشت من ذهب وجعل ينظر إليه ويقول:
صبرنا وكان الصبر منا عزيمة * وأسيافنا يقطعن كفا
ومعصما
ففلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ثم تكلم بلام قبيح
وأمر بالرأس أن تصلب بالشام ولما رأى خالد بن عبد الله ذلك قال:
جاءوا برأسك يا ابن
بنت محمد * متزملا بدمائه تزميلا
وكأنما بك يا ابن بنت محمد * قتلوا جهارا عامدين
رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا * في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبرون بأن قتلت
وإنما * قتلوا بك التكبير والتهليلا
وكان خالد هذا من أجل عباد التابعين وقد اختفى
شهرا وهم يطلبونه ليقتلوه فلم يظفروا به واختلف الناس في موضع الرأس المكرم وأين
حمل من البلاد فروى الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين
بعث به إلى المدينة مع أقوام من موالي بني هاشم وضم إليهم جماعة من موالي أبي سفيان
وبعث بنقل الحسين ومن بقي من أهله معهم ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا وقد أمر لهم
بها وقد كان الذي تلقى رأس الحسين بالمدينة حين قدموا بها عمر بن سعيد بن العاص وهو
إذ ذلك عامل على المدينة ليزيد فقال عمر وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمر بن
سعيد برأس الحسين فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما. قال
الإمام القرطبي وهذا أصح ما قيل فيه وبه قال الزبير بن بكار الذي هو أعلم بالأنساب.
ص 703
وقال الإمامية إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما قال القرطبي رحمه
الله تعالى وما ذكر من أنه دفن بعسقلان في المشهد المعروف بها أو بالقاهرة فهو شيء
باطل لا يصح انتهى. قلت قد ثبت أن طلائع بن رزيك الذي بنى المشهد بالقاهرة نقل
الرأس إلى هذا المشهد بعد أن بذل في نقلها نحو أربعين ألف دينار وخرج هو وعسكره
فتلقاها من خارج مصر حافيا مكشوف الرأس هو وعسكره. وهي في برنس حرير أخضر في القبر
الذي هو في المشد موضوعة على كرسي من خشب الآبانوس ومفروش هناك نحو نصف إردب من
الطيب كما أخبرني بذلك خادم المشهد. ومما وقع لي أنني قلت لسيدي الشيخ شهاب الدين
بن الشلبي الحنفي مفتي المسلمين رضي الله عنه أترى أن تزور معنا رأس الحسين في
المشهد بخان الخليلي فقال إنه لم يثبت كون الرأس هناك فقلت له نزوره بالنية على
تقدير صحة ذلك فقال نعم فلما دخلنا مقصورته بالمشهد قلت للشيخ اجلس مراقبا بقلبك
للرأس فجلس متخيلا لها في ذهنه فحصل له ثقل رأس فنام فرأى نقيبا مشدود الوسط قد خرج
من القبر فما زال بصره يتبعه حتى دخل مقصورة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له
يا رسول الله إن الشيخ شهاب الدين بن الشلبي وعبد الوهاب الشعراني يزوران رأس ولدك
الحسين فقال صلى الله عليه وسلم تقبل الله منهما انتهى فاستيقظ الشيخ شهاب الدين
وتواجد حتى وقعت عمامته من فوق رأسه وقال آمنت وصدقت بأن الرأس هنا وحكى الواقعة
ولم يزل يزوره حتى مات. فزر يا أخي هذا المشهد بالنية الصالحة إن لم يكن عندك كشف
فقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى إن دفن الرأس في مصر باطل بل صحيح في أيام
القرطبي فإن الرأس إنما نقلها طلائع بن رزبك بعد موت القرطبي فافهم والله تعالى
أعلم. ومنهم العلامة شمس الدين أبو البركات محمد الباعوني الشافعي في كتاب (جواهر
المطالب في مناقب الإمام أبي الحسنين علي بن أبي طالب) (ص 140 والنسخة مصورة من
ص 704
المكتبة الرضوية بخراسان) قال: وأما رأسه فالمشهور بين أهل التاريخ والسير إنه بعثه
زياد بن أبيه الفاسق إلى يزيد بن معاوية وبعث به يزيد إلى عمر بن سعد الأشدق لطيم
الشيطان وهو إذ ذاك بالمدينة فنصبه ودفن عند أمه بالبقيع. وذكر ابن أبي الدنيا أن
الرأس لم يزل في خزانة يزيد حتى هلك فأخذ ثم غسل وكفن ودفن داخل باب الفراديس من
مدينة دمشق والله أعلم. وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله إن ابن زياد لما وضع الرأس
بين يديه تمثل بقول الشاعر: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع خزرج من وقع الأسل
قد
قتلنا القوم من ساداتهم * وعدلناه ببدر فاعتدل
ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام ثم وضع
بخزانة السلاح حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك فجئ به فقد بقي عظما أبيض فكفنه
وطيبه وصلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين. ومما ينسب إلى يزيد بن معاوية إنه أنشد
والرأس بين يديه: نعب الغرب (فقلت) قل أو لا تقل * فقد اقتضيت من الرسول ديوني قال
