و مارست هذا الدهر خمسين حجة *** و خمسا أرجى قابلا بعد قابل
[24]
فما أنا في الدنيا بلغت جسيمها *** و لا في الذي أهوى كدحت بطائل
و قد أشرعتني في المنايا أكفها *** و أيقنت أني رهن موت معاجل
و قال الحسن بن علي (عليه السلام) لحبيب بن مسلمة الفهري رب مسير لك في غير طاعة قال أما مسيري إلى أبيك فلا قال بلى و لكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة و لئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك فلو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت كما قال الله عز و جل خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً و لكنك كما قال بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ .
و قيل لمجنون الحسن كان أفضل أم الحسين فقال الحسن لقوله رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً و لم يقل حسينة .
المرتضى :
و عهدت منك ولاية لمعاشر *** لهم المعاد و حكمه و المحشر
قوم لمن شاءوا هنالك قدموا *** في الفائزين و من أشاءوا أخروا
و بحبهم من في الجنان مخلد *** و لأجلهم سقى الظماء الكوثر
فصل في محبة النبي إياه :
روى أبو علي الجبائي في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن مسعود و روى عبد الله بن شداد عن أبيه و أبو يعلى الموصلي في المسند عن ثابت البناني عن أنس و عبد الله بن شيبة عن أبيه : أنه دعي النبي إلى صلاة و الحسن متعلق به فوضعه النبي مقابل جنبه و صلى فلما سجد أطال السجود فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما سلم قال له القوم يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها كأنما يوحى إليك فقال لم يوح إلي و لكن ابني كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل و في رواية عبد الله بن شداد أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته .
الحلية بالإسناد عن أبي بكرة قال : كان النبي يصلي بنا و هو ساجد فيجيء الحسن و هو صبي صغير حتى يصير على ظهره أو رقبته فيرفعه رفعا رفيقا فلما صلى صلاته قالوا
[25]
يا رسول الله إنك لتصنع بهذا الصبي شيئا لم تصنعه بأحد فقال إن هذا ريحانتي الخبر .
و فيها عن أبي هريرة قال : ما رأيت الحسن قط إلا فاضت عيناي دموعا و ذلك أنه أتى يوما يشتد حتى قعد في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فجعل يقول بيده هكذا في لحية رسول الله يفتح فمه ثم يدخل فيه يقول اللهم إني أحبه فأحبه و أحب من يحبه يقولها ثلاث مرات .
و فيها عن البراء بن عازب قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) واضعا الحسن على عاتقه فقال من أحبني فليحبه .
سنن ابن ماجة و فضائل أحمد روى نافع عن ابن جبير عن أبي هريرة : أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال : اللهم إني أحبه فأحبه و أحب من يحبه قال : و ضمه إلى صدره .
مسند أحمد عن أبي هريرة : قال النبي و قد جاءه الحسن و في عنقه السخاب فالتزمه رسول الله و التزم هو رسول الله و قال اللهم إني أحبه فأحبه و أحب من يحبه ثلاث مرات أخرجه ابن بطة بروايات كثيرة .
عبد الرحمن بن أبي ليلى : كنا عند النبي فجاء الحسن فأقبل يتمرغ عليه فرفع قميصه و قبل زبيبه .
و عن أبي قتادة : أن النبي قبل الحسن و هو يصلي .
الخدري : أن الحسن جاء و النبي يصلي فأخذ بعنقه و هو جالس فقام النبي و إنه ليمسك بيديه حتى ركع .
فضائل عبد الملك قال أبو هريرة : كان النبي يقبل الحسن فقال الأقرع بن حابس إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدا منهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) من لا يرحم لا يرحم .
مسند العشرة و إبانة العكبري و شرف النبي و فضائل السمعاني و قد تداخلت الروايات بعضها في بعض عن عمير بن إسحاق قال : رأيت أبا هريرة في طريق , قال للحسن بن علي أرني الموضع الذي قبله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
قال : فكشف عن بطنه , فقبل سرته .
الواعظ في شرف النبي و السمعاني في فضائل الصحابة و جماعة من أصحابنا في كتبهم عن هاني بن هاني عن أمير المؤمنين و عن علي بن الحسين و عن أسماء بنت عميس و اللفظ لها , قالت : لما ولدت فاطمة الحسن جاءني النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا أسماء هاتي ابني فدفعته إليه في خرقة صفراء فرمى بها و قال يا أسماء أ لم عهد إليكم أن
[26]
لا تلفوا المولود في خرقة صفراء فلففته في خرقة بيضاء و دفعته إليه فأذن في أذنه اليمنى و أقام في اليسرى ثم قال لعلي أي شيء سميت ابني هذا قال ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله و قد كنت أحب أن أسميه حربا فقال أنا لا أسبق باسمه ربي ثم هبط جبرئيل فقال السلام عليك يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام و يقول علي منك بمنزلة هارون من موسى و لا نبي بعدك سم ابنك هذا باسم ابن هارون قال و ما اسم ابن هارون يا جبرئيل قال شبر قال لساني عربي قال سمه الحسن فسماه الحسن فلما كان يوم سابعه عق عنه بكبشين أملحين و أعطى القابلة فخذا و حلق رأسه و تصدق بوزن الشعر ورقا و طلى رأسه بالخلوق ثم قال يا أسماء الدم فعل الجاهلية قالت فلما ولد الحسين فعل مثل ذلك .
الباقر (عليه السلام) في خبر ... : فوزنوه فكان وزنه درهما و نصفا يعني شعر الحسين وقت الولادة .
أبو هريرة و ابن عباس و الصادق (عليه السلام) : أن فاطمة عادت رسول الله عند مرضه الذي عوفي منه و معها الحسن و الحسين فأقبلا يغمزان مما يليهما من يد رسول الله حتى اضطجعا على عضديه و ناما فلما انتبها خرجا في ليلة ظلماء مدلهمة ذات رعد و برق و قد أرخت السماء عزاليها فسطع لهما نور فلم يزالا يمشيان في ذلك النور و يتحدثان حتى أتيا حديقة بني النجار فاضطجعا و ناما فانتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من نومه و طلبهما في منزل فاطمة فلم يكونا فيه فقام على رجليه و هو يقول إلهي و سيدي و مولاي هذان شبلاي خرجا من المخمصة و المجاعة اللهم أنت وكيلي عليهما اللهم إن كانا أخذا برا أو بحرا فاحفظهما و سلمهما فنزل جبرئيل و قال إن الله يقرئك السلام و يقول لك لا تحزن و لا تغتم لهما فإنهما فاضلان في الدنيا و الآخرة و أبوهما أفضل منهما هما نائمان في حديقة بني النجار و قد وكل الله بهما ملكا فسطع للنبي نور فلم يزل يمضي في ذلك النور حتى أتى حديقة بني النجار فإذا هما نائمان و الحسن معانق الحسين و قد تقشعت السماء فوقهما كطبق و هي تمطر كأشد مطر و قد منع الله المطر منهما و قد اكتنفتهما حية لها شعرات كآجام القصب
[27]
و جناحان جناح قد غطت به الحسن و جناح قد غطت به الحسين فانسابت الحية و هي تقول اللهم إني أشهدك و أشهد ملائكتك أن هذان شبلا نبيك قد حفظتهما عليه و دفعتهما إليه سالمين صحيحين فمكث النبي يقبلهما حتى انتبها فلما استيقظا حمل النبي الحسن و حمل جبرئيل الحسين فقال أبو بكر ادفعهما إلينا فقد أثقلاك فقال أما أن أحدهما على جناح جبرئيل و الآخر على جناح ميكائيل فقال عمر ادفع إلي أحدهما أخفف عنك فقال امض فقد سمع الله كلامك و عرف مقامك فقال أمير المؤمنين ادفع إلي أحد شبلي و شبليك فالتفت إلى الحسن فقال يا حسن هل تمضي إلى كتف أبيك فقال و الله يا جداه إن كتفك لأحب إلي من كتف أبي ثم التفت إلى الحسين فقال يا حسين تمضي إلى كتف أبيك فقال أنا أقول كما قال أخي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نعم المطية مطيتكما و نعم الراكبان أنتما فلما أتى المسجد قال و الله يا حبيبي لأشرفنكما بما شرفكما الله ثم أمر مناديا ينادي في المدينة فاجتمع الناس في المسجد فقام و قال يا معشر الناس أ لا أدلكم على خير الناس جدا و جدة قالوا بلى يا رسول الله قال الحسن و الحسين فإن جدهما محمد و جدتهما خديجة ثم قال يا معشر الناس أ لا أدلكم على خير الناس أما و أبا و هكذا عما و عمة و خالا و خالة .
و قد روى الخركوشي في شرف النبي عن هارون الرشيد عن آبائه عن ابن عباس هذا المعنى : فنظمه الصقر البصري :
هذا ابن خلاد روى عن شيخه *** أعني به أبا سويد الدارعا
مما روى المأمون أن رشيدهم *** يروي عن الهادي حديثا شايعا
مما روى المهدي عن منصورهم *** عن ابن عباس الأديب البارعا
حتى اجتمعنا عند أكرم مرسل *** يوما و كان الوقت وقتا جامعا
فأتته فاطمة البتول و عينها *** من حرقة تنهل دمعا هامعا
فارتاع والدها لفرط بكائها *** لما استبان الأمر منها رائعا
[28]
فبكى و قال فداك أحمد ما الذي *** يبكيك ما ألقاك ربك فاجعا
قالت فقدت ابني يا أبتا و قد *** صادفت فقدهما لقلبي صادعا
فشجاه ما ذكرت فأقبل ساعة *** متململا يدعو المهيمن ضارعا
فإذا المطوف جبرئيل مناديا *** ببشارة من ذي الجلال مسارعا
الله يقرئك السلام بجوده *** و يقول لا تك يا حبيبي جازعا
أدركهما بحديقة النجار قد لعبا *** و قد نعسا بها و تضاجعا
أرسلت من خدم الكرام إليهما *** ملكا شفيقا للمكاره دافعا
غطاهما منه جناحا و انثنى *** بالرفق فوقهما و آخر واضعا
فأتاهما خير البرية فاغتدى *** بهما على كتفيه جهرا رافعا
فأتاه ذو ملق ليحمل واحدا عنه *** فقال له وراءك راجعا
نعم المطي مطية حملتهما مني *** و نعم الراكبان هما معا
وأبوهما خير و أفضل منهما *** شرفا لعمرك في المزية شافعا
فصل في تواريخه و أحواله (عليه السلام) :
ولد الحسن (عليه السلام) : بالمدينة ; ليلة النصف من شهر رمضان عام أحد سنة ثلاث من الهجرة و قيل سنة اثنتين و جاءت به فاطمة س إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنة و كان جبرئيل نزل بها إلى النبي فسماه حسنا .
و عق عنه : كبشا .
فعاش مع جده : سبع سنين و أشهرا و قيل ثمان سنين .
و مع أبيه : ثلاثين سنة .
و بعده : تسع سنين و قالوا عشر سنين .
و كان ربع القامة و له محاسن كثة .
و أصحابه : أصحاب أبيه .
و بوابه : قيس بن ورقاء المعروف بسفينة , و رشيد الهجري و يقال و ميثم التمار .
و بويع بعد أبيه : يوم الجمعة الحادي و العشرين من شهر رمضان في سنة أربعين .
و كان أمير جيشه : عبيد الله بن العباس ثم قيس بن سعد بن عبادة .
[29]
و كان عمره لما بويع : سبعا و ثلاثين سنة فبقي في خلافته أربعة أشهر و ثلاثة أيام و وقع الصلح بينه و بين معاوية في سنة إحدى و أربعين و خرج الحسن إلى المدينة فأقام بها عشر سنين .
و سماه الله تعالى : الحسن ; و سماه في التوراة شبرا .
و كنيته : أبو محمد و أبو القاسم .
و ألقابه : السيد و السبط و الأمير و الحجة و البر و التقي و الأثير و الزكي و المجتبى و السبط الأول و الزاهد .
و أمه : فاطمة بنت رسول الله ; و ظل مظلوما و مات مسموما .
و قبض : بالمدينة بعد مضي عشر سنين من ملك معاوية .
فكان في سني إمامته : أول ملك معاوية فمرض أربعين يوما و مضى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة و قيل سنة تسع و أربعين .
و عمره : سبع و أربعون سنة و أشهر و قيل ثمان و أربعون و قيل في سنة تمام خمسين من الهجرة .
و كان بذل معاوية لجعدة بنت محمد بن الأشعث الكندي و هي ابنة أم فروة أخت أبي بكر بن أبي قحافة عشرة آلاف دينار و إقطاع عشرة ضياع من سقي سوراء و سواد الكوفة على أن تسم الحسن .
و تولى الحسين : تغسيله و تكفينه و دفنه .
و قبره : بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد .
و أولاده : ثلاثة عشر ذكرا و ابنة واحدة عبد الله و عمر و القاسم أمهم أم ولد و الحسين الأثرم و الحسن أمهما خوله بنت منظور الفزارية و عقيل و الحسن أمهما أم بشير بنت أبي مسعود الخزرجية و زيد و عمر من الثقفية و عبد الرحمن من أم ولد و طلحة و أبو بكر أمهما أم إسحاق بنت طلحة التميمي و أحمد و إسماعيل و الحسن الأصغر ابنته أم الحسن فقط عند عبد الله و يقال و أم الحسين و كانتا من أم بشير الخزاعية و فاطمة من أم إسحاق بنت طلحة و أم عبد الله و أم سلمة و رقية لأمهات أولاد .
[30]
و قتل مع الحسين من أولاده : عبد الله و القاسم و أبو بكر .
و المعقبون من أولاده اثنان زيد بن الحسن و الحسن بن الحسن .
أبو طالب المكي في قوت القلوب : أنه (عليه السلام) تزوج مائتين و خمسين امرأة و قيل ثلاثمائة و كان علي يضجر من ذلك فكان يقول في خطبته إن الحسن مطلاق فلا تنكحوه .
أبو عبد الله المحدث في رامش أفزاي : إن هذه النساء كلهن خرجن خلف جنازته حافيات .
البخاري : لما مات الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول هل وجدوا ما فقدوا فأجابه آخر بل يئسوا فانقلبوا و هي بنت عمه فاطمة بنت الحسين .
و في رواية غيرها : أنها أنشدت بيت لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
المرتضى :
يا آل خير عباد الله كلهم *** و من له مثل أعناق الورى المنن
كم تثلمون بأيدي الناس كلهم *** و كم تعرس فيكم دهرها المحن
و كم يذودنكم عن حقكم حنقا *** مملئ الصدر بالأحقاد مضطغن
إن الذين نضوا عنكم تراثكم *** لم يغبنوكم و لكن دينهم غبنوا
باعوا الجنان بدار لا بقاء لها *** و ليس لله فيما باعه ثمن
أحبكم و الذي صلى الحجيج له *** عند البناء الذي تهدى له البدن
و أرتجيكم لما بعد الممات إذا *** وارى عن الناس جمعا أعظم الجنن
و أن يضل أناس عن سبيلهم *** فليس لي غير ما أنتم به سنن
و ما أبالي إذا ما كنتم وضحا *** لناظري أضاء الخلق أم دجنوا
و أنتم يوم أرمي ساعدي و يدي *** و أنتم يوم يرميني العدى الجنن
[31]
أبو عباس الضبي :
حب النبي أحمد *** و الآل فيه مجتري
أحنو عليهم ما حنا *** على حياتي عمري
أعدهم لمفخري *** أعدهم لمحشري
و كل وزري محبط *** ما دام فيه وزري
وردي إليهم صاديا *** و ليس عنهم صدري
لعائن الله على *** من ضل فيهم أثري
لعائنا تتركهم *** معالما للخبر
فصل في صلحه (عليه السلام) مع معاوية :
لما مات أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الحسن (عليه السلام) بالكوفة فقال أيها الناس إن الدنيا دار بلاء و فتنة و كل ما فيها فإلى زوال و اضمحلال فلما بلغ إلى قوله و إني أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت و تسالموا من سالمت فقال الناس سمعنا و أطعنا فمرنا بأمرك يا إمام المؤمنين فأقام بها شهرين .
قال أبو مخنف قال ابن عباس كلاما , فيه : ... فشمر في الحرب , و جاهد عدوك , و دار أصحابك , و استر من الضنين دينه بما لا ينثلم لك دين , و ول أهل البيوتات و الشرف , و الحرب خدعة , و علمت أن أباك إنما رغب الناس عنه و صاروا إلى معاوية لأنه آسى بينهم في العطاء .
فرتب (عليه السلام) العمال و أنفذ عبد الله إلى البصرة فقصد معاوية نحو العراق فكتب إليه الحسن :
أما بعد فإن الله تعالى بعث محمدا رحمة للعالمين فأظهر به الحق و قمع به الشرك و أعز به العرب عامة و شرف من شاء منها خاصة فقال وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فلما قبضه الله تعالى تنازعت العرب الأمر من بعده فقالت الأنصار منا أمير و منكم أمير فقالت قريش نحن أولياؤه و عشيرته فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب ذلك لقريش ثم جاحدتنا قريش ما عرفته العرب لهم و هيهات ما أنصفتنا قريش ... الكتاب .
فأجابه معاوية على يدي جندب الأزدي موصل كتاب الحسن (عليه السلام) : فهمت ما ذكرت به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو أحق الأولين و الآخرين بالفضل كله , و ذكرت تنازع المسلمين الأمر
[32]
من بعده , فصرحت بنميمة فلان و فلان و أبي عبيدة و غيرهم فكرهت ذلك لك لأن الأمة قد علمت أن قريشا أحق بها ; و قد علمت ما جرى من أمر الحكمين فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك و قد خرج أبوك منه .
ثم كتب : أما بعد فإن الله يفعل في عباده ما يشاء لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فاحذر أن تكون منيتك على يدي رعاع الناس و آيس من أن تجد فينا غميزة و إن أنت أعرضت عما أنت فيه و بايعتني وفيت لك بما وعدت و أجزت لك ما شرطت و أكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس :
و إن أحد أسدى إليك كرامة *** فأوف بما يدعى إذا مت وافيا
فلا تحسدوا المولى إذا كان ذا غنى *** و لا تجفه إن كان للمال نائيا
ثم الخلافة لك بعدي , و أنت أولى الناس بها .
و في رواية : و لو كنت أعلم أنك أقوى للأمر و أضبط للناس و أكبت للعدو و أقوى على جمع الأموال مني , لبايعتك ; لأنني أراك لكل خير أهلا .
ثم قال : إن أمري و أمرك شبيه بأمر أبي بكر و أبيك بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
فأجابه الحسن (عليه السلام) :
أما بعد , فقد وصل إلى كتابك تذكر فيه ما ذكرت و تركت جوابك خشية البغي , و بالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق فإنك تعلم من أهله , و علي إثم , أن أقول فأكذب .
و استنفر معاوية الناس فلما بلغ جسر منبج بعث الحسن (عليه السلام) حجر بن عدي و استنفر الناس للجهاد فتثاقلوا .
ثم خف معه أخلاط من شيعته , و محكمة , و شكاك , و أصحاب عصبية و فتن , حتى أتى حمام عمر , ثم أخذ على دير كعب فنزل ساباط فلما أصبح نودي بالصلاة جامعة فاجتمعوا .
فصعد المنبر فخطب , و قال , تجربة لهم : أما بعد فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منه و أنا أنصح خلق الله لخلقه , و ما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة و لا مريدا له بسوء و لا غائلة , ألا و إن
[33]
ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة , ألا و إني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم و لا تخالفوا أمري و لا ترددوا علي رأيي غفر الله لي و لكم و أرشدني و إياكم لما فيه المحبة و الرضا .
فقالوا : و الله يريد أن يصالح معاوية و يسلم الأمر إليه ; كفر و الله الرجل كما كفر أبوه .
فانتهبوا فسطاطه حتى أخذوا مصلاه من تحته , و نزع مطرفه عبد الرحمن بن جعال الأزدي , و طعنه جراح بن سنان الأسدي في فخذه , و قتل الجراح عبد الله بن خطل الطائي و ظبيان بن عمارة فأطاف به ربيعة و همدان و هو على سرير حتى أنزل على سعد بن مسعود الثقفي .
و كتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السر و استحثوه على المسير نحوهم و ضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوه من عسكره .
و ورد عليه كتاب قيس بن سعد و كان [قد] أنفذه مع عبيد الله بن العباس عند مسيره من الكوفة ليلقى معاوية و جعله أميرا و بعده قيس بن سعد يخبر ; أنهم نازلوا معاوية بالحنونية و أن معاوية أرسل إلى عبيد الله يرغبه في المصير إليه و ضمن له ألف ألف درهم يعجل له منها النصف و النصف الآخر عند دخوله الكوفة , فانسل عبيد الله إلى معاوية في الليل في خاصته و صلى بهم قيس و قال فيه ما قال ; و كان يغره معاوية , فقال لجنده : اختاروا أحد اثنين إما القتال مع الإمام أو تبايعون بيعة ضلال .
فاختاروا الحرب , فحاربوا معاوية .
فقال معاوية : إن الحسن يصالحني فما هذا القتال ?
فكان أهل العراق يستأمنون معاوية و يدخلون عليه قبيلة بعد قبيلة ; فازدادت بصيرة الحسن (عليه السلام) بنياتهم إذ كتب إليه معاوية في الصلح , و أنفذ بكتب أصحابه و اشترط له على نفسه شروطا و عقودا .
فعلم الحسن احتياله و اغتياله , غير أنه لم يجد بدا من إجابته .
فقال الحسين : يا أخي أعيذك بالله من هذا فأبى .
و أنفذ إلى معاوية عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فتوثق منه لتأكيد الحجة : أن يعمل فيهم بكتاب الله و سنة نبيه ; و الأمر من بعده شورى ; و أن يترك سب علي ; و أن يؤمن شيعته و لا يتعرض لأحد منهم ; و يوصل إلى كل ذي حق حقه ; و يوفر عليه حقه كل سنة خمسون ألف درهم .
فعاهده على ذلك معاوية و حلف
[34]
بالوفاء به و شهد بذلك عبد الرحمن بن الحارث و عمرو بن أبي سلمة و عبد الله بن عامر بن كريز و عبد الرحمن بن أبي سمرة و غيرهم .
فلما سمع ذلك قيس بن سعد قال :
أتاني بأرض العال من أرض مسكن *** بأن إمام الحق أضحى مسالما
فما زلت مذ بينته متلددا *** أراعي نجوما خاشع القلب واجما
و روي : أنه قال الحسن (عليه السلام) في صلح معاوية أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا و جابرسا رجلا جده رسول الله ما وجدتم غيري و غير أخي و إن معاوية نازعني حقا هو لي فتركته لصلاح الأمة و حقن دمائها و قد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت و قد رأيت أن أسالمه و أن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين و في رواية إنما هادنت حقنا للدماء و صيانتها و إشفاقا على نفسي و أهلي و المخلصين من أصحابي .
و روي : أنه (عليه السلام) قال يا أهل العراق إنما سخى عليكم بنفسي ثلاث قتلكم أبي و طعنكم إياي و انتهابكم متاعي .
ابن طوطي الواسطي :
لقد باع دنياهم بدين معاشر *** متى ما تبع دنياك بالدين يشتروا
فإن قال قوم كان في البيع خاسر *** فللمشتري دنياه بالدين أخسر
محمد بن منصور :
السيد الحسن الذي فاق الورى *** علما و حلما سيد الشبان
رقت طبيعته فجاد بأمره *** لما التوى و تجاذب الفتيان
حقن الدماء لأمة مرحومة *** علما بما يأتي من الفتنان
و دخل الحسين (عليه السلام) على أخيه باكيا ثم خرج ضاحكا فقال له مواليه ما هذا قال أتعجب من دخولي على إمام أريد أن أعلمه فقلت ما ذا دعاك إلى تسليم الخلافة .
[35]
فقال : الذي دعا أباك فيما تقدم .
قال : فطلب معاوية البيعة من الحسين .
فقال الحسن : يا معاوية لا تكرهه فإنه لن يبايع أبدا أو يقتل و لن يقتل حتى يقتل أهل بيته و لن يقتل أهل بيته حتى يقتل أهل الشام
قال : فنزل معاوية يوم الجمعة بالنخيلة فصلى بالناس ضحى النهار , و قال في خطبته : إني و الله ما قاتلتكم لتصلوا و لا تصوموا و لا تحجوا و لا تزكوا إنكم لتفعلون ذلك و لكني قاتلتكم لأتأمر عليكم و قد أعطاني الله ذلك و أنتم له كارهون و إني منيت الحسن و أعطيته أشياء و جميعها تحت قدمي و لا أفي بشيء منها .
الأصفهاني :
و تجنبوا ولد الرسول و صيروا *** عهد الخلافة في يدي خوان