فرجع الرؤساء إليها .
فدخلوا القصر , فقال لهم عبيد الله : أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة
[93]
و خوفوا أهل المعصية .
فما زال الناس يتفرقون حتى أمسى مسلم و ما معه إلا ثلاثون نفسا .
فلما صلى المغرب , ما رأى أحدا .
فبقي في أزقة كندة متحيرا , فمشى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها (طوعة) كانت أم ولد محمد بن الأشعث فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا ; و كان بلال خرج مع الناس و أمه قائمة تنتظره .
فقال لها مسلم : يا أمة الله اسقيني .
فسقته .
و جلس .
فقالت له : يا عبد الله , اذهب إلى أهلك .
فسكت .
ثم عادت ; فسكت .
فقالت : سبحان الله , قم إلى أهلك .
فقال : ما لي في هذا المصر منزل و لا عشيرة .
قالت : فلعلك مسلم بن عقيل , فآوته .
فلما دخل بلال على أمه وقف على الحال , و نام .
فلما أصبح , أذن مناد من دل على مسلم فله ديته , و برئت الذمة من رجل وجدناه في داره .
فجاء بلال إلى عبد الرحمن بن محمد الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عنده .
فأقبل عبد الرحمن و دنا من أبيه و ساره .
فقال ابن زياد : ما يقول ابنك ?
فقال : يقول ابن عقيل في دار من دورنا .
فأنفذ عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي و محمد بن الأشعث في سبعين رجلا حتى أطافوا بالدار .
فحمل مسلم عليهم و هو يقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع *** فأنت بكأس الموت لا شك جارع
فصبر لأمر الله جل جلاله *** فحكم قضاء الله في الخلق ذائع
فقتل منهم واحدا و أربعين رجلا .
فأنفذ ابن زياد اللائمة إلى ابن الأشعث , فقال : أيها الأمير ; إنك بعثتني إلى أسد ضرغام و سيف حسام في كف بطل همام من آل خير الأنام .
قال : ويحك ; ابن عقيل لك الأمان . و هو يقول : لا حاجة لي في أمان الفجرة و هو يرتجز :
أقسمت لا أقتل إلا حرا *** و إن رأيت الموت شيئا نكراأكره أن أخدع أو أغرا كل امرئ يوما يلاقي شراأضربكم و لا أخاف ضرا ضرب غلام قط لم يفرا
فضربوه بالسهام و الأحجار حتى عيي و استند حائطا .
فقال : ما لكم ترموني بالأحجار كما ترمى الكفار و إنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار أ لا ترعون حق رسول الله في ذريته ?
فقال ابن الأشعث : لا تقتل نفسك و أنت في ذمتي .
قال : أؤسر و بي طاقة لا و الله لا يكون ذلك أبدا و حمل عليه فهرب منه .
[94]
فقال مسلم : اللهم إن العطش قد بلغ مني .
فحملوا عليه من كل جانب , فضربه بكير بن حمران الأحمري على شفته العليا ; و ضربه مسلم في جوفه فقتله ; و طعن من خلفه ; فسقط من فرسه فأسر .
فقال مسلم : اسقوني شربة من ماء .
فأتاه غلام عمرو بن حريث بشربة زجاج , و كانت تملى دما و سقطت فيه ثنيته .
فأتي به إلى ابن زياد ; فتجاوبا .
و كان ابن زياد يسب حسينا و عليا (عليهما السلام) .
فقال مسلم : فاقض ما أنت قاض يا عدو الله .
فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر و اضربوا عنقه .
و كان مسلم يدعو الله , و يقول : اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و خذلونا فقتله و هو على موضع الحذاءين .
ثم أمر بقتل هاني بن عروة في محلة يباع فيها الغنم .
ثم أمر بصلبه منكوسا .
و أنشد أسدي :
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هاني في السوق و ابن عقيل
و أنفذ رأسهما إلى يزيد في صحبة هاني بن حيوة الوادعي .
فنصب الرأسين في درب من دمشق .
و كتب : قد بلغني أن الحسين قد عزم إلى المسير إلى العراق فضع المراصد و احبس على الظن و أقتل على التهمة حتى تكفى أمره .
فلما عزم الحسين على الخروج : نهاه عمرو بن عبد الرحمن بن هشام المخزومي .
فقال : جزاك الله خيرا يا ابن عم ; مهما يقض يكن و أنت عندي أحمد مشير و أنصح ناصح .
فأتاه ابن عباس و تكلم في ذلك كثيرا , فانصرف .
و مر بعبد الله بن الزبير فقال :
قد قلت لما أن وزيت معشري *** يا لك من قنبرة بمعمريخلا لك الجو فبيضي و اصفري و نقري ما شئت أن تنقريهذا حسين سائر فاستبشري مذ رفع الفخ فما ذا تحذريلا بد من أخذك يوما فاصبري
و كتب إليه عبد الله بن جعفر من المدينة في ذلك .
فأجابه : إني قد رأيت جدي رسول الله في منامي فخبرني بأمر و أنا ماض له , لي كان أم علي ; و الله يا ابن عم ليعتدين علي كما يعتدي اليهود يوم السبت .
و خرج .
[95]
فلما بلغ ذات عرق : رأى الفرزدق الشاعر , فسأل الخبر .
فقال : قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية .
قال : صدقت يا أخا تيم ; و إن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد .
فلما بلغ الحاجز من بطن الرقة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة يخبرهم بمجيئه .
فأخذه الحصين بن نمير في القادسية و بعث به إلى ابن زياد .
فقال له ابن زياد : اصعد القصر فسب الكذاب .
فصعد , فأثنى على الله ; و على رسوله ; و على أهل بيته ; و لعن زيادا ; و ابنه .
فرمى به من فوق القصر , فمات .
فلما نزل الحسين بالخزيمية , قالت زينب يا أخي سمعت في ليلتي هاتفا يهتف :
ألا يا عين فاحتفلي بجهد *** و من يبكي على الشهداء بعد
إلى قوم تسوقهم المنايا *** بمقدار إلى إنجاز وعد
فلما وصل إلى الثعلبية جعل يقول :
باتوا نياما و المنايا تسري ***
فقال علي بن الحسين الأكبر : أ لسنا على الحق ?
قال : بلى .
قال : إذا و الله ما نبالي .
فلما نزل شقوق , أتاه رجل فسأله عن العراق , فأخبره بحاله .
فقال : إن الأمر لله يفعل ما يشاء و ربنا تبارك كل يوم هو في شأن فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه و هو المستعان على أداء الشكر و إن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من الحق نفيه .
ثم أنشد :
فإن تكن الدنيا تعد نفيسة *** فدار ثواب الله أعلى و أنبل
و إن تكن الأموال للترك جمعها *** فما بال متروك به الحر يبخل
و إن تكن الأرزاق قسما مقدرا *** فقلة حرص المرء في الكسب أجمل
و إن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
عليكم سلام الله يا آل أحمد *** فإني أراني عنكم سوف أرحل
فلما نزل على شراف ; قال : رأيت النخيل .
فقال رجلان أسديان كانا معه : هذا مكان ما رأينا به نخلا قط .
قال الحسين : فما تريانه ?
فقالا : لا نراه و الله إلا هوادي الخيل .
فقال : أنا و الله أرى ذلك .
و أمر أصحابه أن يستبقوا .
إذا هم بالحر الرياحي في ألف رجل .
[96]
فقام الحسين و صلى بأصحابه , و صلى الحر معه . فلما سلم , قال :
أيها الناس معذرة إلى الله و إليكم , إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم و قدمت علي رسلكم ... في كلام له ... حتى قال : فإن تعطوني ما أطمئن عليه من عهودكم أقدم مصركم , و إن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم .
فقال الحر : إنا و الله ما ندري ما هذه الكتب و الرسل التي تذكر .
فدعا الحسين (عليه السلام) بخرجين مملوءين كتبا فنثرها .
فقال الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ; إنما أمرنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد .
فقال الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك .
فلما انتهى إلى نينوى كتب ابن زياد إلى الحر أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي و لا تنزله إلا بالعراء في غير حصن على غير ماء و قد أمرت رسولي أن لا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري .
فأمر الحسين (عليه السلام) أن يشدوا الرحال ; فجعلوا يلازمونه , فطال بينهما المقال .
فقال الحر : خذ على غير الطريق فو الله لئن قاتلت لتقتلن .
فقال الحسين : أ بالموت تخوفني ?
و تمثل بقول أخي الأوس :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى *** الأبيات .
فاستدل على غير الجادة .
فقال الطرماح بن عدي الطائي : أنا المدل و جعل يرتجز :
يا ناقتي لا تجزعي من زجري *** و امض بنا قبل طلوع الفجر
بخير فتيان و خير سفر *** آل رسول الله أهل الخير
السادة البيض الوجوه الزهر *** الطاعنين بالرماح السمر
الضاربين بالسيوف البتر
فلما أصبح بعذيب الهجانات : رأى الحر في عسكره يتبعه .
فسأله عن الحالة
فقال : هددني الأمير في شأنك .
فقال : دعنا في نينوى و الغاضرية .
فقال : لا و الله , و علي عينه .
فقال زهير بن القين البجلي : ائذن لنا بقتالهم ; فقتال هؤلاء اليوم أسهل من قتال من يجيء بعدهم .
فقال : لا أبتدئ .
فساقوا إلى قرية عقر .
فسأل عنها : فقيل هي العقر
[97]
فقال : إني أعوذ بك من العقر .
فساقوا إلى كربلاء يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى و ستين ثم نزل .
و قال : هذا موضع الكرب و البلاء ; هذا مناخ ركابنا , و محط رحالنا , و مقتل رجالنا , و سفك دمائنا .
ثم أقبل عمر بن سعد : في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين و بعث من غده قرة بن قيس الحنظلي يسأله ما الذي جاء به فلما بلغ رسالته قال الحسين .
كتب إلي أهل مصركم أن أقدم فأما إذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم .
فلما سمع عمر جوابه كتب إلى ابن زياد بذلك فلما رأى ابن زياد كتابه قال .
الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة و لات حين مناص
و كتب إلى عمر اعرض على الحسين أن يبايع يزيد و جميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا و إن أبى فأتني به .
قال الطبري : ثم كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد أما بعد فحل بين الحسين و أصحابه و بين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي النقي عثمان أمير المؤمنين المظلوم .
قال بعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة و حالوا بينه و بين الماء ثلاثة أيام إلى أن قتل .
قال الطبري في حديث عقبة بن سمعان : إنه قال (عليه السلام) دعوني أذهب في الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس فكتب عمر إلى ابن زياد و ذكر في آخره و في هذا لله رضا و للأمة صلاح .
فأنفذ ابن زياد بشمر بن ذي الجوشن بكتاب فيه :
إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه , و لا لتطاوله , و لا لتمنيه السلامة و البقاء , و لا لتعتذر له عندي , و لا لتكون له شافعا .
فإن نزل الحسين و أصحابه على حكمي و استسلموا فابعث بهم إلي سالمين ; و إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم و تمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون ; فإن قتل الحسين , فأوطئ الخيل صدره و ظهره , فإنه عاق شاق قاطع ظلوم .
فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع , و إن أبيت فاعتزل أمرنا و جندنا و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر ; فإنا قد أمرناه بأمرنا .
و كان أمر شمرا أنه إن لم يفعل بما فيه فاضرب عنقه , و أنت الأمير .
[98]
و كان قد كتب لعمر منشورا بالري فجعل يقول :
فو الله ما أدري و إني لواقف *** أفكر في أمري على خطرين
أ أترك ملك الري و الري منيتي *** أم أرجع مذموما بقتل حسين
ففي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب و ملك الري قرة عيني
و كتب ابن زياد إلى الحسين : أما بعد يا حسين فقد بلغني نزولك بكربلاء و قد أمرني أمير المؤمنين أن لا أتوسد الوثير و لا أشبع من الخمير حتى ألحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي و حكم يزيد بن معاوية .
فلما قرأ الحسين (عليه السلام) الكتاب , قال : ليس له جواب لأنه قد حقت عليه كلمة العذاب .
و جهز ابن زياد عليه خمسا و ثلاثين ألفا : فبعث الحر في ألف رجل من القادسية و كعب بن طلحة في ثلاثة آلاف و عمر بن سعد في أربعة آلاف و شمر بن ذي الجوشن السلولي في أربعة آلاف من أهل الشام و يزيد بن ركاب الكلبي في ألفين و الحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف و مضائر بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف و نصر بن حرشة في ألفين و شبث بن ربعي الرياحي في ألف و حجار بن أبحر في ألف و كان جميع أصحاب الحسين اثنين و ثمانين رجلا منهم الفرسان اثنان و ثلاثون فارسا و لم يكن لهم من السلاح إلا السيف و الرمح .
فركب عمر في الناس , ثم زحف نحوهم .
فقال الحسين للعباس : تقول لهم ما لكم و ما بدا لكم ; و تسألهم عما جاء بهم .
فقالوا : جاء أمر الأمير بكيت و كيت .
قال : فلا تعجلوا , حتى أرجع إلى أبي عبد الله و أعرض عليه ما ذكرتم .
فمضى و عرض عليه .
فقال : إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر .
فأبى عمر بن سعد .
فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي : سبحان الله , و الله أن لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المنزلة لكان ينبغي أن يجاب .
فجمع الحسين أصحابه , و حمد الله و أثنى عليه ثم قال بعد دعاء و كلام كثير : و إني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام , هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا , و ليأخذ كل رجل بيد رجل من أهل بيتي و تفرقوا في سوادكم و مدائنكم فإن القوم إنما يطلبونني , و لو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري .
[99]
فأبوا ذلك كلهم كما قال ابن حماد :
لست أنساه حين أيقن بالموت *** دعاهم و قام فيهم خطيبا
ثم قال ارجعوا إلى أهلكم *** فليس سواي أرى لهم مطلوبا
فأجابوه و العيون سكوب *** و حشاهم قد شب منها لهيبا
أي عذر لنا غدا حين نلقى *** جدك المصطفى و نحن حروبا
فقال مسلم بن عوسجة الأسدي : و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ; ثم أحرق ثم أذرى ; يفعل بي ذلك سبعين مرة ; ما تركتك . فكيف و إنما هي قتلة واحدة ; ثم الكرامة إلى الأبد .
و تكلم سعيد بن عبد الله الحنفي و زهير بن القين و جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا .
فأوصى الحسين (عليه السلام) : أن لا يشقوا عليه جيبا و لا يخمشوا وجها و لا يدعى بالويل و الثبور ; و باتوا قارءين راكعين ساجدين .
قال علي بن الحسين (عليه السلام) : إني لجالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها و كان يقول :
يا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق و الأصيل
من صاحب و طالب قتيل *** و الدهر لا يقنع بالبديل
و إنما الأمر إلى الجليل *** و كل حي سالك سبيل
ما أقرب الوعد من الرحيل
قالت زينب : كأنك تخبر أنك تغصب نفسك اغتصابا .
فقال : لو ترك القطاة ليلا لنام .
فلما أصبحوا : عبأ الحسين (عليه السلام) أصحابه و أمر بأطناب البيوت فقربت حتى دخل بعضها في بعض و جعلوها وراء ظهورهم ليكون الحرب من وجه واحد و أمر بحطب و قصب كانوا جمعوه وراء البيوت فطرح ذلك في خندق جعلوه و ألقوا فيه النار و قال لا نؤتى من ورائنا .
فحرك الحر دابته حتى استأمن إلى الحسين , و قال له : بأبي أنت و أمي ما ظننت أن الأمر ينتهى بهؤلاء القوم إلى ما أرى ; فأما الآن فإني جئتك تائبا و مواسيا لك حتى أموت
[100]
بين يديك , أ ترى إلى ذلك توبة .
قال : نعم , يتوب الله عليك و يغفر لك .
فقال الحسين (عليه السلام) لبرير احتج عليهم .
فتقدم إليهم و وعظهم فضحكوا منه و رشقوه .
فتقدم الحسين (عليه السلام) و رأى صفوفهم كالسيل و الليل , فخطب فقال :
الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال , متصرفة بأهلها حالا بعد حال , فالمغرور من غرته و الشقي من فتنته فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور .
و منها : فنعم الرب ربنا و بئس العباد أنتم , أقررتم بالطاعة و آمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه و آله ; ثم أنتم رجعتم إلى ذريته و عترته تريدون قتلهم , لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم , فتبا لكم و لما تريدون , إنا لله و إنا إليه راجعون : هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين .
فتقدم عمر بن سعد و قال يا أهل العراق اشهدوا إني أول رام فرشقوا كالسيل .
فقال الحسين : هي رسل القوم إليكم , فقوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه .
فجعل (عليه السلام) زهير بن القين على الميمنة ; و حبيب بن مظاهر في الميسرة ; و أعطى رايته العباس بن علي (عليه السلام) .
و كان كل من أراد الخروج ودع الحسين , و قال السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه و عليك السلام و نحن خلفك و يقرأ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ و برز الحر و هو يرتجز :
إني أنا الحر و مأوى الضيف *** أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حل بلاد الخيف *** أضربكم و لا أرى من حيف
فقتل نيفا و أربعين رجلا .
ثم برز برير بن خضير الهمداني و هو يقول :
أنا برير و أبي خضير *** ليث يروع الأسد عند الزئر
[101]
يعرف فينا الخير أهل الخير *** أضربكم و لا أرى من ضير
كذلك فعل الخير في برير
قتله بحير بن أوس الضبي .
ثم برز وهب بن عبد الله الكلبي و هو يرتجز :
إن تنكروني فأنا ابن الكلب *** سوف تروني و ترون ضربي
و حملتي و صولتي في الحرب *** أدرك ثاري بعد ثاري صحبي
و أدفع الكرب أمام الكرب *** ليس جهادي في الوغى باللعب
فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة .
ثم قال لأمه : يا أماه ; أ رضيت أم لا ?
فقالت : ما أرضى أو تقتل بين يدي الحسين (عليه السلام) .
فرجع قائلا :
إني زعيم لك أم وهب *** بالطعن فيهم تارة و الضرب
ضرب غلام موقن بالرب *** حتى يذوق القوم مر الحرب
إني امرؤ ذو مرة و غضب *** حسبي إلهي من عليم حسبي
فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارسا و اثني عشر راجلا .
ثم قطعت يمينه , و أخذ أسيرا .
ثم برز عمرو بن خالد الأزدي قائلا :
اليوم يا نفس إلى الرحمن *** تمضين بالروح و بالريحان
اليوم تجزين على الإحسان *** ما خط في اللوح لدى الديان
لا تجزعي فكل حي فان
ثم برز ابنه خالد و هو يقول :
صبرا على الموت بني قحطان *** كيما تكونوا في رضا الرحمن
ذي المجد و العزة و البرهان *** و ذي العلى و الطول و الإحسان
يا أبتا قد صرت في الجنان *** في قصر در حسن البنيان
ثم برز سعد بن حنظلة التميمي مرتجزا :
صبرا على الأسياف و الأسنه *** صبرا عليها لدخول الجنه
و حور عين ناعمات هنه *** يا نفس للراحة فاجهدنه
و في طلاب الخير فارغبنه
ثم برز عمير بن عبد الله المذحجي قائلا :
[102]
قد علمت سعد و حي مذحج *** أني لدى الهيجاء غير مخرج
أعلو بسيفي هامة المدجج *** و أترك القرن لدى التعرج
فريسة الذئب الأذل الأعرج
ثم برز مسلم بن عوسجة مرتجزا :
إن تسألوا عني فإني ذو لبد *** من فرع قوم في ذرى بني أسد
فمن بغانا حايد عن الرشد *** و كافر بدين جبار صمد
فقاتل حتى قتله مسلم الضبابي و عبد الرحمن البجلي .
ثم برز عبد الرحمن بن عبد الله اليزني قائلا :
أنا ابن عبد الله من آل يزن *** ديني على دين حسين و حسن
أضربكم ضرب فتى من اليمن *** أرجو بذاك الفوز عند المؤتمن
ثم برز يحيى بن سليم المازني و هو يقول :
لأضربن القوم ضربا فيصلا *** ضربا شديدا في العدا معجلا
لا عاجزا فيها و لا مولولا *** و لا أخاف اليوم موتا مقبلا
ثم برز قرة بن أبي قرة الغفاري و هو يرتجز :
قد علمت حقا بنو غفار *** و خندف بعد بني نزار
بأنني الليث لدى الغبار *** لأضربن معشر الفجار
ضربا وجيعا عن بني الأخيار
فقتل ثمانية و ستين رجلا .
ثم برز مالك بن أنس الكاهلي و قال :
آل علي شيعة الرحمن *** و آل حرب شيعة الشيطان
فقتل أربعة عشر رجلا .
ثم برز عمرو بن مطاع الجعفي و قال :
اليوم قد طاب لنا الفراع *** دون حسين الضرب و السطاع
ترجو بذاك الفوز و الدفاع *** من حر نار حين لا امتناع
[103]
ثم برز جوين بن أبي مالك مولى أبي ذر مرتجزا :
كيف يرى الفجار ضرب الأسود *** بالمشرفي القاطع المهند
بالسيف صلتا عن بني محمد *** أذب عنهم باللسان و اليد
فقتل خمسا و عشرين رجلا .
ثم برز أنيس بن معقل الأصبحي و هو يقول :
أنا أنيس و أنا ابن معقل *** و في يميني نصل سيف مصقل
أعلو بها الهامات وسط القسطل *** عن الحسين الماجد المفضل
ابن رسول الله خير مرسل
فقتل نيفا و عشرين رجلا .
ثم برز يزيد بن المهاصر الجعفي مرتجزا :
أنا يزيد و أبي مهاصر *** ليث هصور في العرين خادر
يا رب إني للحسين ناصر *** و لابن سعد تارك و هاجر
ثم برز الحجاج بن مسروق الجعفي و هو يقول :
أقدم حسينا هاديا مهديا *** فاليوم تلقى جدك النبيا
ثم أباك ذا الندى عليا *** ذاك الذي نعرفه وصيا
فقتل خمسا و عشرين رجلا .
ثم برز سعيد بن عبد الله الحنفي مرتجزا :
أقدم حسين اليوم تلق أحمدا *** و شيخك الخير عليا ذا الندى
و حسنا كالبدر وافى الأسعدا
ثم برز حبيب بن مظاهر الأسدي قائلا :
إني حبيب و أبي مظاهر *** فارس هيجاء و حرب تسعر
و أنتم عند العديد أكثر *** و نحن أعلى حجة و أقهر
فقتل اثنين و ستين رجلا ; قتله الحصين بن نمير و علق رأسه في عنق فرسه .
ثم صلى الحسين (عليه السلام) بهم الظهر صلاة شدة الخوف .
ثم برز زهير بن القين البجلي و هو يقول :
[104]
أنا زهير و إنا ابن القين *** أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسينا أحد السبطين *** من عترة البر التقي الزين
فقتل مائة و عشرين رجلا قتله كثير بن عبد الله الشعبي و مهاجر بن أوس .
ثم برز نافع بن هلال البجلي قائلا :
أنا الغلام اليمني البجلي *** ديني على دين حسين بن علي
أضربكم ضرب غلام بطل *** و يختم الله بخير عملي
فقتل اثني عشر رجلا و روي سبعين رجلا .
ثم برز جنادة بن الحارث الأنصاري مرتجزا :
أنا جناد و أنا ابن الحارث *** لست بخوار و لا بناكث
عن بيعتي حتى يرثني وارثي *** اليوم ثاري في الصعيد ماكثي
فقتل ستة عشر رجلا ثم برز ابنه و استشهد .
ثم برز فتى قائلا :
أميري حسين و نعم الأمير *** سرور فؤاد البشير النذير
علي و فاطمة والداه *** فهل تعلمون له من نظير
فقاتل حتى قتل ; و رمي برأسه إلى أمه , فأخذته , و رمته إلى رجل فقتله .
ثم برزت قائلة :
أنا عجوز سيدي ضعيفه *** خاوية بالية نحيفه
أضربكم بضربة عنيفه *** دون بني فاطمة الشريفه
و روي أنه برز غلام تركي للحر و جعل يقول :
البحر من طعني و ضربي يصطلي *** و الجو من نبلي و سهمي يمتلي
إذا حسامي عن يميني ينجلي *** ينشق قلب الحاسد المبجل
فقتل سبعين رجلا .
ثم برز مالك بن دودان و أنشأ يقول :