بعض أهل التاريخ هذا كفر صريح لا يقوله مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومنهم
العلامة الشريف أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني الخوافي [الحافي] الشافعي في (التبر
المذاب) (ص 90 المخطوط) قال: واختلف في الرأس على أقوال أصحها إنه عاد بعد أربعين
يوما إلى جثته الشريفة. روي ذلك عن زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وجابر
بن عبد الله وهو أول من زار قبره بعد أربعين يوما. قال ابن الجوزي رضي الله عنه وفي
أي مكان كان رأسه أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر قاطن في الأسرار والخواطر
وقد أنشد
ص 705
بعض أشياخنا فيه: لا تطلبوا المولى الحسين * بأرض شرق أو بغرب
ودعوا الجميع واعرجوا
* نحوي فمشهده بقلبي
وقال أيضا في ص 91: قال الزهري لما بلغ الحسن البصري الكوفة
قتل الحسين بكى حتى اختلج صدغاه ثم قال واذل أمة قتل ابن بنت نبيها دعيها والله
ليردن رأس الحسين إلى جسده ثم لينتقمن له جده وأبوه من ابن مرجانة ويزيد. ومنهم
الفاضل المعاصر الدكتور محمد جميل غازي في (استشهاد الحسين عليه السلام) (ص 110)
خرجه من كتاب الحافظ ابن كثير (ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) قال: وقد
اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سيره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا، على
قولين، الأظهر منها أنه سيره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم. وقال أبو
مخنف عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الله اليماني عن القاسم بن بخيت، قال: لما وضع رأس
الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إن هذا
وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري: يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا
أعق وأظلما فقال له أبو برزة الأسلمي: أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذا، لقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، ثم قال: ألا إن هذا سيجئ يوم القيامة وشفيعه
محمد، وتجئ وشفيعك ابن زياد. ثم قام فولى. وقد رواه ابن أبي الدنيا عن أبي الوليد
عن خالد بن يزيد بن أسد عن عمار الدهني عن جعفر، قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي
يزيد وعنده أبو برزة وجعل ينكت بالقضيب فقال له: إرفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلثمه. ومنهم العلامة الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي
المتوفى سنة 1143 ه في كتابه (الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر
والحجاز) (ص 53 ط القاهرة) قال:
ص 706
وعندنا في دمشق الشام مزار داخل باب الفراديس يقال له مشهد الحسين ويسمى مسجد الرأس
وهو معروف الآن وهو مشهد حافل عليه جلالة وهيبة وله وقف على مصالحه وهذا المشهد
يقصده الناس للزيارة والدعاء والتبرك والتماس الحوائج وهو في غاية القبول كذا ذكره
ابن الحوراني في الزيارات وفي مصر أيضا مشهد يسمى مشهد الحسين عليه السلام. ومنهم
الشريف علي فكري الحسيني القاهري في (أحسن القصص) (ج 4 ص 255 ط بيروت) قال: اختار
الله تعالى للإمام الحسين رضي الله عنه ما عنده، فقربه إليه، ونقله من دار المحن
إلى دار المنح، ومن دار الفناء، إلى دار النعيم السرمدي المقيم، وذلك يوم عاشوراء
سنة إحدى وستين من الهجرة. فسافر عمر بن سعد بالرأس الشريف إلى الكوفة وسلمها إلى
ابن زياد (الشهير بابن مرجانة) فطاف بها في الأسواق، ثم وجهها إلى دمشق ليزيد، فأمر
برفعها بها ثلاثة أيام، ثم أمر بأن يطاف بها في البلاد (عاملهم الله بما يستحقون)
فطيف بها حتى وصلت (عسقلان) وأميرها إذ ذاك من خيرة الناس إيمانا وخوفا من الله،
فدفنها في مكان فخيم استمرت به إلى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وفي شعبان منها خرج
الأفضل ابن أمير الجيوش بعساكر كثيرة إلى بيت المقدس (كما نقله المقريزي عن ابن
ميسر) وحارب من به وملكه ثم دخل (عسقلان). ولما علم بالرأس الشريف عمل مشهدا جليلا
بالمدينة المذكورة إذ رأى المكان الأول صار لا يليق بجلالها، ولما تكامل أخرجها
فعطرها وحملها على صدره وسعى بها ماشيا إلى أن أحلها في المشهد المذكور فاستمرت به
إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة، وحواليها قضى الله على عسقلان أن تمتد
إليها أيدي الطمع من الافرنج وكان بها أمير يقال له (عياش) فأرسل إلى الخليفة
(الفائز بأمر الله) بمصر يقول له: أما بعد فإن الافرنج قد أشرفوا على أخذ عسقلان
وإن بها رأس الإمام الحسين
ص 707
