كتاب الشيصان : روى أبو أيوب الأنصاري : أن النبي (عليه السلام) وقف بسوق ذي المجاز فدعاهم إلى الله و العباس قائم يسمع الكلام.
فقال : أشهد أنك كذاب .
و مضى إلى أبي لهب و ذكر ذلك فأقبلا يناديان : أن ابن أخينا هذا كذاب , فلا يغرنكم عن دينكم .
قال : و استقبل النبي (عليه السلام) أبو طالب فاكتنفه . و أقبل على أبي لهب و العباس فقال لهما : ما تريدان تربت أيديكما . و الله إنه لصادق القيل .
ثم أنشأ أبو طالب :
أنت الأمين أمين الله لا كذب *** و الصادق القول لا لهو و لا لعب
أنت الرسول رسول الله نعلمه *** عليك تنزل من ذي العزة الكتب
مقاتل : إنه رفع أبو جهل يوما بينه و بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا محمد أنت من ذلك الجانب و نحن من هذا الجانب فاعمل أنت على دينك و مذهبك و إننا عاملون على ديننا و مذهبنا . فنزل : وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ .
ابن عباس : كان جماعة إذا صح جسم أحدهم و نتجت فرسه و ولدت امرأته غلاما و كثرت ماشيته رضي بالإسلام و إن أصابه وجع أو سوء قال ما أصبت في هذا الدين إلا سوء فنزل : وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ .
[57]
و نهى أبو جهل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الصلاة و قال إن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فنزل : فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً .
ابن عباس في قوله : وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا قال وفد ثقيف نبايعك على ثلاث لا ننحني و لا نكسر إلها بأيدينا و تمتعنا باللات سنة فقال (عليه السلام) لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود فأما كسر أصنامكم بأيديكم فذاك لكم و أما الطاغية اللات فإني غير ممتعكم بها قالوا أجلنا سنة حتى نقبض ما يهدي لآلهتنا فإذا قبضناها كسرناها و أسلمنا فهم بتأجيلهم فنزلت هذه الآية .
قال قتادة : فلما سمع قوله ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً .
قال : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا .
و كان النبي (عليه السلام) يطوف فشتمه عقبة بن أبي معيط و ألقى عمامته في عنقه و جره من المسجد فأخذوه من يده .
و كان (عليه السلام) يوما جالسا على الصفا فشتمه أبو جهل ثم شج رأسه حمزة ابن عبد المطلب .
شعر :
لقد عجبت لأقوام ذوي سفه *** من القبيلين من سهم و مخزوم
القائلين لما جاء النبي به *** هذا حديث أتانا غير ملزوم
فقد أتاهم بحق غير ذي عوج *** و منزل من كتاب الله معلوم
من العزيز الذي لا شيء يعدله *** فيه مصاديق من حق و تعظيم
فإن يكونوا له ضدا يكن لكم ضدا *** بغلباء مثل الليل علكوم
فآمنوا بنبي لا أبا لكم *** ذي خاتم صاغه الرحمن مختوم
فصل في استظهاره (عليه السلام) بأبي طالب :
تاريخ الطبري و البلاذري إنه لما نزل : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ .
صدع النبي (عليه السلام) و نادى قومه
[58]
بالإسلام . فلما نزل : إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآيات , أجمعوا على خلافه .
فحدب عليه أبو طالب و منعه .
فقام عتبة و الوليد و أبو جهل و العاص إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه .
فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا و ردهم ردا جميلا .
فمضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ما هو عليه يظهر دين الله و يدعو إليه و أسلم بعض الناس .
فانهمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا : إن لك سنا و شرفا و منزلة و إنا قد اشتهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم ينته و إنا و الله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو تنازله في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين .
فقال أبو طالب للنبي (عليه السلام) : ما بال أقوامك يشكونك ?
فقال (عليه السلام) : إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب و تؤدي إليهم بها العجم الجزية .
فقالوا كلمة واحدة , نعم و أبيك عشرا .
قال أبو طالب : و أي كلمة هي يا ابن أخي ?
قال : لا إله إلا الله .
فقاموا : ينفضون ثيابهم , و يقولون : أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ إلى قوله عَذابِ .
قال ابن إسحاق : إن أبا طالب قال له في السر : لا تحملني من الأمر ما لا أطيق .
فظن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : أنه قد بدا لعمه و أنه خاذله و أنه قد ضعف عن نصرته .
فقال يا عماه : لو وضعت الشمس في يميني و القمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه . ثم استعبر فبكى , ثم قام يولي .
فقال أبو طالب : امض لأمرك , فو الله ما أخذلك أبدا .
و في رواية : أنه قال (عليه السلام) إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية و خرج من عنده مغضبا فدعاه أبو طالب و طيب قلبه و وعده بالنصر ثم أنشأ يقول :
و الله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** و انشر بذاك و قر منك عيونا
و دعوتني و زعمت أنك ناصح *** فلقد صدقت و كنت قبل أمينا
و عرضت دينا قد عرفت بأنه *** من خير أديان البرية دينا
لو لا المخافة أن يكون معرة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
الطبري و الواحدي بإسنادهما عن السدي .
[59]
و روى ابن بابويه في كتاب النبوة عن زين العابدين (عليه السلام) أنه : اجتمعت قريش إلى أبي طالب و رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النصف .
قال : و ما النصف منه ?
قالوا : يكف عنا و نكف عنه فلا يكلمنا و لا نكلمه و لا يقاتلنا و لا نقاتله إلا أن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب و زرعت الشحناء و أنبتت البغضاء .
فقال : يا ابن أخي أ سمعت ?
قال : يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي و قبلوا نصيحتي إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم فمن أجابني فله عند الله الرضوان و الخلود في الجنان و من عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين .
فقالوا : قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكروها بسوء فنزل قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ .
قالوا : إن كان صادقا فليخبرنا من يؤمن منا و من يكفر فإن وجدناه صادقا آمنا به فنزل ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ .
قالوا : و الله لتشتمنك و إلهك فنزل وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ .
قالوا : قل له فليعبد ما نعبد و نعبد ما يعبد فنزلت سورة الكافرين .
فقالوا : قل له أرسله الله إلينا خاصة أم إلى الناس كافة ?
قال : بل إلى الناس أرسلت كافة إلى الأبيض و الأسود و من على رءوس الجبال و من في لجج البحار و لأدعون السنة فارس و الروم يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً فتجبرت قريش و استكبرت و قالت و الله لو سمعت بهذا فارس و الروم لاختطفتنا من أرضنا و لقلعت الكعبة حجرا حجرا فنزل وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ و قوله أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ .
فقال مطعم بن عدي : و الله يا با طالب لقد أنصفك قومك و جهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا .
فقال أبو طالب : و الله ما أنصفوني و لكنك قد اجتمعت على خذلاني و مظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك فوثب كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم و الاستهزاء بالنبي (عليه السلام) و منع الله رسوله بعمه أبي طالب منهم و قد قام أبو طالب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله و القيام دونه إلا أبا لهب كما قال الله وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
[60]
ينصره و قدم قوم من قريش من الطائف و أنكروا ذلك و وقعت فتنة فأمر النبي (عليه السلام) المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة .
ابن عباس : دخل النبي (عليه السلام) الكعبة و افتتح الصلاة فقال أبو جهل من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته فقام ابن الزبعري و تناول فرثا و دما و ألقى ذلك عليه فجاء أبو طالب و قد سل سيفه فلما رأوه جعلوا ينهضون فقال و الله لئن قام أحد جللته بسيفي ثم قال يا ابن أخي من الفاعل بك هذا قال عبد الله فأخذ أبو طالب فرثا و دما و ألقى عليه و في روايات متواترة أنه أمر عبيده أن يلقوا السلا عن ظهره و يغسلوه ثم أمرهم أن يأخذوه فيمروا على أسبلة القوم بذلك .
و في رواية البخاري : أن فاطمة (عليه السلام) أماطته ثم أوسعتهم شتما و هم يضحكون فلما سلم النبي (عليه السلام) قال اللهم عليك الملأ من قريش اللهم عليك أبا جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و عقبة بن أبي معيط و أمية بن خلف فو الله الذي لا إله إلا هو ما سمى النبي (عليه السلام) يومئذ أحدا إلا و قد رأيته يوم بدر و قد أخذ رجله تجر إلى القليب مقتولا إلا أمية فإنه كان منتفخا في درعه فتزايل من جره فأقروه و ألقوا عليه الحجر .
محمد بن إسحاق : وقف النبي (عليه السلام) على قليب بدر فقال بئس عشيرة الرجل كنتم لنبيكم كذبتموني و صدقني الناس و أخرجتموني و آواني الناس و قاتلتموني و نصرني الناس ثم قال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فقد وجدت ما وعدني ربي حقا ثم قال إنهم يسمعون ما أقول .
فقال حسان :
يناديهم رسول الله لما *** قذفناهم كمالب في القليب
أ لم تجدوا حديثي كان حقا *** و أمر الله يأخذ بالقلوب
الطبري و البلاذري و الضحاك : قال لما رأت قريش حمية قومه و ذب عمه أبو طالب عنه جاءوا إليه و قالوا جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه
[61]
إليك يكون نصره و ميراثه لك و مع ذلك من عندنا مال و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله فقال و الله ما أنصفتموني أ تعطونني ابنكم أغذوه لكم و تأخذون ابني تقتلونه هذا و الله ما لا يكون أبدا أ تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لا تحن إلى غيره ثم نهزهم فهموا باغتياله فمنعهم أبو طالب من ذلك و قال فيه :
حميت الرسول رسول الإله *** ببيض تلألأ مثل البروق
أذب و أحمي رسول الإله *** حماية عم عليه شفيق
و أنشد :
يقولون لي دع نصر من جاء بالهدى *** و غالب لنا غلاب كل مغالب
و سلم إلينا أحمدا و اكفلن لنا *** بنيا و لا تحفل بقول المعاتب
فقلت لهم الله ربي و ناصري على *** كل باغ من لوي بن غالب
مقاتل : لما رأت قريش يعلو أمره قالوا لا نرى محمدا يزداد إلا كبرا و تكبرا و إن هو إلا ساحر أو مجنون و توعدوه و تعاقدوا لئن مات أبو طالب ليجمعن قبائل قريش كلها على قتله و بلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم و أحلافهم من قريش فوصاهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و قال إن ابن أخي كما يقول أخبرنا بذلك آباؤنا و علماؤنا إن محمدا نبي صادق و أمين ناطق و إن شأنه أعظم شأن و مكان من ربه أعلى مكان فأجيبوا دعوته و اجتمعوا على نصرته و راموا عدوه من وراء حوزته فإنه الشرف الباقي لكم الدهر و أنشأ يقول :
أوصى بنصر النبي الخير مشهده *** عليا ابني و عم الخير عباسا
و حمزة الأسد المخشي صولته *** و جعفرا أن تذودوا دونه البأسا
و هاشما كلها أوصى بنصرته *** أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا
كونوا فداء لكم نفسي و ما ولدت *** من دون أحمد عند الروع أتراسا
بكل أبيض مصقول عوارضه *** تخاله في سواد الليل مقباسا
[62]
و خص أخاه حمزة على اتباعه إذ أقبل حمزة متوشحا بقوسه راجعا من قنص له فوجد النبي (عليه السلام) في دار أخته محموما و هي باكية فقال ما شأنك قال ذل الحمي يا با عمارة لو لقيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده هاهنا جالسا فأذاه و سبه و بلغ منه ما يكره فانصرف و دخل المسجد و شج رأسه شجة منكرة فهم قرباؤه بضربه فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة لكيلا يسلم ثم عاد حمزة إلى النبي (عليه السلام) و قال غر بما صنع بك ثم أخبره بصنيعه فلم يهش النبي (عليه السلام) و قال يا عم لأنت منهم فأسلم حمزة فعرفت قريش أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عز و أن حمزة سيمنعه قال ابن عباس فنزل أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ و سر أبو طالب بإسلامه و أنشأ يقول :
صبرا أبا يعلى على دين أحمد *** و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
و حط من أتى بالدين من عند ربه *** بصدق و حق لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن فكن *** لرسول الله في الله ناصرا
فناد قريشا بالذي قد أتيته *** جهارا و قل ما كان أحمد ساحرا
و قال لابنه طالب :
أ بني طالب إن شيخك ناصح *** فيما يقول مسدد لك راتق
فاضرب بسيفك من أراد مساءة *** حتى تكون لدى المنية ذائق
هذا رجائي فيك بعد منيتي *** لا زلت فيك بكل رشد واثق
فاعضد قواه يا بني و كن له *** إني بجدك لا محالة لاحق
آها اردد حسرة لفراقه *** إذ لم أراه و قد تطاول باسق
أ تراه يشفع لي و يرحم عبرتي *** هيهات إني لا محالة زاهق
و كتب إلى النجاشي :
تعلم أبيت اللعن إن محمدا*** ... ...الأبيات .
فأسلم النجاشي و كان قد سمع مذاكرة جعفر و عمرو بن العاص و نزل فيه وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ إلى قوله جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ .
[63]
عكرمة و عروة بن الزبير و حديثهما : رأت قريش أنه يفشو أمره في القبائل و أن حمزة أسلم و أن عمرو بن العاص رد في حاجته عند النجاشي فأجمعوا أمرهم و مكرهم على أن يقتلوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علانية فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شعبهم فاجتمع قريش في دار الندوة و كتبوا صحيفة على بني هاشم أن لا يكلموهم و لا يزوجوهم و لا يتزوجوا إليهم و لا يبايعوهم أو يسلموا إليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و ختم عليها أربعون خاتما و علقوها في جوف الكعبة و في رواية عند زمعة بن الأسود فجمع أبو طالب بني هاشم و بني عبد المطلب في شعبه و كانوا أربعين رجالا مؤمنهم و كافرهم ما خلا أبا لهب و أبا سفيان فظاهرهم عليه فحلف أبو طالب لئن شاكت محمدا شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم و حصن الشعب و كان يحرسه بالليل و النهار و في ذلك يقول :
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيا كموسى خط في أول الكتب
أ ليس أبونا هاشم شد أزره *** و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب
و أن الذي علقتم من كتابكم *** يكون لكم يوما كراعية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى *** و يصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
و له :
و قالوا خطه جورا و حمقا *** و بعض القول أبلج مستقيم
لتخرج هاشم فيصير منها *** بلاقع بطن مكة و الحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا *** بمظلمة لها أمر وخيم
فيندم بعضكم و يذل بعض *** و ليس بمفلح أبدا ظلوم
فلا و الراقصات بكل خرق *** إلى معمور مكة لا يريم
طوال الدهر حتى تقتلونا *** و نقتلكم و نلتقي الخصوم
و يعلم معشر قطعوا و عقوا *** بأنهم هم الجلد الظليم
[64]
أرادوا قتل أحمد ظالميه *** و ليس لقتله فيهم زعيم
و دون محمد فتيان قوم هم *** العرنين و العضو الصميم
و كان أبو جهل و العاص بن وائل و النضر بن الحرث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات فمن رأوه معه ميرة نهوا أن يبيع من بني هاشم شيئا و يحذرونه من النهب فأنفقت خديجة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه مالا كثيرا و من قصيدة لأبي طالب :
فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا *** على ساخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا خاذلين محمدا *** لدى غربة منا و لا متقرب
ستمنعه منا يد هاشمية *** مركبها في الناس خير مركب
فلا و الذي تخذى له كل *** نضوة طليح نجا نجلة فالمحصب
يمينا صدقنا الله فينا و لم نكن *** لنحلف بطلا بالعتيق المحجب
نفارقه حتى نصرع حوله *** و ما نال تكذيب النبي المقرب
و كان النبي (عليه السلام) إذا أخذ مضجعه و نامت العيون جاء أبو طالب فأنهضه عن مضجعه و أضجع عليا مكانه و وكل عليه ولده و ولد أخيه فقال علي (عليه السلام) يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة فقال أبو طالب :
اصبرن يا بني فالصبر أحجى *** كل حي مصيره لشعوب
قد بلوناك و البلاء شديد *** لفداء النجيب و ابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب ال *** ثاقب و الباع و الفناء الرحيب
[65]
إن تصبك المنون بالنبل تبرئ *** فمصيب منها و غير مصيب
كل حي و إن تطاول عمرا *** آخذ من سهامها بنصيب
فقال (عليه السلام) :
أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد *** و و الله ما قلت الذي قلت جازعا
و لكنني أحببت أن تر نصرتي *** و تعلم أني لم أزل لك طائعا
و سعيي لوجه الله في نصر أحمد *** نبي الهدى المحمود طفلا و يافعا
و كانوا لا يأمنون إلا في موسم العمرة في رجب و موسم الحج في ذي الحجة فيشترون و يبيعون فيهما و كان النبي (عليه السلام) في كل موسم يدور على قبائل العرب فيقول لهم تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي و ثوابكم على الله الجنة و أبو لهب في أثره يقول إنه ابن أخي و هو كذاب ساحر فأصابهم الجهد و بعثت قريش إلى أبي طالب ادفع إلينا محمدا حتى نقتله و نملكك علينا فأنشأ أبو طالب اللامية التي يقول فيها :
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ...
فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه فكان أبو العاص بن الربيع و هو ختن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجيء بالعير بالليل عليها البر و التمر إلى باب الشعب ثم تصبح بها فحمد النبي (عليه السلام) فعله فمكثوا بذلك أربع سنين و قال ابن سيرين ثلاث سنين و في كتاب شرف المصطفى فبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحستها فنزل جبرئيل فأخبر النبي (عليه السلام) بذلك فأخبر النبي (عليه السلام) أبا طالب فدخل أبو طالب على قريش في المسجد فعظموه و قالوا أردت مواصلتنا و أن تسلم ابن أخيك إلينا قال و الله ما جئت لهذا و لكن ابن أخي أخبرني و لم يكذبني إن الله قد أخبره بحال صحيفتكم فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله و ارجعوا عما أنتم عليه من الظلم و قطيعة الرحم و إن كان باطلا دفعته إليكم فأتوا بها و فكوا الخواتيم فإذا فيها باسمك اللهم و اسم محمد فقط فقال لهم أبو طالب اتقوا الله و كفوا عما أنتم عليه فسكتوا و تفرقوا فنزل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ .
[66]
قال كيف أدعوهم و قد صالحوا على ترك الدعوة فنزل يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ فسأل النبي أبا طالب الخروج من الشعب فاجتمع سبعة نفر من قريش على نقضها و هم مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف الذي أجار النبي (عليه السلام) لما انصرف من الطائف و زهير بن أمية المخزومي ختن أبي طالب على ابنته عاتكة و هشام بن عمرو بن لوي بن غالب و أبو البختري بن هشام و زمعة بن الأسود بن المطلب و قال هؤلاء السبعة أخرقها الله و عزموا أن يقطعوا يمين كاتبها و هو منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فوجدوها شلا فقالوا قطعها الله فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدعوة و في ذلك يقول أبو طالب :
ألا هل أتى نجد بنا صنع ربنا *** على نأيهم و الله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت و أن *** كل ما لم يرضه الله يفسد
يراوحها إفك و سحر مجمع و لم *** تلق سحرا آخر الدهر يصعد
و له أيضا :
و قد كان من أمر الصحيفة عبرة *** متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم و عقوقهم *** و ما نقموا من ناطق الحق معرب
و أصبح ما قالوا من الأمر باطلا *** و من يختلق ما ليس بالحق يكذب
و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا *** على سخط من قومنا غير معتب
و له :
تطاول ليلي بهم نصب *** و دمعي كسفح السقاء السرب
و لعب قصي بأحلامها *** و هل يرجع الحلم بعد اللعب
و نفى قصي بني هاشم *** كنفي الطهاة لطاف الحطب
و قول لأحمد أنت امرؤ *** خلوق الحديث ضعيف النسب
[67]
ألا إن أحمد قد جاءهم *** بحق و لم يأتهم بالكذب
على أن إخواننا وازروا *** بني هاشم و بني المطلب
هما إخوان كعظم اليمين *** أمرا علينا كعقد الكرب
فيال قصي ألم تخبروا *** بما قد خلا من شئون العرب
فلا تمسكن بأيديكم بعـ *** يد الأنوق لعجب الذنب
و رمتم بأحمد ما رمتم *** على الأصرات و قرب النسب
فإني و ما حج من راكب *** و كعبة مكة و ذات الحجب
تنالون أحمد أو تصطلوا *** ظبات الرماح و حد القضب
و تفترقوا بين أبنائكم *** صدور العوالي و خيلا عصب
فصل فيما لقيه (عليه السلام) من قومه بعد موت عمه :
الزهري في قوله : وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ الآيات قال : لما توفي أبو طالب لم يجد النبي (عليه السلام) ناصرا و نثروا على رأسه التراب قال ما نال مني قريش شيئا حتى مات أبو طالب و كان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل و هو ذراع و شبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب و دار عدي بن حمران .
و لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جاءت أم جميل عمة معاوية إلى النبي (عليه السلام) و بيدها فهر و لها ولولة و هي تقول :
مذمما أبينا *** و دينه قلينا
و أمره عصينا
و النبي في المسجد فقيل : يا رسول الله قد أقبلت أم جميل و إنا نخاف أن تراك .
فقال : إنها لن تراني .
فوقفت على
[68]
المسجد و قالت : قد بلغني أن صاحبكم هجاني .