back page fehrest page next page

[36]

و أنشأ عبد المطلب :

أوصيك يا عبد مناف بعدي *** بموحد بعد أبيه فرد

و قال :

وصيت من كفيته بطالب *** عبد مناف و هو ذو تجارب

‏يا ابن الحبيب أكرم الأقارب *** يا ابن الذي قد غاب غير آئب

فتمثل أبو طالب و كان سمع من الراهب وصفه :

لا توصني بلازم و واجب *** إني سمعت أعجب العجائب

‏من كل حبر عالم و كاتب *** بان بحمد الله قول الراهب

أبو سعيد الواعظ في كتاب شرف المصطفى : أنه لما حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد و وجدي به انظر كيف تحفظني فيه قال أبو طالب يا أبة لا توصني بمحمد فإنه ابني و ابن أخي فلما توفي عبد المطلب كان أبو طالب يؤثره بالنفقة و الكسوة على نفسه و على جميع أهله .

ابن عباس قال أبو طالب لأخيه يا عباس : أخبرك عن محمد أني ضممته فلما أفارقه ساعة من ليل أو نهار فلم أئتمن أحدا حتى نومته في فراشي فأمرته أن يخلع ثيابه و ينام معي فرأيت في وجهه الكراهية فقال يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي و أدخل فراشي فقلت له و لم ذاك فقال لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي فتعجبت من قوله و صرفت بصري عنه حتى دخل فراشه فإذا دخلت أنا الفراش إذا بينه و بيني ثوب و الله ما أدخلته في فراشي فأمسه فإذا هو ألين ثوب ثم شممته كأنه غمس في مسك و كنت إذا أصبحت فقدت الثوب فكان هذا دأبي و دأبه و كنت كثيرا ما افتقده في فراشي فإذا قمت لأطلبه بادرني من فراشي ها أنا ذا يا عم فارجع إلى مكانك .

و كان النبي (عليه السلام) يأتي زمزم فيشرب منها شربة فربما عرض عليه أبو طالب الغذاء فيقول لا أريده أنا شبعان و كان أبو طالب إذا أراد أن يعشي أولاده أو يغديهم

[37]

يقول كما أنتم حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيأكل معهم فيبقى الطعام .

القاضي المعتمد في تفسيره : قال أبو طالب لقد كنت كثيرا ما أسمع منه إذا ذهب من الليل كلاما يعجبني و كنا لا نسمي على الطعام و لا على الشراب حتى سمعته يقول بسم الله الأحد ثم يأكل فإذا فرغ من طعامه قال الحمد لله كثيرا فتعجبت منه و كنت ربما أتيت غفلة فأرى من لدن رأسه نورا ممدودا قد بلغ السماء ثم لم أر منه كذبة قط و لا جاهلية قط و لا رأيته يضحك في موضع الضحك و لا مع الصبيان في لعب و لا التفت إليهم و كان الوحدة أحب إليه و التواضع .

و كان النبي (عليه السلام) ابن سبع سنين فقالت اليهود وجدنا في كتبنا أن محمدا يجنبه ربه من الحرام و الشبهات : فجرَّبوه فقدموا إلى أبي طالب دجاجة مسمنة فكانت قريش يأكلون منها و الرسول (عليه السلام) تعدل يده عنها .

فقالوا : ما لك ?

قال : أراها حراما , يصونني ربي عنها .

فقالوا : هي حلال . فنلقمك ?

قال : فافعلوا إن قدرتم .

فكانت أيديهم تعدل بها إلى الجهات .

فجاءوه بدجاجة أخرى قد أخذوها لجار لهم غائب على أن يؤدوا ثمنها إذا جاء .

فتناول منها لقمة , فسقطت من يده .

فقال (عليه السلام) : و ما أراها إلا من شبهة , يصونني ربي عنها .

فقالوا : نلقمك منها .

فكلما تناولوا منها ثقلت في أيديهم .

فقالوا : لهذا شأن عظيم .

و لما ظهر أمره (عليه السلام) عاداه أبو جهل و جمع صبيان بني مخزوم فقال : أنا أميركم .

و انعقد صبيان بني هاشم و بني عبد المطلب على النبي (عليه السلام) و قالوا : أنت الأمير .

قالت أم علي (عليه السلام) : و كان في صحن داري شجرة قد يبست و خاست و لها زمان يابسة فأتى النبي (عليه السلام) يوما إلى الشجرة فمسها بكفه فصارت من وقتها و ساعتها خضراء و حملت الرطب فكنت في كل يوم أجمع له الرطب في دوخلة

[38]

فإذا كان وقت ضاحي النهار يدخل يقول يا أماه أعطيني ديوان العسكر فكان يأخذ الدوخلة ثم يخرج و يقسم الرطب على صبيان بني هاشم .

فلما كان بعض الأيام دخل و قال : يا أماه أعطيني ديوان العسكر .

فقلت يا ولدي اعلم أن النخلة ما أعطتنا اليوم شيئا .

قالت : فو حق نور وجهه لقد رأيته و قد تقدم نحو النخلة و تكلم بكلمات و إذا بالنخلة قد انحنت حتى صار رأسها عنده . فأخذ من الرطب ما أراد ثم عادت النخلة إلى ما كانت .

فمن ذلك اليوم قلت : اللهم رب السماء ارزقني ولدا ذكرا يكون أخا لمحمد .

ففي تلك الليلة واقعني أبو طالب فحملت بعلي بن أبي طالب فرزقته فما كان يقرب صنما و لا يسجد لوثن كل ذلك ببركة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

المفسرون عن عبد الله بن عباس : في قوله لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إنه كانت لهم في كل سنة رحلتان باليمن و الشام و كان من وقاية أبي طالب أنه عزم على الخروج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا سنة ثمان من مولده (عليه السلام) أخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بزمام ناقته و قال يا عم على من تخلفني و لا أب لي و لا أم و كان قيل لي ما يفعل به في هذا الحر و هو غلام صغير فقال و الله لأخرجن به و لا أفارقه أبدا .

و في رواية الطبري : ضب به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرق له أبو طالب فخشيت له خشية و كانوا ركبانا كثيرا فكان و الله البعير الذي كان عليه محمد أمامي و لا يفارقني و يسبق الركب كلهم و كانت سحابة بيضاء مثل الثلج تظلله و ربما أمطرت علينا أنواع الفواكه و كان يكثر الماء و تخضر الأرض و كان وقف جمال قوم فمشى إليها و مسح عليها فسارت .

خبر بحيراء:

فلما قربنا من بصرى إذا نحن بصومعة تمشي كما تمشي الدابة السريعة حتى إذا قربت منا وقفت و إذا فيها راهب فلما نظر إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال إن كان أحد فأنت أنت .

قال : فنزلنا تحت شجرة عظيمة قليلة الأغصان ليس لها حمل فاهتزت الشجرة و ألقت أغصانها عليه و حملت ثلاثة أنواع فاكهتين للصيف و فاكهة للشتاء .

فجاء بحيراء بطعام يكفي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و قال من يتولى أمر هذا الغلام ?

[39]

فقلت : أنا .

قال : أي شي‏ء تكون منه ?

قلت :أنا عمه .

فقال : له أعمام فأيهم أنت ?

قلت : أنا أخو أبيه من أم واحدة .

فقال : أشهد أنه هو , و إلا فلست بحيراء . فأذن في تقريب الطعام .

فقلت : رجل أحب أن يكرمك فكل .

فقال : هو لي دون أصحابي ?

قال : هو لك خاصة .

فقال : فإني لا آكل دون هؤلاء .

فقال له : إنه لم يكن عندي أكثر من هذا .

قال : أ فتأذن أن يأكلوا معي ?

قال : بلى .

قال : كلوا بسم الله . فأكل و أكلنا معه ، فو الله لقد كنا مائة و سبعين رجلا فأكل كل واحد منا حتى شبع و تجشأ و بحيراء على رأسه يذب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و يتعجب من كثرة الرجال و قلة الطعام و في كل ساعة يقبل يافوخه و يقول : هو هو و رب المسيح .

فقالوا له : إن لك لشأنا .

قال : و إني لأرى ما لا ترون و أعلم ما لا تعلمون و إن تحت هذه الشجرة لغلاما لو أنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على أعناقكم حتى تردوه إلى وطنه .

و لقد رأيت له و قد أقبل نورا أمامه ما بين السماء و الأرض .

و لقد رأيت رجالا في أيديهم مراوح الياقوت و الزبرجد يروحونه و آخرين ينثرون عليه أنواع الفواكه .

ثم هذه السحابة لا تفارقه .

ثم صومعتي مشت إليه كما تمشي الدابة على رجلها .

ثم هذه الشجرة لم تزل يابسة قليلة الأغصان و قد كثرت أغصانها و اهتزت و حملت ثلاثة أنواع من الفواكه .

ثم فاضت هذه الحياض بعد ما غارت في أيام الحواريين .

ثم قال : يا غلام أسألك بحق اللات و العزى عن ثلاث .

فقال : و الله ما أبغضت شيئا كبغضي إياهما .

فسأله بالله من حاله و نومه و هيئته .

ثم نظر إلى خاتم النبوة فجعل يقبل رجليه .

فقال لأبي طالب ما هو منك ?

قال : ابني .

قال : ما هو بابنك و لا ينبغي أن يكون أبوه حيا .

فقال : إنه ابن أخي مات أبوه و هو صغير .

فقال : صدقت الآن . فارجع به إلى بلده و احذر عليه اليهود و الله لئن عرفوا منه ما عرفت ليقتلنه و إن لابن أخيك لشأنا عظيما .

فقال : إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن الله .

و في ذلك يقول أبو طالب و قد أوردها محمد بن إسحاق :

إن ابن آمنة النبي محمدا *** عندي يمثل منازل الأولاد

[40]

لما تعلق بالزمام رحمته *** و العيس قد قلصن بالأزواد

فارفض من عيني دمع ذارف *** مثل الجمان مفرد الأفراد

راعيت فيه قرابة موصولة *** و حفظت فيه وصية الأجداد

و أمرته بالسير بين عمومه *** بيض الوجوه مصالة الأنجاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا *** لاقوا على شرف من المرصاد

حبرا فأخبرهم حديثا صادقا *** عنه ورد معاشر الحساد

بكر بن عبد الله الأشجعي : إن أبا المويهب الراهب سأل عبد منات بن كنانة و نوفل بن معاوية بالشام هل قدم معكما من قريش غيركما ?

قالا : نعم شاب من بني هاشم اسمه محمد .

قال : إياه أردت .

قالوا : إنه يتيم أبي طالب , أجير خديجة , فأخذ يحرك رأسه و يقول : هو ... هو ...

فدلاني عليه .

فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

فقال : هو ... هو ...

فخلا به يناجيه و يقبل بين عينيه .

و أخرج شيئا من كمه ليعطيه و النبي (عليه السلام) يأبى أن يقبله .

فلما فارقه قال : هذا نبي آخر الزمان سيخرج عن قريب .

ثم قال هل ولد لعمه أبي طالب علي ?

فقلنا : لا .

فقال : هذه سنته , و هو أول من يؤمن به .

و أنا لنجد صفته عندنا بالوصية كما نجد صفة محمد بالنبوة ... الخبر .

يعلى بن سيابة قال حكى خالد بن أسيد بن أبي العاص و طليق بن أبي سفيان بن أمية : إنهما كانا مع النبي (عليه السلام) في سفر و لما قربنا من الشام رأينا و الله قصور الشامات كلها قد اهتزت و علا منها نور أعظم من نور الشمس فلما توسطنا الشام ما قدرنا أن نجوز السوق من ازدحام الناس ينظرون إلى النبي (عليه السلام) فجاء حبر عظيم اسمه نسطور فجلس بحذائه ينظر إليه فقال لأبي طالب ما اسمه قال محمد بن عبد الله فتغير لونه ثم قال أريد أكشف ظهره فلما كشف رأى الخاتم فانكب عليه يقبله و يبكي و قال أسرع برده إلى موضعه فما أكثر عدوه في أرضنا فلم يزل يتعاهدنا في كل يوم و أتاه بقميص فلم يقبله فأخذه أبو طالب مخافة أن يغتم الرجل .

[41]

زواجه من خديجة :

و زوج أبو طالب خديجة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

و ذلك أن نساء قريش اجتمعن في المسجد في عيد فإذا هن بيهودي يقول : ليوشك أن يبعث فيكن نبي فأيكن استطاعت أن تكون له أرضا يطأها فلتفعل . و قر ذلك القول في قلب خديجة .

و كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد استأجرته خديجة على أن تعطيه بكرين و يسير مع غلامها ميسرة إلى الشام .

فلما أقبلا في سفرهما نزل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت شجرة فرآه راهب يقال له نسطور فاستقبله و قبل يديه و رجليه و قال : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله لما رأى منه علامات و أنه نزل تحت الشجرة ثم قال لميسره طاوعه في أوامره و نواهيه فإنه نبي و الله ما جلس هذا المجلس بعد عيسى أحد غيره و لقد بشر به عيسى (عليه السلام) وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ و هو يملك الأرض بأسرها .

و قال ميسرة : يا محمد لقد أجبتنا عقبات بليلة كنا نجوزها بأيام كثيرة و ربحنا في هذه السفرة ما لم نربح من أربعين سنة ببركتك يا محمد فاستقبل بخديجة و أبشرها بربحنا .

و كانت وقتئذ جالسة على منظرة لها فرأت راكبا على يمينه ملك مصلت سيفه و فوقه سحابة معلق عليها قنديل من زبرجدة و حوله قبة من ياقوتة حمراء فظنت ملكا يأتي بخطبتها و قالت اللهم إلي و إلى داري .

فلما أتى كان محمدا , و بشرها بالأرباح .

فقالت : و أين ميسرة ?

قال : يقفو أثري .

قالت : فارجع إليه و كن معه .

و مقصودها لتستيقن حال السحابة فكانت السحابة تمر معه .

فأقبل ميسرة إلى خديجة و أخبرها بحاله .

و قال لها : إني كنت آكل معه حتى نشبع و يبقى الطعام بحاله كما هو .

و كنت أرى وقت الهاجرة ملكين يظلانه .

فدعت خديجة بطبق عليه رطب و دعت رجالا و رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأكلوا حتى شبعوا و لم ينقص شيئا .

فأعتقت ميسرة و أولاده و أعطته عشرة آلاف درهم لتلك البشارة و رتبت الخطبة من عمرو بن أسد عمها .

[42]

قال النسوي في تاريخه : أنكحه إياها أبوها خويلد بن أسد فخطب أبو طالب بما رواه الخركوشي في شرف المصطفى و الزمخشري في ربيع الأبرار و في تفسيره الكشاف و ابن بطة في الإبانة و الجويني في السير عن الحسن و الواقدي و أبي صالح و العتبي فقال :

الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم الخليل و من ذرية الصفي إسماعيل و ضئضئ معد و عنصر مضر و جعلنا حضنة بيته و سواس حرمه جعل مسكننا بيتا محجوجا و حرما آمنا و جعلنا الحكام على الناس ثم ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح به و لا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه و إن كان في المال مقلا فإن المال ورق حائل و ظل زائل و له و الله خطب عظيم و نبأ شائع و له رغبة في خديجة و لها فيه رغبة فزوجوه و الصداق ما سألتموه من مالي عاجله و آجله فقال خويلد زوجناه و رضينا به .

و روي أنه قال بعض قريش : يا عجبا أ يمهر النساء الرجال فغضب أبو طالب و قال إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان و إذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي فقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم .

هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت *** لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها و من *** ذا الذي في الناس مثل محمد

و بشر به المرءان عيسى ابن مريم *** و موسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدما بأنه *** رسول من البطحاء هاد و مهتدي

فصل في مبعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ .

أرسله الله تعالى بعد أربعين سنة من عمره حين تكامل بها و اشتد قواه ليكون متهيبا و متأهبا لما أنذر به .

و لبعثته درجات : أولها : الرؤيا الصادقة .

و الثانية : ما رواه

[43]

الشعبي و داود بن عامر : أن الله تعالى قرن جبرئيل بنبوة نبيه ثلاث سنين يسمع حسه و لا يرى شخصه و يعلمه الشي‏ء بعد الشي‏ء و لا ينزل عليه القرآن فكان في هذه المدة مبشرا غير مبعوث إلى الأمة .

و الثالثة : حديث خديجة و ورقة بن نوفل .

الرابعة : أمره بتحديث النعم فأذن له في ذكره دون إنذاره قوله وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي بما جاءك من النبوة .

و الخامسة : حين نزل عليه القرآن بالأمر و النهي فصار به مبعوثا و لم يؤمر بالجهر و نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فأسلم علي و خديجة ثم زيد ثم جعفر .

و السادسة : أمر بأن يعم بالإنذار بعد خصوصه و يجهر بذلك و نزل فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال ابن إسحاق و ذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه و نزل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فنادى يا صباحاه .

و السابعة : العبادات لم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلا الطهارة و الصلاة و كانت فرضا عليه و سنة لأمته ثم فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه و ذلك في السنة التاسعة من نبوته فلما تحول إلى المدينة فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة في شعبان و حولت القبلة و فرض زكاة الفطر و فرضت فيها صلاة العيد و كان فرض الجمعة في أول الهجرة بدلا من صلاة الظهر ثم فرضت زكاة الأموال ثم الحج و العمرة و التحليل و التحريم و الحظر و الإباحة و الاستحباب و الكراهة ثم فرض الجهاد ثم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و نزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

و أما كيفية نزول الوحي :

فقد سأله الحرث بن هشام : كيف يأتيك الوحي ?

فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده عليّ فيفصم عني فقد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول .

و روي : أنه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل .

و روي : أنه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و أن جبينه لينفصد عرقا و روي أنه كان إذا نزل عليه كرب لذلك و يربد وجهه و نكس رأسه و نكس

[44]

أصحابه رءوسهم منه و منه يقال برحاء الوحي .

قال ابن عباس : كان النبي (عليه السلام) إذا نزل عليه القرآن تلقاه بلسانه و شفتيه كان يعالج من ذلك شدة فنزل لا تحرك به لسانك و كان إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألما شديدا و يتصدع رأسه و يجد ثقلا قوله إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .

و سمعت مذاكرة أنه نزل جبرئيل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستين ألف مرة .

علي بن إبراهيم بن هاشم القمي في كتابه : إن النبي (عليه السلام) لما أتى له سبع و ثلاثون سنة كان يرى في نومه كأن آتيا أتاه فيقول يا رسول الله فينكر ذلك فلما طال عليه الأمر كان يوما بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب فنظر إلى شخص يقول يا رسول الله فقال له من أنت ? قال أنا جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولا فأخبر النبي (عليه السلام) خديجة بذلك فقالت يا محمد أرجو أن يكون كذلك فنزل عليه جبرئيل و أنزل عليه ماء من السماء علمه الوضوء و الركوع و السجود فلما تم له أربعون سنته علمه حدود الصلاة و لم ينزل عليه أوقاتها فكان يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت .

أبو ميسرة و بريدة : أن النبي (عليه السلام) كان إذا انطلق بارزا سمع صوتا يا محمد فيأتي خديجة فيقول يا خديجة قد خشيت أن يكون خالط عقلي شي‏ء إني إذا خلوت أسمع صوتا و أرى نورا .

محمد بن كعب و عائشة : أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة و كان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلأ فكان يخلو بغار حرى فسمع نداء يا محمد فغشي عليه فلما كان اليوم الثاني سمع مثله نداء .

فرجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني فو الله لقد خشيت على عقلي .

فقالت : كلا و الله لا يخزيك الله أبدا , إنك لتصل الرحم و تحمل الكل و تكسب المعدم و تقري الضيف تعين على نوائب الحق .

فانطلقت خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل .

فقال ورقة : هذا و الله الناموس الذي أنزل على موسى و عيسى و إني أرى في المنام ثلاث ليال أن الله أرسل في مكة رسولا اسمه محمد و قد قرب وقته و لست أرى في الناس رجلا أفضل منه .

فخرج إلى حرى فرأى كرسيا من ياقوتة حمراء مرقاة من زبرجد و مرقاة من لؤلؤ

[45]

فلما رأى ذلك غشي عليه .

فقال ورقة : يا خديجة , فإذا أتته الحالة فاكشفي عن رأسك فإن خرج فهو ملك و إن بقي فهو شيطان فنزعت خمارها فخرج الجائي فلما اختمرت عاد .

فسأله ورقة عن صفة الجائي .

فلما حكاه . قام و قبل رأسه و قال : ذاك الناموس الأكبر الذي نزل على موسى و عيسى .

ثم قال : أبشر فإنك أنت النبي الذي بشر به موسى و عيسى و إنك نبي مرسل ستؤمر بالجهاد و توجه نحوها .

و أنشأ يقول :

فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي *** حديثك إيانا فأحمد مرسل

‏و جبريل يأتيه و ميكال معهما *** من الله وحي يشرح الصدر منزل

‏يفوز به من فاز عزا لدينه *** و يشقي به الغاوي الشقي المضلل

‏فريقان منهم فرقة في جنانه *** و أخرى بأغلال الجحيم تغلل

و من قصيدة له :

يا للرجال لصرف الدهر و القدر *** و ما لشي‏ء قضاه الله من غير

حتى خديجة تدعوني لأخبرها *** و ما لنا بخفي العلم من خبر

فخبرتني بأمر قد سمعت به *** فيما مضى من قديم الناس و العصر

بأن أحمد يأتيه فيخبره *** جبريل إنك مبعوث إلى البشر

و من قصيدة له :

فخبرنا عن كل خير بعلمه *** و للحق أبواب لهن مفاتح

‏و إن ابن عبد الله أحمد مرسل *** إلى كل من ضمت عليه الأباطح

‏و ظني به أن سوف يبعث صادقا *** كما أرسل العبدان نوح و صالح

‏و موسى و إبراهيم حتى يرى له *** بهاء و منشور من الذكر واضح

و روي : أنه نزل جبرئيل على جياد أصفر و النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين علي و جعفر فجلس جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه و لم ينبهاه إعظاما له .

فقال ميكائيل : إلى أيهم بعثت .

قال : إلى الأوسط .

فلما انتبه أدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى .

فلما نهض جبرئيل ليقوم أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بثوبه ثم قال : ما اسمك ?

قال : جبرئيل .

[46]

ثم نهض النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلحق بقومه فما مر بشجرة و لا مدرة إلا سلمت عليه و هنأته .

ثم كان جبرئيل يأتيه و لا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه .

فأتاه يوما و هو بأعلى مكة فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجر عين فتوضأ جبرئيل و تطهر الرسول ثم صلى الظهر . و هي أول صلاة فرضها الله تعالى و صلى أمير المؤمنين (عليه السلام) مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

و رجع رسول الله من يومه إلى خديجة فأخبرها . فتوضأت و صلت صلاة العصر من ذلك اليوم .

و روي : أن جبرئيل أخرج قطعة ديباج فيه خط فقال اقرأ .

قلت كيف أقرأ و لست بقارئ إلى ثلاث مرات .

فقال في المرة الرابعة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ .

ثم أنزل الله تعالى جبرئيل و ميكائيل (عليه السلام) و مع كل واحد منهما سبعون ألف ملك أتى بالكراسي و وضع تاج على رأس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . و أعطي لواء الحمد بيده , فقال : اصعد عليه و احمد الله .

فلما نزل عن الكرسي توجه إلى خديجة .

فكان كل شي‏ء يسجد له و يقول بلسان فصيح السلام عليك يا نبي الله .

فلما دخل الدار صارت الدار منورة .

فقالت خديجة : و ما هذا النور ?

قال : هذا نور النبوة .

قولي : لا إله إلا الله محمد رسول الله .

فقالت : طال ما قد عرفت ذلك . ثم أسلمت .

back page fehrest page next page