ابن علي فأرسلوا من تختارونه وإلا أخذوها، وكان الخليفة (الفائز) أحد الخلفاء
الفاطميين إذ ذاك طفلا صغيرا لم يبلغ الحادية عشرة من عمره، ولذلك كان الحل والعقد
والأمر والنهي لأكبر وزرائه (طلائع بن رزيك) فأرسل فرقة من الجيش تحت أمر (مكنون)
الخادم، وزوده بثلاثين ألف دينار، فأتوا بها ووصلوا إلى (قطية) فخرج الوزير إلى
لقائها من عدة مراحل ومعه جيوش كثيرة وكلهم حفاة خاشعون فحملها الوزير على صدره حتى
دخلوا مصر وبنى (طلائع) مسجدا لها خارج باب زويلة من جهة الدرب الأحمر، وهو المعروف
(بجامع الصالح) الآن، فكشف الحجب عن تلك الذخيرة النبوية فوجد دمها لم يجف، ووجد
لها رائحة أطيب من المسك (كما قال المقريزي) فغسلها في المسجد المذكور على ألواح من
الخشب (بأعلى الحائط ألواح الآن يقال إنها هي التي كان عليها الغسل) ثم أراد أن
يشرف ذلك المسجد بدفنها فيه فأبى أهل القصر وهم معية الملك الفائز وقالوا: إن أثرا
نبويا جليلا كهذا لا يليق أن يكون مستقره خارج حدود القاهرة بل لا بد من دفنه في
قصر الملك. وكان بوابة الباب الأخضر الموجودة الآن تحت المنارة الصغرى للمسجد
الحسيني بابا من أبواب القصر المنتهى إلى الجمالية واسمه (باب الديلم) ودهليز
الخدمة فعمدوا إلى الجهة المذكورة وبنوا بها بناء فخما حلوه بأنواع الزخارف الجميلة
وكسوا جدرانه بالرخام الملون في البقعة المباركة الحالية (عن كتاب التاريخ الحسيني
للمرحوم السيد محمود البيلاوي). قد حصل تضارب في الأقوال، واختلاف كثير في وجود رأس
الحسين رضي الله عنه. فبعضهم يقول: إنه دفن بدمشق ونقل إلى عسقلان ومنها إلى
القاهرة. وبعضهم يقول: إنه مدفون بالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها وقيل
بمسجد الرقة على الفرات، وبعضهم ينكر أن ابن زياد أرسله إلى يزيد، وبعض أهل السنة
اتفقوا على أنه مدفون مع الجسد بكربلاء. ولقد حقق المرحوم علي بك جلال الحسيني في
كتابه (تاريخ الحسين) من
ص 708
الشواهد ما يثبت وجود الرأس بالقاهرة، كما أن الأستاذ حسن أفندي قاسم الكاتب
التاريخي لمجلة الإسلام الغراء، أثبت في كتابه (مصرع الحسين) الذي ظهر حديثا،
بالأدلة التاريخية، والشواهد الدينية المنقولة عن كبار العلماء، أن الرأس الشريف
مدفون بالقاهرة بالمشهد الحسيني بلا خلاف، وقد أورد كثيرا من التحقيقات المؤيدة
لذلك بأدلة ثابتة، والله تعالى أعلم. زيارة المسجد الحسيني لقد أشرقت الديار
المصرية ببزوغ الشمس المنيرة بأنوار النبوة رأس الإمام الحسين رضي الله عنه وحلولها
بالقبة الشريفة بالقاهرة سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة بعد الهجرة بالمسجد
الحسيني وصار من دفنها إلى الآن مطمح أنظار العباد المسلمين في أقطار القطر المصري
ويزار في معظم الأوقات خصوصا في المولد الحسيني المشهور. المواسم السنية بالمسجد
الحسيني ويحتفل بالمسجد الحسيني في كل عام بعشرة مواسم جليلة هي أعياد للأمة
المصرية الإسلامية، ومطالع للأنوار السنية الحسينية، بها تستمد البركات، وتعم
النفحات، كيف لا وهي مشارق الأنوار، ومعاهد الأسرار، في مشهد سبط النبي المختار؟
والمواسم المذكورة هي: 1 - ليلة عاشوراء ويومها 2 - المولد النبوي الشريف المولد
الحسيني 4 - حفلة الغسلة 5 - ليلة المعراج ويومها 6 - ليلة الخامس من شهر شعبان
تذكارا لليلة التي ولد فيها الإمام الحسين رضي الله عنه 7 - ليلة النصف من شعبان
ويومها 8 - ليلة القدر 9 - شهر رمضان 10 - الاحتفال بنقل الكسوة الشريفة النبوية
إلى المسجد الحسيني في شوال من كل سنة (والآن في ذي القعدة). ومنهم الفاضل المعاصر
الأستاذ أحمد أبو كف في كتاب (آل بيت النبي صلى الله عليه وآله في مصر) (ص 34 ط دار
المعارف القاهرة) قال:
ص 709
حي الحسين في القاهرة القديمة، اتصل بهذا الحادث الجليل في كربلاء. وكان هذا
الاتصال عن طريق تسلسل تاريخي، تحتويه عشرات من كتب المؤرخين، وتشير إلى الوقائع
والأحداث. في مكان المشهد الحسيني، بدأت القاهرة القديمة من ألف عام أو يزيد، على
يد الفاطميين، نسبة إلى فاطمة الزهراء، أم الحسين، وابنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وزوجة علي بن أبي طالب. وقد روي عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فطم ابنتي فاطمة وولديها ومن أحبهم، من
النار. منطقة المشهد الحسيني كانت مقر حكم الفاطميين في القاهرة. وفي مكان المشهد
الحسيني الحالي وحوله كان قصر الزمرد، أهم قصور دولة الفاطميين. وهذا القصر كان
يشمل منطقة خان الخليلي، ويمتد ربما إلى حافة شارع بور سعيد الآن. وفي مكان قصر
الزمرد - وكان أشرف مكان بالقصر تقام به الصلاة - جئ بالرأس الشريف ليدفن هناك.
ولأن الزمرد لونه أخضر، فقد سميت المنطقة بالباب الأخضر. ومنطقة الباب الأخضر، هي
التي تضم مقام الإمام الحسين رضي الله عنه. وهذا المقام يضم الرأس الشريف، وعليه
الآن مقصورة من الفضة، تحوي فصوصا خمسا من الماس هدية من طائفة البهرة. وكان
المقصورة قبلها من خشب الساج الهندي، المحفور والمعشق.. نقلت إلى متحف الفن
الإسلامي. وقبل مقصورة الفضة كانت هناك مقصورة من النحاس نقلت إلى مشهد آخر. وقد
تردد الآراء حول رأس الإمام الحسين. رواية تقول: إن الرأس أرسل إلى عمر ابن سعيد بن
العاص، والي يزيد على المدينة المنورة، حيث قام الوالي بدفنها في البقيع عند قبر
السيدة فاطمة. ورواية أخرى تقول: إن الرأس وجد بخزانة يزيد بن معاوية بعد موته،
فأخذ، ودفن بدمشق عند باب الفراديس. ويقول ابن كثير: وادعت الطائفة المسماة
بالفاطميين، الذين ملكوا الديار المصرية أنهم دفنوه بها وبنوا عليه
ص 710
المشهد المشهور بمصر. ويحصي العقاد عدة أماكن ذكرت بأن رأس الإمام الحسين دفن فيها،
وهي المدينة المنورة كربلاء، الرقة، دمشق، عسقلان، القاهرة، مرو. وأقرب رواية
للتاريخ أنه بعد استشهاد الإمام الحسين على أرض كربلاء جرى التمثيل بالجثة. فقدم
الجسد الطاهر خولي بن يزيد الأصبحي، ليحز الرأس، لكنه لم يستطع، وارتعد جسده فتقدم
شمر بن ذي الجوشن بنفسه وجز الرأس، ثم أرسله إلى يزيد بن معاوية ليتلقى المكافأة،
وهي توليته على إحدى الإمارات الإسلامية. وترى د. سعاد ماهر.. أن أقوى الآراء هو
الذي يقول إن الرأس طيف به في الأمصار الإسلامية حتى وصل إلى عسقلان حيث دفن هناك.
وحينما استولى الفرنجة على عسقلان، تقدم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر، فدفع 30
ألف درهم، واسترد الرأس الشريف ونقله إلى القاهرة. ويؤيد هذا الرأي ابن خلكان الذي
يذكر في تاريخه: إن رأس الحسين بن فاطمة كان مدفونا بعسقلان قبل نقله إلى مصر، وأن
الأفضل شاهنشاه، بنى مشهد الرأس في عسقلان. وابن بطوطة، يؤيد الرواية ويقول بعد
زيارته لعسقلان: ثم سافرت من القدس الشريف إلى ثغر عسقلان، وهو خراب، قد عاد رسوما
طامسة وأطلالا دارسة. وبها المشهد الشهير، حيث كان رأس الحسين بن علي قبل أن ينقل
إلى القاهرة، وهو مسجد عظيم سامي العلو. ثم يقول ابن بطوطة عند زيارته للقاهرة: ومن
المزارات الشريفة، المشهد المقدس العظيم الشأن، حيث رأس الحسين بن علي، وعليه رباط
ضخم عجيب البناء، على أبوابه حلق فضة وصحائفها، وهو موفى الحق من الاجلال والاعظام.
ويقول المؤرخ الهروي، في كتابه الاشارات إلى أماكن الزيارات. وفيها - أي عسقلان -
مشهد الحسين.. فلما أخذتها الفرنج، نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسعة
وأربعين وخمسمائة.
ص 711
وتفند الدكتورة سعاد ماهر الآراء التي قيلت، من الناحية الأثرية، من خلال كتابيها
مخلفات الرسول في المشهد الحسيني ومساجد مصر: فعن القول بوجود الرأس في المدينة
المنورة، هناك ما ينقضه الدليل المادي الذي ذكره المسعودي، وهو أنه كان يوجد حتى
القرن الرابع الهجري شاهد مكتوب عليه العبارة الآتية: الحمد لله مميت الأمم ومحيي
الأمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء العالمين، والحسن
بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، رضوان
الله عليهم أجمعين. فلو أن الرأس كان مدفونا في البقيع، لما أغفل ذكر اسم سيد
الشهداء. وهذا النص منقول من كتاب الأشراف والتنبيه للمسعودي عن ابن كثير في
البداية والنهاية. أما قول غالبية الشيعة الإمامية (الاثنا عشرية)، بأن الرأس مدفون
مع الجسد في كربلاء، فهو لا تؤيده مراجعة الحوادث. فمن المستبعد عقلا، أن يعيد يزيد
بن معاوية الرأس إلى كربلاء، حتى لا يزيد النار اشتعالا، وهو يعلم بأنها مركز
الشيعة والمتشيعين للإمام الحسين، والمؤيدين لمذهبه. هذا بالإضافة إلى ما جاء في
أحداث سنة 236 ه من أن الخليفة المتوكل أمر (النويريج) بالمسير إلى قبر الحسين
وهدمه. فتناول النويريج مسماة وهدم أعلى قبر الحسين وانتهى هو ومن معه إلى الحفر أو
موضع اللحد، فلم يروا أثرا للرأس. ولا يمكن أن يتصور أحد أن الرأس قد بلى في ذلك
الوقت المبكر، إذا عرف أن أرض كربلاء رملية تحتفظ بالعظام مئات السنين. أما الرأي
الذي يقول إن الرأس موجود في رباط مرو بخراسان. فهو منقوض من أساسه، لأن أبا مسلم
الخراساني، الذي قيل إنه نقل الرأس من دمشق، لما استولى عليها، وبنى عليها الرباط
بمرو، لم يكن أبو مسلم موجودا بالشام وقت فتحها أيام العباسيين، ثم إن العباسيين لو
ظفروا لأظهروه للناس. وأقرب الآراء، أن الرأس وضع أول الأمر في خزائن السلام بدمشق،
ثم دفن في عسقلان على البحر، وحين استولى الفرنجة على عسقلان تقدم الصالح طلائع ابن
ص 712
رزيك، وزير الفاطميين بمصر، فدفع 30 ألف درهم، واستر الرأس الشريف، ونقله إلى مصر،
حيث جاء الرأس في حراسة ثلة من الجند، واستقبله الخليفة الفاطمي كما يقول الإمام
الشعراني في طبقات الأولياء: هو وعسكره حفاة عند الصالحية وقد وضع الرأس الشريف في
كيس أخضر من الحرير، على كرسي أبنوس، وفرش تحته المسك والطيب، وبنى عليه القبة
المعروفة. والدليل على وجود الرأس الشريف، ما ذكره عثمان مدوخ في كتابه (العدل
الشاهد في التحقيق المشاهد). وقد ألفه في القرن التاسع عشر. وقال فيه: إن المرحوم
عباس كتخدا الفزدوغلى لما أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الحسيني، قيل إن هذا
المشهد لم يثبت فيه دفن. فأراد تحقيق ذلك، فكشف المشهد الشريف بمحضر من الناس ونزل
فيه الأستاذ الجوهري الشافعي والأستاذ الشيخ الملوي المالكي.. وكانا من كبار
العلماء العاملين، وشاهدا مما بداخل البرزخ، ثم ظهرا وأخبرا بما شهداه. وهو كرسي من
خشب الساج عليه طست من ذهب، فوقه ستار من الحرير الأخضر، تحتها كيس من الحرير
الأخضر الرقيق، داخله الرأس الشريف. والذي نريد أن نقوله هنا.. إننا لا نرجح وجود
الرأس الشريف فقط، بل إننا نؤكد ذلك، ليس مما أوردناه من الأدلة.. وإنما أيضا من
خلال الاهتمام بالمشهد الحسيني قرنا وراء قرن. ذكرنا بعضا منه وأغفلنا الكثير من
الاهتمامات المتنوعة. ودليل آخر محسوس ملموس، هو كثرة الإخوة الإيرانيين، الذين
جاءوا إلى مصر عبر العصور، واختاروا مقامهم وسكناهم، بل مقار أعمالهم، بجوار الرأس
الشريف. حتى أن الكثير من الأسماء الايرانية كانت إلى فترة قصيرة - وما تزال -
تنتشر فوق الدكاكين والوكالات وغيرها، وانتشر حول المشهد بالذات بيع السجاد
الشيرازي والتبريزي. ويضاف إلى ذلك تلك المقصورة التي أهدتها جماعة البهرة للمشهد
الحسيني. وهذه الجماعة فيها الكثير من العلماء والباحثين الذين درسوا وتأكدوا من
وجود الرأس الشريف. وهو السبب في إهدائهم المقصورة عام 1965 والتي تكلفت
ص 713
300 ألف جنيه جمعت من جماعة البهرة أنفسهم. بالإضافة إلى تلك المقصورة التي أهديت
إلى مشهد السيدة زينب رضي الله عنها. والواقع أن لجلال المشهد وبركته، فإن الدولة
في مصر المؤمنة، قد جعلت من المشهد الحسيني المسجد الرئيسي الذي يختص بصلاة العيدين
فيه.. كما تقام فيه أيضا الاحتفالات بالمناسبات الدينية الهامة. هكذا يثبت وجود
الرأس في مصر. وعلى أية حال، ففي أي مكان رأس الحسين أو جسده - كما يقول سبط الجوزي
- فهو ساكن في القلوب والضمائر، قاطن في الأسرار والخواطر. والمهم كما يرى العقاد:
أيا كان ذلك الموضع الذي دفن فيه الرأس الشريف، فهو في كل موضع أهل للتعظيم
والتشريف. وإنما أصبح الحسين بكرامة الشهادة، وكرامة البطولة، وكرامة الأسرة
النبوية.. معنى يحضره المسلم في صدره، وهو قريب أو بعيد من قبره. لكن ماذا بقي من
القديم الآن، وقد ثبت أن الرأس الشريف موجود في مشهد الإمام الحسين بمصر؟! يقول
المقريزي: نقل رأس الحسين من عسقلان إلى القاهرة يوم الأحد 8 من جمادى الآخرة سنة
548 ه (31 أغسطس 1153 م) وصل الرأس إلى القاهرة يوم الثلاثا العاشر من نفس الشهر.
ثم أنزل بالرأس إلى الكافوري - حديقة القصر الفاطمي - ثم حمل في سرداب إلى قصر
الزمرد ودفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة. ويضيف ابن عبد الظاهر أن طلائع بن
رزيك بنى الجامع خارج باب زويلة ليدفن الرأس به ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر
الفاطمي، وعمدوا إلى هذا المكان الموجود به الآن، وهو قصر الخلافة الفاطمية في ذلك
الوقت، وبنوه له. وكان ذلك في خلافة الفائز الفاطمي سنة 549 ه (1154 م). وحمل الرأس
الشريف في سرداب طويل حفر تحت الأرض من باب زويلة القبة الشريفة. ويقول ابن جبير
الذي زار مصر في عصر الأيوبيين وبعد الحريق الذي شب في
ص 714
المشهد عام 640 ه في عهد الصالح نجم الدين أيوب، أنه أنشئت منارة على باب المشهد
عام 634 ه (1237 م). أنشأها أبو القاسم بن يحيى السكري، ولم يتمها فأتمها ابنه وهي
مليئة بالزخارف الجصية والنقوش، تعلو الباب الأخضر، وقد قام بترميمها وتوسيعها بعد
ذلك القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. ثم في عصر الناصر محمد بن قلاوون أمر
بتوسيع المسجد عام 684 ه وفي العصر العثماني أمر السلطان سليم بتوسيع المسجد لما
رآه من الاقبال العظيم من الزائر والمصلين. ثم بعد ذلك أحضرت للمسجد عمد الرخام من
القسطنطينية، وبنيت ثلاثة أبواب من الرخام جهة خان الخليلي ومثلها الباب الأخضر
الذي بجوار القبة بالجهة الشرقية. ولما قدم مصر السلطان عبد العزيز العثماني عام
1279 ه وزار المقام الحسيني، أمر الخديو إسماعيل بعمارته وتشييده على أتم شكل وأحسن
نظام، واستغرقت العملية التي أشرف عليها علي باشا مبارك ووصفها في خططه، عشر سنوات.
هذه ملامح مما حدث لسبط الرسول صلى الله عليه وسلم وحضور رأسه الشريف إلى مصر،
وتشريف مصر به. مما يجعل المشهد الحسيني قبلة لمحبي آل البيت، والمؤمنين الصابرين
المجاهدين. أقيم المشهد الحسيني، لكن الدولة الفاطمية تلاشت. ومما يثبت وجود الرأس
الشريف، أن الأيوبيين الذين أنهوا الحكم الفاطمي الشيعي بمصر، اهتموا بالمشهد.
فصلاح الدين جعل به حلقة تدريس وفقهاء، وفوض ذلك للفقيه البهاء الدمشقي السني
المذهب. وكان يجلس عند المحراب الذي يقع الضريح خلفه. وفي مكان هذه المدرسة بنى
المسجد الحسيني. وزيادة في الاهتمام - كما يقول الأثري حسن عبد الوهاب - فإن صلاح
الدين الأيوبي أهدى للمشهد مقصورة، تشبه المقصورة التي أهداها للإمام الشافعي عام
574 ه وقبل صلاح الدين كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، الذي بنى إيوانا للتدريس،
وبيوتا خاصة للفقهاء. وقد وصفها ابن جبير في رحلته. وهذا الرحالة زار مصر عام 578
ص 715
هجرية. وفي عصر الكامل الأيوبي بنيت المنارة على باب المشهد عام 634، تعلو الباب
الأخضر تهدم معظمها ولم يبق منها حتى الآن إلا القاعدة المربعة وعليها لوحتان
تثبتان ذلك. وفي عصر الصالح نجم الدين أيوب (637 - 647 هجرية)، احترق بناء المشهد
في عام 640 هجرية. وقد رممه الصالح ووسعه، وألحق به ساقية وميضأة، ووقف عليه أراضي،
وظلت العناية بالمشهد الحسيني أيام المماليك. فالظاهر بيبرس حين بيعت قطعة أرض
بجانب المشهد من حقوق القصر الفاطمي، رد ثمنها وهو 6 آلاف درهم ووقها على الجامع.
ثم إن الناصر محمد بن قلاوون وسع المسجد عام 684 هجرية. وفي العصر العثماني، تم
توسيع المسجد نظرا للاقبال الشديد عليه من جماهير مصر المؤمنة، وضعت له مقصورة من
أبنوس مطعم بالصدف عليه ستر من الحرير المزركش، ونقلت إلى المشهد الحسين في احتفال
كبير وصفه الجبرتي بأنها حملت وأمامها طائفة الرفاعية والصوفية بطبولهم وأعلامهم،
وبأيديهم المباخر القضية وبخور العود والعنبر، وبأيديهم قماقم ماء الورد يرشونه على
الناس. أما عبد الرحمن كتخدا، فقد أعاد بناء المسجد عام 1175 هجرية وعمل له صهريجا
وحنفية، وخصص رواتب لخدمه وسدنته، ثم إنه في عهد الخديو إسماعيل كما يقول علي باشا
مبارك - أعاد عمارته وتشييده واستغرق ذلك عشر سنوات وفرش بالفرش النفيسة، ونور
بالشموع والزيوت الطيبة والأنفاس الغازية في قناديل البلور ورتبوا له فوق الكفاية
من الأئمة والمؤذنين والمبلغين والبوابين والفارشين والكناسين والوقادين والسقايين
ونحو ذلك، وأوقفوا عليه أوقافا جمة بلغ إيرادها نحو ألف جنيه في السنة. وكما يقول
علي المبارك أيضا: إنه فتح بجوار الجامع عام 1295 ه (1878 م) شارع السكة الجديدة.
وعلي مبارك نفسه كمهندس قام بتصميم البناء الحالي. وقد صرف على هذه العمارة 79 ألف
جنيه من ميزانية الأوقاف، هذا عدا ما تبرع به الأمراء وعلية القوم.
