الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 91

ذكر ما أفاء الله عليهم قال: وذكروا عن الليث عن سعد (1) أن موسى لما دخل الأندلس، ضربوا الأوتاد لخيولهم في جدار كنيسة من كنائسها، فتلفت الأوتاد فلم تلج (2) فنظروا فإذا بصفائح الذهب والفضة خلف بلاط الرخام. قال: وذكروا أن رجلا كان مع موسى ببعض غزواته بالأندلس، وأنه رأى رجلين يحملان طنفسة منسوجة بالذهب والفضة والجوهر والياقوت، فلما أثقلتهما أنزلاها، ثم حملا عليها الفأس فقطعاها نصفين، فأخذا نصفا وتركا الآخر. قال: فقلد رأيت الناس يمرون يمينا وشمالا، ما يلتفتون إليها استغناء عنها بما هو أنفس منها وأرفع. قال: وأقبل رجل إلى موسى فقال: ابعث معي أدلكم على كنز، فبعث معه موسى رجالا. فقال الذي دلهم: انزعوا هاهنا، فنزعوا، فسال عليهم من الزبرجد والياقوت ما لم يروا مثله قط، فلما رأوه بهتوا وقالوا: لا يصدقنا موسى، أرسلوا إليه. فأرسلوا حتى جاء ونظر. قال: وكانت الطنفسة قد نظمت بقضبان الذهب والفضة المسلسلة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد. قال: وكان البربريان ربما وجداها فلا يستطيعان حملها حتى يأتيا بالفأس فيضربا وسطها، ويأخذا منها ما أمكنهما، اشتغالا بغير ذلك مما هو أنفس منه. قال الليث: وبلغني أن رجلا غل في غزوة عطاء بن نافع فحمل ما غل حتى جعله في مزفت (3) بين كتفيه وصدره، فحضره الموت، فجعل يصيح: المزفت المزفت. وحدثنا ابن أبي ليلى التجيبي، عن حميد، عن أبيه أنه قال: لقد كانت الدابة تطلع في بعض غزوات موسى، فينظر في حافرها فيوجد فيه مسامير الذهب والفضة. قال: وكتب موسى حين افتتح الأندلس إلى أمير المؤمنين: إنها ليست كالفتوح يا أمير المؤمنين، ولكنه الحشر (4). وأخبرني عن عبد الحميد بن

(هامش)

(1) أنظر ابن عبد الحكم ص 281. (2) أي لم تدخل في الأرض. (3) المزفت: حق أو نحوه، مغلف بالزفت ومنظره لا يوحي بأهميته، وقد حمله حتى لا ينظر إليه أحد. (4) في وفيات الأعيان: أنها الجنة. (*)

ص 92

حميد، عن أبيه أنه قال: قدمت الأندلس امرأة عطارة فخرجت بخمس مئة رأس، فأما الذهب والفضة والآنية والجوهر فذلك لا يحاط بعلمه. قال: وحدثني ياسين بن رجاء، أنه قدم عليه رجل من أهل المدينة شيخ، فجعل يحدثنا عن الأندلس، وعن دخول موسى إياها، فقلنا له: فكيف علمت هذا؟ قال: إني والله من سبيه، ولأخبركم بعجيب، والله ما اشتراني الذي اشتراني إلا بقبضة من فلفل لمطبخ موسى بن نصير. فقلنا له: ما أقدمك؟ فقال: أبي كان من وجوه الأندلس. فلما سمع بموسى بن نصير عمد إلى عين ما له من الذهب والفضة والجوهر، وغير ذلك، فدفنه في موضع قد عرفته، فتقدمت أنا للخروج إلى ذلك الموضع لاستخراجه. قلنا له: وكم لك منذ فارقته؟ قال: سبعون سنة. قلنا له أفنسيته؟ قال: نعم، فلم ندر بعد ما فعل. غزوة موسى بن نصير البشكنس والإفرنج قال: وذكروا أن موسى خرج من طليطلة بالجموع غازيا يفتح المدائن جميعا، حتى دانت له الأندلس، وجاءه وجوه جليقية، فطلبوا الصلح فصالحهم (1)، وغزا البشكنس فدخل في بلادهم حتى أتى قوما كالبهائم، ثم مال إلى أفرنجة، حتى انتهى إلى سرقسطة فافتتحها، وافتتح ما دونها من البلاد إلى الأندلس. قال: فأصاب فيها ما لا يدري ما هو، ثم سار حتى جاوزها بعشرين ليلة، وبين سرقسطة وقرطبة شهر أو أربعون يوما. قال: وذكروا أن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، قال: كنت ممن غزا مع

(هامش)

(1) افتتح موسى مدينة ابن السليم، ثم قرمونة، ثم إشبيلية، ثم ماردة، ثم لبلة وباجة ثم سرقسطة (ابن الأثير 3 / 211 - 212، نفح الطيب 2 / 156) ووصل مع طارق إلى أطراف بلاد الأندلس الشمالية وكانت حركتهما دون مقاومة تذكر لأن لسقوط دولة القوط في الجنوب أثره البالغ في جعل مدن الشمال تسقط الواحدة تلو الأخرى. أما بالنسبة إلى جليقية فقد صالح أهلها، ولم يتوغل المسلمون بعد صلح أهلها في نواحيها الجبلية الصخرية - أقصى شمال الأندلس من جهة الغرب - حيث بقيت هذه المنطقة بيد القوط والهاربين من المدن الأخرى التي سقطت بيد المسلمين. وقد بقيت مدخرا للقومية الإسبانية فخرجت منها فيما بعد الحركة المعروفة بالانتقام من المسلمين، لتطرد المسلمين من الأندلس بعد بقائهم فيها حوالي ثمانية قرون (ابن عذاري 2 / 62 التاريخ السياسي للدولة العربية د. ماجد 2 / 207). (*)

ص 93

موسى الأندلس حتى بلغنا سرقسطة، وكانت من أقصى ما بلغنا مع موسى إلا يسيرا من ورائها (1) فأتينا مدينة على بحر، ولها أربعة أبواب. قال: فبينما نحن محاصروها إذ أقبل عياش بن أخيل، صاحب شرطة موسى، فقال: أيها الأمير، إنا قد فرقنا الجيش أرباعا على نواحي المدينة، وقد بقي الباب الأقصى، وعليه رتبة. قال له موسى بن نصير: دع ذلك الباب فإنا سننظر فيه. قال: ثم إن موسى التفت إلي فقال لي: كم معك من الزاد؟ قلت: ما بقي معي غير تليس (2)، قال: فأنت لم يبق معك غير تليس، وأنت من أمراء الجيش، فكيف غيرك! اللهم أخرجهم من ذلك الباب. قال المغيرة: فأصبحنا من تلك الليلة وقد خرجوا من ذلك الباب، فدخلها موسى منه، ووجه ابنه مروان في طلبهم فأدركهم، فأسرع القتل فيهم، وأصابوا مما كان معهم، ومما في المدينة شيئا عظيما. قال: وذكروا أن جعفر بن الأشتر، قال: كنت فيمن غزا الأندلس مع موسى، فحاصرنا حصنا من حصونها عظيما، بضعا وعشرين ليلة، ثم لم نقدر عليه. فلما طال ذلك عليه نادى فينا، أن أصبحوا على تعبئة، وظننا أنه قد بلغه مادة من العدو، وقد دنت منا، وأنه يريد التحول عنهم، فأصبحنا على تعبئة، فقام فحمد الله، ثم قال: أيها الناس، إني متقدم أمام الصفوف، فإذا رأيتموني قد كبرت وحملت، فكبروا واحملوا. فقال الناس: سبحان الله، أترى فقد عقله أم عزب عنه رأيه، يأمرنا نحمل على الحجارة وما لا سبيل إليه! قال: فتقدم بين يدي الصفوف حيث يراه الناس، ثم رفع يديه وأقبل على الدعاء والرغبة، فأطال ونحن ركوب منتظرون تكبيره، فاستعددنا، ثم إن موسى كبر، وكبر الناس، وحمل وحمل الناس، فانهدت ناحية الحصن التي تلينا، فدخل الناس منها، وما راعني إلا خيل المسلمين تمزع فيها، وفتحها الله علينا، فأصبنا من السبي والجواهر ما لا يحصى. قال: وحدثتني مولاة لعبد الله بن موسى، وكانت من أهل الصدق والصلاح، أن موسى حاصر حصنها الذي كانت من أهله، وكان تلقاءه حصن آخر. قالت: فأقام لنا محاصرا حينا، ومعه أهله وولده، وكان لا يغزو إلا بهم لما

(هامش)

(1) أنظر الحاشية السابقة (2) التليس: بتشديد اللام، الكيس الكبير. (*)

ص 94

يرجو في ذلك من الثواب. قالت: ثم إن أهل الحصن خرجوا إلى موسى فقاتلوه قتالا شديدا، ففتح الله عليه. قالت: فلما رأى ذلك أهل الحصن الآخر، نزلوا على حكمه، ففتحهما موسى في يوم واحد، فلما كان في اليوم الثاني، أتى حصنا ثالثا، فالتقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا، حتى جال المسلمون جولة واحدة. قال: فأمر موسى بسرادقه فكشط (1) عن نسائه وبناته حتى برزن. قال: فلقد كسرت بين يديه من أغماد السيوف ما لا يحصى، وحمي المسلمون، واحتدم القتال، ثم إن الله فتح عليه ونصره، وجعل العاقبة له. وقال عبد الرحمن بن سلام: كنت فيمن غزا مع موسى في غزواته كلها. فلم ترد له راية قط، ولا هزم له جمع قط، حتى مات. وقال ابن صخر: لما قدم موسى الأندلس قال أسقف من أساقفتها: إنا لنجدك في كتب الحدثان، عن دانيال. بصفتك صيادا تصيد بشبكتين، رجل لك في البر، ورجل في البحر، تضرب بهما هاهنا وهاهنا فتصيد. قال: فسر بذلك موسى وأعجبه. وقال عبد الحميد بن حميد، عن أبيه: إن موسى لما وغل وجاوز سرقسطة، اشتد ذلك على الناس وقالوا: أين تذهب بنا؟ حسبنا ما في أيدينا، وكان موسى قال حين دخل أفريقية، وذكر عقبة بن نافع: لقد كان غرر بنفسه حين وغل في بلاد العدو، والعدو عن يمينه وعن شماله وأمامه وخلفه، أما كان معه رجل رشيد؟ فسمعه حبيش الشيباني (2) قال: فلما بلغ موسى ذلك المبلغ، قام حبيش فأخذ بعنانه. ثم قال أيها الأمير! إني سمعتك وأنت تذكر عقبة بن نافع تقول: لقد غرر بنفسه وبمن معه، أما كان معه رجل رشيد؟ وأنا رشيدك اليوم، أين تذهب؟ تريد أن تخرج من الدنيا، أو تلتمس أكثر وأعظم مما آتاك الله عز وجل، وأعرض مما فتح الله عليك، ودوخ لك، إني سمعت من الناس ما لم تسمع، وقد ملأوا أيديهم، وأحبوا الدعة. قال:، فضحك موسى ثم قال: أرشدك الله، وكثر في المسلمين مثلك. ثم انصرف قافلا إلى الأندلس فقال موسى يومئذ: أما

(هامش)

(1) السرادق: القباء. وكشط: أزاح. (2) كذا بالأصل، ولعله حنش الصنعاني من صنعاء الشام، أحد التابعين الأجلاء، وكان مع موسى بن نصير في غزوته للأندلس (نفح الطيب 1 / 278). (*)

ص 95

والله لو انقادوا إلي لقدتهم إلى رومية، ثم يفتحها الله على يدي إن شاء الله.

