الملل والنحل : الخلاف التاسع في امر الشورى واختلاف اللآراء فيها ، حتى اتفقوا كلهم على بيعة عثمان وانتظم الملك (1) .
البدء والتاريخ : وكان قال لعبدالله بن عباس : اذكر لي من أعهد إليه ؟ فقال : عثمان ! فقال : ذك كلف بأقاربه يَحمل بني ابن أبي معيط على رقاب الناس . قال : فعبد الرحمن بن عوف ! قال : مسلم ضعيف وأميرته امرأته . قال : فسعد ! قال : ذاك فارس يكون في مقنب من مقانبكم . قال : فالزبير ! قال : مؤمن الرضا كافر الغضب . قال : فطلحة ! قال : فيه باء وعجب . قال فعليّ ! قال : فيه دعابة وأنه لأخلقهم أن يحملهم على المحجة . ثم جعل الأمر في هؤلاء الستة باختيارهم ، وقال : ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد الى مثلها من غير مشورة فاقتلوه (2) .
أقول : اذا اعترف بأن عليا « ع » لأخلقهم أن يحملهم على المحجة ـ فكيف عدل عنه وجعله في عدادهم ، مع اقراره بضعف اسلام عبدالرحمن ومقهريته ، وبأن عثمان كلف بأقاربه يحملهم على رقاب الناس ، وهكذا الآخرون .
ثم أن بيعة أبي بكر على ما وقعت ، ان كانت صحيحة ومشروعة شرعا وعقلا : فكيف يحكم بقتل من عاد الى مثلها . وان كانت باطلة : فكيف أعان عليها وحكم بقتل من خالفها ، وحضر لاحراق باب أهل البيت ، ألم يمكن لهم أن يتذكروا ويذكروا ما وصى لهم رسول الله « ص » في عليّ بن أبي طالب « ع » .
1 ـ الملل والنحل ج 1 ص 18 .
2 ـ البدء والتاريخ ج 5 ص 190 .
256
البخاري : فقالوا : أوص يا أميرالمؤمنين استخلف ! قال ( عمر بن الخطاب ) : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين تُوفى رسول الله « ص » وهو عنهم راض ، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبدالرحمن ، وقال : يشهدكم عبدالله بن عمر وليس له من الأمر شيء كثيئة التعزية ، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ... فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبدالرحمن اجعلوا امركم الى ثلاثة منكم ! فقال الزبير : قد جعلت امري الى علي ، فقال طلحة قد جعلت امري الى عثمان ، وقال سعد قد جعلت أمري الى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبدالرحمن أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والاسلام لينظرن افضلهم في نفسه ! فاسكت الشيخان ، فقال عبدالرحمن : أفتجعلونه إليّ والله علي أن لا آلوا عن أفضلكم ! قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله « ص » والقِدم في الاسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن امّرتك لتعدلن ولئن امرت عثمان لتسمعن ولتُطيعن ! ثم خلا بالآخر ( عثمان ) فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال : إرفع يدك يا عثمان فبايعه (1) .
أقول : يستفاد من صريح هذا الكلام امور :
1 ـ أن عمر بن الخطاب ما قدر أن يَعرف أفضلهم وأولاهم .
2 ـ أنه جعل مَدار الإمرة كون النبي « ص » راضيا عنه ، ولم يُراع شرائط اخرى ، ولم يتوجه الى أحوالهم وأعمالهم بعد الإمرة .
3 ـ فاذا كان عمر بن الخطاب لم يتكلم بالوحي وعن الله وبتعيين الله ، ولم يقد أن يُميز الأفضل والأولى : فكيف يوصي بهذه الوصية المخصوصة .
4 ـ فاذا ادّعى عبد الرحمن أن لا يألو عن أفضلهم فهل كان عثمان أفضل من عليّ علما وعملا وسابقة ومقاما ؟ .
ويقول البخاري : إن المِسور بن مَخرمة أخبره أن الرهم الذين ولاهم عمر
1 ـ البخاري ج 2 ص 184 .
257
اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم ان شئتم اخترت لكم منكم ! فجعلوا ذلك الى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن امرهم : فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع اولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي ، حتى اذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان . قال المِسور : طرقني عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائما ! فوالله ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادعُ الزبير وسعدا ! فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعاني فقال : ادع ليّ عليا ! فدعوته فناجاه حتى ابهارّ الليل ، ثم قام عليّ من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من عليّ شيئا ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذن بالصبح ، فلما صلى للناس الصبح واجتمع اولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل الى امراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهّد عبدالرحمن ثم قال : أما بعد : يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس ، المهاجرون الأنصار وامراء الأجناد والمسلمون (1) .
أقول : هذا الكلام ( قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ) في وجه ترجيح عثمان وانتخابه : يخالف كلامه السابق وعهده بأن لا يألو عن أفضلهم ، فهل يكون تمايل الناس موجبا للأفضلية ؟ مع أن أكثر الناس لا يعقلون .
نعم تشكيل الحكومة الظاهرية يعتبر فيها أكثرية الآراء والأفكار ، وهذا غير مقام الحقيقة والخلافة المعنوية والمرجعية للامور الدنيوية والدينية والوصاية عن رسول الله « ص » .
1 ـ البخاري ج 4 ص 151 .
258
مسلم : باسناده فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين تُوفي رسول الله « ص » وهو عنهم راض ، وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فاولئك اعداء الله الكفرة الضلال (1) .
أقول : يستفاد من هذا الكلام امور :
1 ـ يستفاد من هذا الكلام ان جمعا ممن أسلموا بعد غلبة الاسلام وفتح مكة من الذين حملوا السلاح على رسول الله ، كانوا يطعنون في الخلافة ويجهدون ان تكون الإمرة فيهم ، وقد عبّر عنهم بقوله : فإن فعلوا ذلك فاولئك اعداء الله الكفرة الضلال . وهذا الكلام يشمل معاوية بل وينطبق عليه ، ولا سيما بعد خلافة علي « ع » اذ هو من هؤلاء الستة وقد أجمع المهاجرون والأنصار عليه ، وقد طعن معاوية في خلافته وحمل السلاح عليه .
2 ـ المناط في الإمرة ان كان رضى الرسول « ص » عنه ! فأغلب اصحاب الرسول « ص » كانوا بهذه الصفة ، وان كان لهؤلاء الستة امتياز وخصوصية ، فهل كانوا متساوين من جميع الجهات حتى يكون الناس مختارين في اختيار أيهم شاؤوا ، أو ان لبعض منهم فضيلة وتفوّقا على بعض آخر ؟ وعلى كل فرض يبقى محذور واشكال لا يخفى على من له أدنى تدبر .
الطبقات : عن أبي جعفر قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى : تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى وان كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر (2) .
ويروى أيضا : عن ابنعمر قال عمر : وان اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا .
ويروى أيضا : عن سعيد قال عمر . ليُصل لكم صهيب ثلاثا وتشاوروا في أمركم ، والأمر الى هؤلاء الستة ، فمن بَعل أمركم فاضربوا عنقه ، يعني من خالفكم .
1 ـ مسلم ج 2 ص 81 .
2 ـ الطبقات ج 3 ص 61 .
259
ويروى أيضا : عن أنس قال : أرسل عمر بن الخطاب الى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة ، فقال : يا اباطلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى فلا تتركهم يَمضي اليوم الثالث حتى يُؤمّروا أحدهم .
ويروى أيضا : عن سماك ان عمر بن الخطاب لما حُضر قال : ان أستخلف فسنة وإلا أستخلف فسنة ، تُوفي رسول الله « ص » ولم يستخلف وتوفي ابوبكر فاستخلف ... وقال للأنصار أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم (1) .
عقد الفريد وتاريخ الطبري : فقال العباس لعلي : لا تدخل معهم ! قال : أكره الخلاف ، قال : إذا ترى ما تكره . فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن عوام ، فقال : إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ، وقد قُبِض رسول الله « ص » وهو عنكم راض ، إني لا أخاف الناس عليكم أن استقمتم ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا الى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلا منكم ، ثم قال : لا تدخلوا حجرة عائشة ولكن كونوا قريبا ، ووضع رأسه وقد نزفه الدم ، فدخلوا فتناجوا ثم ارتفعت أصواتهم ، فقال عبدالله بن عمر : سبحان الله أن اميرالمؤمنين لم يمت بعد ، فأسمعه ، فانتبه فثقال : ألا أعرضوا عن هذا أجمعون فاذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليُصل بالناس صُهيب ، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم امير عنكم ، ويحضر عبدالله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ، ومن لي طلحة ! فقال عمر : أرجوا أن لا يخالف إن شاء الله ، وما أظن ان يلي إلا أحد هذين الرجلين عليّ أو عثمان ، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي عليّ ففيه دعابة وأحربه أن يحملهم على طريق الحق ... فإن اجتمع خمسة
1 ـ نفس المصدر السابق ص 342 .
260
ورضوا رجلا وأبى واحدج فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف ، وإن اتفق اربعة فرضوا رجلا منهم وابى اثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منه فحكّموا عبدالله بن عمر فإي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف واقتلوا الباقين ان رغبوا عما اجتمع عليه الناس ... وتلقّاه العباس فقال : عدلت عنا ، فقال : وما علّمك ؟ قال : قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا وجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن ، وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبدالرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبدالرحمن ، فول كان الآخران معي لم ينفعاني ! بله إني لا أرجوا إلا أحدهما ... فقال العباس : احفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم فقل لا ، إلا ان يُولوك ، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وأيم الله لا يناله إلا بشرّ لا ينفع معه خير ، فقال علي : أما لئن بقي عثمان لأذكرنّه ما أتى ، ولئن مات ليتداولنّها بينهم ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون (1) .
أقول : في هذا الكلام مواقع للاعتبار :
1 ـ قال علي « ع » أكره الخلاف : اشارة الى أهمية الاتفاق والاتحاد بين المسلمين والحذر من الخلاف في أيّ مورد كان ، وأما مقام الولاية والامامة الحقيقية الثابتة الالهية فهي غير متوقفة الى أمر آخر ولا تلازم بينها وبين الحكومة الظاهرية .
2 ـ قال عمر : فتشاوروا واختاروا رجلا ـ يدل على أن هذا الأمر مقام اجتماعي ظاهري عرفي متحصل باختيار الناس ، ولا ربط له بالأحكام الالهية والاصول والفروع الدينية المنزّلة .
3 ـ قال عمر : وليُصلّ بالناس صُهيب ـ يدل على أن الامامة في الصلاة
1 ـ عقد الفريد ج 4 ص 277 وتاريخ الطبري ج 5 ص 3 .
261
لا تُلازم الامامة والولاية المطلقة العامة ، فاستدلال بعضهم بصلاة أبي بكر على خلافته ضعيف ناقص .
4 ـ قول عمر ـ واحر بعلي أن يحملهم على طريق الحق ؛ هذه الصفة والخصيصة تدل على أن الدعابة وعدم كونه لينا ، واقعتان في طريق الحق والصدق ، فكيف يجوز الاعراض وصرف النظر عنه مع الاعتراف بهذا الاتصاف .
5 ـ قول عمر ـ وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، فاضرب رؤسهما ، واقتلوا الباقين : هذا الحكم المنجر . المقطوع من جانبه إن كان له حقيقة فكيف لم يُجرّ في زمان أبي بكر وزمان علي ، بل وكيف يقولون : إن خلاف أهل الجمل وصفين مستند الى اجتهادهم . وأيضا ان الاباء المطلق اذا كان عن فكر صائب ورأي خالص كيف يوجب ضرب الرأس والقتل ولا سيما إذا خلا عن التحريك والتّشتيت .
6 ـ قوله أيضا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن : حقيقة هذا الحكم وسره ما أشار اليه علي « ع » في آخر الكلام من الطبري . وكما قال العباس : فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر .
عقد الفريد وتاريخ الطبري : فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ... فقال عبدالرحمن : أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يُوليَها أفضلكم ، فلم يُجبه أحد ، فقال : أنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله « ص » يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، قال القوم : قد رضينا ، وعليّ ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقا لتُؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحمولا تألو الأمة ! فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر وأن ترضوا من اخترت لكم ، على ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله . فقال لعليّ : أنك تقول : إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تُبعد ، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر ، من
262
كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان . وخلا بعثمان فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله « ص » وابن عمه لي سابقة وفضل فلم تُبعد فلم تُصرف هذا الأمر عنّي ، ولكن لو لم تحضر فأيّ هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال علي . ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلّم به عليا وعثمان فقال : عثمان . ثم خلا بسعد فكلمه ، فقال : عثمان . فلقى علي سعدا فقال : اتقوا الله الذي تسألون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله « ص » وبرحم عمي حمزة منك أن لا تكون مع عبدالرحمن لعثمان ظهيرا عليّ ، فإني أدلي بما لا يُدلي به عثمان . ودار عبدالرحمن لياليه يلقى اصحاب رسول الله « ص » ومن وافى المدينة من امراء الأجناد واشراف الناس يُشاورهم ولا يخلو برجل إلا امره بعثمان ، حتى اذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل فأيقظه ، فقال : ألا أراك نائما ولم أذق في هذه الليلة كثير غُمض ، انطلق فادع الزبير وسعدا فدعاهما ، فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلى دار مروان ، فقال له : خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر ، قال : نصيبي لعلي . وقال لسعد : أنا وأنت كلالة ( وفي العقد : كالآلة ) فاجعل نصيبك لي فأختار ؟ قال : ان اخترت نفسك فنعم ! وان اخترت عثمان فعلي أحب إليّ ، أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا ! قال : يا أبا إسحاق : إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار ، ولو لم أفعل وجُعل الخيار اليّ لم أردّها ... قال قال سعد : فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر ! وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة الى عليّ فناجاه طويلا وهو لا يشك أنه صاحب الأمر ثم نهض ، وأرسل المسور الى عثمان فكان في نجيّهما حتى فرّق بينهما اذان الصبح ... فلما صلوا الصبح جمع الرهط ... فقال عمار : ان اردت ان لا يختلف المسلمون فبايع عليا ، فقال المقداد بن الأسود صدق عمار ان بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا . قال ابن أبي سرح : ان أردت ان لا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبدالله بن أبي ربيعة : صدق ان بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا . فشتم
263
عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنوهاشم وبنوامية ، فقال عمار : أيها الناس ان الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فإنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سُمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبدالرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ! .
فقال عبدالرحمن : اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا ودعا عليا فقال عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ! قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي ، قال : نعم . فبايعه ، فقال عليّ : حبوته حبودهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولّيت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن . فقال عبدالرحمن : يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلا فإني قد نظرت وشاورت الناس فاذاهم لا يعدلون بعثمان ، فخرج عليّ وهو يقول سيبلغ الكتاب اجله ، فقال المقداد يا عبدالرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدتُ للمسلمين ! قال : إن كنت اردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما اوتي إلى اهل هذا البيت بعد نبيهم اني لأعجب من قريش انهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لواجد عليه أعوانا (1) .
أقول في هذا الكلام موارد للاعتبار :
1 ـ فتنافس القوم : هذا كما تنافسوا في السقيفة ثم وقعت اخذ الآراء بالتزوير الذي لا يخفى على المحقق المنصف .
2 ـ أيكم يُخرج نفسه : بعد أن رأى عبدالرحمن أن لانصيب له في هذا الأمر ، استمسك بهذا التزوير الدقيق ، لحفظ مقامه ولاعمال غرضه في امر
1 ـ عقد الفريد ج 4 ص277 وتاريخ الطبري ج 5 ص 36 .
264
الخلافة لعثمان .
3 ـ أنا أول من رضي : هذا القول يدل على أن الاختيار التام المفوّض لعبدالرحمن أنما يتم لتأييد عثمان ، ويدلّ عليه سكوت علي « ع » .
4 ـ أعطني موثقا : يكشف عن أن عليا « ع » ما صح عنده الحديث المرويّ ( أمين في الأرض أمين في السماء ) ، مضافا الى أن في متن الحديث ضعفا ، حيث أن كونه أمينا في السماء لا معنى له ، وان أريد كونه أمينا عند أهل الأرض وأهل السماء ينقضه أن من خير أهل الأرض علي « ع » وهو يطلب منه موثقا .
5 ـ ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم : شرط هذه القيود يثبت اتباع الهوى والعمل بغرض .
6 ـ إني أحق من حضر بالأمر : هذه الدعوى من علي « ع » مستمرة من يوم ارتحل النبي « ص » الى آخر عمره الشريف ، وقد ثبت أنه صادق ومع الحق ويحبه الله ورسوله .
7 ـ بمبلغ علمي وطاقتي : هذا هو الحق الصريح ، فإن عليا « ع » لا أقل أنه مجتهد ولا يجوز له لمجتهد آخر ، مع أنه أعلم الأمة وأقضاها وأفضلها وأتقاها ، بل نعتقد بأنه خليفة الله ووليه والمنصوب منه والمعلم من لدنه .
8 ـ ليس هذا أول يوم تظاهرتم : فليعتبر من هذا الكلام كل معتبر .
ويروى الطبري : بعد نقل كلمات الأربعةمن أهل الشورى وخطبتهم ، ثم تكلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال ـ الحمد لله الذي بعث محمدا منا نبيا وبعثه الينا رسولا ، فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ، لنا حق أن نُعطه نأخذه وان نُمنعه نركب أعجاز الأبل ولو طال السُرى ، لو عهد الينا رسول الله « ص » لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتى نموت ... الخ (1) .
أقول : في هذه الكلمات العالية من علي « ع » اثبات لمقامه وعلوّ منزلته
1 ـ الطبري ج 5 ص 39 .
265
وحقيقة ولايته وخلافته من رسول الله « ص » ، حيث أنه أظهر في مجلس الشورى بكونه من بيت النبوة وأنه معدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ، ولم ينكر هذه المقامات له أحد من الحاضرين ، مع أنه لا يمكن دعوى هذه المراتب من أد من سائر الناس .
يروى في عقد الفريد : في كلام لعمر : أما والله لولا دُعابة فيه ما شككتُ في ولايته وان نزلت على رغم أنف قريش (1) .
الفائق : عليّ رضي الله عنه ـ قال يوم الشورى لنا حق ان نُعطه نأخذه ، وان نُمنَعه نركب أعجاز الابل وان طال السُرى (2) .
قال الزمخشري : هذا مثل لركوبه الذلّ والمَشقة وصبره عليه وان تطاول ذلك ، وأراد بركوب اعجاز الابل كونه ردفا وتابعا .
أقول : يقول أن الولاية الظاهرية من آثار الولاية الحقيقية ، ولما كانت حقيقة الولاية لأهل البيت ولاميرالمؤمنين علي « ع » : فتكون الخلافة الظاهرية والولاية والحكومة العرفية أيضا من حقوقهم وشئونهم .
أما الولاية الحقيقية : فهي ثابتة لهم ، ومن آثارها النورانية والمعرفة والعلم والاحاطة الملكوتية والارتباط الغيبي ، ويشير اليها بقوله ـ فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب .
وأما الولاية الظاهرية : فهي متوقفة على اقبال الرعية وخضوعها وانقيادها ، فإن أطاعوا وسلموا وخضعوا لهم : يَقبلون طاعتهم ويهدونهم الى مصالحهم ويُرشدونهم الى سعادتهم ويُجروان قوانين العدل فيما بينهم . ويشير اليها بقوله ـ إن نعطه نأخذه .
واذا امتنعوا من الطاعة ولم يخضعوا ولم يستقرّوا تحت لواء ولايتهم فلا يُظهرون من أنفسهم الحرص والميل الشديد الى حيازتها وتحصيلها وأخذها ، بل يجعلون أنفسهم في إثر الحكومة ويعيشون مع الناس ويُفيضون ويُرشدون على
1 ـ عقد الفريدج 4 ص 282
2 ـ الفائق ج 2 ص 119 .
266
حسب طلب الناس واقبالهم واقتضاء أحوالهم .
الطبقات : عن زيد بن وهب ، قال مررت بالربذة فاذا أنا بأبي ذرّ فقلت ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية . والذين يكنزون الذهب والفضة ولا يُنفقونها في سبيل الله ، وقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب يشكوني الى عثمان ، فكتب إليّ عثمان أن أقدِم المدينة ، فقدمت المدينة وكثر الناس عليّ كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر ذلك لعثمان ، فقال لي : ان شئت تنحّيت فكنت قريبا ، فذاك أنزلني هذا المنزل (1) .
البدء والتاريخ : ومنها قوله « ص » لأبي ذر الغفاري وقد تخلف في بعض مراحل تبوك تعيش وحدك وتموت وحدك ، فكيف بك إذا أخرجت من المدينة لقولك الحق . فنُفي في أيام عثمان الى الربذة ومات بها وحده (2) .
أقول : نفى أبي ذر من الشام لقوله الحق ، وعملا بشكاية معاوية عنه ، ونُفي ثانيا من المدينة لصدق لهجته وصراحة بيانه ، وقد قال رسول الله « ص » في حقه :
الاستيعاب : سئل علي « رض » عن أبي ذر ، فقال : ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس .
وقال رسول الله « ص » : ابو ذرّ في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده . وبعضهم يرويه : من سره أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم فلينظر الى أبي ذرّ (3) .
ابن ماجة : عن عبدالله بن عمر ، قال رسول الله « ص » : ما أقلّت الغبراء
1 ـ الطبقات ج 4 ص 226 .
2 ـ البدء والتاريخ ج 5 ص 40 .
3 ـ الاستيعاب ج 1 ص 255 .
267
ولا أظلت الخَضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر (1) .
الكنى للبخاري : يروى بعدة اسناد ، نظيرها (2) .
سنن الترمذي : مثلها (3) .
ويروى أيضا : قال رسول الله « ص » ما أظلت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذرّ شبه عيسى بن مريم ، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد ؛ يا رسول الله أفتُعرّف ذلك له ؟ قال : نعم فاعرفوه . وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال : أبوذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم .
الطبقات : سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذرّ ، فقال : وعى علما عجز فيه وكان شحيحا حريصا ، شحيحا على دينه حريصا على العلم (4) .
ويروى أيضا روايات : كما في ابن ماجة والترمذي (5) .
الكنى للدولابي : كما في ابن ماجة (6) .
أقول : انظر الى ما ورد في حق هذا الرجل وهو من خواصّ أصحاب رسول الله « ص » ، وهو يُنفى من المدينة الى وادي الرّبذة ، ويموت فيها وحده .
تبرأة عُبيدالله بن عمر بعد ثبوت أنه قتل نفسا محرمة .
الطبقات : رأيت عبيدالله يومئذ وانه ليناصي عثمان ، وان عثمان ليقول قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة وآخر من ذمة رسول الله « ص » ، ما في الحق تركُك . قال : فعجبت لعثمان حين وُلّي كيف تركه (7) .
1 ـ ابن ماجة ج 1 ص 68 .
2 ـ الكنى للبخاري ص 23 .
3 ـ سنن الترمذي ص 543 .
4 ـ الطبقات ج 2 ص 354 .
5 ـ نفس المصدر ج 4 ص 228 .
6 ـ الكنى للدولابي ج 1 ص 146 .
7 ـ الطبقات ج 5 ص 16 .