ص 716
ويذكر أنه أحضرت للمسجد الأعمدة الرخامية من القسطنطينية. وقد احتوى صحن الجامع على
44 عمودا. كما بني له المئذنة الكبيرة الحالية على الطراز العثماني، وهي تشبه القلم
الرصاص. وعلى هذه المئذنة لوحتان بخط السلطان عبد المجيد خان. على أننا لا يمكن أن
نتحدث عن المشهد الحسيني، دون أن نتحدث عن غرفة تجاور الرأس الشريف. وهذه الغرفة
أنشأها عباس حلمي الثاني لمجموعة من الآثار النبوية الشريفة، كانت قد نقلت إلى
المشهد الحسيني عام 1305 هجرية وحفظت في دولاب في الجدار الجنوبي الغربي للمزار
الشريف. وهذه الغرفة الآن مفروشة بالسجاد الثمين، وفيها مصابيح وثريات بلورية
نادرة، وجدرانها مكسوة بالرخام المجزع، وبها محراب صغير، كما أنها تحتوي على دولاب
عبارة عن دولاب حائط، وهو فجوة في الجدار قوي ظهرها بقضبان من حديد، وكسيت بالجوخ
الأخضر. ولهذا الفجوة باب من خشب الجوز المطعم بالعاج والصدف والأبنوس، وكتب بأعلى
الباب بأحرف من عاج (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). هذه الغرفة لها
بابان، أحدهما يفتح على المسجد، والآخر يفتح على مشهد الإمام الحسين. وفي داخل
الدولاب الآثار النبوية الشريفة، وتشمل قطعة من قميص الرسول صلى الله عليه وسلم،
ومكحلة ومرودا، وقطعة من قضيب، وشعرات من شعره الشريف، ثم مصحفين كريمين بالخط
الكوفي على رق غزال، أحدهما منسوب لسيدنا عثمان، والثاني لسيدنا علي بن أبي طالب
رضي الله عنهما. وهذه الآثار النبوية الشريفة - كما تقول المصادر - تداولها آل
البيت وتسارع عليها الخلفاء والأمراء. وقد ذكرت المصادر أيضا، أن ما تركه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: ثوبا حبرة، وإزار عثماني، وثوبان صحاريان، وقميص
صحاري، وقميص سحولي، وسراويل، وجبة يمانية وخميصة أو كساء أبيض، وقلانس.. ومجموعات
من شعره
ص 717
الشريف. أما هذه الآثار الموجودة بالمشهد الحسيني فهي بعض ما خلفه الرسول عليه
الصلاة والسلام، وقد قامت د. سعاد ماهر بدراسة هذه الآثار ويقال إن هذه الآثار في
مصر كانت عند بني إبراهيم في مدينة ينبع بالحجاز، وهؤلاء توارثوها وفي القرن السابع
الهجري (13 ميلادي) في عصر الظاهر بيبرس، اشترى هذه الآثار الشريفة من بني إبراهيم
الوزير المصري الصاحب تاج الدين. لكن اختلف على المبلغ الذي دفع، فمصادر تقول إنه
دفع فيها 60 ألف درهم فضة، وقيل مبلغ 250 ألف درهم، وقيل كذلك مائة ألف درهم. وهذه
الآثار نقلت إلى مصر وحفظت بمكان على النيل سمى رباط الآثار أو الرباط الصاحبي
التاجي. وعرف مؤخرا باسم أثر النبي في حي مصر القديمة. وهذا الرباط لأهميته، كان له
شيخ يشغل وظيفة شيخ الآثار النبوية. وكان هذا الشيخ من القضاة الموثوق بهم. ومنهم
من ذكره ابن إياس في حوادث عام 889 هجرية وهو الشيخ ولي الدين أحمد. وفي الضوء
اللامع للسخاوي ذكر في عام 870 هجرية كان شيخ رباط الآثار هو ولي الدين أبو زرعة
أحمد بن محمد، الذي نقل قاضيا لدمياط. والواقع أنه كما اختلف المؤرخون - على عادتهم
- على ثمن شراء هذه المخلفات النبوية من بني إبراهيم، فقد اختلفوا أيضا في نوعها
وعددها. ولكنهم يذكرون الكثير عن رباط الآثار، وكيف بني ومن بناه، ومهاجمة مياه
الفيضان له.. واهتمام الخلفاء والسلاطين به، ومنهم الأشراف شعبان في النصف الثاني
من القرن الثامن الهجري، ومنهم أيضا السلطان برقوق عام 784 هجرية. والمهم أن هذه
المخلفات النبوية الشريفة ظلت في رباط الآثار إلى أن نقلت منه إلى قبة السلطان
الغوري عام 926 هجرية أو قبل هذا التاريخ، خشية السرقة بعد أن تصدع مبنى رباط
الآثار. ولقد بقيت هذه الآثار بقية الغوري حوالي ثلاثة قرون، إلى أن نقلت في عام
ص 718
1275 هجرية إلى المشهد الزينبي، ثم نقلت منه إلى خزانة القلعة، واستمرت بها حتى عام
1304 هجرية، وبعدها نقلت إلى ديوان عموم الأوقاف، ثم في عام 1305 هجرية نقلت إلى
سراي عابدين، ومن سراي عابدين إلى المشهد الحسيني في دولاب خاص إلى أن أنشئت لها
الغرفة الحالية عام 1311 هجرية. وعملية النقل من قصر عابدين إلى المشهد الحسيني جرت
في احتفال كبير، تقدمه رجال الطرق الصوفية.. وتقدمه الشيوخ المهدي والبكري
والسادات، وقناصل الدول وغيرهم، وسار الموكب الكبير من قصر عابدين، بشارع عبد
العزيز، فالعتبة الخضراء، إلى شارع محمد علي، فميدان باب الخلق، فطريق تحت الربع،
فالسكرية، فالعقادين بالغورية، فالسكة الجديدة إلى أن وصلت إلى المشهد الحسيني.
ولكن يأتي سؤال هنا: هل هذه المخلفات النبوية الشريفة الموجودة بالمشهد الحسيني، هي
المخلفات الموجودة فقط والتي تم توارثها منذ عصر النبوة؟ إن في المشهد الحسيني -
كما أحصت د. سعاد ماهر - ثلاث قطع من النسيج، وقطعة من القضيب - أي العصا -
والمكحلة، والمسبل أ أو المرود - وبعض شعر اللحية والرأس الشريف. وبالطبع فهناك
الكثير في عالم الإسلام في اسطنبول، وباكستان، وتونس، بل هناك في المسجد الأحمدي في
طنطا غرفة خاصة وخزانة خاصة بها شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الواقع
أنه منذ أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم - بل وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم -
كانت مثل هذه المخلفات الشريفة - مطلبا للمسلمين، يحفظونها بين أحداق العيون. بمعنى
أنه لم يكن بنو إبراهيم في ينبع وحدهم الذين توارثوا مخلفات الرسول، فالكثير كان
لديهم الكثير من المخلفات الشريفة، بل إنه في مصر أيضا كانت هناك كثير من المخلفات
الشريفة - خاصة الشعرات - في الخانقاوات والمساجد. والمقتنيات الخاصة.
ص 719
وهذا يعني أن في المشهد الحسيني قليلا من كثير من الآثار النبوية الشريفة، بل إنه -
وهذا ما يثبت وجهة نظري - في المشهد الحسيني، كما أحصيت 15 شعرة من شعرات الرسول
الشريفة، فبعضها اشترى من بني إبراهيم، وبعضها أهدي للمشهد الحسيني. وهذا يؤكد ما
قيل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدي شعره بين الناس. أما بالنسبة للمصحف
المنسوب لعثمان بن عفان، والمصحف الآخر المنسوب لعلي بن أبي طالب فإنهما كما تؤكد
د. سعاد ماهر - ليسا هما المصحفين الأصليين، وأنهما منسوخان في عصر بعد عصر
الخليفتين الراشدين رضي الله عنهما وأرضاهما. ومنهم الفاضل المعاصر الأستاذ عباس
محمود العقاد في (المجموعة الكاملة - العبقريات الإسلامية) (ج 2 ص 260 ط دار الكتاب
اللبناني بيروت) قال: اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحسين عليه السلام، وتعددت أيما
تعدد في موطن الرأس الشريف.. فمنها أن الرأس قد أعيد بعد فترة إلى كربلاء فدفن مع
الجسد فيها.. ومنها أنه أرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي يزيد على المدينة،
فدفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة الزهراء.. ومنها إنه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية
بعد موته، فدفن بدمشق عند باب الفراديس.. ومنها إنه كان قد طيف به في البلاد حتى
وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هناك وبقي بها حتى استولى عليها الافرنج في الحروب
الصليبية.. فبذل لهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ثلاثين ألف درهم على أن
ينقله إلى القاهرة حيث دفن بمشهده المشهور. قال الشعراني في طبقات الأولياء: إن
الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشريف
ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر
والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريبا من خان الخليلي في القبر المعروف. وقال
السائح الهروي في الاشارات إلى أماكن الزيارات: وبها - أي عسقلان - مشهد
ص 720
الحسين رضي الله عنه: كان رأسه بها، فلما أخذتها الفرنج نقله المسلمون إلى المدينة
القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمائة وفي رحلة ابن بطوطة إنه سافر إلى عسقلان وبه
المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينقل إلى القاهرة.
وذكر سبط ابن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة أن الرأس بمسجد الرقة على
الفرات، وإنه لما جئ به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن
رأس عثمان وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع
وهو إلى جانب سوره هناك. فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستة في ست مدن هي: المدينة،
وكربلا، والرقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشام
وبيت المقدس والديار المصرية. وتكاد تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كله من وراء
تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دفن فها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا
بها ذكراه لا مراء.. وللتاريخ اختلافات كثيرة، نسميها بالاختلافات اللفظية أو
العرضية، لأن نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس
الحسين عليه السلام. فأيا كان الموضع الذي دفن به ذلك الرأس الشريف، فهو في كل موضع
أهل للتعظيم والتشريف. وإنما أصبح الحسين - بكرامة الشهادة وكرامة البطولة وكرامة
الأسرة النبوية - معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره. وإن هذا
المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرقة، وفي كربلاء، وفي المدينة،
وفي غير تلك الأماكن سواء. وقاحة ابن زياد ويقل الاختلاف أو يسهل التجاوز عنه كذلك
فيما حدث بين فاجعة كربلاء ولقاء يزيد.. فالمتواتر لسير الأمور أنهم حملوا الرؤوس
والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد