فقال : ذاك أهون علي .
و فيه يقول (عليه السلام) :
و عففت عن أثوابه و لو إنني *** كنت المقطر بزنى أثوابي
محمد بن إسحاق قال له عمر هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف و ليس
[118]
للعرب مثلها قال إني استحييت أن أكشف ابن عمي .
و روى أنه : جاءت أخت عمرو و رأته في سلبه فلم تحزن و قالت إنما قتله كريم .
و قال (عليه السلام) يا قنبر لا تعر فرائسي .
أراد لا تسلب قتلاي من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
و سأله أعرابي شيئا فأمر له بألف .
فقال الوكيل : من ذهب أو فضة ?
فقال : كلاهما عندي حجران , فأعط الأعرابي أنفعهما له .
و قال له ابن الزبير : إني وجدت في حساب أبي أن له على أبيك ثمانين ألف درهم .
فقال له : إن أباك صادق , فقضى ذلك .
ثم جاءه , فقال : غلطت فيما قلت , إنما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك .
فقال : والدك في حل , و الذي قبضته مني ; هو لك .
بيت :
له همم لا منتهى لكبارها *** و همته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها *** على البر صار البر أندى من البحر
فصل في المسابقة باليقين و الصبر :
أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة و ابن عباس في قوله تعالى : فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يقول يا محمد لا يكذبك علي بن أبي طالب بعد ما آمن بالحساب .
و قال أمير المؤمنين في مقامات كثيرة : أنا باب المقام و حجة الخصام و دابة الأرض صاحب العصا و فاصل القضاء و سفينة النجاة من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق .
و قال (عليه السلام) : أنا شجرة الندى و حجاب الورى و صاحب الدنيا و حجه الأنبياء و اللسان المبين و الحبل المتين و النبإ العظيم الذي عنه تعرضون و عنه تسألون و فيه تختلفون .
و قال (عليه السلام) فو عزتك و جلالك و علو مكانك في عظمتك و قدرتك ما هبت عدوا و لا تملقت وليا و لا شكرت على النعماء أحدا سواك .
و في مناجاته : اللهم إني عبدك و وليك اخترتني و ارتضيتني و رفعتني و كرمتني بما أورثتني من مقام أصفيائك و خلافة أوليائك و أغنيتني و أفقرت الناس في دينهم
[119]
و دنياهم إلي و أعززتني و أذللت العباد إلي و أسكنت قلبي نورك و لم تحوجني إلى غيرك و أنعمت علي و أنعمت بي و لم تجعل منه علي لأحد سواك و أقمتني لإحياء حقك و الشهادة على خلقك و أن لا أرضى و لا أسخط إلا لرضاك و سخطك و لا أقول إلا حقا و لا أنطق إلا صدقا .
فانظر إلى جسارته على الحق و خذلان جماعة كما تكلموا بما روي عنهم في حلية الأولياء و غريب الحديث و غيرهما .
و كان (عليه السلام) يطوف بين الصفين بصفين في غلالة .
فقال الحسن (عليه السلام) : ما هذا زي الحرب .
فقال , يا بني : إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه .
و كان (عليه السلام) يقول : ما ينتظر أشقاها إن يخضبها من فوقها بدم .
و لما ضربه ابن ملجم لعنه الله قال : فزت و رب الكعبة .
فقد قال الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ الآية .
بيت :
أ بالموت الذي لا بد إني *** ملاق لا أباك تخوفيني
و من صبره ما قال الله تعالى فيه الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ و الدليل على أنها نزلت فيه أنه قام الإجماع على صبره مع النبي في شدائد من صغره إلى كبره و بعد وفاته و قد ذكر الله تعالى صفة الصابرين في قوله وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا و هذا صفته بلا شك مجمع البيان و تفسير علي بن إبراهيم و أبان بن عثمان إنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة .
تفسير القشيري قال أنس بن مالك : إنه أتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعلي و عليه نيف و ستون جراحة .
قال أبان : أمر النبي أم سليم و أم عطية أن تداوياه .
فقالتا : قد خفنا عليه .
فدخل النبي و المسلمون يعودونه , و هو قرحة و أخذه فجعل النبي يمسحه بيده , و يقول إن رجلا لقي هذا في الله لقد أبلى و أعذر ; فكان يلتئم .
فقال علي : الحمد لله الذي لم أفر و لم أول الدبر .
فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن و هو قوله تعالى سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
[120]
و سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ .
سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ يعني بالشاكرين صاحبك علي بن أبي طالب و المرتدين على أعقابهم الذين ارتدوا عنه .
سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في قوله تعالى إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا يعني صبر علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين (عليه السلام) في الدنيا على الطاعات و على الجوع و على الفقر و صبروا على البلاء لله في الدنيا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ .
و قال علي بن عبد الله بن عباس : وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ علي بن أبي طالب .
و لما نعى رسول الله عليا بحال جعفر في أرض موته قال إنا لله و إنا إليه راجعون فأنزل عز و جل الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ الآية .
و قال له رجل إني و الله لأحبك في الله تعالى .
فقال (عليه السلام) إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا أو جلبابا .
الحميري :
إن كنت من شيعة الهادي أبي حسن *** حقا فأعدد لريب الدهر تجفافا
إن البلاء مصيب كل شيعته , فاصبر *** و لا تك عند الهم مقصافا
قال أبو عبيدة و تغلب أي استعد جلبابا من العمل الصالح و التقوى يكون لك جنة من الفقر يوم القيامة و قال آخرون أي فليرفض الدنيا و ليزهد فيها و ليصبر على الفقر يدل عليه .
قول أمير المؤمنين و ما لي لا أرى منهم سيماء الشيعة قيل و ما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين قال :
خمص البطون من الطوى *** يبس الشفاة من الظمإ
عمش العيون من البكاء
قال كشاجم :
زعموا أن من أحب عليا *** ظل للفقر لابسا جلبابا
كذبوا كم حبه من فقير *** فتردى من الغنى أثوابا
[121]
حرفوا منطق الوصي لمعنى *** خالفوا إذ تأولوه الصوابا
إنما قال ارفضوا عنكم الدنيا *** إذا كنتم لنا أحبابا
في مسند أبي يعلى و اعتقاد الأشنهي و مجموع أبي العلاء الهمداني عن أنس و أبي برزة و أبي رافع و في إبانة ابن بطة من ثلاثة طرق : إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج يمشي إلى قبا فمر بحديقة .
فقال علي : ما أحسن هذه الحديقة .
فقال النبي : حديقتك يا علي في الجنة أحسن منها , حتى مر بسبع حدائق على ذلك .
ثم أهوى إليه فاعتنقه فبكى و بكى علي .
ثم قال علي : ما الذي أبكاك يا رسول الله ?
قال : أبكي لضغائن في صدور قوم لن تبدو لك إلا من بعدي ?
قال , يا رسول الله : كيف أصنع ?
قال : تصبر , فإن لم تصبر تلق جهدا و شدة .
قال , يا رسول الله : أ تخاف فيها هلاك ديني ?
قال : بل فيها حياة دينك .
الحميري :
قد كان في يوم الحدائق عبرة *** و قول رسول الله و العين تدمع
فقال علي مم تبكي فقال من *** ضغائن قوم شرهم أتوقع
عليك و قد يبدونها بعد منيتي *** فما ذا هديت الله في ذاك يصنع
العوني :
و قد قال في يوم الحدائق موغرا *** إليهم بما في فعلهم هو آت
ستغدر بعدي من قريش عصابة *** بعهدك دهرا أعظم الغدرات
سيبدين أسرارا ثوت في صدورهم *** قديما من الأضغان و الإحنات
سيفتن قوم عندها أي فتنة *** و أنت سليم غير ذي فتنات
و يوسع غدرا منكم بعهوده *** و يملأ غيظا قبل حين مماتي
و توجد صبارا شكورا مسلما *** كظوما لغيظ النفس ذا حكمات
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما رأيت منذ بعث الله محمدا رخاء فالحمد لله و لقد خفت صغيرا و جاهدت كبيرا أقاتل المشركين و أعادي المنافقين حتى قبض الله نبيه
[122]
فكانت الطامة الكبرى .
فلم أزل محاذرا وجلا أخاف أن يكون ما لا يسعني فيه المقام فلم أر بحمد الله إلا خيرا حتى مات عمر ; فكانت أشياء , ففعل الله ما شاء الله .
ثم أصيب فلان , فما زلت بعد فيما ترون دائبا أضرب بسيفي صبيا حتى كنت شيخا .
عمرو بن حريث في حديثه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) كنت أحسب أن الأمراء يظلمون الناس فإذا الناس يظلمون الأمراء .
الحميري :
ما زال مذ سلك السبيل محمد *** و مضى لغير مذلة مظلوما
ضامته أمته و ضيمهم له *** قد كان أصغر ما يكون عظيما
أبو الفتح الحفار بإسناده إن عليا قال : ما زلت مظلوما منذ كنت قيل له عرفنا ظلمك في كبرك فما ظلمك في صغرك فذكر أن عقيلا كان به رمد فكان لا يذرهما حتى يبدءوا بي .
ابن الحجاج :
و قديما كان العقيل تداوي *** و سوى ذلك العليل عليل
حين كانت تذر عين علي *** كلما التاث أو تشتكي عقيل
فصل في المسابقة بصالح الأعمال :
الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال قال أمير المؤمنين و شيعته فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ .
محمد بن عبد الله بن الحسن عن آبائه و السدي عن أبي مالك عن ابن عباس و محمد الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى : وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ و الله لهو علي بن أبي طالب .
و السدي و أبو صالح و ابن شهاب عن ابن عباس في قوله تعالى : وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قال يبشر محمد بالجنة عليا و جعفرا و عقيلا و حمزة و فاطمة و الحسن و الحسين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قال الطاعات , قوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علي و حمزة و عبيدة بن الحارث كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ عتبة و شيبة و الوليد .
الصادق (عليه السلام) : إنه أعتق ألف نسمة من كد يده جماعة لا يحصون كثرة .
[123]
الحميري :
و أعتق ألفا من صلب ماله أراد بهم وجه الإله وثيبا
و له :
و أعتق من يديه ألف نفس *** فأضحوا بعد رق معتقينا
و قال له رجل و رأى عنده وسق نوى ما هذا يا أبا الحسن قال مائة ألف عبد إن شاء الله فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة فهو من أوقافه .
و وقف مالا بخيبر و بوادي القرى و وقف مال أبي نيرو و البغيبغة و أرباجا و أرينة و رعدا و رزينا و رباحا على المؤمنين ; و أمر بذلك أكثر ولد فاطمة من ذوي الأمانة و الصلاح .
و أخرج مائة عين ينبع جعلها للحجيج و هو باق إلى يومنا هذا .
و حفر آبارا في طريق مكة و الكوفة و بنى مسجد الفتح في المدينة و عند مقابل قبر حمزة و في الميقات و في الكوفة و جامع البصرة و في عبادان و غير ذلك و كان يصوم النهار و يصلي بالليل ألف ركعة .
و عمر طريق مكة , و صام مع النبي سبع سنين و بعده ثلاثين سنة و حج مع النبي عشر حجج و جاهد في أيامه الكفار ; و بعد وفاته البغاة , و بسط الفتاوي و أنشأ العلوم و أحيا السنن و أمات البدع .
و لبعض السادة :
مفرق الأحزاب ضراب الطلى *** مكسر الأصنام كشاف الغمم
الزاهد العابد في محرابه *** الساجد الراكع في جنح الظلم
صام هجيرا و على سائله *** جاد بإفطار الصيام
ثم تم العبدي :
و كم غمرة للموت في الله خاضها *** و لجة بحر في الحكوم أقامها
و كم ليلة ليلاء لله قامها *** و كم صبحة مسجورة الحر صامها
أبو يعلى في المسند : إنه قال ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلاة الليل نور فقال ابن الكواء و لا ليلة الهرير قال و لا ليلة الهرير .
إبانة العكبري سليمان بن المغيرة عن أمه قالت : سألت أم سعيد سرية علي عن صلاة علي في شهر رمضان فقالت رمضان و شوال سواء يحيي الليل كله .
[124]
النيسابوري في روضة الواعظين إنه قال عروة بن الزبير : سمع بعض التابعين أنس بن مالك يقول نزلت في علي بن أبي طالب أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً الآية , قال الرجل فأتيت عليا وقت المغرب فوجدته يصلي و يقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر ثم جدد وضوئه و خرج إلى المسجد و صلى بالناس صلاة الفجر ثم قعد في التعقيب إلى أن طلعت الشمس ثم قصده الناس فجعل يقضي بينهم إلى أن قام إلى صلاة الظهر فجدد الوضوء ثم صلى بأصحابه الظهر ثم قعد في التعقيب إلى أن صلى بهم العصر ثم كان يحكم بين الناس و يفتيهم إلى أن غابت الشمس .
و في تفسير القشيري : إنه كان (عليه السلام) إذا حضره وقت الصلاة تلون و تزلزل فقيل له ما لك فيقول جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و حملها الإنسان في ضعفي فلا أدري أحسن إذا ما حملت أم لا .
عروة بن الزبير قال : تذاكرنا صالح الأعمال فقال أبو الدرداء أعبد الناس علي بن أبي طالب سمعته قائلا بصوت حزين و نغمة شجية في موضع خال إلهي كم من موبقة حلمتها عني فقابلتها بنعمتك و كم من جريرة تكرمت علي بكشفها بكرمك إلهي إن طال في عصيانك عمري و عظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك و لا أنا براج غير رضوانك ثم ركع ركعات فأخذ في الدعاء و البكاء فمن مناجاته إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي ثم أذكر العظيم من أخذك فيعظم علي بليتي .
ثم قال آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها و أنت محصيها فتقول خذوه فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته و لا تنفعه قبيلته يرحمهم الملأ إذا أذن فيه بالنداء آه من نار تنضج الأكباد و الكلى آه من نار نزاعة للشوى آه من غمرة من ملهبات لظى ثم أنعم (عليه السلام) في البكاء فلم أسمع له حسا .
فقلت : غلب عليه النوم أوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك .
فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون , مات و الله علي بن أبي طالب .
قال : فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم .
فقالت فاطمة (عليها السلام) ما كان من شأنه و فأخبرتها .
فقالت : هي و الله الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى .
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق , و نظر إلي و أنا أبكي , فقال :
[125]
مم بكاؤك يا أبا الدرداء ? فكيف و لو رأيتني و دعي بي إلى الحساب و أيقن أهل الجرائم بالعذاب و احتوشتني ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمتني الأحباء و رحمني أهل الدنيا أشد رحمة لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية .
و أخذ زين العابدين (عليه السلام) بعض صحف عباداته فقرأ فيها يسيرا ثم تركها من يده تضجرا , و قال : من يقوى على عباده علي بن أبي طالب .
أنس بن مالك قال : لما نزلت الآيات الخمس في طس أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً انتفض علي انتفاض العصفور .
فقال له رسول الله : ما لك يا علي ?
قال : عجبت يا رسول الله من كفرهم و حلم الله تعالى عنهم , فمسحه رسول الله بيده .
ثم قال , أبشر فإنه : لا يبغضك مؤمن و لا يحبك منافق و لو لا أنت لم يعرف حزب الله .
صاحب الحلية و أحمد في الفضائل عن مجاهد و صاحب مسند العشرة و جماعة عن محمد بن الكعب القرطي إنه : رأى أمير المؤمنين أثر الجوع في وجه النبي فأخذ إهابا فحوى وسطه و أدخله في عنقه و شد وسطه بخوص نخل و هو شديد الجوع فاطلع على رجل يستقي ببكرة .
فقال : هل لك في كل دلوة بتمرة .
فقال : نعم .
فنزح له حتى امتلأ كفه , ثم أرسل الدلو فجاء بها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
الحميري :
حدثنا وهب و كان امرؤ *** يصدق بالمنطق عن جابر
أن عليا عاين المصطفى *** ذا الوحي من مقتدر قادر
عاينه من جوعه مطرقا *** صلى عليه الله من صابر
و ظل كالواله مما رأى *** بصهره ذي النسب الفاخر
يجول إذ مر بذي حائط *** يسقي بدلو غير مستأجر
قال له ما أنت لي جاعل *** بكل دلو منزع ظاهر
فقال ما عندي سوى تمرة *** بكل دلو غير ما غادر
فانتزع الدلو إمام الهدى *** يسقي به الماء من الخاسر
حتى استقى عشرين دلوا على *** عشر بقول العالم الخابر
[126]
ثم أتى بالتمر يسعى به *** إلى أخيه غير مستأثر
فقال ما هذا الذي جئتنا *** به هداك الله من زائر
فاقتص ما قد كان من أمره *** في عاجل الأمر و في الآخر
فضمه ثم دعا ربه *** له بخير دائم ماطر
و له :
فقام يسعى حتى استقى *** فملأ كفيه يسعى به أبو حسن
أدناه منه فقال حين *** قضى صلاته ادن لي تخبرني
من أين هذا فقص قصته *** عليه مستعبرا جوى حزن
فضمه أحمد كوامقه يا *** لك من وامق و محتضن
فقال ذا للبتول فاطمة *** أوثرها مرة و تؤثرني
و هاك هذا فأنت أول *** من آثرني ذو العلى و أكرمني
فصل في الاستنابة و الولاية :
ولاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أداء سورة براءة و عزل به أبا بكر بإجماع المفسرين و نقلة الأخبار .
رواه الطبري و البلاذري و الترمذي و الواقدي و الشعبي و السدي و الثعلبي و الواحدي و القرطي و القشيري و السمعاني و أحمد بن حنبل و ابن بطة و محمد بن إسحاق و أبو يعلى الموصلي و الأعمش و سماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير و أبي هريرة و أنس و أبي رافع و زيد بن نقيع و ابن عمر و ابن عباس و اللفظ له إنه لما نزل : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إلى تسع آيات , أنفذ النبي (عليه السلام) أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل فقال إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فقال النبي لأمير المؤمنين اركب ناقتي العضباء و ألحق أبا بكر و خذ براءة من يده .
قال : و لما رجع أبو بكر إلى النبي جزع , و قال : يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت له رددتني عنه .
فقال (عليه السلام) : الأمين هبط إلي عن الله تعالى أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك , و علي مني ; و لا يؤدي عني إلا علي .
و في خبر إن عليا (عليه السلام) قال له إنك خطيب و أنا حديث السن فقال لا بد من أن
[127]
تذهب بها أو أذهب بها قال أما إذا كان كذلك فأنا أذهب بها يا رسول الله قال اذهب فسوف يثبت الله لسانك و يهدي قلبك .
أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : خطب علي الناس فاخترط سيفه , و قال :
لا يطوفن بالبيت عريان , و لا يحجن البيت مشرك , و من كان له مدة فهو إلى مدته , و من لم يكن له مدة ; فمدته أربعة أشهر .
زيادة في مسند الموصلي : و لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .
و هذا هو الذي أمر الله تعالى به إبراهيم حين قال وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فكان الله تعالى أمر إبراهيم الخليل بالنداء أولا قوله وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ و أمر الولي بالنداء آخرا .
قوله وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين الأذان علي بن أبي طالب الذي نادى به .
تفسير القشيري : إن رجلا قال لعلي بن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقى رسول الله في بعض الأمور بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد .
قال علي : بلى إن الله تعالى قال وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ إلى آخر الآية .
و في الحديث عن الباقرين (عليه السلام) قالا : قام خداش و سعيد أخو عمرو بن ود , فقال : و ما يسرنا على أربعة أشهر , بل برئنا منك و من ابن عمك ; فليس بيننا و بين ابن عمك إلا السيف و الرمح و إن شئت بدأنا بك .
فقال علي (عليه السلام) : هلموا ; ثم قال وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ إلى قوله إِلى مُدَّتِهِمْ .
تفسير الثعلبي : قال المشركون : نحن نبرأ من عهدك و عهد ابن عمك إلا من الطعن و الضرب , و طفقوا يقولون : إنا منعناك أن تبرك .
و في رواية عن النسابة بن صوفي : أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في خبر طويل إن أخي موسى ناجى ربه على جبل طور سيناء فقال في آخر الكلام امض إلى فرعون و قومه القبط و أنا معك لا تخف فكان جوابه ما ذكره الله تعالى إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ و هذا علي قد أنفذته ليسترجع براءة و يقرأها على أهل مكة و قد قتل منهم خلقا عظيما فما خاف و لا توقف و لا تأخذه في الله لومة لائم .
و في رواية : فكان أهل الموسم يتلهفون عليه و ما فيهم إلا من قتل أباه أو أخاه أو
[128]
حميمه فصدهم الله عنه و عاد إلى المدينة وحده سالما .
و كان أنفذه أول يوم من ذي الحجة سنة تسع من الهجرة و أداها إلى الناس يوم عرفة و يوم النحر .
الحميري :
من كان أذن منهم ببراءة *** في المشركين فأنذر الكفارا
منكم برأنا أجمعين فأشهرا *** في الأرض سيروا كلكم فرارا
و له :
من كان أرسله النبي بسورة *** في الحج كانت فيصلا و قضاء