 خروج موسى بن نصير من الأندلس

 قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن سلام أخبرهم، وكان مع موسى بن نصير بالأندلس قال: أقام موسى بقية سنته تلك، وأشهرا من سنة أربع وتسعين، ثم خرج (1) وافدا إلى الوليد بن عبد الملك، وكان ما أقام بها موسى عشرين شهرا، واستخلف عبد العزيز بن موسى، فجاز موسى البحر على الأندلس، فغزا بالناس حتى بلغوا أربونة، ومعه أبناء الملوك من الإفرنج، وبالتيجان والمائدة والآنية والذهب والفضة، والوصفاء والوصائف، وما لا يحصى من الجواهر والطرائف، وخرج معه بوجوه الناس. قال: وذكروا عن صفة المائدة عن عبد الحميد أنه قال: كانت مائدة خوان، ليست لها أرجل، قاعدتها منها، وكانت من ذهب وفضة خليطين، فهي تتلون صفرة وبياضا، مطوقة بثلاثة أطواق، طوق لؤلؤ، وطوق ياقوت، وطوق من زمرد، قال: قلت: فما عظمها؟ قال: كنا بموضع والناس معسكرون، إذ فلت بغل لرجل من موالي موسى يقال له صالح أبو ريشة، على رمكة (2)، فكردها في العسكر، فقام الناس إليه بأعمدة الأخبية، وجال في العسكر جولة، فتطلع موسى قال: ما هذا؟ وتطلع الحواري فإذا هو بالبغل يكرد الرمكة، وقد أدلى (3)، فغار موسى وقال: احملوا عليه المائدة، فلم يبلغ بها إلا منقلة (4) حتى تفتخت قوائمه لكثرة ثقلها على هذا البغل القوي.

 قدوم موسى أفريقية

قال: وذكروا أن يزيد بن مسلم مولى موسى، أخبرهم أنه لما جاز موسى الحصن أمرهم بصناعة العجل، فعملت له ثلاثون ومئة عجلة (5)، ثم حمل عليها

(هامش)

(1) في البيان المغرب 1 / 43: سنة 95. وفي نفح الطيب 1 / 277 ركب موسى البحر إلى المشرق بذي حجة سنة 95 وطارق معه. وفي رواية أخرى ص 271 قفل عن الأندلس سنة 94 فأتى أفريقيا، وسار عنها إلى الشام سنة 95. (2) الرمكة: الفرس أو البغلة تتخذ للنسل وكرد: طارد، يعني أنه جرى وراءها يريد أن يقع عليها. (3) أي انتشر ذكره وتدلى. (4) أي انتقل بها خطوة. تفتخت قوائمه: أي استرخت أعصابه وهانت وضعفت. (5) في البيان المغرب 1 / 43 مائة عجلة وأربع عشرة عجلة. (*)

ص 96

الذهب والفضة والجواهر، وأصناف الوشي الأندلسي، حتى أتى أفريقية. فلما قدمها بقي بها سنة أربع وتسعين (1)، ثم قفل، واستخلف ابنه عبد الله على أفريقية وطنجة (2) والسوس، وخرج معه ولده مروان بن موسى، وعبد الأعلى بن موسى وعبد الملك بن موسى، وخرج معه مئة رجل من أشراف الناس، من قريش والأنصار وسائر العرب ومواليها، منهم عياض بن عقبة، وعبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والمغيرة بن أبي بردة، وزرعة بن أبي مدرك، وسليمان بن نجدة ووجوه من وجوه الناس وأخرج معه من وجوه البربر مئة رجل فيهم بنو كسيلة، وبنو قصدر (3)، وبنو ملوك البربر، وملك السوس مزدانة ملك قلعة أرساف وملك ميورقه، وخرج بعشرين ملكا من ملوك جزائر الروم (4)، وخرج معه مئة من ملوك الأندلس، ومن الإفرنجيين، ومن القرطبيين، وغيرهم، وخرج معه أيضا بأصناف ما في كل بلد من بزها ودوابها ورقيقها وطرائفها وما لا يحصى، فأقبل يجر الدنيا وراءه جرا لم يسمع بمثله، ولا بمثل ما قدم به.

 قدوم موسى إلى مصر

 قال: وذكروا أن يزيد بن سعيد بن مسلم أخبرهم قال: لما أتى موسى مصر، وانتهى ذلك إلى الوليد بن عبد الملك، كتب إلى قرة بن شريك، أن أدفع إلى موسى من بيت مال مصر ما أراد، فأقبل موسى حتى إذا كان في بعض الطريق، لقيه خبر موت قرة بن شريك (5)، ثم قدم مصر سنة خمس وتسعين، فدخل المسجد فصلى عند باب الصوال، وكان قرة قد استخلف ابن رفاعة (6) على الجند حتى توفي، فلما سمع بموسى خرج مبادرا حتى لحقه حين استوى على دابته فلقيه فسلم عليه، فقال له موسى: من أنت يا بن أخي؟ فانتسب له. فقال: مرحبا وأهلا، فسار معه حتى نزل منية عمرو بن مروان، فعسكر بها موسى،

(هامش)

(1) أنظر الحاشية رقم 1 ص 95. (2) على طنجة وسبتة ولى ابنه عبد الملك (البيان المغرب - ابن الأثير) ولم يخرج معه إلى الشام. (3) في البيان المغرب: بنو يسور. (4) في البيان المغرب: وعشرون ملكا من ملوك المدائن التي افتتحها بأفريقيا. (5) توفي قرة بن شريك لست بقين من شهر ربيع الأول سنة 96 (ولاة مصر: ص 86). (6) هو عبد الملك بن رفاعة بن خالد الفهمي. (*)

ص 97

فكلمه حينئذ رفاعة في المال الذي كان استخرجه من سفيان بن مالك الفهري، وذلك بعد مهلك سفيان. فقال: هو لك. قال: فأمر بدفع عشرة آلاف دينار إلى ولد سفيان بن مالك. قال: فأقام موسى ثلاثة أيام، تأتيه أهل مصر في كل يوم، فلم يبق شريف إلا وقد أوصل إليه موسى صلة ومعروفا كثيرا، وأهدى لولد عبد العزيز بن مروان فأكثر لهم، وجاءهم بنفسه فسلم عليهم، ثم سار متوجها حتى أتى فلسطين، فتلقاه آل روح بن زنباع، فنزل بهم، فبلغني أنهم نحروا له خمسين جزورا، وأقام عندهم يومين، وخلف بعض أهله وصغار ولده عندهم، وأجاز آل مروان وآل روح بن زنباع بجوائز من الوصائف، وغير ذلك من الطرف.

قدوم موسى على الوليد رحمهما الله تعالى

 قال: وذكروا أن محمد بن سليمان وغيره من مشايخ أهل مصر، أخبروهم أن موسى لما قدم على الوليد، وكان قدومه عليه وهو في آخر شكايته التي توفي فيها (1)، وقد كان سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى من لقيه في الطريق قبل قدومه على الوليد، يأمره بالتثبط في مسيره، وألا يعجل، فإن الوليد بآخر رمقه (2). فلما أتى موسى بالكتاب من سليمان وقرأه، قال: خنت والله وغدرت وما وفيت، والله لا تربصت، ولا تأخرت، ولا تعجلت، ولكني أسير بمسيري، فإن واقيته حيا لم أتخلف عنه، وإن عجلت منيته فأمره إلى الله. فرجع الرسول إلى سليمان فأعلمه فآلى سليمان لئن ظفر بموسى ليصلبنه، أو ليأتين على نفسه. قال: فلما قدم موسى على الوليد وكان الوليد لما بلغه قدوم موسى واقترابه منه، وجه إليه كتابا يأمره بالعجلة في مسيره، خوفا أن تعجل به منيته قبل قدوم موسى عليه، وأنه أراد أن يراه وأن يحرم سليمان ما جاء به من الجواهر والطرائف التي لا قيمة لها، فلم يكن لموسى شيء يثبطه حين أتاه كتاب الوليد، فأقبل حتى دخل عليه (3)، وقدم تلك الطرائف من الدر والياقوت والزبرجد، والوصفاء والوصائف

(هامش)

(1) وكان الوليد يكتب إليه يستحثه ويستعجله (الحلة السيراء 2 / 334) قال ابن الأثير 3 / 212 فورد الشام وقد مات الوليد. وقيل إنه قدم الشام وهو حي. (أنظر فتوح البلدان ص 232 نفح الطيب 1 / 280). (2) الحلة السيراء 2 / 334 ابن عذاري 1 / 45. (3) وصل إلى دمشق قبل موت الوليد بثلاثة (البيان المغرب 1 / 45). (*)

ص 98

والوشي، ومائدة سليمان بن داود عليه السلام، ومائدة ثانية من جزع ملون والتيجان. قال: فقبض الوليد الجميع وأمر بالمائدة فكسرت، وعمد إلى أفخر ما فيها، والتيجان والجزع، فجعله في بيت الله الحرام، وفرق غير ذلك، ولم يلبث الوليد أن مات رحمه الله.

 خلافة سليمان بن عبد الملك وما صنع بموسى بن نصير

 قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن سلام أخبرهم أن سليمان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه، بعث إلى موسى، فأتي به، فعنفه بلسانه، وكان فيما قال له يومئذ: أعلي اجترأت، وأمري خالفت، والله لأقللن عددك، ولأفرقن جمعك، ولأبددن مالك، ولأضعن منك ما كان يرفعه غيري ممن كنت تمنيه أماني الغرور، وتخدعه من آل أبي سفيان، وآل مروان، فقال له موسى: والله يا أمير المؤمنين ما تعتل علي بذنب، سوى أنني وفيت للخلفاء قبلك، وحافظت على من ولي النعمة عندي فيه، فأما ما ذكر أمير المؤمنين: من أنه يقل عددي، ويفرق جمعي ويبدد مالي، ويخفض حالي، فذلك بيد الله، وإلى الله، وهو الذي يتولى النعمة على الاحسان إلي، وبه أستعين، ويعيذ الله عز وجل أمير المؤمنين ويعصمه أن يجري على يديه شيئا من المكروه لم أستحقه، ولم يبلغه ذنب اجترمته. فأمر به سليمان أن يوقف في يوم صائف شديد الحر على طريقه. قال: وكانت بموسى نسمة (1)، فلما أصابه حر الشمس، وأتعبه الوقوف، هاجت عليه. قال: وجعلت قرب العرق تنصب منه، فما زال كذلك حتى سقط، وعمر بن عبد العزيز حاضر، إلى أن نظر سليمان إلى موسى، وقد وقع مغشيا عليه، قال عمر بن عبد العزيز: ما مر بي يوم كان أعظم عندي، ولا كنت فيه أكرب من ذلك اليوم، لما رأيت من الشيخ موسى، وما كان عليه من بعد أثره في سبيل الله، وما فتح الله على يديه وهذا يفعل به. قال: فالتفت إلي سليمان فقال: يا أبا حفص، ما أظن إلا أني قد خرجت من يميني. قال عمر: فاغتنمت ذلك من فقلت يا أمير المؤمنين شيخ كبير بادن (2)، وبه نسمة قد أهلكته، وقد أتت على ما فيه من السلامة لك من يمينك، وهو موسى البعيد الأثر في سبيل الله، العظيم الغناء

(هامش)

(1) نسمة: الربو، وهو انتصاب النفس، من أمراض الصدر. (2) البادن: الضخم الجسم، السمين. (*)

ص 99

عن المسلمين قال عمر: والذي منعني من الكلام فيه ما كنت أعلم من يمينه وحقده عليه (1)، فخشيت إن ابتدأته أن يلح عليه، وهو لحوح. قال: فلما قال لي ما قال آخرا، حمدت الله على ذلك، وعلمت أن الله قد أحسن إليه، وأن سليمان قد ندم فيه. فقال سليمان: من يضمه؟ فقال يريد بن المهلب: أنا أمضه يا أمير المؤمنين. قال: وكانت الحال بين يزيد وموسى لطيفة خاصة. قال سليمان: فضمه إليك يا يزيد، ولا تضيق عليه. قال: فانصرف به يزيد، وقد قدم إليه دابة ابنه مخلد، فركبها موسى، فأقام أياما. قال: ثم إنه تقارب ما بين موسى وسليمان في الصلح، حتى افتدى منه موسى بثلاثة آلاف ألف دينار.

 عدة موالي موسى بن نصير

قال: وذكروا عن بعض البصريين، أن رجلا منهم أخبرهم أن يزيد قال لموسى ذات ليلة وقد سهر سهرا طويلا: يا أبا عبد الرحمن، كم تعد مواليك وأهل بيتك؟ فقال: كثير. قال: يكونون ألفا؟ قال له موسى: نعم وألفا وألفا حتى ينقطع النفس، لقد خلفت من الموالي ما أظن أن أحدا لا يخلف مثلهم. قال له يزيد (2): إنك لعلى مثل ما وصفت، وتعطي بيدك؟ ألا أقمت بدار عزك، وموضع سلطانك، وبعثت بما قدمت به، فإن أعطيت الرضا أعطيت الطاعة، وإلا كنت على التخيير من أمرك؟ فقال موسى: والله لو أردت ذلك ما تناولوا (3) طرفا من أطرافي إلي أن تقوم الساعة، ولكن آثرت حق الله، ولم أر الخروج من الطاعة والجماعة. قال: ثم خرج يزيد من عنده، فنظر إليه موسى، قال لمن عنده: والله إن في رأس أبي خالد لنفرة وليأتين عليها.

ذكر ما رآه موسى بالمغرب من العجائب

 قال: وذكروا عن محمد بن سليمان، عن مشايخ أهل مصر، قال: لما بعث موسى رحمه الله بالخمس الذي أفاء الله عليه، وكان مئة ألف رأس، فنزلوا الإسكندرية، ونزل بعضهم كنيسة فيها، فسميت كنيسة الرقيق إلى اليوم، نزلوا

(هامش)

(1) كان سليمان قد حلف أنه أن ظفر به ليصلبنه. (2) في البيان المغرب 1 / 46: فلم ألقيت بنفسك إلى التهلكة. (3) في البيان المغرب: ما نالوا. (*)

ص 100

موضعا بالفسطاط فتسوقوا فيه، فسمي سوق البربر إلى اليوم، قال محمد بن سليمان، ومحمد بن عبد الملك: إن موسى اتخذ لنفسه دارا وسكنا حتى كان من أمر سليمان ما قد ذكر، وهو الذي أخرجه وأهله من المغرب. قال: وحدثنا بعض أهل أفريقية أن موسى ركب يوما حتى خرج من القيروان، فوقف قريبا من أفريقية على رأس أميال، فأخذ بيده ترابا فشمه من ثم، ثم أمر بحفر بئر وابتنى دارا ومنية (1) واتخذ فيها خيلا فسميت بئر منية الخيل، فليس يعلم بالمغرب بئر أعذب منها. وحدثنا الكرير أبو بكر عبد الوهاب بن عبد الغفار شيخ من مشايخ تونس قال: إن موسى انتهى إلى صنم يشير بأصبعه إلى خلفه ثم تقدم إلى صنم أمام الصنم الأول، فإذا هو يشير بأصبعه إلى السماء، ثم تقدم فإذا بصنم على نهر ماء جار، يشير بأصبعه تحت قدميه، فلما انتهى موسى إلى الصنم الثالث. قال موسى: احفروا، فإذا بمحدث (2) مختوم الرأس، قد أخرج، فأمر به موسى فكسر، فخرجت ريح شديدة، فقال موسى للجيش: أتدرون ما هذا؟ قالوا: لا والله أيها الأمير ما ندري، قال: ذلك شيطان من الشياطين التي سجنها نبي الله سليمان بن داود. قال: وحدثنا بعض مشايخ أهل المغرب أن موسى أرسل ناسا في مراكب فأمرهم أن يسيروا حتى ينتهوا إلى صنم يشير بأصبعه أمامه في جزيرة في البحر، ثم يسيروا حتى يأتوا صنما آخر في جزيرة يشير بأصبعه أمامه ثم يسير الليالي والأيام ويجد في السير حتى يأتوا صنما آخر في جزيرة في البحر، فيها أناس لا يعرف كلامهم. قال: فإذا بلغتم ذلك، فارجعوا، وذلك في أقصى المغرب ليس وراءه أحد من الناس إلا البحر المحيط، وهو أقصى المغرب في البر والبحر. قال: وحدثنا بعض المشايخ من أهل المغرب أن موسى بلغ نهرا من أقصى المغرب، فإذا عليه في الشق الأيمن أصنام ذكور، وفي الأيسر أصنام إناث، وأن موسى لما انتهى إلى ذلك الموضع خاف الناس فيه، فلما رأى ذلك

(هامش)

(1) المنية: الضاحية أو القرية الصغيرة. (2) محدث: شيء كالإبريق قد أغلقت فوهته وختمت. (*)

ص 101

منهم رجع بالناس، ثم مضى في وجهه ذلك حتى انتهى إلى أرض تميد بأهلها، ففزع الناس وخافوا فرجع بهم. قالوا: وحدثنا عبد الله بن قيس، قال: بلغني أن موسى لما جاوز الأندلس أتى موضعا، فإذا فيه قباب من نحاس، فأمر بقبة منها فكسرت، فخرج منها شيطان نفخ ومضى، فعرف موسى أنه شيطان من الشياطين التي سجنها سليمان بن داود، فأمر موسى بالقباب فتركت على حالها، وسار بالناس قدما. قال: وحدثنا عمارة بن راشد، قال: بلغنا أن موسى كان يسير في بعض غزواته وهو بأقصى المغرب، إذ غشى الناس ظلمة شديدة، فعجب الناس منها وخافوا، وسار بهم موسى في ذلك، إذ هجم على مدينة عليها حصن من نحاس، فلما أتاها أقام عليها، وطاف بها، فلم يقدر على دخولها، فأمر بنبل ورماح، وندب الناس فجعل يقول: من يصعد هذه، وله خمس مئة دينار؟ فصعد رجل، فلما استوى على سورها تردى فيها، ثم ندب الناس موسى ثانية، وقال: من يصعد وله ألف دينار؟ فصعد آخر، ففعل به مثل ذلك، ثم ندب الناس ثالثة: قال: من يصعد وله ألف وخمس مئة دينار، فصعد رجل ثالث، فأصابه ما أصاب صاحبيه، فكلم الناس موسى فقالوا: هذا أمر عظيم، أصيب إخواننا، وغررت بهم حتى هلكوا. فقال لهم: على رسلكم يأتيكم الأمر على ما تحبون إن شاء الله، ثم أمر موسى بالمنجنيق، فوضعت على حصن المدينة، ثم أمر أن يرمى الحصن، فلما علم من في الحصن ما عمل موسى، ضجوا وصاحوا، وقالوا: يا أيها الملك، لسنا بغيتك، ولا نحن ممن تريد، نحن قوم من الجن، فانصرف عنا، فقال لهم موسى: أين أصحابي، وما فعلوا؟ قالوا: هم عندنا على حالهم. فقال: أخرجوهم إلينا. قالوا: نعم. فأخرج الثلاثة النفر، فسألهم موسى عن أمرهم وما صنع بهم. فقالوا: ما درينا ما كنا فيه، وما أصابتنا شوكة حتى أخرجنا إليك. فقال موسى: الحمد لله كثيرا، ثم تقدم بالناس سائرا يفتح كل ما مر به. ثم نرجع إلى حديث سليمان بن عبد الملك.

ص 102

تولية سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة وما أشار به موسى عليه

 قال: وذكروا أن سعيد بن عبد الله أخبرهم، قال: إن سليمان بن عبد الملك بعث أخاه مسلمة إلى أرض الروم (1)، ووجه معه خمس مئة وثلاثين ألف رجل، وخمس مئة رجل ممن قد ضمه الديوان واكتتب في العطاء وتقلب في الأرزاق، ثم دعا سليمان بموسى، بعد أن رضي عنه على يد عمر بن عبد العزيز فقال سليمان له: أشر علي يا موسى: فلم تزل مبارك الغزوة في سبيل الله، بعيد الأثر، طويل الجهاد. فقال له موسى: أرى يا أمير المؤمنين أن توجهه بمن معه، فلا يمر بحصن إلا صير عليه عشرة آلاف رجل حتى يفرق نصف جيشه، ثم يمضي بالباقي من جيشه، حتى يأتي القسطنطينية، فإنه يظفر بما يريد يا أمير المؤمنين. قال: فدعا سلميان مسلمة فأمره بذلك من مشورة موسى وأوعز إليه. فلما علم مسلمة بالمشورة فكأنه كره ذلك، وكان في مسلمة بعض الإباية، ثم رجع إلى قول موسى فيما صنع بأرض الروم، حين ظفر ببطريق ليس فوقه إلا ملك الروم (2): فقال البطريق لمسلمة: آمني على نفسي وأهلي ومالي وولدي، وأنا آتيك بالملك، فأمنه، ومضى البطريق إلى الملك الأعظم، فأعلمه بما فعل مسلمة، وما ظفر به منه، ومن حصون الروم، فلما رأى ذلك ملك الروم، أعظم ذلك وسقط في يديه. فقال البطريق له عند ذلك: ما لي عليك إن صرفت مسلمة عنك وجميع من معه؟ فقال الملك: أجعل تاجي على رأسك، وأقعدك مكاني. فقال البطريق: أنا أكفيك ذلك. فرجع البطريق إلى مسلمة، فقال: أخرني ثلاثا حتى آتيك بالملك، فبعث البطريق إلى جميع الحصون، فأمرهم بالتقلع إلى الجبال، وحمل ما قدروا عليه من الطعام، وأمر بإحراق الزرع، وغير ذلك مما يؤكل وينتفع به، مما كان خلفه مسلمة وجنده (3)، وما بين المسلمين وملك

(هامش)

(1) الخبر في الطبري 6 / 530 - 531 وابن الأثير 3 / 244 - 245 باختلاف (2) هو إليون صاحب أرمينيا. قال المؤرخ الأرمني دينيس: هو إليون المرعشي حاكم عمورية، ويبدو أنه من أصل سوري من عناصر الجراجمة الساكنة على حدود الشام. جاء إلى سليمان يطلب مساعدته للوصول إلى عرش الروم على أن يحكم باسمه - وكان ملك الروم قد مات. يقول دينيس: إن قصده في الحقيقة كان خداع العرب وإيقاف سفك دماء بني وطنه، وهذا بالفعل ما وقع منه. (3) في ابن الأثير: أتى اليون مسلمة فقال له: إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال، وإنك = (*)

ص 103

الروم، فلما فعلوا ما أمروا به، وعلم البطريق أنه أحكم أمره، بعث إلى مسلمة فقال له: لو كنت امرأة لفعلت بك كما يفعل الرجل بامرأته. قال: فتغيظ مسلمة وآلى ألا يبرح حتى يظفر بملك الروم (1) و(2).

 سؤال سليمان موسى عن المغرب

 قال: وذكروا أن محمد بن سليمان، أخبرهم أن سليمان بن عبد الملك قال لموسى: من خلفت على الأندلس؟ قال له: عبد العزيز بن موسى. قال: ومن خلفت على أفريقية وطنجة والسوس؟ (6) قال: عبد الله ابني. فقال له سليمان: لقد أنجبت يا موسى، فقال موسى: ومن أنجب مني يا أمير المؤمنين، إن ابني مروان أتى بملك الأندلس، وابني عبد الله أتى بملك ميورقة وصقلية وسردانية، وإن ابني مروان أتى بملك السوس الأقصى فهم متفرقون في الأمصار، وغيرهم

(هامش)

= تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم، فأمر به فأحرق (وكان أمثال الجبال لأن مسلمة كان قد أمر أن يذخره، وأمر المسلمين بالإغارة على أراضي الروم وأن يزرعوا ويتركوا ما جاؤوا به) فقوي الروم. (1) كان سليمان مقيما بدابق، وتولى الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات، ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر حتى أنهم أكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب (ابن الأثير)، قال ابن كثير في البداية 9 / 174 فكروا راجعين إلى الشام (بعد تولية عمر بن عبد العزيز) وقد جهدوا جهدا شديدا لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى بالقسطنطينية مسجدا شديد البناء محكما رحب الفناء شاهقا في السماء (وانظر الخبر في فتوح ابن الأعثم 7 / 298). (2) يرى الدكتور العريني في كتابه الدولة البيزنطية ص 188 وهو يبحث في اضطرار المسلمين إلى رفع الحصار عن القسطنطينية أن أسباب ذلك تعود إلى: - ظهور مواهب ليو الحربية فيما قام به من الدفاع عن المدينة إذ أغلق مدخل البوسفور بسلسلة ضخمة من الحديد. شحن أسوار العاصمة بالعساكر الذين بذلوا كل الجهود لمنع المسلمين من اقتحام الأسوار. - طيلة الحصار، وبرد الشتاء وقسوته ما عانى منه المسلمون كثيرا. - هجوم البلغار على المسلمين. - ما سببته النيران الإغريقية بالأسطول الإسلامي. - تواطؤ البحارة المسيحيين في الأسطول الإسلامي مع البيزنطيين. - نفاذ الأقوات وطول أمد الحصار. - طول خط الإمدادات. - تدابير ليو الحربية والبحرية. (3) مر أنه ولى طنجة وسبتة ابنه عبد الملك، وعبد الله على أفريقيا. (*)

ص 104

يغيرون فيأتون من السبي بما لا يحصى، فمن أنجب مني يا أمير المؤمنين؟ قال: فغضب سلميان، فقال: ولا أمير المؤمنين ليس بأنجب منك؟ فقال موسى: شأن أمير المؤمنين شأن ليس فوقه شأن، وكل شأن وإن عظم دونه، لأنه به ومنه، وعلى يديه وأمره. قالوا: وحدثنا عبد الله بن شريح، قال: بلغني أن موسى لما نزل الحيرة عند قدومه من المغرب أتاه رجل من بني أمية، فقال له: يا موسى، أنت ملك المغرب، وأعلم الناس تخرج إلى الوليد، وتعلم من سليمان؟ فقال له موسى: يا بن أخي، حسبك من قريش، ثم من بني أمية ما تعلم، ألا ترى يا بن أخي أن الصبي يأخذ العظم فيعقفه (1) بحبل،، ثم ينصبه ويهيئ طريقا، ويضع فيه حبة بر أو ذرة، فينصب للهدهد العالم بما تحت الأرض، فيستنفر (2) ثم تدفعه المقادير إلى الوقوع فيه، فاحذر يا بن أخي أن تراك الشام أو تراها. فخرج موسى إلى الوليد بدمشق، فمات الوليد، واستخلف سليمان أخاه، فلقي منه موسى ما ذكرنا، وخرج القرشي إلى الشام، فضربت عنقه.

 ذكر قدوم موسى على الوليد

 قال: وذكروا أن موسى لما قدم على الوليد، وذلك يوم الجمعة، في حين جلوس الوليد بن عبد الملك على المنبر، وكان موسى قال لبعض من وفد معه، بأن يلبس كل رجل من الأسرى تاجا، وثياب ملك ذلك التاج، ثم يدخلوا معه، المسجد. قال: فألبس ثلاثين رجلا ثلاثين تاجا وهيأهم هيئة الملوك، وأمر بأبناء ملوك البربر فهيئوا وأمر بأبناء ملوك الجزائر والروم فهيئوا كذلك، ولبسوا التيجان، وأمر بأبناء ملوك الأشبان (3)، فهيئوا بمثل ذلك وأمر بالأموال والجوهر واللؤلؤ والياقوت والزبرجد والجزع والوطاء والكساء المنسوج بالذهب والفضة، المحرش (4) باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، فوقف الجميع بباب الوليد، وأبناء ملوك أفرنجة وأقبل موسى بالذين ألبسهم التيجان، حتى دخل مسجد دمشق، والوليد

(هامش)

(1) يعقفه: يثنيه ويلويه. (2) يعني يحذر منه فيهرب. (3) في البداية والنهاية 9 / 196 الإسبان. (4) المحرش باللؤلؤ: أي وضع اللؤلؤ على الكساء بشكل بارز. (*)

ص 105

على المنبر، يحمد الله وهو موهون، قد أثرت فيه العلة، وأنهكه المرض وإنما كان متحملا لأجل قدوم موسى ومن معه. فلما رآهم بهت إليهم، وقال الناس: موسى؟ موسى، ثم أقبل حتى سلم على الوليد، ووقف الثلاثون بالتيجان، عن يمين المنبر وشماله ثم إن الوليد أخذ في حمد الله تعالى والثناء عليه، والشكر لما أيده الله ونصره (1)، فتكلم بكلام لم يسمع بمثله، وأطال حتى فات وقت الجمعة، ثم صلى بالناس فلما فرغ جلس، ثم دعا بموسى، فصب عليه الوليد الخلع ثلاث مرات، وأجازه بخمسين ألف دينار، وفرض لولده جميعا في الشرف، وفرض لخمس مئة من مواليه، ثم أدخل عليه موسى ملوك البربر، وملوك الروم، وملوك الأشبان، وملوك أفرنجة، ثم أدخل عليه رؤس أهل البلاد ممن كان معه من قريش والعرب، فأحسن جوائزهم، وفرض لهم في الشرف، ثم أقام موسى عند الوليد أربعين يوما (2)، ثم إن الوليد هلك.

 ذكر اختلاف الناقلين في صنع سليمان بموسى

 قالوا: لما استخلف سليمان بعد أخيه الوليد، فكان أحنق الناس على الحجاج (3) وموسى بن نصير، وكان يحلف لئن ظفر بهما ليصلبنهما، وكان حنقه عليهما لأمر يطول ذكره. قال: فأرسل سليمان إلى عمر بن عبد العزيز فأتاه، فقال: إني صالب غدا موسى بن نصير، فبعث عمر إلى موسى فأتاه. فقال له: يا بن نصير، إني أحبك لأربع. الواحدة: بعد أثرك في سبيل الله، وجهادك لعدو الله. والثانية: حبك لآل محمد صلى الله عليه وسلم. والثالثة: حبك عياض بن عقبة لما تعلم من حسن رأيي فيه، وكان عياض من عباد الله الصالحين، والرابعة: أن لأبي عندك يدا وصنيعة، وأنا أحب أن تتم يده وصنيعته

(هامش)

(1) زيد في البداية والنهاية: ووسع ملكه. (2) مر قريبا أن موسى بن نصير قدم على الوليد قبل موته بثلاثة أيام. (3) يعود حنق سليمان بن عبد الملك على الحجاج إلى: - أن الحجاج كان قد أجاب الوليد عندما أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز - كان سليمان بن عبد الملك يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبا فلا ينظر له فيها فكتب إليه سليمان كتابا يتهدده فيه، ورد عليه الحجاج بكتاب سخر فيه منه ومما جاء فيه: إنك لصبي حديث السن، تعذر بقلة عقلك وحداثة سنك.. (نص كتاب سليمان وجواب الحجاج عليه في العقد الفريد 5 / 41 / 42). وقد مات الحجاج سنة 95 في حياة الوليد وقبل أن يلي سليمان الخلافة. (*)

ص 106

حيث كانت، وقد سمعت أمير المؤمنين يذكر أنه صالبك غدا، فأحدث عهدك (1)، وانظر فيما أنت فيه ناظر من أمرك. فقال له موسى: قد فعلت، وأسندت ذلك إليك. فقال له عمر: لو قبلت ذلك من أحد قبلت منك، ولكن أسند إلى من أحببت. فانصرف، فلما أصبح اغتسل وتحنط وراح، ولم يشك في الصلب. فلما انتصف النهار، واشتد الحر، وذلك في حمارة الصيف، دعا سليمان موسى، فأدخل عليه متعبا، وكان بادنا جسيما، به نسمة لا تزال تعرض له. فلما وقف بين يديه، شتمه وخوفه وتوعده، فقال له موسى: أما والله يا أمير المؤمنين ما هذا بلائي، ولا قدر جزائي، إني لبعيد الأثر في سبيل الله العظيم الغناء عن المسلمين، مع قدمه (2) آبائي مع آبائك، ونصيحتي لهم. قال: فيقول له سليمان: كذبت، قتلني الله إن لم أقتلك. فلما أكثر على موسى قال له: أما والله لمن في بطن الأرض أحب إلي ممن على ظهرها. فقال سليمان: ومن أولئك واستطير. فقال له موسى: مروان، وعبد الملك والوليد أخوك، وعبد العزيز عمك. قال: فكاد سليمان ينكسر. ثم يقول: قتلني الله إن لم أقتلك. فيقول له موسى: ما أنت بفاعل يا أمير المؤمنين؟ فيقول: ولم؟ لا أم لك. فيقول له موسى: إني لأرجو ألا يكرم موسى بهوان أمير المؤمنين وموسى حينئذ قائم في الشمس، قد ارتفع نفسه (3)، وعظم بهره (4)، ثم التفت سليمان إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: ما أرى يميني إلا قد برئت يا عمر. قال عمر: فاغتنمتها منه، ولم أبال أن يحنث بإحياء رجل من المسلمين. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، امرؤ كبرت سنه، وكثر لحمه، وبه نسمة وبهر وسقم. فما أراه إلا ميتا. قال: ثم التفت سليمان إلى جلسائه فقال: من يأخذ هذا الشيخ، فيستخرج منه هذه الأموال؟ فقال

(هامش)

(1) أي اكتب وصيتك. (2) يشير إلى خدمات أبيه نصير، فكان على حرس معاوية. أما موسى الذي ولد سنة 19 ه‍، فقد ولي غزو البحر لمعاوية، وغزا قبرص وبنى هناك حصونا كالماغوصة وحصن بانس، وكان نائب معاوية عليها بعد ذلك، وشهد مرج راهط مع الضحاك ثم التجأ إلى عبد العزيز بن مروان، ولما عين بشر بن مروان على العراق جعله عبد الملك وزيرا لبشر (ولي خراج العراق) وقيل إن بشر قلده أموره. (البداية والنهاية 9 / 194 والنجوم الزاهرة 2 / 235 وفيات الأعيان 5 / 318). (3) يشير إلى نوبة ربو أصابته، وكان مصابا بانقصاب النفس. (4) عظم بهره: انقطع نفسه من الإعياء والتعب، ومرضى الربو ينتصب نفسهم ويعظم في حالة الإرهاق والتعب. (*)

ص 107

يزيد بن المهلب: أنا يا أمير المؤمنين قال: فخذه ولا تمسه، وضع العذاب على ابنيه مروان، وعبد الأعلى (1)، فخرج به يزيد فحمله على دابة ابنه، ثم انصرف به إلى منزله، فأكرمه وبره. وقال له: أطع أمري، وأجب أمير المؤمنين إلى مقاضاته عن نفسك وعن ابنيك، وحملني كل ما قاضيته عليه. فقال له موسى: أما إذا كنت أنت صاحب هذا الشأن، فأنا غير مخبرك فيما ضمنت لأمير المؤمنين، وأيم الله لو أمر سواك بي، وأمره بالبسط علي، لكان أحب إلي أن ألقى الله عز وجل، وأقرب إلي من أن يأخذوا مني دينارا واحدا، ولكن أديا يا ابني عن أنفسكما وعن أبيكما، فقالا: نعم، فغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان، فأعلمه بذلك، وبرضا موسى بمقاضاته، فأدخله سليمان عليه. فقال موسى: أرأيت لو لم أقاضك ما كنت فاعلا؟ فقال سليمان: أضع العذاب عليك وعلى ابنيك حيى أبلغ ما أريد، أو آتي على أنفسكم. فقال موسى: الآن طابت نفسك يا أمير المؤمنين فأعطني أربع خصال، ولك ما دعوتني إليه من هذا المال. فقال: وما هن؟ قال: لا تعزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وجميع عمله سنتين، وأن كل ما جباه عبد الله بأفريقية، وعبد العزيز بالأندلس، فهو لي فيما قاضيت عليه أمير المؤمنين، وأن تدفع إلي طارقا مولاي، وأكون أملا به عينا وبماله. فقال له سليمان: أما ما سألت من إقرار عبد العزيز وعبد الله على مكانهما فذلك لك. وأما ما سألت من دفع طارق إليك فتكون أملا عينا به وبماله، فليس هذا جزاء أهل النصيحة لأمير المؤمنين، فلست بفاعل، ولا مخل بينك وبين عقوبته، ولا أخذ ماله، فقاضاه موسى على مال، فأجله في ذلك، وخلى سبيله.

نسخة القضية

 هذا ما قاضي عليه عبد الله سلميان أمير المؤمنين موسى بن نصير، قاضاه على أربعة آلاف ألف دينار، وثلاثين ألف دينار، وخمسين دينارا ذهبا طيبة وازنة يؤديها إلى أمير المؤمنين، وقد قبض منها أمير المؤمنين مئة ألف، وبقي على موسى سائر ذلك، أجله أمير المؤمنين إلى سير رسول أمير المؤمنين إلى ابني موسى الذي بالأندلس، والذي فإفريقية، يمكث شهرا بالأندلس، وليس له أن يمكث وراء ذلك يوما واحدا، حتى يقفل راجعا بالمال، إلى ما كان من أفريقية

(هامش)

(1) وكانا قد أخرجا معه إلى الشام. (*)

ص 108

وما دونها، وليس لموسى أن يتكثر بشيء مما كان عليه من العمل، منذ استخلف الله أمير المؤمنين من ذمة أو فئ أو أمانة، فهو لأمير المؤمنين يأخذه ويقتضيه، ولا يحسبه موسى من غرامته، فإن أدى موسى الذي سمى أمير المؤمنين في كتابه هذا من المال، إلى ما قد سمى أمير المؤمنين من الأجل، فقد برئ موسى وبنوه وأهله ومواليه، وليست عليهم تبعة ولا طلبة في المال ولا في العمل، يقرون حيث شاؤوا، وما كان قبض موسى أو بنوه من عمال موسى إلى قدوم رسول أمير المؤمنين أفريقية، فهو من الذي على موسى من المال، يحسب له من الذي عليه، ما لم يقبض قبل وصول رسول أمير المؤمنين، فليس منه في شيء، وقد خلى أمير المؤمنين بين موسى وبين أهله ومواليه، ليس له ظلم أحد منهم، غير أن أمير المؤمنين لا يدفع إليه طارقا مولاه، ولا شيئا من الذي قد أباه عليه أول يوم. شهد أيوب ابن أمير المؤمنين، وداود ابن أمير المؤمنين، وعمر بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن الوليد، وسعيد بن خالد، ويعيش بن سلامة، وخالد بن الريان، وعمر بن عبد الله، ويحيى بن سعيد، وعبد الله بن سعيد، وكتبه جعفر بن عثمان في جمادى سنة تسع وتسعين (1).

(هامش)

(1) يتبين من مراجعة هذه النسخة عدة ملاحظات: أ - أنها كتبت سنة 99 في جمادى بين سليمان بن عبد الملك وموسى بن نصير. تقول: إن سليمان بن عبد الملك مات لعشر بقين من صفر سنة 99 (ابن الأثير) في حين أن موسى ابن نصير مات قبله، سنة 97 (ابن عذاري - الحلة السيراء - ابن الأثير). ب - عبد العزيز بن موسى - والي الأندلس - قتل سنة 97 وقيل سنة 98، وأبوه حي، (ابن الأثير - الحلة السيراء - النجوم الزاهرة). ج - عبد الله بن موسى كان على أفريقيا، عزل عن أفريقيا سنة 97 واستعمل سليمان عليها محمد بن يزيد القرشي. د - أيوب ابن أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، مات سنة 98 وكان وليا لعهد أبيه. ه‍ - أمر سليمان بن عبد الملك واليه محمد بن يزيد أن يأخذ عبد الله بن موسى ويعذبه ويستأصل منه أموال بني موسى، فأخذه محمد ثم قتله بعد ذلك وتولى قتله خالد بن أبي حبيب القرشي. و- لم يرد في كتابه أو حجابه جعفر بن عثمان، ورد في تاريخ خليفة: أن ليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان كان كاتب الرسائل، وحاجبه أبو عبيد (وقيل أبو عبيدة: عن اليعقوبي): ز - في الغرامة الموضوعة على موسى، اختلف في قيمتها:  ابن عذاري 1 / 46 ثلاثمئة ألف دينار، وقيل ألف ألف دينار وفي الحلة السيراء 2 / 334 مائة ألف دينار. (*)

ص 109

فلما تقاضيا أمر سليمان يزيد بن مهلب بتخلية موسى وابنيه، والكف عنه، فأعانه يزيد بن المهلب بمئة ألف دينار، فأهدى إليه موسى حقا فيه ثلاث خرزات، فبعث بهن إلى ابن المهلب فقومهن، فقوبلن بثلاث مئة ألف دينار. فقال ابن المهلب لموسى: أتدري لم قلت لأمير المؤمنين أنا أضمنه؟ قال: لا، قال: خفت أن يجيبه قبلي من لا يرى فيك ما أنا عليه لك، وكانت لك يد عند المهلب رحمه الله (1). فأحببت أن أجزيك بها عنه، وبالله لو لم تفعل وأبيت عن المقاضاة ما شاكتك عندي شوكة حتى لا يبقى لآل المهلب مال ولا ثوب. قال: فجزاه موسى خيرا.

 ذكر يد موسى إلى المهلب

قال: وذكروا أن مخبرا أخبرهم من شيوخ الشام ممن أدرك القوم وصحبتهم قال: كانت اليد التي أسداها موسى إلى المهلب، أن عبد الملك بن مروان لما ولى العراق بشرا أخاه، جعل منه موسى بن نصير وزيرا ومديرا لأمره، وقد كانت الأزارقة أفسدت ما هنالك، فأمر عبد الملك بشر بن مروان أن يولي المهلب قتالهم (2)، وكان بشر للمهلب مسيئا، فلما قدم بشر العراق، وعلم المهلب برأيه، اعتزل بشرا، فلم يأته، فولى بشر بن مروان قتال الأزارقة، الوليد بن خالد، فانهزم وافتضح، ثم ولى بشر رجلا آخر، فلم يصنع شيئا، فكتب عبد الملك إلى بشر أخيه، يفند رأيه فيما صنع، ويوبخه لما خالف أمره، فصمم بشر على رأيه، فلما استغلظ أمر الأزارقة، استشار بشر بن مروان أسماء بن خارجة، وعكرمة بن ربعي، وموسى بن نصير في أمر المهلب. فأما

(هامش)

(1) كان بشر بن مروان قد هم بالمهلب، فكتب إليه موسى بن نصير يحذره فتمارض المهلب ولم يأته حين أرسل إليه. (العقد الفريد 4 / 428). وكان عبد الملك قد أمر بشر أن يولي المهلب حرب الأزارقة، وكان بشر كره ذلك فقال: والله لأقتلنه: فقال له موسى بن نصير: أيها الأمير إن للمهلب حفاظا وبلاء ووفاء... (أنظر تفاصيل الخبر في الكامل للمبرد 3 / 1297 وما بعدها). (2) نص كتاب عبد الملك إلى أخيه بشر بشأن تولية المهلب حرب الأزارقة في الطبري 7 / 207 (حوادث سنة 74) وفي الكامل للمبرد 3 / 1297 نص آخر للكتاب. قال المبرد: وكتب بشر إلى أخيه عبد الملك يعلمه أن المهلب عليل وأن بالبصرة من يغني غناءه، وذلك لأن بشر شق عليه ما أمره به عبد الملك بشأن عبد الملك. والخبر فيهما مختلف عما هنا بالأصل، قارن النصوص الثلاثة. (*)

ص 110

عكرمة وأسماء فوافقا هواه فيه، وأما موسى فقال له: إن أمير المؤمنين لا يحتملك على المعصية، وليس مثل المهلب في فضله وشرفه، وقدره في قومه ومعرفته، أقصيت أو جفوت، فإن كان بلغك أمر يقال إنه أتاه، فاكشفه عنه، حتى تعلم عذره فيه أو ذنبه، فلم يزل موسى يردد أمر المهلب على بشر، ويعطفه عليه، بعد أن كان هم بقتله، إن ظفر به، حتى أرسل إليه بشر فجاءه المهلب فتنصل إليه المهلب، فقبل منه بشر، وولاه ما كان يلي، فبعث إليه موسى بخمسين فرسا وبمئة بعير. وقال له: استعن بها على حربك، ثم لم يزل موسى قائما بأمره عند بشر، حتى هلك بشر. قالوا: وأخبرنا محمد بن عبد الملك أن المهلب في الأيام التي كان يخاف فيها بشر بن مروان على نفسه، خرج إلى مال له، فكان فيه وحده، فأتى رجل إلى بشر وعنده موسى، فقال له: إن كان لك أيها الأمير بالمهلب حاجة فابعث خيلا إلى موضع كذا وكذا، فإنه فيه في غار وحده، وليس معه فيه رجل من قومه. فبعث بشر خيلا. قال: فنهض من مجلسه موسى، فوجه إليه غلاما له، ثم قال له: أنت حر لوجه الله، إن أنت سبقت هذه الخيل حتى تنتهي إلى موضع كذا وكذا، فتأتي المهلب فتقول: إن موسى يقول لك: النجاة بنفسك، فخرج غلام موسى حتى انتهى إلى المهلب فأعلمه، فاستوى على فرسه فذهب، وأتت الخيل فلم تجد أحدا هناك، فانصرفوا راجعين إلى بشر فأعلموه بذلك.

ذكر قتل عبد العزيز بن موسى بالأندلس

 قال: وذكروا أن محمد بن عبد الملك أخبرهم قال: أقام موسى بن نصير مع سليمان بن عبد الملك يطلب رضاه، حتى رضي عنه، وابنه عبد الله بن موسى على أفريقية وطنجة والسوس، وابنه عبد العزيز على الأندلس كما هو، فلما بلغ عبد العزيز الذي فعل سليمان بأبيه موسى تكلم بكلام خفيف حملته عليه حمية لما صنع بأبيه على حسن بلائه، فنميت إلى سليمان، فخاف سليمان أن يخلع (1)، فكتب إلى حبيب بن أبي عبيدة (2)، وابن وعلة التميمي، وسعد بن

(هامش)

(1) في النجوم الزاهرة 2 / 235 قتلوه في سنة 99 لكونه خلع طاعة سليمان. (البيان المغرب 1 / 47). (2) في البيان المغرب 1 / 47: ابن أبي عبد وفي النجوم الزاهرة والطبري: ابن أبي عبيد . (*)

ص 111

عثمان بن ياسر، وعمرو بن زياد اليحصبي، وعمر بن كثير، وعمرو بن شرحبيل، كتب إلى كل رجل منهم كتابا يعلمه بالذي بلغه عن عبد العزيز بن موسى، وما هم به من الخلع، وأنه قد كتب إلى عبد الله بن موسى يأمره بإشخاصهم إلى عبد العزيز، وأعلمه إنما دعاه إلى ذلك الذي أحب من مكانفتكم، لأنه بإزاء العدو، وأعطاهم العهود، أن من قتله منهم فهو أمير مكانه. وكتب إلى عبد الله بن موسى: إني نظرت فإذا عبد العزيز بإزاء عدو يحتاج فيه إلى الغناء والبلاء. فسأل أمير المؤمنين فأخبر أن معك رجالا، منهم فلان وفلان، فأشخصهم إلى عبد العزيز بن موسى، وكتب سليمان إلى عبد العزيز: أما بعد، فإن أمير المؤمنين علم ما أنت بسبيله من العدو، وحاجتك إلى الرجال أهل النكاية والغناء، فذكر له أن بأفريقية رجالا منهم، فكتب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن موسى يأمره بإشخاصهم إليك، فولهم أطرافك وثغورك، واجعلهم أهل خاصتك. وكتب إليهم سليمان: إني قد بعثت لكم بكتاب إلى أهل الأندلس بالسمع والطاعة لكم، والغدر في قتله، فإذا ولاكم أطرافه فأقروا عهدي على من قبلكم من المسلمين، ثم ارجعوا إليه حتى تقتلوه. فلما قدم الكتاب على عبد الله بن موسى بأفريقية، أشخص القوم، فخرجوا حتى قدموا على عبد العزيز بالأندلس بكتاب سليمان في إلطافهم وإكرامهم، فقربهم عبد العزيز وأكرمهم وحياهم، وقال لهم: اختاروا أي نواحي وثغوري شئتم، فضربوا الرأي فقالوا: إنكم إن فعلتم ما أنتم فاعلون، ثم رجعتم إليه من أطرافه، لم نأمن أن يميل معه عظيم الناس، فإن في يديه الأموال والقوة، من مواليه وغيرهم ولكن اعملوا رأيكم في الفتك به. قالوا: فإن هاهنا رجلا إن دخل معنا استقام لنا الأمر، ووصلنا إلى ما أردنا، وهو أيوب بن حبيب ابن أخت موسى. قال: فلقوه ودعوه إلى أنه إن قتله فهو مكانه، فقبل وبايعوه على ذلك، ثم إنهم أتوا عبد الله بن عبد الرحمن الغافقي، وكان سيد أهل الأندلس صلاحا وفضلا فأعلموه، ثم أقرأوه كتاب سليمان. فقال لهم: قد علمتم يد موسى عند جميعكم، صغيركم وكبيركم، وإنما بلغ أمير المؤمنين أمر كذب عليه فيه، والرجل لم ينزع يدا من الطاعة، ولم يخالف فيستوجب القتل وأنتم ترون وأمير المؤمنين لا يرى، فأطيعوني ودعوا هذا الأمر، فأبوا، ومضوا على رأيهم، فأجمعوا على قتله، فوقفوا له. فلما خرج لصلاة الصبح، ودخل القبلة وأحرم، وقرأ بأم القرآن الكريم، واستفتح (إذا وقعت الواقعة) ضربه حبيب بن أبي عبيدة ضربة، فدهش ولم يصنع شيئا، فقطع عبد العزيز الصلاة

ص 112

وخرج، وتبعوه فقتله ابن وعلة التميمي (1)، وأصبح الناس، فأعظموا ذلك، فأخرجوا كتاب سليمان بذلك، فلم يقبله أهل الأندلس، وولوا عليهم عبد الله بن عبد الرحمن الغافقي (2)، ووفد حبيب بن أبي عبيدة (3) برأس عبد العزيز بن موسى رحمهما الله (4).

 قدوم رأس عبد العزيز بن موسى على سليمان

 قال: وذكروا أن سليمان لما ظن أن القوم قد دخلوا الأندلس، وفعلوا ما كتب به إليهم، عزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وطنجة والسوس، في آخر سنة ثمان وتسعين (5) في ذي الحجة، وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان، وموسى بن نصير لا يشعر بقتل عبد العزيز ابنه. فلما دخلوا على سليمان، ووضع الرأس بين يديه، بعث إلى موسى، فأتاه، فلما جلس وراء القوم قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا موسى؟ فقال: نعم هذا رأس عبد العزيز بن موسى، فقام الوفد فتكلموا به. ثم إن موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يديك يا أمير المؤمنين، فرحمة الله تعالى عليه، فلعمر الله ما علمته نهاره إلا صواما، وليله إلا قواما، شديد الحب لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير المؤمنين، شديد الرأفة بمن وليه من المسلمين، فإن يك عبد العزيز قضى نحبه، فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان بالحياة شحيحا، ولا من الموت هائبا، وليعز على عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل.

(هامش)

(1) في النجوم الزاهرة: قتله وهو في صلاة الفجر حبيب بن أبي عبيد بن عقبة بن نافع الفهري. وفي ابن الأثير 3 / 241: فدخلوا عليه... فضربوه بالسيوف ضربة واحدة وانظر البيان المغرب 1 / 47. (2) في الحلة السيراء 2 / 334 أيوب ابن أخت موسى بن نصير. وفي البيان المغرب: الحر بن عبد الرحمن الثقفي. (3) أنظر ما تقدم قريبا بشأن اسمه. (4) قيل في أسباب قتله غير ذلك: أنظر ابن الأثير 3 / 241 نفح الطيب 1 / 281. وإن كان ما تقدم أولا هو المعتمد، قال ابن الأثير: وكانوا يعدونها من زلات سليمان. وقال ابن عذاري: من هفوات سليمان التي لم تزل تنقم عليه. (5) في ابن الأثير وابن عذاري والنجوم الزاهرة: سنة 97. (*)

ص 113

فرد سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصا المسلمين، المنابذ لأمير المؤمنين، فمهلا أيها الشيخ الخرف. فقال موسى: والله ما بي من خرف، ولا أنا من الحق بذي جنف (1) ولن ترد محاورة الكلام مواضع الحمام، وأنا أقول كما قال العبد الصالح (2). (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون) [يوسف: 18] قال: ثم قال موسى: أفتأذن في رأسه يا أمير المؤمنين؟ وأغرورقت عيناه، فقال له سليمان: نعم، فخذه، فقام موسى فأخذه، وجعله في طرف قميصه الذي كان عليه، ثم أدير في السماطين، فوقع الطرف الآخر عن منكبيه، وهو يجره لا يحفل به ولا يرفعه. فقال له خالد بن الريان: ارفع ثوبك يا بن نصير، فالتفت موسى وقال: ما أنت وذاك يا خالد. قال سليمان: دعه، حسبه ما فعلنا به. فلما توارى موسى قال سليمان: دعه إن في الشيخ لبقية بعد. ثم إن موسى التفت إلى حبيب بن أبي عبيدة (3) فكلمه بكلام غليظ حتى ذكر أمرا خفيا من نسبه (4) فأفحمه ثم إن سليمان كشف عن أمر عبد العزيز، فألفى ذلك باطلا، وأن عبد العزيز لم يزل صحيح الطاعة، مستقيم الطريقة، فلما تحقق عند سليمان باطل ما رفع إليه عن عبد العزيز ندم، وأمر بالوفد فأخرجوا، ولم ينظر في شيء من حوائجهم، وأهدر عن موسى بقية القضية، التي كان سليمان قاضاه عليها، وكان سليمان قد إلى قبل خلافته، لئن ظفر بالحجاج بن يوسف وموسى بن نصير ليعزلنهما، ثم لا يليان معه من أمور الناس شيئا. فلما رضي عن موسى جعل يقول: ما ندمت على شيء ندامتي، أن لا كنت خلوا من اليمين على موسى في أن لا أوليه شيئا، ما مثل موسى أستغني عنه. قال: وإن موسى دخل على سليمان في آخر يوم من شعبان عند المغرب، وهو مستشرف على سطح وعنده الناس. فلما رآه سليمان قال: عندكم والله من إن سألتموه عن الهلال ليخبرنكم أنه قد رآه وقد غم الهلال يومئذ على سليمان

(هامش)

(1) جنف: بعد. (2) إشارة إلى يعقوب عليه السلام، أبو يوسف لما أخبره بنوه، أخوة يوسف، ما حصل ليوسف. (3) ابن أبي عبيدة، وتقدمت إليه الإشارة. وانظر جمهرة الأنساب لابن حزم ص 178 وفيه: فولد أبي عبيدة: حبيب قاتل عبد العزيز بن موسى بن نصير. (4) لعله يشير إلى نافع بن عبد بن قيس جد أبيه أبي عبيدة الذي نخس بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع هبار بن الأسود - إذ حملت من مكة إلى المدينة فأسقطت جنينا. (جمهرة الأنساب لابن حزم ص 119 و177). (*)

ص 114

والناس. فلما دنا موسى وسلم قال له سليمان: أرأيت الهلال بعد يا موسى؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ها هو ذاك، وأشار بأصبعه إلى ناحية، وهو مقبل على سليمان بوجهه، فرمى الناس بأبصارهم حيث أشار موسى، فأبصروا الهلال فلما جلس موسى قال: إني والله لست بأحدكم بصرا، ولكني أعلمكم بمطالعه ومناسقه (1). وقال: فخرج فلقيه يزيد بن المهلب، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، بينا أنت أدهى الناس وأعلمهم، أقبلت تسوق نفسك حتى تضعها في يد سليمان. فقال له موسى: أما علمت يا أبا خالد، أن الهدهد يهتدي إلى الماء ويعرفه من الأرض الفضاء ومن الحزونة والسهل، ويبصر القريب منه والبعيد، ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة وما أشبهها، فلا يبصر ذلك حتى يقع فيه فيؤخذ؟ وذلك أنه لا حذر ينجي من قدر، ولا رأي ولا بصر، وكذلك كنت وسليمان بن عبد الملك. قال: وذكروا أن سليمان خرج يوما إلى بعض أمواله متنزها فخرج معه موسى بن نصير، فعرضت عليهم غنم حلب، نحو من ألف رأس، فأعجب سليمان ما رأى منها، والتفت إلى موسى، فقال له: هل رأيت مثلها قط؟ قال: نعم، إن لأدنى موالي لأصنافا كثيرة، فالتفت إليه سليمان، وقال له: أدنى مواليك؟ قال: نعم فرددها سليمان كالمغضب عليه. قال موسى: نعم يا أمير المؤمنين، وما هذا فيما أفاء الله عز وجل على يدي، لقد كان الألف تباع بعشرة دراهم أو دونها، ولقد كانت في بعض المواطن وما لها قيمة، ولا يلتفت إليها أحد يا أمير المؤمنين، ولغير ذلك مما أفاء الله عليهم، ولقد رأيت العلج العتل (2)، والوصيف الفاره (3)، والجارية الحسناء، وإن أكثر ما تبلغ خمسين درهما، لكثرة ذلك من صنوفه كلها. ولقد رأيت الذود (4) من الإبل، لا تبلغ قيمته عشرين درهما، أكثر يا أمير المؤمنين ما أعلمتك فيما تسمع؟ قال سليمان: لا، وحمد الله. قال: وذكروا أن موسى دخل على سليمان يوما وعنده الناس، فلما رآه سليمان قال: ذهب سلطان الشيخ، وأبصره موسى حين تكلم، فلم يفهم ما قال

(هامش)

(1) أي طرقه ومساراته. (2) العتل: الجافي الغليظ. (3) الفاره: الماهر القوي. (4) الذود من الإبل: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل إلى الثلاثين من الجمال. (*)

ص 115

فلما سلم قال: يا أمير المؤمنين رأيتك لما نظرتني داخلا تكلمت بكلام ظننتك عنيتني به. قال: نعم. قلت: ذهب سلطان الشيخ. قال له موسى: أما والله لئن ذهب سلطان الشيخ لقد أثر الله به في دينه أثرا حسنا، ولقد كنت طويل الجهاد في الله حريصا على إظهار دين الله، حتى أظهره الله، وكنت ممن أتم الله به موعده لنبيه، ولئن أدبر معك، لقد كان مع آبائك ناضر الغصن، ميمون الطائر (1)، فقال سليمان: هو ذاك. فقال موسى: وهو ذاك، فلم يزل يرددها سليمان، ويرددها موسى حتى سكت سليمان.

 سؤال سليمان بن عبد الملك موسى عن أخباره وأفعاله

 قال: وذكروا أن سليمان قال لموسى: ما الذي كنت تفزع إليه في مكان حربك من أمور عدوك؟ قال: التوكل، والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين. قال له سليمان: هل كنت تمتنع في الحصون والخنادق، أو كنت تخندق حولك؟ قال: كل هذا لم أفعله. قال: فما كنت تفعل؟ قال: كنت أنزل السهل، وأستشعر الخوف والصبر، وأتحصن بالسيف والمغفر، وأستعين بالله، وأرغب إليه في النصر. قال له سليمان: فمن كان من العرب فرسانك؟ قال حمير. قال: فأي الخيل رأيت في تلك البلاد أصبر؟ قال: شقرها. قال: فأي الأمم كانوا أشد قتالا؟ قال: إنهم يا أمير المؤمنين أكثر مما أصفهم. قال له: أخبرني عن الروم. قال: أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم (2)، نساء في مواكبهم (3)، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأوعال (4)، ترقل في أجبال، لا يرون عارا في هزيمة تكون لهم منجاة. قال: فأخبروني عن البربر. قال: هم يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب، لقاء ونجدة، وصبرا وفروسية، وسماحة وبادية، غير أنهم يا أمير المؤمنين غدر. قال: فأخبرني عن الأشبان، قال: ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. قال: فأخبرني عن الإفرنج. قال: هناك يا أمير المؤمنين العدد والعدة، والجلد والشدة وبين ذلك أمم كثيرة، ومنهم العزيز، ومنهم الذليل، وكلا قد

(هامش)

(1) يشير موسى إلى حسن علاقاته بعبد العزيز وعبد الملك والوليد ابنه، واحترامهم له وتقديمهم إياه. (2) أي سريعو الجريان على خيولهم، شبههم بالعقاب لسرعة طيرانه. (3) يعني يتجملون في مواكبهم كالنساء. (4) الأوعال جمع وعل. وترقل: تسرع. (*)

ص 116

لقيت بشكله، فمنهم المصالح، ومنهم المحارب المقهور، والعزيز البذوخ (1). قال: فأخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم، أكانت عقبا؟ (2) قال: لا يا أمير المؤمنين، ما هزمت لي راية قط، ولا فض لي جمع، ولا نكب المسلمون معي نكبة، منذ اقتحمت الأربعين، إلى أن شارفت الثمانين. قال: فضحك سليمان وقال: فأين الراية التي حملتها يوم مرج راهط (3) مع الضحاك؟ قال: تلك يا أمير المؤمنين زبيرية، وإنما عنيت المروانية. فقال: صدقت، وأعجبه قوله. وذكروا أن محمد بن عبد الملك حدثهم عن ريان بن عبد العزيز بن مروان قال: إنا الجلوس عند سليمان وهو على سطح فسيح، والناس يدخلون حتى دخل موسى من الباب، فتحرك بنا سقف السطح من شدة وطئه، فسلم ثم جلس، فذكر سليمان بيت الذهب الذي فتحه قتيبة بن مسلم، فجعل يردد فيه. فقال له موسى: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ بيت لا يكون فيه عشرة آلاف دينار، والله لقد بعثت إلى أخيك الوليد بثور من زمرد أخضر، يصب فيه اللبن فيخضر وإنه لمن أدنى ما بعثت به إليه. ولقد أصبت كذا وكذا، وأصاب المسلمون كذا وكذا، وجعل يحدث سليمان بالعجائب. قال ريان: حتى والله أبهته. ولم يزل موسى بباب سليمان عظيم المنزلة عنده (4). فلما كانت سنة ثمان (5) وتسعين تجهز سليمان للحج، وأمر موسى بالشخوص والحج معه، فذكر له أنه ضعيف، فأمر له سليمان بثلاثين نجيبا موقورة جهازا، وبحجرة من حجره وجائزة، فحج سليمان، وحج معه موسى، فبينما هو يسير يوما إذ دعا بموسى، فناداه خالد ابن الريان، وكان موسى يساير رجلا، فلم يلتفت موسى إلى ندائه، ثم دعا به، فناداه خالد أيضا، فلم يلتفت إليه. فقال له الرجل: غفر الله لك، ألم تسمع دعاء أمير

(هامش)

(1) البذوخ: المتكبر. (2) يريد هل كانت معاقبة، أي تنتصر مرة وتهزم أخرى ثم تنتصر. (3) معركة مرج راهط جرت بين الجناح الأموي اليمني المتمثل بمروان بن الحكم، والجناح الأموي القيسي المتحالف مع ابن الزبير، وحمل لواؤه الضحاك بن قيس، وقد تقدمت الإشارة إلى أن موسى بن نصير كان يحارب تحت راية الضحاك. وبعد المعركة وهزيمة الضحاك التجأ إلى عبد العزيز بن مروان. (4) ما نكب به موسى بن نصير، من تغريمه أموالا عظيمة، وقتل ابنيه واستئصال أموالهم وبنيهم لا يشير إلى عظيم منزلة. (5) في ابن الأثير سنة 97، وذكر أنه حج بالناس سنة 98 عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو أمير مكة. (أنظر الطبري حوادث سنة 97 و98 ومروج الذهب 4 / 450 والحلة السيراء 2 / 334). (*)

ص 117

المؤمنين؟ إني أخافه وأخاف أن يغضب. فقال موسى: ذاك لو كان عبد الملك أو الوليد. فأما هذا فإنه يرضيه ما يرضي الصبي، ويسخطه ما يسخطه، وستري ذلك. ثم تقدم موسى حتى لحق ولصق بسليمان. فقال له: أين كنت يا بن نصير؟ فقال له: يا أمير المؤمنين أين دوابنا من دوابك؟ إني لمنذ دعاني أمير المؤمنين لفي كد، حتى لحقت أمير المؤمنين، فضحك سليمان وأمر له بدواب من مراكبه، فسايره وحادثه، ثم انصرف عنه، فلحق الرجل به. فقال له موسى: كيف رأيت؟ قال: أنت كنت به أعلم، فسار سليمان حتى نزل المدينة في دار يزيد بن رومان. قال: فحدثني بعض أهل المدينة، أن موسى قال يوما لبعض من يثق به: ليموتن إلى يومين رجل قد بلغ ذكره المشرق والمغرب، فلم نظن إلا أنه يعني الخليفة، فلما كان اليوم الثاني، لم أشعر وأنا في مسجد الرسول، حتى سمعت الناس يقولون: مات موسى بن نصير، فإذا هو، وصلى سليمان عليه، ودفن رحمه الله (1). وذكروا أن عبد الله بن صخر أخبرهم قال: بينما موسى يسير يوما على دابة له، وكان طويلا جسيما، فمر به رجلان من قريش، وقد تدلت رجلاه وانحنتا، وهما لا يعرفانه. فقالا: أدبر والله الشيخ، فسمعهما موسى، فقال لهما: من أنتما؟ فانتسبا له. فقال: أما والله إن أميكما لمما أفاء الله على يدي هذا الشيخ، فأهداهما إلى أبويكما. فقالا له: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: موسى بن نصير، فقالا: فمرحبا وأهلا، صدقت وبررت، والله ما عرفناك: فقال: لا عليكما، قد والله أدبر عني وبقي مني. وذكروا أن إبراهيم بن سليمان أخبرهم عمن حدثه عن موسى، أن الناس قحطوا بأفريقية (2) عاما، فخرج موسى بالناس فاستسقى، فأمر رجلا فقص على الناس ورققهم، فجعل يذكر، ثم إنه انتحى في الدعاء للوليد بن عبد الملك

(هامش)

(1) في مكان موته أقوال: في الحلة السيراء 2 / 334 فتوفي في طريقه (إلى الحج). وفي ابن الأثير 3 / 244 والنجوم الزاهرة 2 / 235 موته بطريق مكة. وفي نفح الطيب 1 / 286. آل أمره إلى أن وجهه إلى قومه بوادي القرى. فمات بها. قال: وقد نص ابن بشكوال على أنه مات بوادي القرى. (2) الخبر في ابن الأثير 3 / 195 والبداية والنهاية 9 / 196 باختلاف واختصار. (*)

ص 118

فأكثر. فأرسل إليه موسى: إنا لم نأت هاهنا للدعاء للوليد، فأقبل على ما له جئنا فعدنا، فلم يلتفت، ورجا أن يبلغ الوليد، فأمر به فسحب، حتى خرج من الناس، ثم قام موسى ودعا بالناس، فما برحنا حتى انصبت السماء بمثل القرب، فأتى موسى بدابة من دوابه. فقال: والله لا ركبت، ولكن أخوض الطين، وانصرف ماشيا، ومشى الناس، فسمعته يومئذ يردد في دعائه: اللهم الشهادة في سبيلك، أو موتا في مدينة رسولك. قال: فذكروا أن عرفة بن عكرمة حدثهم عن مشايخ من مراد عن رجل منهم كان مع موسى بالأندلس قال: كنت أبصر من مجاري الشمس والقمر شيئا، فوقع في عند موسى، وقيل له عنده علم، فوالله ما شعرت حتى أتيت فأخذت، فأدخلت عليه، فإذا بين يديه عصفور مذبوح، مشقوق البطن قال لي: أدخل يدك فانظر. قلت: أصلح الله الأمير، طلقت امرأته البتة إن كان يعلم قليلا أو كثيرا، إلا ما يعلم الناس من مجاري الشمس والقمر. قال: فأمر بي فنحيت، ثم دعا برجل من الأعاجم، قال: أدخل يدك، فانظر ماذا ترى، وكان من الأسارى، فأدخل يده في جوف العصفور، فحركه طويلا، ثم قلبه، ثم قال للترجمان بلسانه: إنه ليس يموت هاهنا، ولكنه يموت بالمشرق في بلاد العرب، فنظر إليه موسى، ثم قال له: قاتلك الله ما أعلمك، قال: ثم أمر به فقتل، ثم دعاني، فأخذ علي الإيمان أن لا أتكلم به ما بقي، ففعلت. وكان دخول موسى المغرب سنة تسع وسبعين، في جمادى الأولى، وكان يومئذ ابن ستين سنة، فأقام بأفريقية ست عشرة سنة، وقفل منها سنة خمس وتسعين، ومات سنة ثمان وتسعين، وولى عبد الله بن موسى بأفريقية وطنجة والسوس، بعد موسى أبيه سنتين، وكان عزله عنها في ذي الحجة، سنة سبع وتسعين، وقيل سنة تسع وتسعين (1).

 ذكر ولاة الأندلس بعد موسى بن نصير

 قال: وذكروا أن عبد العزيز بن موسى ولي الأندلس بعد أبيه سنة، ثم قتل، وولي بعده أيوب بن حبيب ستة أشهر، ثم الحارث (2) بن عبد الرحمن ثلاث سنين

(هامش)

(1) أنظر ما سبق. (2) في البيان المغرب ونفح الطيب: الحر. وولي بعده السمح بن مالك الخولاني (نفح الطيب والبيان المغرب) وقد استخلفه على = (*)

ص 119

ونصفا، ثم عنبسة (1) سنتين وتسعة أشهر، ثم يحيى بن سلمة سنة وثلاثة أشهر (2)، ثم الهيثم بن عبيد (3) سنة وشهرين، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أربع سنين، ثم عبد الملك بن قطن الفهري (4) أيضا سنة، ثم بلج (5) بن بشر القشيري ستة أشهر، ثم ثعلبة بن سلامة الجذامي خمسة أشهر، ثم أبو الخطار [حسام] بن ضرار الكلبي ثلاث سنين، ثم ثوابة بن مسلمة (6) سنة وشهرا. فلما وهن سلطان بني أمية بالمشرق، ولوا على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن القرشي الفهري، من غير عهد من الخليفة، فملك الأندلس عشر سنين، إلى أن دخل عليه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان.

 ذكر حج سليمان مع عمر بن عبد العزيز

 وذكروا أن عبيد الله بن عبد المؤمن أخبرهم عن رجاء بن حيوة: أنه لما حج سليمان بن عبد الملك، ومعه عمر بن عبد العزيز، وذلك في سنة ثمان وتسعين (7)

(هامش)

= الأندلس إسماعيل بن أبي المهاجر أمير أفريقيا. قال ابن عذاري: وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والي أفريقيا، وكان حلوله في رمضان سنة 100. وقد ملكها كما في صبح الأعشى 5 / 243 سنتين وتسعة أشهر. (1) هو عنبسة بن سحيم الكلبي. (نفح الطيب - ابن عذاري - صبح الأعشى) قال في الصبح: وليها أربع سنين وخمسة أشهر. (2) وليها كما في البيان المغرب سنة 107 وقدمها في شوال. وفي الصبح قال: وليها سنتين وستة أشهر. في النفح: ولي قبله عذرة بن عبد الله الفهري. وذكر بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي ولي سنة 110 وقدمها في شعبان (نفح - ابن عذاري) وذكر قبل عثمان في صبح الأعشى حذيفة بن الأحوص القيسي. (3) في نسخة من نفح الطيب: عدي، وأشار في الهامش: عبيد. ولايته سنتان وأياما عند ابن عذاري، وخمسة أشهر في صبح الأعشى. وذكر بعده في النفح محمد بن عبد الله الأشجعي. (4) في البيان المغرب قبل عبد الملك بن قطن عقبة بن الحجاج وقد وليها خمس سنين، وأشار في الصبح إلى ولاية عبد الملك أربع سنين. (5) في صبح الأعشى: مفلح. (6) في نفح الطيب والبيان المغرب: سلامة. وبعد موته قال ابن عذاري: بقيت الأندلس دون أمير أربعة أشهر فاجتمع الناس على الصميل بن حاتم، فوقع نظره ونظرهم على يوسف بن عبد الرحمن الفهري. (7) تقدم أنه لم يحج سنة 98 (أنظر صفحة 116 حاشية رقم 5). (*)

ص 120

فلما انتهى إلى عقبة عسفان، نظر سليمان إلى السرادقات، قد ضربت له ما بين أحمر وأخضر وأصفر، وكان يوسف بن عمر قد عمل له باليمن ثلاثة سرادقات، فكانت تضرب له، وكان الذي منها للناس من خز أخضر، والذي يليه من خز أصفر، ثم الذي يكون هو فيه من وشي أحمر، محبر من حبرات (1) اليمن، مزرر بالذهب والفضة، وفي داخله فسطاط، فيه أربعة أفرشة من خز أحمر، مرافقها من وشي أصفر، وضربت حجب نسائه من وراء فسطاطه، وحجر بنيه وكتابه وحشمه قرب ذلك. فلما استوى سليمان في قبة العقبة، ونظر إلى ما نصب له. قال: يا عمر، كيف ترى هاهنا؟ قال: أرى دنيا عريضة، يأكل بعضها بعضا، أنت المسؤول عنها، والمأخوذ بها (2)، فبينما هما كذلك، إذ طار غراب من سرادق سليمان، في منقاره كسرة، فصاح الغراب. فقال سليمان: ما يقول هذا الغراب يا عمر؟ قال عمر: ما أدري، ولكن إن شئت أخبرتك بعلم. قال سليمان: أخبرني. فقال عمر: هذا غراب طار من سرادقك بكسرة، هو يأكلها، وأنت المأخوذ بها، والمسؤول عنها من أين دخلت، وأين خرجت؟ قال سليمان: إنك لتجئ بالعجائب يا أبا حفص. فقال عمر: أفلا أخبرك بأعجب من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبرني. قال: من عرف الله تعالى كيف يعصاه، ومن عرف الشيطان كيف يطيعه، ومن أيقن بالموت كيف يهنيه العيش ويسوغ له الطعام، ومن أيقن بالنار كيف يضحك! فقال سليمان: نغصت علينا ما نحن فيه يا أبا حفص، ومن يطيق ما تطيق أنت يا عمر؟ أنت والله الموفق المطيع (3).

 ما قال طاووس اليماني لسليمان بمكة

 قالوا: إن إبراهيم بن مسلم أخبرهم عن رجاء بن حيوة، أنه نظر إلى طاووس اليماني يصلي في المسجد الحرام، فانصرف رجاء إلى سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ بمكة قد حج ذلك العام. فقال: إني رأيت طاووس في المسجد، فهل لك أن ترسل إليه؟ قال: فأرسل إليه سليمان. فلما أتاه قال رجاء لسليمان: يا أمير المؤمنين، لا تسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يتكلم. فلما

(هامش)

(1) حبرات اليمن: من برود اليمن. (2) في حيلة الأولياء 5 / 272 بما فيها. (3) الخبر في حلية الأولياء 5 / 272. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب