التالي

السابق

ظلامات فاطمة الزهراء عليها السلام ـ ط 4

 

 

 

الصفحة 93

نصّ خُطبتها صلوات الله عليها

1- الاحتجاج للطّبرسي (رحمه الله).

 روى عبد الله بن الحسن(1)، بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): إنّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدك، وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) حتّى دخلت على أبي بكر ـ وهو في حشد من المُهاجرين والأنصار وغيرهم ـ فنيطت دونها مُلاءة(3)، فجلست. ثمّ أنَّت أنَّة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثّناء عليه، والصّلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعاد القوم في بُكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليها السلام):

ــــــــــــــــــــــــ

(1) هو عبد الله المحضّ ابن الحسن المثنّى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب^ كان شيخ بني هاشم في زمانه. قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطّالبيين: قتله أبو جعفر المنصور في محبسه بالهاشمية، وهو ابن 75 سنة، سنة 145 هـ.

(2) أي، لم تنقص مشيتها من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً.

(3) أي، ضربوا بينها وبين القوم ستراً وحجاباً. والملاءة: الأزار. ونيطت: علّقت.


الصفحة 94

الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر على ما ألهم، والثّناء بما قدّم من عُموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام مِنَن والاه(1)، وجمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشّكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالنّدب إلى أمثالها. وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القُلوب موصولها، وأنار في التّفكّر معقولها. المُمتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيّته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، [و] تعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعل الثّواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشة منه إلى جنّته. وأشهد أنّ أبي، مُحمّداً (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتبله(2)، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى بمآيل الاُمور، وإحاطة بحوادث الدّهور، ومعرفة بمواقع المقدور.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) أي، تابعها.

(2) في الاحتجاج: اجتباه. والجبلّ: الخلق.


الصفحة 95

ابتعثه الله تعالى، إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الاُمم فرقاً في أديانها، عكّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، مُنكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي مُحمّد (صلى الله عليه وآله) ظلمها، وكشف عن القُلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في النّاس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدّين القويم، ودعاهم إلى الطّريق المُستقيم. ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمُحمّد (صلى الله عليه وآله) عن تعب هذه الدّار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الرّبّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى الله على أبي، نبيّه وأمينه، وخيرته من الخلق ورضيّه، والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته.ثمّ التفتت إلى أهل المجلس، وقالت:

أنتم عباد الله، نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأُمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الاُمم، وزعمتم حقّ لكم لله فيكم(1)، عهد قدّمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم كتاب الله النّاطق، والقرآن الصّادق، والنّور السّاطع، والضياء اللامع، بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، متجلّية ظواهره، مُغتبطة به أشياعه. قائد إلى الرّضوان اتّباعه، مؤدّ إلى النّجاة استماعه، به تنال حجج الله المنوّرة، وعزائمة المفسّرة، ومحارمه المحذّرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة؛ فجعل الله الإيمان

ــــــــــــــــــــــــ

(1) في المصدر: حقّ له فيكم.


الصفحة 96

 تطهيراً لكم من الشّرك، والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزّكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق، والصّيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدّين، والعدل تنسيقاً للقُلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفُرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصّبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة، وبرّ الوالدين وقاية من السّخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدّماء، والوفاء بالنّذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازيين تغييراً للبخس، والنّهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرّجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السّرقة إيجاباً بالعفّة. وحرّم الله الشّرك إخلاصاً له بالرّبوبيّة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1)، وأطيعوا الله فيكم فيما أمركم به ونهـاكم عنه فإنّه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عبَاده الْعُلَمَاء}(2).

ثمّ قالت: أيّها النّاس! اعلموا أنّي فاطمة، وأبي مُحمّد (صلى الله عليه وآله) أقول عوداً وبدءاً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(3). فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون

 نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزيّ إليه (صلى الله عليه وآله) فبلّغ

ــــــــــــــــــــــــ

(1) آل عمران: 102.

(2) فاطر: 28.

(3) التّوبة: 128.


الصفحة 97

الرّسالة صادعاً بالنّذارة، مائلاً عن مدرجة(1) المُشركين، ضارباً ثبجهم(2)، آخذاً بأكظامهم(3)، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسّر الأصنام، وينكت(4) إلهام، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدّبر، حتّى تفرّى اللّيل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدّين، وخرست شقاشق الشّياطين، وطاح وشيظ(5) النّفاق، وانحلّت عقد الكفر والشّقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(6). وكنتم على شفا حفرة من النّار، مذقة الشّارب، ونهزة(7) الطّامع، وقبسة العجلان، وموطىء الأقدام(8)، تشربون الطّرق(9)، وتقتاتون الورق(10)، إذلّة خاسئين«تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم» (11) فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمُحمّد (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيّا والّتي، وبعد أن مُني ببهم الرّجال، وذؤبان العرب،

ــــــــــــــــــــــــ

(1) المدرجة: المذهب والمسلك.

(2) الثّبج ـ بالتّحريك ـ: وسط الشّيء ومعظمه.

(3) الكظم ـ بالتّحريك ـ: مخرج النّفس من الحلق.

(4) نكت فلاناً: ألقاه على رأسه.

(5) الوشيظ: الرّذّل والسّفلة من النّاس. وطاح: هلك.

(6) المُراد بهم ظاهراً أهل البيت^ ويؤيّده ما في كشف الغمة: في نفر من البيض الخماص الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

(7) النّهزة: الفرصة.

(8) مثل مشهور في المغلوبيّة والمذلّة.

(9) ـ الطّرق ـ بالفتح ـ: مناقع الماء. ماء مطروق: خوّضت فيه الابل وبالت وبعرت

(10) في المصدر: القد.

(11) مقتبس من قوله تعالى في سورة الأنفال: 26.


الصفحة 98

 ومردة أهل الكتاب {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ}(1) أو نجم قرن للشّيطان، أو فغرت فاغرة من المُشركين، قذف أخاه(2) في لهواتها، فلا ينكفىء حتّى يطأ صماخه(3) بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، ومجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيّداً في أولياء الله، مُشمّراً ناصحاً، مُجدّاً كادحاً، وأنتم في رفاهيّة من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدّوائر، وتتوكّفون(4) الأخبار، وتنكصون عند النّزال، وتفرّون من القتال. فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة(5) النّفاق، وسمل جلباب الدّين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فَنيق(6) المُبطلين، فخطر(7) في عرصاتكم، وأطلع الشّيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مُستجيبين، وللغرّة فيه مُلاحظين(8). ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم (9)

ــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة: 64.

(2) يعني، أميرالمؤمنين عليّ ×. والمُراد أنّه كلّما عرضت داهية دهماء بعثه لدفعها وإخمادها.

(3) الصّماخ: ثقب الإذن. والأخمص: ما لا يصيب الأرض من باطن القدم. والعبارة كناية عن الغلبة والقهر على أبلغ وجه.

(4) التّوكّف: التّوقّع. والمُراد: أخبار المصائب والفتن.

(5) والحسكة والحسيكة: العداوة والحقد.

(6) الفنيق: الفحل المكرّم من الابل، الّذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله.

(7) خطر البعير بذنبه: إذا رفعه مرّة بعد مرّة وضرب به فخذه.

(8) اللحظ: النّظر بمؤخّر العين، وهو إنّما يكون عند تعلّق القلب بشيء. وفي المصدر: العزّة بدل: الغرّة.

(9) أحمشه: أغضبه وهيّجه.


الصفحة 99

 فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرّسول لمّا يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(1).

هيهات منكم! وكيف بكم؟ وأنّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، اُموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟! أم بغيره تحكمون؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}(2). {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(3). ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثمّ أخذتم تورون وقدتها، وتهيّجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشّيطان الغويّ، وإطفاء أنوار الدّين الجليّ، وإهماد(4) سنن النّبيّ الصّفيّ، تسرّون حسواً في ارتغاء(5)، وتمشون لأهله  وولده في الخمَر والضّرّاء(6)، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى، ووخز

ــــــــــــــــــــــــ

(1) التّوبة: 49.

(2) الكهف: 50.

(3) آل عمران: 85.

(4) وإهماد النّار: إطفاؤها بالكلّية.

(5) مثل يضرب لمن يظهر شيئاً ويريد غيره. والحسو: هو الشّرب شيئاً فشيئاً. والارتغاء: هو شرب الرّغوة وهي اللبن المشوب بالماء.

(6) الخمر ـ بالتحريك ـ: ما واراك من شجر وغيره. والضرّاء: الشّجر المُلتفّ في الوادي.

 

 

 

 

التالي

السابق