الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 121

قعد طاووس سكت طويلا. ثم قال: ما أول شيء خلق! فقلنا: لا ندري. فقال أول شيء خلق: القلم. ثم قال: أتدرون ما أول شيء كتب؟ قلنا: لا، قال: فإن أول ما كتب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم كتب القدر خيره وشره إلى يوم القيامة. ثم قال: أتعلمون من أبغض الخلق إلى الله؟ قلنا: لا، فقال: إن أبغض الخلق إلى الله تعالى عبد أشركه الله في سلطانه، فعمل فيه بمعاصيه، ثم نهض. قال رجاء: فأظلم علي البيت، فما زلت خائفا عليه حتى توارى، فرأيت سليمان يحك رأسه بيده، حتى خشيت أن تجرح أظفاره لحم رأسه. ما قال أبو حازم (1) لسليمان قالوا: وإن يحيى بن المغيرة أخبرهم عن عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، قال لما حج سليمان، ودخل المدينة زائرا لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ابن شهاب الزهري ورجاء بن حيوة، فأقام بها ثلاثة أيام، فقال: أما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل له: بلى هاهنا رجل يقال له أبو حازم، فبعث إليه، فجاءه، وهو أقور (2) أعرج، فدخل عليه، فوقف منتظرا للإذن. فلما طال عليه الإذن: وضع عصيته ثم جلس. فلما نظر إليه سليمان: ازدرته عينه. فقال له: يا أبا حازم. ما هذا الجفاء الذي ظهر منك، وأنت توصف برؤية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع فضل ودين تذكر به؟ فقال أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ فقال سليمان: إنه أتاني وجوه أهل المدينة وعلماؤها وخيارها، وأنت معدود فيهم ولم تأتني. فقال أبو حازم: أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها. قال سليمان: صدق الشيخ، فقال: يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب. قال سليمان: صدقت يا أبا حازم. فكيف القدوم على الآخرة؟ (3) قال: نعم، أما المحسن (4) فإنه يقدم

(هامش)

(1) هو سلمة بن دينار المخزومي، أبو حازم الأعرج عالم المدينة وقاضيها، كان عابدا زاهدا. (2) أقور: أي أعور. (3) في مروج الذهب 3 / 217: على الله. (4) العبارة في مروج الذهب: فكالغائب يأتي أهله مسرورا. (*)

ص 122

على الآخرة كالغائب يقدم على أهله من سفر بعيد. وأما قدوم المسئ فكالعبد الآبق (1)، يؤخذ فيشد كتافه، فيؤتى به إلى سيد فظ غليظ، فإن شاء عفا، وإن شاء عذب. فبكى سليمان بكاء شديدا، وبكى من حوله. ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال: اعرض نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله. قال سليمان: يا أبا حازم، وأين أصيب تلك المعرفة في كتاب الله، قال عند قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم) [الإنفطار: 14]. قال سليمان: يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين، قال سليمان: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قال أبو حازم: أعقل الناس من تعلم العلم والحكمة وعلمهما الناس. قال سليمان: فمن أحمق الناس؟ فقال: من حط في هوى رجل وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: فما سمع الدعاء؟ قال أبو حازم: دعاء المخبتين (2) الخائفين. فقال سليمان: فما أزكى الصدقة عند الله؟ قال: جهد المقل (3). قال: فما تقول فيما ابتلينا به؟ قال: أعفنا عن هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة تلقيها [إلي]. فقال: ما أقول (4) في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين؟ فسفكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام، وعطلت به الحدود، ونكثت به العهود، وكل ذلك على تنفيذ الطينة (5)، والجمع لمتاع الدنيا المشينة، ثم لم يلبثوا أن ارتحلوا عنها، فيا ليت شعري ما تقولون؟ وماذا يقال لكم؟ فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا أقور، أمير المؤمنين يستقبل بهذا؟ فقال أبو حازم: اسكت يا كاذب، فإنما أهلك فرعون هامان، وهامان فرعون، إن الله قد أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، أي لا ينبذونه وراء ظهورهم. قال سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ما فسد منا؟ فقال: المأخذ في ذلك قريب يسير يا أمير المؤمنين، فاستوى سليمان جالسا من اتكائه. فقال: كيف ذلك؟ فقال: تأخذ المال من حله، وتضعه في أهله، وتكف الأكف عما نهيت، وتمضيها فيما أمرت به. قال سليمان: ومن

(هامش)

(1) الآبق: الهارب من سيده. (2) في حيلة الأولياء 3 / 235: قال: دعاء المحسن للمحسنين. (3) زيد في حلية الأولياء: جهد المقل إلى يد البائس الفقير لا يتبعها من ولا أذى. (4) في حلية الأولياء: قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عنوة.. (5) يريد: الطبيعة الإنسانية التي جبلت بالأنانية وحب السيطرة والسلطة. (*)

ص 123

يطيق ذلك؟ فقال أبو حازم: من هرب من النار إلى الجنة، ونبذ سوء العادة إلى خير العبادة. فقال سليمان: أصحبنا يا أبا حازم، وتوجه معنا تصب منا ونصب منك. قال أبو حازم: أعوذ بالله من ذلك، قال سليمان: ولم يا أبا حازم؟ قال: أخاف أن أركن إلى الذين ظلموا، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف المماة (1). فقال سليمان: فتزورنا. قال أبو حازم: إنا عهدنا الملوك يأتون العلماء ولم يكن العلماء يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثم صرنا الآن في زمان صار العلماء يأتون الملوك، والملوك تقعد عن العلماء فصار في ذلك فساد الفريقين جميعا. قال سليمان: فأوصنا يا أبا حازم وأوجز. قال: اتق الله ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. قال سليمان: ادع لنا بخير. فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فبشره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ (2) إلى الخير بناصيته. قال سليمان: زدني. قال: قد أوجزت، فإن كنت وليه فاغتبط، وإن كنت عدوه فاتعظ، فإن رحمته في الدنيا مباحة، ولا يكتبها في الآخرة إلا لمن اتقى في الدنيا، فلا نفع في قوس ترمى بلا وتر. فقال سليمان: هات يا غلام ألف دينار، فأتاه بها، فقال: خذها يا أبا حازم. فقال (3): لا حاجة لي بها، لأني وغيري في هذا المال سواء، فإن سويت بيننا وعدلت أخذت، وإلا فلا، لأني أخاف أن يكون ثمنا لما سمعت من كلامي. وإن موسى بن عمران عليه السلام لما هرب من فرعون ورد ماء مدين، ووجد عليه الجاريتين تذودان (4). فقال: ما لكما معين؟ قالتا: لا، فسقى لهما، ثم تولى إلى الظل. فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يسأل الله أجرا. فلما أعجل الجاريتان الانصراف (5)، أنكر ذلك أبوهما. فقال لهما: ما أعجلكما اليوم؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا قويا سقى لنا. قال: ما سمعتماه يقول؟ قالتا: تولى إلى الظل وهو يقول: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). فقال ينبغي لهذا أن

(هامش)

(1) زيد في الحلية: ثم لا يكون لي منه نصيرا. (2) في الحلية: فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى. (3) العبارة في الحلية: فقال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا، وردي عليك بذلا. (4) إشارة إلى قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان)، تذودان: أي أن الجاريتين كانتا تمنعان غنمهما من الورود إلى الماء. (5) أي أنهما سقيا غنمهما بسرعة على غير عادتهما. (*)

ص 124

يكون جائعا. تنطلق إحداكما له، فتقول له: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا)، فأتته إحداهما تمشي على استحياء، أي على إجلال له، قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فجزع موسى من ذلك، وكان طريدا في الفيافي والصحاري. فقال لها: قولي لأبيك إن الذي سقى يقول: لا أقبل أجرا على معروف اصطنعته، فانصرفت إلى أبيها فأخبرته. فقال: اذهبي فقولي له: أنت بالخيار بين قبول ما يعرض عليك أبي وبين تركه، فأقبل: فإنه يحب أن يراك، ويسمع منك، فأقبل والجارية بين يديه، فهبت الريح فوصفتها له (1)، وكانت ذات خلق كامل. فقال لها: كوني ورائي، وأريني سمت الطريق. فلما بلغ الباب قال: استأذني لنا، فدخلت على أبيها، فقالت: إنه مع قوته لأمين. فقال شعيب: وبم علمت ذلك؟ فأخبرته ما كان من قوله عند هبوب الريح عليها. فقال: أدخليه فدخل، فإذا شعيب قد وضع الطعام، فلما سلم رحب به وقال: أصب من طعامنا يا فتى. فقال موسى: أعوذ بالله. قال شعيب: لم؟ قال: لأني من بيت قوم لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا. قال شعيب: لا والله ما طعامي لما تظن، ولكنه عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف، ونطعم، فجلس موسى فأكل. وهذه الدنانير يا أمير المؤمنين إن كانت ثمنا لما سمعت من كلامي، فإن أكل الميتة والدم في حال الضرورة، أحب إلي من أن آخذها. فأعجب سليمان بأمره إعجابا شديدا. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، إن الناس كلهم مثله. قال: لا. قال الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته قط، فقال أبو حازم: صدقت، لأنك نسيت الله ونسيتني، ولو ذكرت الله لذكرتني. قال الزهري: أتشتمني؟ قال له سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أو ما علمت أن للجار على الجار حقا. قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رئي قوم من أراذل الناس تعلموا العلم، وأتوا به الأمراء، استغنت الأمراء عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وهلكوا، ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لكانت الأمراء تهابهم، وتعظمهم. فقال

(هامش)

(1) العبارة في حلية الأولياء: وكانت امرأة ذات عجز فكانت الرياح تصرف ثوبها فتصف لموسى عليه السلام عجزها فيغفى مرة ويعرض أخرى. (*)

ص 125

الزهري: كأنك إياي تريد، وبي تعرض؟ قال (1): هو ما تسمع. قال سليمان: يا أبا حازم عظني وأوجز. قال: حلال الدنيا حساب، وحرامها عذاب، وإلى الله المآب فاتق عذابك أو دع. قال: لقد أوجزت، فأخبرني ما مالك؟ قال: الثقة بعدله، والتوكل على كرمه، وحسن الظن به، والصبر إلى أجله، واليأس مما في أيدي الناس. قال يا أبا حازم: ارفع إلينا حوائجك؟ قال: رفعتها إلى من لا تخذل دونه (2)، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني رضيت، مع أني قد نظرت فوجدت أمر الدنيا يؤول إلى شيئين: أحدهما لي، والآخر لغيري. فأما ما كان لي، فلو احتلت عليه بكل حيلة ما وصلت إليه قبل أوانه وحينه الذي قد قدر لي. وأما الذي لغيري: فذلك لا أطمع فيه، فكما منعني رزق غيري، كذلك منع غيري رزقي، فعلام أقتل نفسي في الإقبال والإدبار؟ قال سليمان: لا بد أن ترفع إلينا حاجة نأمر بقضائها. قال: فتقضيها؟ قال: نعم، قال فلا تعطني شيئا حتى أسألكه، ولا ترسل إلي حتى آتيك، وإن مرضت فلا تعدني، وإن مت فلا تشهدني. قال سليمان: أبيت يا أبا حازم أبيت، قال: أتأذن لي أصلحك الله في القيام، فإني شيخ قد زمنت (2). قال سليمان: يا أبا حازم، مسألة ما تقول فيها؟ قال: إن كان عندي علم أخبرتك به، وإلا فهذا الذي عن يسارك، يزعم أنه ليس شيء يسأل عنه إلا وعنده له علم، يريد محمدا الزهري، فقال له الزهري: عائذ بالله من شرك أيها المرء. قال: أما من شري فستعفي، وأما من لساني فلا. قال سليمان: ما تقول في سلام الأئمة من صلاتهم: أواحدة أم اثنتان، فإن العلماء لدينا قد اختلفوا علينا في ذلك أشد الاختلاف؟ قال: على الخبير سقطت، أرميك في هذا بخبر شاف: حدثني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم في الصلاة عن يمينه، حتى يرى بياض خده الأيمن، ثم يسلم عن يساره، حتى يرى بياض خده الأيسر، سلاما يجهر به. قال عامر: وكان أبي يفعل ذلك. وأخبرني سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى عمر بن الخطاب وابن عمر

(هامش)

(1) في حلية الأولياء: قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع. (2) أي شخت وعجزت. (3) في الحلية: رفعت حوائجي إلى من لا يختزن الحوائج. (*)

ص 126

يسلمان من الصلاة كذلك. فقال الزهري: اعلم ما تحدث به أيها الرجل، فإن الحديث عن رسول الله صعب شديد إلا بالتثبت واليقين. قال أبو حازم: قد علمته ورويته قبل أن تطلع أضراسك في رأسك. فالتفت الزهري إلى سليمان قال: أصلحك الله. إن هذا الحديث ما سمعت به من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، فضحك أبو حازم، ثم قال: يا زهري، أحطت بحديث رسول الله كله؟ قال: لا. قال: فثلاثة أرباعه؟ قال: لا، قال: فثلثه؟ فقال: أراني ذلك قد رويت وبلغني. فقال أبو حازم: فهذا من الثلث الذي لم يبلغك، وبقي عليك سماعه. فقال سليمان: ما ظلمك من حاجك، ثم قام مأذونا له. فأتبعه سليمان بصره، ينظر إليه، ويعجب به. ثم التفت إلى جلسائه فقال: ما كنت أظن بقي في الدنيا مثل هذا. قال: ثم انصرف سليمان من الحج قافلا إلى الشام. وذكروا (1) أن غلمانا لسليمان نازعوا غلمانا لعمر بن عبد العزيز، فتعدى غلمان عمر على غلمان سليمان، فرفع ذلك إلى سليمان، وأغرى بعمر. فقال له سليمان: إلا تنصف غلماني، وهو كالمغضب مما فعل بهم؟ فقال عمر: ما علمت هذا قبل هذا الوقت، وما سمعت هذا إلا في مقامي هذا. فقال سليمان: كذبت لقد علمته. فقال عمر: كذبت والله ما كذبت ولا تعمدت كذبا منذ شددت مئزري على نفسي، وإن في الأرض عن مجلسك لسعة ثم خرج عمر، فتجهز وهو يريد مصر ليسكنها، فبلغ ذلك سليمان، فندم على ما كان من قوله، وأرسل إليه أن لا يبرح (2)، وأمر رجلا يقول له: لا تعاقب أمير المؤمنين على قوله، ولا تذكر له هذا، فترك عمر الخروج وجلس، وأقل الاختلاف إلى سليمان.

 ذكر وفاة سليمان واستخلافه عمر بن عبد العزيز

 قال: وذكروا أن خالد بن أبي عمران أخبرهم، وكان قد أدرك القوم، قال: مرض سليمان مرضه الذي مات فيه، وذلك في شهر صفر سنة تسع وتسعين،

(هامش)

(1) الخبر في العقد الفريد 4 / 430 باختلاف واختصار. (2) العبارة في العقد: فدخل (عمر) عليه، فقال له: يا بن عمي، إن المعاتبة تشق علي، ولكن والله ما أهمني أمر قط من ديني ودنياي إلا كنت أول من أذكره لك. (وانظر سيرة عمر لابن عبد الحكم ص 28). (*)

ص 127

فدخل عليه عمر بن عبد العزيز عائدا، فدعا سليمان بنين له صغارا، فقلدهم السيوف، فوقعوا في الأرض. فقال سليمان: قد أفلح من كان له بنون كبار (1). فقال عمر: ليس هكذا قال الله. فقال سليمان: وكيف قال الله؟ فقال عمر: قال الله تعالى: (قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى) [الأعلى: 24 - 25]، فقال سليمان: إني أريد أن أعهد إليك، وأوليك أمور الناس بعدي. فقال عمر: لا حاجة لي بذلك. فقال سليمان: ولم ذلك؟ فقال: لأني لا أريد أخذ أموالهم، فإذا لم أرد أخذ أموالهم، فما الذي يدعوني إلى ضرب ظهورهم؟ فقال سليمان: لا بد من هذا. فقال عمر: ولم ذلك؟ ولك في ولد عبد الملك سعة، فأعفني من هذا يعف الله عنك. فقال له سليمان: والله لا أوليها غيرك بعدي. فقال عمر: وما الذي يدعوك إلى هذا؟ فقال سليمان: إني رأيت في منامي قائلا يقول لي: إن عمر بن عبد العزيز لك جنة ووقاية وجسر تتخطاه. فأولت ذلك - إن شاء الله - أن أوليك الأمر من بعدي، لتكون توليتي لك جنة من النار، وجسرا أركبه، لأنجو عليه من عذاب يوم القيامة ثم ليزيد بعدك (2)، فإنه أرشد ولد عبد الملك. فقال عمر: إن هذا الأمر لا يسعني بيني وبين الله عز وجل، أن أتقدم على أمة محمد، وفيهم خير مني. فقال سليمان: أما في آل أمية وعبد شمس فلا أعلم خيرا منك. فقال عمر: إن لم يكن في آل أمية وعبد شمس خير مني بقولك، ففي آله عبد مناف وآل هاشم من هو خير مني. فقال سليمان: لا، فقال عمر: ففي آل تيم وعدي خير مني، ومل ء الأرض مثلي. فقال سليمان: إنما تريد القاسم وسالما؟ (3) قال: نعم، إياهما أردت. فقال سليمان: رجلان صالحان ذكرت، ولكنهما ليسا للملك، ولا الملك لهما، ولا من معدن الملك هما، مع أنه ليس بزمان خلافة، ولا أيام يملك فيها مثل القاسم وسالم، إنما هو زمان ملك وسيف وإنما هي ذئاب تعدو ليست على غنم تؤمن. فقال عمر: الله المعين، المصلح

(هامش)

(1) العبارة في العقد الفريد 4 / 430 (قال رجزا): إن بني صبية صغار * أفلح من كان له كبار (2) ذكر رجاء بن حيوة أن سليمان بن عبد الملك استشاره إلى من يعهد، قال رجاء: فقلت: إلى عمر بن عبد العزيز، قال: كيف نصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة، من كان منهما حيا؟ قلت: تجعل الأمر بعده ليزيد. قال: صدقت. (العقد الفريد 4 / 430 وانظر الطبري 6 / 550). (3) يريد القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر. (*)

ص 128

لمن أراده. فسكت سليمان، وظن أن عمر رضي بما قال له، ثم دعا سليمان بصحيفة ثم كتب ويده ترتعش من شدة العلة، لا يعلم أحد بما يخط، فكتب عهد عمر، ثم من بعد عمر ليزيد، ثم ختم عليه بيده، متحاملا لذلك، وعمر لا يشك أن الأمر فيه قد صار لغيره، ثم دعا سليمان برجاء بن حيوة، فقال له: خذ هذا الكتاب فإنه عهدي، فاجمع إليه قريشا، وأمراء الأجناد، وأعلمهم أنه عهدي، وأن من كان اسمه في كتابي هذا فهو الخليفة بعدي، فمن نزع عن ذلك وأباه، فالسيف السيف، والقتل القتل، ثم رفع سليمان يديه إلى السماء فقال: اللهم إن ذنوبي قد عظمت وجلت، وهي صغيرة يسيرة في جنب عفوك، فاعف عني يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اعف عني ما بيني وبينك من الذنوب، واحمل عني ما بيني وبين خلقك، وأرضهم بما شئت، يا أرحم الراحمين. اللهم إن كنت تعلم مني وتطلع من ضميري، أني إنما أردت بعهدي هذا وتوليتي من وليت فيه وجهك ورضاك فاغفر لي وارحمني. ثم تخلخل لسانه، فلم يقو على الكلام من ثقل العلة، ثم سكت وأغمي عليه. قال رجاء: فخرجت وعمر معي. فقلت له: ما أراك إلا صاحب الأمر، فقال عمر: ما أحسب ذلك. فقلت، ومن عسى أن يكون في آل مروان من يريد سليمان توليته غيرك؟ فقال عمر: ما أراه عهد إلا لأحد الرجلين: القاسم أو سالم. قال رجاء: فقلت له: أسمعت ذلك منه؟ فقال عمر ما سمعته، ولكن دار بيني وبينه كلام آنفا قبل دخلتك، لا أشك أنه أراد أحدهما. قال رجاء: فقلت: والله هذا الاختلاف في أمة محمد، والفتن الظاهرة القاصمة للظهور، المفنية للأنفس. فقال عمر: ولم ذلك؟ فقال رجاء: لأن قريشا ونحوها لا ترضى بهذا، ولا تصير إليه، ولا آل أمية وعبد شمس حيث كانت من الأرض. فقال عمر: إن الأمر لله من قبل ومن بعد، يؤتي الملك من يشاء، فقال رجاء: فخرجت إلى الناس وأعلمتهم بعهد أمير المؤمنين. فقالوا: سمعا وطاعة (1)، ثم أعلمتهم بابتهاله ورغبته إلى الله، وما قال، فلم يشك الناس أن عمر بن عبد العزيز صاحبهم، فأرادوا أن يسلموا عليه

(هامش)

(1) في الطبري وابن الأثير: أن سليمان أمر كعب بن حامد العبسي صاحب شرطته أن يدعو أهل بيته، ثم أمر رجاء بعد اجتماعهم أن يخبرهم ويأمرهم بالمبايعة بعد سليمان لمن ذكره وعهد إليه في كتابه. ثم دخلوا على سليمان فطلب إليهم أن يبايعوا لمن سمي في الكتاب فبايعوه رجلا رجلا. (وانظر البداية والنهاية 9 / 206). (*)

ص 129

بالخلافة، وذلك لما أيقنوا بهلاك سليمان. فقلت لهم: لا تعجلوا فإن عمر قال لي: أرى سليمان ما أراد إلا القاسم أو سالما، وهذا أفطن مني بهذا الأمر لأنه كان حاضرا، وسليمان يكتب العهد بيده، فضج الناس من ذلك واختلفوا. فقالت فرقة: سمعنا وأطعنا، لمن استخلف علينا، كان من كان. وقالت فرقة: لا، والله لا نقر بهذا، ولا نطيعه ولا يستخلف علينا إلا مرواني، ولا تبقى منا عين تطرف في الدنيا. فقال رجاء لعمر: كيف ترى قولي، والله لئن كان هذا إنه لهو البلاء المبين، وإنها الفتنة قد فتح بابها. فقال عمر: أرجو الله أن يغلقه إن شاء الله. قال رجاء: فقلت لعمر: ما نحن صانعون إن كان هذا؟ فقال عمر: لا أدري ما أقول في موقفي هذا. قال رجاء: ولم؟ فقال عمر: لأني والله ما وقفت موقفا قط، لا رأي لي فيه ولا بصيرة، إلا موقفي هذا، فإني قد أجدني قد ذهب روعي (1)، وفقدت رأيي، ولا أدري ما أستقبل من أمري، ولا ما أستدير، ولو استطعت الفرار لفررت من موضعي هذا، حيث لا أدرك ولا أرى. قال رجاء: فلما قاولني بهذا علمت أنه للذي قال من فقده لرأيه وبصيرته. قال رجاء: فقلت له: يا أبا حفص، فأين نحن من المفزع إلى الله، والرغبة في الصلاح علينا وعلى المسلمين، ويعزم لنا على ما فيه الخير والخيرة؟ فقال عمر: بلى والله هذا الملجأ وهذا الحصن الحصين والمعقل الشديد. قال رجاء: فبتنا ليلتنا لا نألوا على أنفسنا في الدعاء، والاستخارة لله، فلما أصبحنا قلت لعمر: ما ترى يا أبا حفص؟ فقال: أرى أن أسمع وأطيع لمن في هذا الكتاب فإن كان أحد الرجلين قدم سمعت له وأطعت، ورددت من أدبر عنه بمن أقبل عليه حتى أموت. قال فبينما هما كذلك إذ أقبل وصيف يسعى إليهما يقول: قد قضى أمير المؤمنين نحبه، فخرجا، فإذا بالعويل والنوح، فرجعا إلى المسجد ترعد فرائصهما، والناس يسلمون على عمر بالخلافة وهو يقول: لست به، حتى دخل المسجد، وقد اجتمع الناس، وهو مستعدون للفتنة والقتال، إن خالف العهد ما يريدون. فقام رجاء إلى جانب المنبر: فحمد الله، وحض الناس على الطاعة، ولزوم الجماعة، وأعلمهم بما في الفرقة والاختلاف، من ذهاب الدين والدنيا، ثم أخرج العهد، ففضه بمحضر منهم، ثم قرأه عليهم. فإذا فيه (2): بسم الله

(هامش)

(1) الروع: بضم الراء، القلب، أي ذهب عقلي. (2) نسخة كتاب العهد باختصار في الطبري 6 / 551 ابن الأثير 3 / 252 البداية والنهاية 9 / 206 = (*)

ص 130

الرحمن الرحيم هذا ما عهد به عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين عهد أنه يشهد لله بالربوبية والوحدانية، وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه إلى محسني عباده بشيرا، وإلى مذنبيهم نذيرا، وأن الجنة حق، وأن النار حق مخلوقتان، خلق الجنة رحمة (1) لمن أطاعه، والنار عذابا لمن عصاه (2)، وأوجب العفو لمن عفا عنه، وأن إبليس في النار، وأن سليمان مقر على نفسه بما يعلم الله من ذنوبه [وبما تعلمه نفسه من معصية ربه]، موجب على نفسه استحقاق ما خلق من النقمة راج لما وعد من الرحمة [ووعد من العفو] والمغفرة، وأن المقادير كلها خيرها وشرها من الله (3)، وأنه هو الهادي وهو الفاتن، لم يستطع أحد لمن خلق الله لرحمته غواية، ولا لمن خلق لعذابه هداية، وأن الفتنة في القبور بالسؤال عن دينه ونبيه الذي أرسل إلى أمته حق يقين، لا منجي لمن خرج من الدنيا إلى الآخر من هذه المسألة [إلا لمن استثناه عز وجل في علمه]. وسليمان يسأل الله بواسع فضله وعظيم منه، الثبات على الحق عند تلك المسألة، والنجاة من أهوال تلك الفتنة، وأن الميزان حق يقين، يضع الموازين القسط ليوم القيامة، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه [يومئذ] فأولئك هم الخاسرون، وأن حوض محمد صلى الله عليه وسلم يوم الحشر والموقف حق، عدد آنيته كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا. وسليمان يسأل الله برحمته أن لا يرده عنه عطشان وأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة، بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يعلم بعدهما حيث الخير، وفيمن الخير من هذه الأمة، وأن هذه الشهادة المذكورة في عهده هذا، يعلمها [الله] من سره وإعلانه، وعقد ضميره، وأن بها عبد ربه قي سالف أيامه، وماضي عمره، وعليها أتاه يقين ربه، وتوفاه أجله، وعليها يبعث بعد الموت إن شاء الله، وأن سليمان كانت له بين هذه الشهادة بلايا وسيئات، لم يكن له عنها محيص (4)، ولا دونها مقصر بالقدر السابق والعلم النافذ في محكم الوحي، فإن يعف ويصفح، فذلك ما عرف منه قديما، ونسب إليه حديثا، وتلك

(هامش)

= وفي صبح الأعشى نسخة كتاب العهد نقلا عن المؤلف 9 / 360. (1) في صبح الأعشى: رحمة وجزاء. (2) في الصبح: والنار نقمة وجزاء لمن عصاه. (3) راجع العبارة في الصبح. (4) في الصبح: محيد. (*)

ص 131

الصفة التي وصف بها نفسه في كتابه الصادق، وكلامه الناطق، وإن يعاقب وينتقم فيما قدمت يداه، وما الله بظلام للعبيد، وإني أحرج على من قرأ عهدي، وسمع ما فيه من حكمه، أن ينتهي إليه في أمره ونهيه، بالله العظيم وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدع الإحن (1)، ويأخذ بالمكارم، ويرفع يديه إلى السماء بالابتهال الصحيح (2)، والدعاء [الصحيح، والصفح] الصريح، يسأله العفو عني، والمغفرة لي، والنجاة من فزعي، والمسألة في قبري، لعل الودود، أن يجعل منكم مجاب الدعوة بما [من الله] علي من صفحه يعود إن شاء الله. وإن ولي عهد ي فيكم، وصاحب أمري بعد موتي [في جنده ورعيته وخاصته وعامته] (3)، في كل من استخلفني الله عليه، الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز ابن عمي لما بلوت من باطن أمره وظاهره، ورجوت الله بذلك وأردت رضاه ورحمته إن شاء الله، ثم ليزيد بن عبد الملك من بعده، فإني ما رأيت منه إلا خيرا، ولا اطلعت منه على مكروه، وصغار ولدي وكبارهم إلى عمر، إذ رجوت ألا يألوهم رشدا وصلاحا، والله خليفتي عليهم [وعلى جماعة المؤمنين والمسلمين]، وهو أرحم الراحمين، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله. ومن أبى عهدي هذا وخالف أمري فالسيف، ورجوت أن لا يخالفه أحد ومن خالفه فهو ضال مضل يستعتب (4) فإن أعتب، وإلا فالسيف، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله القديم الاحسان (5).

 أيام عمر بن عبد العزيز

 قال: وذكروا عن خالد بن أبي عمران أنه قال: إني لحاضر يوم قرئ عهد سليمان في المسجد بدمشق (6) على الناس، فما رأيت يوما أكثر باكيا ولا داعيا له

(هامش)

(1) الإحن: الضغائن والأحقاد. (2) في الصبح: بالضمير النضوح. (3) زيادة عن الصبح، وهذه الفقرة في الصبح استعمل فيها ضمير الغائب بدل المتكلم كما هو في الأصل. (4) يستعتب أي يراجع ويعاتب حتى يرجع عما هو فيه. (5) ما ورد بين معكوفتين في الكتاب زيادة عن نسخته في صبح الأعشى. (6) في مصادر ترجمته أنه مات ودفن بدابق من أرض قنسرين (الطبري - ابن الأثير - البداية والنهاية - مروج الذهب). (*)

ص 132

بالرحمة من ذلك اليوم، فلم يبق محب ولا مبغض ولا خارجي ولا حروري (1) إلا أخذ الله له بقلوبهم، وابتهلوا بالدعاء وأخلصوا له بالسؤال بالعفو من الله، ورضي الناس أجمعون فعله، قال خالد: ثم بايع الناس لعمر في المسجد بيعة تامة جامعة طيبة بها النفوس، لا يشوبها غش، ولا يخالطها دنس، قال خالد: وسمعت رجاء يقول لما تمت البيعة: إني مهما شككت في شيء فإني لم أشك يوم البيعة لعمر بالنجاة، والرحمة لسليمان إن شاء الله، واستفتح عمر ولايته ببيع أموال سليمان، ورباعه (2) وكسوته، وجميع ما كان يملكه، فبلغ ذلك أربعة وعشرين ألف دينار، فجمع ذلك كله، وجعله في بيت المال، ثم دخل على زوجته فاطمة ابنة عبد الملك، قال لها: يا فاطمة، فقالت: لبيك يا أمير المؤمنين، فجعل يبكي، وكان لها محبا، وبها كلفا، ثم استفاق من بكائه، فقال لها: اختاريني، أو اختاري الثوب الذي عمل لك أبوك، وكان قد عمل لها أبوها عبد الملك ثوبا منسوجا بالذهب، منظوما بالدر والياقوت، أنفق عليه مائة ألف دينار. فقال لها: إن اخترتني فإني آخذ الثوب فأجلعه في بيت المال، وإن اخترت الثوب، فلست لك بصاحب. فقال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين من فراقك، لا حاجة لي بالثوب. فقال عمر: وأنا أفعل بكل خصلة، أجعل الثوب في آخر بيت المال، وأنفق ما دونه، فإن وصلت إليه أنفقته في مصالح المسلمين، وإنما هو من أموال المسلمين أنفقت فيه، وإن بقي الثوب ولم أحتج إليه، فلعل أن يأتي بعدي من يرده إليك. قالت: افعل يا أمير المؤمنين ما بدا لك. ثم دخل عليه ابنه، وعليه قميص تذعذع. فقال له عمر: ارفع قميصك يا بني، فوالله ما كنت قط بأحوج إليه منك اليوم.

 ذكر قدوم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز

 قال: وذكروا عن عبد الأعلى بن أبي المشاور، أنه أخبرهم قال: قدم جرير شاعر أهل العراق وأهل الحجاز على عمر، أول ما استخلف، فأطال المقام ببابه، لا يصل إليه حتى قدم عليه عون بن عبد الله الهذلي (3)، وكان من عباد

(هامش)

(1) نسبة إلى خوارج حروراء. (بلد): (2) الرباع جمع ربع، الفصيل الذي ينتج في الربيع. (3) يريد عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. (*)

ص 133

الناس وخيارهم، وعليه جبة صوف وعمامة صوف قد أسدلها خلفه، فجعل يتخطى رقاب الناس من قريش، وبني أمية وغيرهم، لا يمنع ولا يحجب هو ومثله من أكابر الناس وخيارهم، وفضلاء العباد، وقريش لا يصلون ولا يدخلون فلما خرج عون بن عبد الله، اتبعه جرير بن الخطفي وهو يقول: يا أيها الرجل (1) المرخي عمامته * هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن فاحلل صفادي (2) فقد طال المقام به * وشطت (3) الدار عن أهلي وعن وطني قال: فضمن له عون ابن عبد الأعلى أن يدخله عليه. فلما دخل على عمر قال: يا أمير المؤمنين، هذا جرير بن الخطفي بالباب، يريد الإذن. فقال عمر: ما كنت أرى أحدا يحجب عني. قال: إنه يريد إذنا خاصا. قال له عمر: أله عن ذكره، ثم حدثه طويلا، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن جريرا بالباب: فقال: أله عن ذكره. قال: إذا لا أسلم من لسانه. فقال عمر: أما إذ قد بلغ منك خوف لسانه ما أرى فأذن له. فدخل جرير. فلما كان قيد رمح أو رمحين وعمر منكس رأسه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، ثم قال: إن الخلفاء كانت تتعاهدني فيما مضى بجوائز وصلات، وقد أصبحت إلى ذلك منك محتاجا. ثم أنشأ يقول: قد طال قولي إذا ما قمت مبتهلا * يا رب أصلح قوام الدين والبشر إنا لنرجو إذ ما الغيث أخلفنا * من الخليفة ما نرجو من المطر أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت * أم قد كفاني ما بلغت من خبر (4) ما زلت بعدك في (5) هم يؤرقني * قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادية * ولا يعود (6) لنا باد على حضر كم باليمامة (7) من شعثاء أرملة * ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

(هامش)

(1) في الأغاني 8 / 47: يا أيها القاري. (2) صفادي: تقييدي. (3) شطت الدار: بعدت. (4) في الأغاني: أم نكتفي بالذي بلغت من خبري. (5) في الأغاني: في دار تعرقني قد طال بعدك.. (6) في الأغاني: ولا يجود.. (7) في الأغاني: كم بالمواسم. (*)

ص 134

يدعوك دعوة ملهوف كأن به * مسا من الجن أو مسا من البشر (1) فإن تدعهم فمن يرجون بعدكم * أو تنج منها فقد أنجيت من ضرر هذي الأرامل قد قضيت حاجتها * فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر خليفة الله ماذا تأمرون بنا * لسنا إليكم ولا في دار منتظر أنت المبارك والمهدي سيرته * تعصى الهوى وتقوم الليل بالسور قال: فبكى عمر، وهملت عيناه، وقال: ارفع حاجتك إلينا يا جرير. قال جرير: ما عودتني الخلفاء قبلك. قال: وما ذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار (6)، وتوابعها من الحملان والكسوة. قال عمر: أمن أبناء المهاجرين أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أبناء الأنصار أنت؟ قال: لا. قال: أفقير أنت من فقراء المسلمين؟ قال: نعم. قال: فأكتب لك إلى عامل بلدك، أن يجري عليك ما يجري على فقير من فقرائهم. قال جرير: أنا أرفع من هذه الطبقة يا أمير المؤمنين. قال: فانصرف جرير. فقال عمر: ردوه علي. فلما رجع قال له عمر: قد بقيت خصلة أخرى، مني هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: إنها والله لمن خالص مالي، ولقد أجهدت لك نفسي. فقال جرير: والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال كسبته. ثم خرج، فلقيه الناس فقالوا له: ما وراءك؟ قال: جئتكم من عند خليفة يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء وإني عنه لراض (3).

دخول الخوارج على عمر بن عبد العزيز

 قال: وذكروا أن ابن حنظلة (4) أخبرهم قال: بعثني وعون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى خوارج خرجت عليه بالحيرة، رأسهم رجل من بني شيبان يقال له شوذب، وكتب معنا كتابا إليهم، فقدمنا عليهم، فبعثوا معنا إليه رجلين

(هامش)

(1) في ديوانه والأغاني: من النشر والنشر جمع نشرة وهي رقية يعالج بها المجنون أو المريض. (2) في الأغاني: درهم. (3) الخبر في الأغاني باختلاف وزيادة وحلية الأولياء 5 / 327 - 328. (4) هو محمد بن الزبير الحنظلي. والخبر في مروج الذهب 3 / 233 ابن الأثير 3 / 257 سيرة ابن عبد الحكم ص 112 العقد الفريد 2 / 401. والطبري 8 / 132. (*)

ص 135

أحدهما من العرب (1)، فأتينا بهما عمر، فدخلنا عليه وتركناهما بالباب. فقلنا له: إنا قد بلغنا عنك، وقد بعثوا معنا رجلين هما بالباب. قال: فتشوهما لا يكون معهما حديد أو شيء، ففعلنا، ثم إننا أدخلناهما عليه. فلما دخلا قالا: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام، اجلسا. فلما جلسا قال لهما عمر: ما الذي أخرجكم علينا؟ فقال العربي، وكان أشدهما كلاما، وأتمهما عقلا، أما إنا لم ننكر عليك عدلك ولا سيرتك، ولكن بيننا وبينك أمر، هو الذي يجمع ويفرق بيننا، فإن أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن لم تعطنا فلسنا منك ولست منا. فقال عمر: فما هو؟ فقال: خالفت أهل بيتك، وسميتهم الظلمة، وسميت أعمالهم المظالم، فإن زعمت أنك على الحق وأنهم على الباطل، فالعنهم وتبرأ منهم. فقال عمر: إنكم لم تتركوا الأهل والعشائر وتعرضتم للقتال إلا وأنتم في أنفسكم مصيبون، ولكنكم أخطأتم وضللتم، وتركتم الحق. أخبراني عن الدين، أواحد أو اثنان؟ قالا: لا بل واحد. قال: أفيسعكم في دينكم شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أبي بكر وعمر ما حالهما عندكم؟ قالا: أفضل الناس أبو بكر وعمر. قال: ألستما تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت العرب، فقاتلهم أبو بكر، فقتل الرجال، وسبى النساء والذرية؟ قالا: بلى. قال عمر: فلما توفي أبو بكر وقام عمر، ورد تلك النساء والذراري إلى عشائرهما، فهل تبرأ عمر من أبي بكر، ولعنه بخلافه إياه؟ قالا: لا. قال: فتتولونهما على خلاف سيرتهما. قالا: نعم. قال عمر: فما تقولان في بلال بن مرداس؟ (2) قالا: من خير أسلافنا. قال: أفليس قد علمتم أنه لم يزل كافا عن الدماء والأموال وقد لطخ أصحابه أيديهم فيها، فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى، أو لعنت إحداهما الأخرى؟ قالا: لا. قال: فتتولونهما على خلاف سيرتهما. قالا: نعم. قال عمر: فأخبراني عن عبد الله بن وهب حين خرج بأصحابه من البصرة يريدون أصحابهم، فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه، وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيفة، فقتلوا

(هامش)

(1) في مروج الذهب: أحدهما من بني شيبان والآخر فيه حبشية وفي الطبري وابن الأثير: مولى لبني شيبان حبشيا اسمه عاصم، ورجلا من بني يشكر و(في الطبري: من صليبة بني يشكر). (2) في المصادر المذكورة: أهل النهروان بدل بلال بن مرداس. (*)

ص 136

الرجال، وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، ثم قدموا على أصحابهم من الكوفة وهم كافون عن الدماء والفروج والأموال، هل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى، أو لعنت إحداهما الأخرى، قالا: لا. قال: فتتولونهما على خلاف سيرتهما. قالا: نعم. فقال عمر: فهؤلاء الذين اختلفوا بينهم في السيرة والأحكام لم يتبرأ بعضهم من بعض، ولا لعن بعضهم بعضا، وأنتم تتولونهم على خلاف سيرتهم فهل وسعكم في دينكم ذلك، ولا يسعني حين خالفت أهل بيتي في الأحكام والسيرة حتى ألعنهم وأتبرأ منهم؟ أخبراني عن اللعن: فرض على العبادة؟ قالا: نعم. فقال عمر: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي به من عهد منذ زمان. قال عمر: هذا رأس من رؤوس الكفار ليس لك عهد بلعنه منذ زمان، وأنا لا يسعني أن ألعن من خالفتهم من أهل بيتي، ألستم أنتم الذين تؤمنون من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفه، وتخيفون من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنه؟ فقالا: نبرأ إلى الله تعالى من هذه الصفة. فقال: بلى فسأخبركما عن ذلك، ألستما تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج والناس أهل كفر، فدعاهم أن يقروا بالله ورسوله، فمن أبى قاتله وخوفه، ومن أقر بهما أمنه وكف عنه، وأنتم اليوم من مر بكم يقر بهما قتلتموه، ومن لم يقر بهما أمنتموه وخليتم سبيله، فقال العربي (1): تالله ما رأيت حجيجا (2) أقرب مأخذا، ولا أوضح منهاجا منك، أشهد أنك على الحق، وأنا على الباطل. وقال الآخر: لقد قلت قولا حسنا، وما كنت لأفتات على أصحابي حتى ألقاهم (3) فلحق بأصحابه، وأقام الآخر عند عمر، فأجرى عليه العطاء والرزق حتى مات عنده (4).

(هامش)

(1) يريد مولى بني شيبان واسمه عاصم (أو الذي فيه حبشية). (2) أي قوي الحجة. (3) زيد في مروج الذهب: حتى أعرض قولك عليهم فانظر ما حجتهم (4) قيل إنه بقي خمسة عشر يوما ثم مات. أما الآخر فقد لحق بأصحابه وقتل معهم بعد موت عمر. قارن الخبر مع المصادر المذكورة، ففيه اختلاف وزيادة ونقصان فيما بينها، وبينها وبين الأصل. أعرضنا عن ملاحظة الفروقات بين النصوص للاختصار فارجع إليها. (*)

ص 137

وفاة عمر بن عبد العزيز

 قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن يزيد أخبرهم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن أبي زكريا (1)، أما بعد: فإذا نظرت في كتابي فأقدم: فقدم عليه فقال: مرحبا بابن أبي زكريا. قال: وبك يا أمير المؤمنين. قال: حاجة لي قبلك. قال: بين الأنف والعين حاجتك يا أمير المؤمنين، إن قدرت عليها. قال: لست أكلفك إلا ما تقدر عليه. قال: نعم، قال: أحب أن تثني على الله بمبلغ علمك، حتى إذا فرغت سألت الله أن يقبض عمر. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، بئس وافد أمة محمد أنا، هذا لا يحل لي. قال: فإني أعزم عليك بحق الله وبحق رسوله، وبحقي إن كان لي عليك حق إلا ما فعلته، فبكى ثم استرجع، ثم أقبل يثني على الله، وإنه ليبكي حتى إذا فراغ قال: اللهم إن عمر سألني بحقك وبحق رسولك وبحقه علي أن أدعو في قبضه إليك، فاقبض عمر إليك كما سأل ولا تبقني بعده، وجاء حينئذ بني لعمر فسقط في حجره، فقال: وهذا أي ربي معنا فإني أحبه. قال: فما كانوا إلا كخرزات في خط فانقطع الخيط، فأتبع بعضها بالسقوط بعضا. ذكر رؤيا عمر بن عبد العزيز قال: وذكروا عن مزاحم مولى عمر قال: أخبرتني فاطمة ابنة عبد الملك امرأة عمر قالت: كان لعمر بن عبد العزيز مكان يخلو فيه، فأبطأ علي ذات ليلة، فقلت لآتينه، فوجدته نائما، فهبته أن أوقظه، فما لبث إلا قليلا حتى رفع رأسه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا فاطمة. فقال: يا فاطمة لقد رأيت رؤيا ما رأيت أحسن منها. فقلت: حدثني بها يا أمير المؤمنين. قال: رأيت كأني في أرض خضراء لم أر أحسن منها،: ورأيت في تلك الأرض قصرا من زبرجد، ورأيت جميع الخلائق حول ذلك القصر، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج المنادي. فقال: أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقام النبي عليه الصلاة والسلام فدخل القصر، فقلت: سبحان الله، أنا في جمع فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسلم عليه، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج المنادي فنادى: أين أبو

(هامش)

(1) قارن مع سيرة ابن عبد الحكم ص 99 وفيه اختلاف. (*)

ص 138

بكر بن أبي قحافة؟ فقام أبو بكر فدخل، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج المنادي فنادى: أين عمر بن الخطاب، أين الفاروق؟ فقام عمر فدخل، فقلت: سبحان الله، أنا في ملأ فيهم جدي لم أسلم عليه، فما لبثت إلا يسيرا حتى خرج المنادي فقال: أين عثمان بن عفان؟ فقام عثمان فدخل، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج المنادي فنادى: أين علي بن أبي طالب؟ فقام فدخل، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج المنادي فنادى: أين عمر بن عبد العزيز. قال: فقمت فدخلت، فلما صرت في القصر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، وعثمان وعليا أمامه. فقلت: أين أقعد؟ لا أقعد إلا إلى جنب عمر. قال: فرأيت فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شابا حسن الوجه حسن الهيئة. فقلت لعمر: من هذا؟ قال: هذا عيسى ابن مريم عليه السلام، فما لبثت إلا قليلا حتى خرج عثمان بن عفان وهو يقول: الحمد لله الذي نصرني ربي، ثم خرج علي وهو يقول: الحمد لله الذي غفر لي ربي، ثم نودي لي: أين عمر بن عبد العزيز، فقمت فصرت بين يدي ربي فحاسبني، فلقد سألني عن النقير والفتيل والقطمير، حتى خفت أن لا أنجو، ثم قمت فخرجت فقيل لي: أثبت وتمسك على ما أنت عليه، فبينما أنا سائر، فإذا بجيفة قد علا نتنها الخلائق، فضربتها برجلي، وقلت لمن معي: لمن هذه الجيفة؟ فقيل لي: هذا الحجاج بن يوسف، فضربته برجلي، فقلت له: ما فعل الله بك يا حجاج؟ قال: يا أمير المؤمنين والله لقد قتلت بكل قتيل قتلته بسيف من نار، ولقد قتلت بسعيد بن جبير اثنين وسبعين قتلة. فقلت: فآخر أمرك ما هو؟ قال: أنا هاهنا أنتظر ما ينتظر من وحد الله، وآمن برسوله (1). قالت فاطمة: فلم يبق عمر بعد هذه الرؤيا إلا يسيرا، حتى مرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك لتترك ولدك عالة على الناس، فأوص بهم إلي، أكفك أمرهم، فإنك لم تمولهم شيئا، ولم تعطهم. فقال عمر: يا أبا سعيد، إن ولدي لهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم دعاهم عمر وهم أربعة عشر غلاما، فنظر إليهم عمر، وقد لبسوا الخشن من قباطي مصر (2) فاغرورقت عيناه بالدموع. قال

(هامش)

(1) الخبر مختصر في حلية الأولياء 5 / 337 والبداية والنهاية 9 / 332. (2) قباطي: ثياب تصنع في مصر، نسبة إلى أقباط مصر يصنعونها، ومنها الناعم الممتاز والخشن = (*)

ص 139

لهم: أوصيكم بتقوى الله العظيم، وليجل صغيركم كبيركم، وليرحم كبيركم صغيركم. ثم قال لمسلمة: يا أبا سعيد، إنما ولدي على أحد أمرين: إما عامل بطاعة الله فلن يضيعه الله، وإما عامل بمعصيته فلا أحب أن يعينه بالمال، قوموا عصمكم الله ووفقكم (1). ثم دعا رجاء بن حيوة فخلا به. فقال: يا رجاء، إن الموت قد نزل، وأنا أعهد إليك عهدا لا أعهده إلى غيرك، إذا أنا مت فكن ممن يقبرني، فإذا سويت علي اللبن، فارفع لبنة، ثم اكشف عن وجهي وانظر إليه، فإني قبرت ثلاثة رجال بيدي، وكشفت عن وجوههم، فنظرت وجوههم قد اسودت، وعيونهم قد برزت من وجوههم، فاكشف عن وجهي يا رجاء وانظر إليه، فإن رأيت شيئا من هذا، فاستر علي، ولا تعلم به أحدا، وإن رأيت غير ذلك، فأحمد الله عليه. قال رجاء: ففعلت ذلك، فلما سوينا عليه اللبن، رفعت لبنة وكشفت وجهه، فإذا وجهه مثل القمر ليلة البدر، وإذا على صدره صك فيه خط ليس من كتابة الآدميين: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب بالقلم الجليل، من الله العزيز العليم، براءة لعمر بن عبد العزيز من العذاب الأليم (2).

 ما علم به موت عمر رحمه الله في الأمصار

قال: وذكروا أن رجلا من أهل المدينة قال: وفد قوم من أهل المدينة إلى الشام، فنزلوا برجل في أوائل الشام موسع عليه، تروح عليه إبل كثيرة، وأبقار وأغنام، فنظروا إلى شيء لا يعلمونه، غير ما يعرفون من غضارة العيش، إذ أقبل بعض رعاته فقال: إن السبع عدا اليوم على غنمي، فذهب منها بشاة. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم جعل يأسف أسفا شديدا فقلنا بعضنا لبعض: ما عند هذا خير، يتأسف ويتوجع من شاة أكلها السبع!، فكلمه بعض القوم. قال له: إن الله تعالى قد وسع عليك، فما هذا التوجع والتأسف؟ قال: إنه ليس مما ترون، ولكن أخشى أن يكون عمر بن عبد العزيز قد توفي الليلة، والله ما تعدى السبع على الشاة إلا لموته، فأثبتوا ذلك اليوم، فإذا عمر قد توفي في ذلك اليوم.

(هامش)

= وهو ما كان أولاده يلبسونه. (1) الخبر في العقد الفريد 4 / 439 - 443 وحيلة الأولياء 5 / 333 - 334. (2) أنظر حلية الأولياء 5 / 326 البداية والنهاية 9 / 236. (*)

ص 140

وذكروا أنهم سمعوا رجلا يحدث ويقول: بينا رجل باليمن نائم على سطح له ذات ليلة، إذ تسور عليه كلب، فسمعه وهو يقول لهرة له: أي جنة، هل من شيء أصيبه، فإني والله أكال؟ فقال له الهرة: ما ثم شيء لقد غطوا الإناء، وأكفئوا الصحفة فقال لها: هل تدنيني من يد صبي، أو قدر لم تغسل، أشمها لترتد لي روحي؟ قالت الهرة: ما كنت لإخوانهم أمانتي، فمن أين أقبلت تشكو الكلل والجوع؟ قال: من الشام، شهدت وفاة عمر بن عبد العزيز، وحضرت جنازته. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. نور كان في الدنيا فطمس، ثم زالت عنه، وتنحت وفرت منه، وهابته خوفا من أن يعدو عليها، ثم انسل الكلب ذاهبا، فلما أصبح الرجل جعل يقول للهرة: أي جنة، جزاك الله عنا خيرا قال: فاستوبرت (1) الهرة، وذهبت فلم ترد بعد، فكتب ذلك اليوم فجاءهم موت عمر في ذلك اليوم. وذكروا أن زياد بن عبد الله أخبرهم قال: كان رجل في بعض كور الشام يعالج أندرا (2) له مع زوجته، وكان قد استشهد ابن لهما منذ زمان طويل، فنظر الرجل إلى فارس مقبل نحوهما. فقال الرجل لزوجته: يا فلانة، هذا والله ابني وابنك مقبلا، فنظرت المرأة فقالت: أخدعك الشيطان؟ إنك مفتون بابنك، وإنك تشبه به الناس كلهم، كيف يكون ابنك، وابنك استشهد منذ حين، فاستعاذ الرجل بالله من الشيطان الرجيم، ثم أقبل على أندره يعالجه، ودنا منهما الفارس، ثم نظر ثانية، قال: يا فلانة، ابني والله وابنك، فنظرت ودنا منهما الفارس، فلما وقف عليهما فإذا هو ابنهما. قال: فسلم عليهما وسلما عليه. فقالا له: يا بني أما كنت استشهدت منذ حين؟ قال: نعم. إلا أن عمر بن عبد العزيز توفي الليلة، فاستأذن الشهداء ربهم عز وجل في شهود جنازته، فأذن لهم، وكنت فيهم، فاستأذنت ربي في زيارتكما والنظر، فأذن لي، ثم ودعاه، وسلما عليه، ودعا لهما، ثم ذهب.

(هامش)

(1) استوبرت: توحشت، وخرجت عن الدار بعيدا إلى البرية. (2) الأندر: البيدر، والجرن الذي يدرس فيه القمح ونحوه. (*)

ص 141

ولاية يزيد بن عبد الملك بن مروان

 قال: وذكروا أن الأمر صار بعد عمر بن عبد العزيز (1)، إلى يزيد بن عبد الملك، بعد سليمان أخيه إليه بذلك، وإلى عمر، وكان يزيد قبل ولايته محبوبا في قريش بجميل مأخذه في نفسه، وهديه وتواضعه وقصده، وكان الناس لا يشكون إذا صار إليه الأمر، أن يسير بسيرة عمر لما ظهر منه. فلما صارت إليه الخلافة حال عما كان يظن به، وسار بسيرة الوليد أخيه، واحتذى على مثاله، وأخذ مأخذه (2)، حتى كأن الوليد لم يمت، فعظم ذلك على الناس، وصاروا من ذلك إلى أحوال يطول ذكرها، حتى هموا بخلعه، وجاءهم بذلك قوم من أشراف قريش، وخيار بني أمية، وكانت قلوبهم قد سكنت إلى هدي عمر، واطمأنت إلى عدله بعد النفار، والإنكار لسيرته، وعاد ذلك من قلوبهم إلى الرضا بأمره،

(هامش)

(1) في موت عمر بن عبد العزيز أقوال: في الطبري 8 / 137 وابن الأثير 5 / 58 كالأصل هنا: أن مرضا ألم به وكانت شكواه عشرين يوما. ولم يذكرا شيئا عن سبب مرضه. وفي البداية والنهاية: سبب وفاته السل. وفي العقد الفريد 2 / 280 قال: إن يزيد بن عبد الملك دس إليه السم مع خادم له. وفي فوات الوفيات: سقاه بنو أمية السم لما شدد عليهم. وفي ابن سعد 5 / 253 إشارة إلى أن عمر بن عبد العزيز لما أزعجه بنو مروان هددهم بالانسحاب إلى المدينة وجعلها شورى، فقد يكون هذا ما عجل باتخاذهم قرارا بإبعاده عن مسرح السياسة الأموية فقتلوه. (2) استسلم الخليفة يزيد بن عبد الملك إلى غرائزه وشهواته ورغباته واتسمت ولايته بعناوين أبرزها: - تشاغله عن مصالح الأمة وانغماسه باللهو والغناء والشراب والعبث وترك الدولة بكل مؤسساتها إلى الولاة والجواري بحيث أن حبابة جاريته كانت تعزل وتولي دون الرجوع إليه. - عمد إلى كل الإجراءات والتنظيمات التي وضعها عمر بن عبد العزيز مما لا يوافق هواه فرده. ومثال ذلك أنه كتب إلى عمال عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن عمر كان مغرورا، غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيت كتبكم إليه في انسكار الخراج والضريبة. فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا والسلام. (العقد 4 / 442). - بعث روح العصبية بين اليمانية والمضرية، مما جعلها تنخر في عظام الخلافة الأموية إلى أن قضت عليها. فانحاز إلى الجناح المضري (أحد جناحي النظام الأموي) وهدد مصالح الجناح اليمني. - لسوء سياسته عاد الخوارج إلى التحرك. - تعيين ولاة في الولايات اعتمدوا في سياستهم الإساءة إلى الموالي مما أدى إلى انتقاض الأمن، وخروج الأطراف على الدولة، والكثير ارتدوا عن الإسلام. - إهماله الجهاد وترك الغزو ومناضلة الأعداء. (*)

ص 142

والقنوع بقصده عليهم، وتقصيره في إدراك المطامع، والعطايا عليهم، واتهم منهم نفر بالخلع والخروج، فأخذهم عمه محمد بن مروان بن الحكم، فأسكنهم السجن عشرين شهرا، ثم دس لهم السم، فماتوا جميعا، وأقصى من سائر قريش ثلاثين رجلا، بعد أن أغرمهم مئة ألف ألف وباع عقر أموالهم ورباعهم، وحمل العذاب عليهم والنكال، حتى أصارهم عالة يتكففون الناس، متفرقين في كور الشام، وآفاق البلاد، وصلب من الناس جملة ممن ألف هؤلاء القوم، واتهم بمصانعتهم ومصاحبتهم، وكانت ولايته في ربيع الأول سنة إحدى ومئة، ومات سنة ست ومئة (1).

 ولاية هشام بن عبد الملك

 قال: وذكروا أن عبد الملك بن مروان، بينما هو يوما في بعض بوادي الشام يتطوف، إذ نظر إلى ساع يسعى إليه، فوقف منتظرا له، فلما قاربه قال له: ما وراءك؟ فقال: ولدت المخزومية (2) غلاما، قال: فما سمته؟ قال: هشاما. قال: هشم الله رأسها. فقال له قبيصة بن ذؤيب: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبرني أبي مروان، أنه سمع بشرة بنت صفوان تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: راحة أصحابي معاوية، ولا راحة لهم بعد معاوية وراحة العرب هشام، ولا راحة لهم بعد هشام. وذكروا أن هشاما صارت إليه الخلافة في سنة ست ومئة (3)، فكان محمود السيرة، ميمون النقيبة، وكان الناس معه في دعة وسكون وراحة، لم يخرج عليه خارج، ولم يقم عليه قائم، إلا ما كان من قيام زيد بن علي بن الحسين، في بعض نواحي الكوفة، فبعث إليه ابن هبيرة، وكان عامل الكوفة (4)، فأخذ زيد، فأتى به ابن هبيرة، فأمر بقتله دون رأي هشام، فلما بلغ ذلك هشاما، عظم عليه

(هامش)

(1) في الطبري وابن الأثير والأخبار الطوال ومروج الذهب وتاريخ والعقد الفريد: ذكر موته سنة 105. (2) وهي بنت هشام بن إسماعيل بن هشام المخزومي (تاريخ خليفة، العقد - ابن الأثير). (3) في الطبري: استخلف لليال بقين من شعبان (سنة 105) وانظر مروج الذهب وابن الأثير وخليفة بن خياط. (4) في الطبري وابن الأثير ومروج الذهب وخليفة واليعقوبي: كان يوسف بن عمر الثقفي. (*)

ص 143

قتله، وأعظم فعل ابن هبيرة، واجترائه على قتل قرشي دون مشورة حتى جعل يقول: مثل زيد بن علي في شرفه وفضله يقتله ابن هبيرة، وما كان عليه من قيامه، إن هذا لهو البلاء المبين، وما يزال ابن هبيرة مبغضا لأهل هذا البيت من آل هاشم وآل عبد المطلب، ووالله لا زلت لهم محبا حتى أموت، ثم عزل ابن هبيرة عن الكوفة، وأغرمه ألف ألف، ولم يل له شيئا حتى مات، وكانت أيام هشام عشرين سنة، ولي سنة ست ومئة (1)، وتوفي سنة ست وعشرين ومئة (2)، بعد أن حج إحدى عشرة حجة (3)، وهو خليفة.

 قدوم خالد بن صفوان بن الأهتم على هشام

 قال: وذكروا أن شبيب بن شبة، أخبرهم عن خالد بن صفوان بن الأهتم، قال: أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام في وفد العراق، فقدمت عليه، وقد خرج منتدبا (4) في قرابته وأهله وحشمه، وحاشيته، من أهله إلى بعض بوادي الرصافة (5)، فنزل في قاع صحصح (6) أفيح، في عام قد بكر وسميه (7) وقد ألبست الأرض أنواع زهرتها، وأخرجت ألوان زينتها، من نور ربيعها فهي في أحسن منظر وأجمل مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، فلو أن قطعة دينار ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادقات من حبرات اليمن مزرورة بالفضة والذهب، وضرب له فسطاطه في وسطه، فيه أربعة أفرشة من خز أحمر، مثلها مرافقها، وعليه دراعة (8) خز أحمر وعمامة مثلها، وضربت حجر نسائه من وراء سرادقه، وعنده أشراف قريش، وقد ضربت حجر بنيه وكتابه وحشمه بقرب فسطاطه، ثم

(هامش)

(1) راجع الحاشية رقم 3 من الصفحة السابقة. (2) في مصادر ترجمته سنة 125 ه‍. وفي مروج الذهب: توفي بقنسرين في (الرصافة) يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر. (3) في مروج الذهب لم يحج هشام إلا مرة واحدة سنة 106 وهو خليفة 4 / 451. والطبري فيمن حج بين سنة 106 و125. وتاريخ خليفة ص 360. وتاريخ اليعقوبي 2 / 328. (4) منتدبا من انتدب، (ندب) أي استجاب لطلب انتدبه لشيء ما. يريد: أنه دعي لزيارة بعض بوادي الرصافة. (5) الرصافة: بلد بالشام. (6) الصحصح: المستوي من الأرض، والأفيح: الواسع. (7) الوسمي: المطر أول الربيع. سمي بذلك لأنه ينسم الأرض بالنبات. (8) الدراعة: الثوب. (*)

ص 144

أمر الربيع (1) حاجبه، فأذن للناس إذنا عاما، فدخلوا عليه، وأخذ الناس مجالسهم، قال خالد: فأدخلت رأسي من ناحية السماط فأطرق، ثم رفع رأسه ونظر إلي شبه المستنكر، وكنت قد حليت عنده ببلاغة، وفهم وحكمة. فقلت: أقر الله نعمته عليك يا أمير المؤمنين وكرامته، وسوغك شكره يا أمير المؤمنين ومد لك في المزيد فيها بفضله، ثم وصلها بعد بطول العمر، وتتابع الكرامة الباقية التي لا انقطاع لها، ولا نفاد لشيء منها، حتى يكون آجل ذلك خيرا من عاجله، وآخره أفضل من أوله، وعاقبته خيرا من ابتدائه، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشدا، وعاقبته تؤول إلى أحمد ودرك الرضا، وأخلص لك ذلك بالتقوى، وكثره لك بالنماء، ولا كدر عليك منك ما صفا، ولا خالط سروره أذى، فقد أصبحت للمسلمين ثقة وسترا، يفزعون إليك في أمورهم ويقصدونك في حوائجهم، وما أجد يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك شيئا، أبلغ في حقك وتوقير مجلسك، إذ من الله علي بمجالستك، والنظر إلى وجهك مني، وما أجد فيما أظهر ذلك إلا في مذاكرتك نعم الله التي أنعم بها عليك، وأحسن فيها إليك، وأنبهك إلى شكرها (2)، ثم إني لا أجد شيئا هو أبلغ في ذلك، ولا أجمع من ذكر حديث لملك خلا من الملوك، كان في سالف الأمم، فإن أذن أمير المؤمنين أكرمه الله حدثته. قال: وكان هشام متكئا، فاستوى جالسا وقال: هات يا بن الأهتم، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إن ملكا كان فيما خلا من الملوك، مجتمعا له فيها فتاء السن واعتدال الطبائع، وتمام الجمال، وكثرة المال، وتمكين الملك، وكان له ذلك إلى البطر والمرح داعيا، وعلى الغفلة والذهول معينا، فخرج متنزها إلى بعض منازله. فصعد جوسقا (3) له، فأشرف على أرض، قد أخضلها ربيع عامه، كان شبيها بعامك هذا يا أمير المؤمنين، في خصبه وعشبه، وكثرة زهره، وحسن منظره، فنظر فرجع إليه بصره كليلا عن بلوغ أقصى أمواله من الضياع والإبل والخيل والنعم. فقال لنفر من ناديه: لمن هذا؟ قيل له: لك، فأعجبته نفسه،

(هامش)

(1) هو الربيع بن زياد بن سابور (شابور) وكان على حرسه (اليعقوبي) وفي تاريخ خليفة كان الربيع بن شابور مولى بني الحريش على خاتمه. قال اليعقوبي: وحاجبه الحريش. وعند خليفة: حاجبه غالب بن مسعود مولاه. (2) العبارة في عيون الأخبار 2 / 341 ولا أرى لمقامي هذا شيئا هو أفضل من أن أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه ليحمد الله على ما أعطاه. (3) الجوسق: القصر. (*)

ص 145

وما بسط له من ذلك، حتى أظهر فرحه وزهوه، ثم قال لجلسائه: هل رأيتم مثل ما أنا فيه، أم هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والعلم، والمضي على أدب الحق ومنهاج الصدق في الضمير والمقالة، وقد قيل: إن الله الجليل، لم يخل الأرض منذ هبط آدم، من قائم يقوم بحجة الله فيها، وكان ذلك الرجل ممن يسامره. قال: أيها الملك، قد سألت عن أمر أفتأذن لي بالجواب فيه؟ قال: نعم. قال: أرأيتك هذا الذي أعجبك مما عليه اطلع نظرك، واستطال ملكك وسلطانك، أشئ لم يزل لك ولم يزل عنك، أم شيء كان لغيرك، فزال عنه إليك، ثم هو صائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال الملك: بل كما ظننت ومثلت. قال: فإني أراك أعجبت بما يفنى، وزهدت فيما يبقى، وسررت بقليل، وحسابه غدا طويل. قال: ويحك فكيف المطلب، وأين المهرب، وما الحيلة في المخرج؟ قال: إحدى خصلتين، إما أن تقيم في ملكك، فتعمل فيه بطاعة ربك على ما سرك وساءك وأمضك، وإما أن تصنع تاجك ونجادك، وتذكر ذنوبك، وتلحق في الخلاء بمن يغفر لك، فتعبد فيه ربك، حتى يوافيك أجلك، وتنقضي مدتك، وأنت عامل لربك فيما يعطيك. قال: فإذا فعلت ذلك فما لي؟ فقال: ملك خالد لا يفنى، ونعيم، لا ينقضي، ومزيد وكرامة، وصحة لا تستقيم (1) أبدا، وسرور لا ينصرم، وشباب لا يشوبه هرم، وقرار لا يخالطه هم. قال الملك: سأنظر إلى نفسي في الاختيار لها مما ذكرت لي، فإذا كان وقت السحر، فاقرع علي بابي لتعرف رأيي، فإني مختار إحدى المنزلتين، فإن أقمت في ملكي، واخترت ما أنا فيه، كنت وزيرا لا تعصى، وإن خلوت كنت رفيقا لا تجفى. فلما كان السحر، قرع عليه بابه، فإذا هو قد وضع تاجه، ولبس أطماره (2)، فلحقا بالجبل، فلم يزالا يعبدان الله فيه، حتى بلغ أجلهما، وانقضى عمرهما (3). فبكى هشام حتى بل لحيته، ثم نكس رأسه طويلا، ثم أمر بنزع أبنيته وانتقاله، وأقبلت العامة من الموالي على ابن الأهتم، فقالوا له: ما أردت لأمير المؤمنين، أفسدت عليه لذته، ونغصت عليه

(هامش)

(1) في عيون الأخبار: لا تسقم. (2) الأطمار: الثياب البالية. وفي عيون الأخبار: أمساح، وهو الكساء من شعر كثوب الرهبان. وفي معجم البلدان: لبس المسوح. (3) الخبر في عيون الأخبار 2 / 431 - 432 باختلاف. وفي معجم البلدان (مادة: خورنق) وفيه أن هذا الملك هو النعمان. (*)

ص 146

شهوته، وقد حرمتنا ما أملنا فيه. قال: إليكم عني، فإني عاهدت الله ربي، أني لا أخلو بملك إلا ذكرته الله، ونبهته ورشدته. ثم رجع خالد إلى فسطاطه، كئيبا حزينا، متخوفا يظن أنه قد هلك، وكان للربيع صديقا. فبينما هو كذلك، إذ أتاه رسول الربيع، فقال: يا صفوان، يقول لك أخوك الربيع: من كان في حاجة الله، كان الله في حاجته. إنك لما وليت من عند أمير المؤمنين جعل يقول: لله در ابن الأهتم، أي رجل دنيا وأخرى، مره يا ربيع، فليرجع حوائجه، وليغد إلينا بها نقضها له. فقال الربيع: فاغد علينا بحوائجك رحمك الله، واحمده على ما صنع، وأذهب من مخافتك. فغدا عليه بحوائجه فقضيت. وذكروا أنه لم يكن في بني أمية ملك أعظم من هشام، ولا أعظم قدرا، ولا أعلى صوتا منه، دانت له البلاد، وملك جميع العباد، وأديت له الجزية من جميع الجهات، من الروم والفرس والترك والإفرنج والزنج والسند والهند، وكان قريبا من الضعفاء، مهتما بإصلاح الأدواء، لم يجترئ أحد معه على ظلامة، ولم يسلك أحد معه إلا سبيل الاستقامة، وكان له موضع بالرصافة أفيح من الأرض، يبرز فيه، فتضرب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة، بارزا للناس، مباحا للخلق، لا يفني أيامه تلك إلا برد المظالم، والأخذ على يد الظالم من جميع الناس، وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته بذلك الموضع، راعي السوام (1)، والأمة السوداء، فمن دونهما، قد وكل رجالا أدباء عقلاء، بإدناء الضعفاء والنساء اليتامى منه، وأمرهم بإقصاء أهل القوة والكفاية عنه، حتى يأتي على آخر ما يكون من أمره، فيما يرفع إليه، لا ينضم إليه رجل يريد الوصول إليه، فينظروا أوضع منه إلا أدنوا الأوضع وأبعدوا الأرفع، حتى ينظر في شأنه، ويعرف أمره، وينفذ فيه ما أمر، ولا يرفع إليه ضعيف، ولا امرأة أمرا، وظلامة على غطريف من الناس مرتفع القدر، ولا مستخدم به إلا أمر باقتضاء يمينه، وأغداه بمطلبه، لا يقبل لهم حجة، ولا يسمع لهم بينة، حتى لربما تمر به المرأة والرجل أو عابر سبيل، لا حاجة له فيما مر به. فيقال له: ما حاجتك، وما قصتك، وما ظلامتك؟ فيقول: إنما سلكت أريد موضع كذا، أروم بلد كذا، فيقول له: لعلك ظلمك أحد من آل الخليفة تهاب أمره، وتتوقع سطوته، فذلك

(هامش)

(1) السوام: الإبل الراعية. (*)

ص 147

الذي منعك عن رفع ظلامتك إلى أمير المؤمنين، فيقول: لا، والله لا أبغي إلا ما قلت. فيقال له: اذهب بسلام، حتى لربما أتت عليه تارات من الليل، وساعات من النهار لا ينظر في شيء، ولا يأتيه أحد في خصومة لاستغناء الناس عن المطالب، وتعففا من المظالم، ووقاية من سطواته، وتخوفا من عقوبته، وقد وسع العباد أمنه، وأشعرهم عدله، وصارت البلاد المتنائية الشاسعة، كدار واحدة، ترجع إلى حاكم قاض، يرقبه الناس في المواضع النائية عنه كما يرقبه من معه، وقد وضع العيون والجواسيس من خيار الناس، وفضلاء العباد، في سائر الأمصار والبلدان، يحصون أقوال الولاة والعمال، ويحفظون أعمال الأخيار والأشرار، قد صار هؤلاء أعقابا يتعاقبون، ينهض قوم بأخبار ما بلوا في المصر الذي كانوا فيه، ويقبل آخرون يدخلون مسترقين، ويخرجون متفرقين، لا يعلم منهم واحد، ولا يرى لهم عابر، فلا خبر يكون، ولا قصة تحدث، من مشرق الأرض ولا مغربها إلا وهو يتحدث به في الشام، وينظر فيه هشام، قد قصر نفسه على هذه الحال، وحببت إليه هذه الأفعال، فكانت أيامه عند الناس أحمد أيام مرت بهم، وأعفاها وأرجاها، قد لبس جلباب الهيبة على أهل العنود والكيود، وارتدى برداء التواضع إلى أهل الخشوع والسكون، وكان قد حبب إليه التكاثر من الدنيا، والاستمتاع بالكساء، لم يلبس ثوبا قط يوما، فعاد إليه، حتى لقد كان كساء ظهره، وثياب مهنته، لا يستقل بها، ولا يحملها إلا سبعة مئة بعير، من أجلد ما يكون من الإبل، وأعظم ما يحمل عليه من الجمال، وكان مع ذلك يتقللها، وطالت أيامه، واستبطأ صاحب العهد بموته، فناوأه وعاداه، وانتقل عن الموضع الذي كان به هو والوليد بن يزيد بن عبد الملك، فمات هشام والوليد غائب، فأتاه موته، فأمر بقفل الخزائن، فلم يجدوا لهشام ما يكفنونه به، واستؤذن الوليد في إقباله، فلم يدفن هشام حتى قدم الوليد، وذلك في ثلاثة أيام (1).

(هامش)

(1) لحسن حظ الخلافة الأموية التي أصيبت مع يزيد بن عبد الملك بنكسة خطيرة شملت معظم جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحول هشام فور توليه إلى الاهتمام بشؤون الدولة وتمكن بعد فترة من استيعاب ثم القضاء على النتائج السيئة لسياسة سلفه يزيد في شتى شؤون الحياة العامة. حاول أن يصلح ما فسد، وانقاذ ما يمكن إنقاذه وإن لم يصل في سياسته إلى مثالية عمر بن = (*)

ص 148

بدء الفتن والدولة العباسية

 قال: وذكروا أن الهيثم بن عدي أخبرهم، قال: اختلفت روايات القوم الذين عنهم حملنا وروينا ذكر الدولة، فحملنا عنهم ما اختلفوا فيه وألفناه، فكان أول ما اختلفت فيه الرواية، ولم تلائمه الحكاية، أشياء سنذكرها في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله، واقتصرنا على معانيها، وقيدنا بعض ألفاظها لطول أخبارها، واجتنبنا الجزل السمين من اللفظ، ورددنا هزيله لنزر فائدته، وقلة عائدته، وقد اختصرنا وأشبعنا إذ لم نترك من المعاني المتقدمة شيئا، والله الموفق للصواب. فكان مما ألفنا بدءا من ذكر الدولة، وما أخبرنا عن الهيثم بن عدي، عن الرجال الذين حدثوه. قالوا: لما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الكوفة، واليمن، وأهل البصرة، وأرض خراسان، في ستر وكتمان، فاجتمعوا إلى محمد بن علي، وهو محمد بن الحنفية (1)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك، وعرضوا عليه قبض زكاتهم، لينفقوها يوم الوثوب على فرصته، فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها، وولى على شيعة كل بلد رجلا منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم، في سر وتوصية إليهم، ألا يبوحوا بمكتومهم، إلا لمن يوثق به، حتى يرى

(هامش)

= عبد العزيز، ولمجهوده في هذا الصدد، وصفه الخليفة المنصور بأنه بحق: رجل بني أمية. وقيل أيضا: إن السواس من بني أمية ثلاثة: معاوية وعبد الملك وهشام. ويقول حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام 1 / 333: ومن إصلاحات هشام اهتمامه بتعمير الأرض وتقوية الثغور وحفر القنوات والبرك في طريق مكة وغير ذلك من الآثار، وفي أيامه ظهرت صناعة الخز والقطيفة. وكان هشام كلفا بالخير. ومما يؤخذ على هشام إمعانه في الانتقام من العلويين والتنكيل بهم . (1) كان ذلك بعد مقتل الحسين بن علي رض سنة 60 ه‍. حيث أثار مقتله حماسة المسلمين، فتوحدت صفوف الشيعة وزادت الدعوة لآل علي (رض) قوة، واشتد العداء بين الأمويين والعلويين الذين ثاروا في الولايات الإسلامية. وقد كانت كربلاء ونتائجها عاملا في إذكاء روح التشيع، وأصبحت عقيدة راسخة في نفوس المسلمين، وقد وجد ابن الزبير فرصته التاريخية - بعد كربلاء - لتحقيق أغراضه السياسية تحت ستار الأخذ بثأر الحسين، وتهيأت الفرصة أيضا للمختار بن أبي عبيد الذي ادعى إمامة محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب) وانضمت إليه حركة التوابين الذين ندموا على عدم إغاثتهم الحسين وقاموا ليبذلوا نفوسهم في الأخذ بثأره. (*)

ص 149

للقيام موضعا. فأقام محمد بن الحنفية: إمام الشيعة قابضا لزكاتهم، حتى مات. فلما حضرته الوفاة، ولى عبد الله ابنه من بعده، وأمره بطلب الخلافة إن وجد إلى ذلك سبيلا، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي، وهو أمير الشيعة، فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك، في أول خلافته، أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي، بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعد له في أفواه الطرق رجالا، معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب. فلما دخل على سليمان، أجلسه إلى جانبه. ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك، ليغروهم بنا، فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤنتي أشغل مني بطلب هذا الأمر، ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلا قام إليه الرجل بعد الرجل، يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز، وسويق كذا وكذا يا بن بنت رسول الله، ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا خرج إلى آخر الطريق، خرج إليه رجل من خبائه، وبيده عس (1)، فقال له: هل لك في شربة من لبن يا بن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسم، فشرب منه ثم مضى، فلم ينشب أن وجد للسم حسا (2)، فاستدل على الطريق إلى الحميمة (3)، وبها جماعة آل عباس، وقال لمن معه: إن مت ففي أهلي، ثم توجه فنزل على محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر، والطلب للخلافة بعدي، فولاه (4)، وأشهد له من الشيعة رجالا، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (5)، ودعوة الشيعة له حتى مات، فلما حضرته

(هامش)

(1) العس: بضم العين، القدح العظيم، مثل الكوز الكبير. (2) يريد أنه أحس بالسم يسري في جسده. (3) الحميمة: بضم الحاء وفتح الميم بلدة صغيرة بالبلقاء بالشام. (4) ذكر أن أبا عبد الله قال لمحمد بن علي: يا بن عمي، إني ميت، وقد صرت إليك، وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك القائم به، ثم أخوه من بعده، والله ليتمن الله هذا الأمر... في كلام طويل أثبته صاحب العقد الفريد 4 / 476. (5) قال الطبري ج 6 / 562 أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وجه ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار، إلى خراسان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته.. ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها إلى محمد بن علي. = (*)

ص 150

الوفاة، ولى محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة، وصاحب الدعوة بعد أبيه.

 دخول محمد بن علي على هشام

 قال: وذكروا أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دخل، وهو شيخ كبير قد غشي بصره على هشام بن عبد الملك، متوكئا على ولديه أبي العباس وأبي جعفر، فسلم. ثم قال له هشام: ما حاجتك؟ ولم يأذن له في الجلوس، فذكر قرابته وحاجة به، ثم استجداه. فقال هشام: ما هذا الذي بلغني عنكم يا بني العباس، ثم يأتي أحدكم وهو يرى أنه أحق بما في أيدينا منا، والله لا أعطيتك شيئا. فخرج محمد بن علي، فقال هشام كالمستهزئ: إن هذا الشيخ ليرى أن الأمر سيكون لولديه هذين، أو لأحدهما، فرجع محمد نحوه فقال: أما والله إني أرى ذلك على رغم من رغم. فضحك هشام وقال: أغضبنا الشيخ، ثم مضى محمد بن علي. ولاية الوليد بن يزيد وفتن الدولة قال: وذكروا أن الوليد بن يزيد لما تولى الأمر بعد هشام، أساء السيرة، وانتحى على أهله وجماعة قريش، وأحدث الأحداث العظيمة، وسفك الدماء وأباح الحريم، وكانت ولايته في سنة ست وعشرين ومئة (1). فلما استولى على

(هامش)

= واختار أبو محمد الصادق اثنى عشر رجلا، نقباء (أسماؤهم في الطبري)، واختار سبعين رجلا، فكتب إليهم محمد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا وسيرة فيسيرون بها. (أنظر ابن الأثير 3 / 263. وانظر تفاصيل هامة ذكرها في الأخبار الطوال ص 332 - 333 عن نشاط محمد بن علي وأصحابه المبعوثين إلى الأمصار...) ومات محمد بن علي سنة 125 ه‍ بعد أن قطعت الدعوة العباسية شوطا بعيدا. قال د. حسن إبراهيم حسن في التاريخ السياسي: 2 / 13 ويمكن تقسيم الدعوة العباسية قسمين: - الأول يبدأ في مستهل القرن الأول للهجرة، وينتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني، وكانت الدعوة في هذا الدور خالية من أساليب العنف والشدة. إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج. - الدور الثاني يبدأ بانضمام أبي مسلم إلى الدعوة العباسية. وهنا يدخل النزاع بين الأمويين والعباسيين في دور العمل، وهو دور الحروب التي انتهت بزوال الدولة الأموية. (1) كذا بالأصل. وفي تاريخ خليفة ومروج الذهب والطبري وابن الأثير والعقد الفريد، وتاريخ اليعقوبي والبداية والنهاية: سنة 125. قال الطبري 7 / 208: استخلف يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر من سنة 125. قال: وكان نازلا بالأزرق بين أرض بلقين وفزارة. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب