فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 1] [ طسم ]

تحدثنا عن الحروف المقطعة في القرآن أكثر من مرة ، و قلنا : انها اشارة الى القرآن ، و انها رموز بين الله و اوليائه .

و جاء في الحديث المأثور عن الصادق ( عليه السلام ) :

" وأما طسم : فمعناه : انا الطالب ، السميع ، المبدىء ، المعيد " (1 )[ 2] [ تلك ءايات الكتاب المبين ]

تأتي هذه في الجملة الأغلب بعد الحروف المقطعة ، مما يدعونا الى الاعتقاد بأن المعنى الظاهر لتلك الحروف هو الاشارة إلى القرآن و حروفه .

[ 3] لأن إخلاص الرسول شديد لرسالة ربه ، و حرصه على مصلحة الناس(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 44


عظيم ، فهو يكاد يهلك نفسه حينما يرى كفر الناس بالرسالة .

[ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ]

[ 4 ] ولكن هل الرسول قادر على ما يريده من ايمان الناس بالرسالة من دون اذن الله ، كلا .. لأن الله منح الناس حرية القرار ، و لم يرد إكراههم على الإيمان ، و دليل ذلك أنه لا ينزل عليهم عذابا غليظا يجعلهم خاضعين للحق .

[ إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين ]و لكن ربنا شاء ان يؤمنوا بكامل حريتهم ، و لو أنزل عليهم عذابا فآمنوا خشية وقوعه عليهم لم يكن ينفعهم إيمانهم ، انما ينفع الإيمان إذا جاء بلا إكراه .

روي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - انه قال وهو يتحدث عن الانبياء و حكمة الابتلاء :

" ولو اراد الله - جل ثناؤه - حين بعثهم ، ان يفتح لهم كنوز الذهبان ، و معادن البلدان ، و مغارس الجنان ، وان يحشر طير السماء ، و وحش الأرض معهم لفعل ، و لو فعل لسقط البلاء ، و بطل الجزاء ، و اضمحل الابتلاء ، و لما وجب للقائلين أجور المبتلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ، و لذلك لو أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس اجمعين " (1)[ 5] رسالات الله تستثير العقل ، و تستنهض الفطرة ، و تطهر القلب من رواسب(1) المصدر / ص 46.


التقليد ، و تفك القيود و الاغلال التي تمنع الانطلاق ، و أولئك الذين يكفرون بها إنما يعرضون عن ذكرهم ، و يتشبثون بالتقاليد البالية .

[ وما ياتيهم من ذكر من الرحمن ]

و قد سمى الله القرآن ذكرا لأنه يقوم بدور المنبه للإنسان ، كمن يمشي في ظلام و هو يملك مصباحا غفل عنه ، فيأتيه من يذكره بمصباحه .

[ محدث ]

بالرغم من ان رسالات الله واحدة عبر القرون حتى ان الجاهلين قالوا : إن هي الا اساطير الأولين ، إلا أن الذكر القرآني محدث ، و جديد ، لماذا ؟

اولا : لان القرآن جاء بعد هجعة من البشر ، حيث فترت علاقاتها بالقيم ، فكان ذكرا جديدا .

ثانيا : لأن رسالات الله تدعو الى العقل ، و العقل إمام الإنسان الذي يقوده إلى الأمام ابدا ، و الذي يفك به البشر قيود التقليد ، و أغلال الجمود ، لذلك كانت تصطدم الرسالات الإلهية بالتقاليد حيث كانوا يعرضون عنها .

[ إلا كانوا عنه معرضين ]

[ 6] أنهم تشبثوا بالماضي و استهزؤوا بالمحدث ، فكذبوا بالرسالة ، و سيأتيهم خبرها : أنها ستعلو على باطلهم ، و سيندمون ولكن عبثا .

[ فقد كذبوا فسيأتيهم انباؤا ما كانوا به يستهزءون ][ 7] ولو نظروا في آيات الله ، و عرفوا ربهم من خلالها ، و آمنوا بأسمائه الحسنى ،لما كذبوا .

لو كانت نظرة الإنسان الى الخلق من حوله سليمة لعرف صدق رسالات الله ، لأنها تعبير صادق عن سنن الله في خلقه .

[ أولم يروا إلى الأرض كم انبتنا فيها من كل زوج كريم ]سر في الأرض ، و اطلع على حقل ناضر ، و قف عند شجرة مثمرة ، ماذا ترى ؟ أنها جد متكاملة ، تضرب بجذورها في الأرض ، و تقوم على ساقها الغليظة ، و تنشر فروعها من حولها بتناسق ، و تتحدى الرياح و الأنواء والآفات بعشرات من الأنظمة التي أودعها الرب فيها ، ثمماذا ترى ؟ ترى ان هذه الشجرة - بالرغم من تكاملها الكريم - بحاجة الى زوج تتكامل به . كيف جعلها الله غنية و كريمة من كل جانب ، و كيف جعلها محتاجة الى غيرها في هذا الجانب بالذات .

أو ليس في ذلك دليل يهدينا الى ربنا ، و الى أنه رحيم ، وآية رحمته تكاملية نعمه و شموليتها ، و انه عزيز وآية عزته انه جعل كل شيء في الخلق محتاجا الى غيره ، فخلق من كل شيء زوجين أثنين ليهدينا إلى أنه وحده العزيز الغني سبحانه .

[ 8] [ إن في ذلك لأية ]

أنها تكفي الانسان حجة لوبحث عن الحجة ، ودليلا لو انه اهتدى بدليل ، و لكن أكثر الناس لا يبحثون عن حجة ، ولا يريدون دليلا .

[ وما كان أكثرهم مؤمنين ]

فلا تنتظر إيمان الناس حتى تؤمن معهم ، إنما بادر الى التسليم للحق .


[ 9] ان عزة الله تتجلى في سنة ( الزوجية ) بينما تتجلى رحمته في الكرامة التي اسبغها على الأشياء ، فلم يمنع عن الناس حاجاتهم ، بل أودع في الارض ما ينفعهــم ، و كما خلق حاجة في هذا الطرف خلقها في الطرف الثاني ، فلم يزل هذا بذاك ، و ذاك بهذا .

[ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ]

و النفس المؤمنة تعيش التوازن بين اسمي العزة و الرحمة ، أي بين الخوف من غضب الله ، و الرجاء لرحمته ، و أكثر الناس تغرهم رحمة الله ، فيغفلون عن عزته ، يقول الدعاء :

[ الهي اذهلني عن اقامة شكرك تتابع طولك و أعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك ، و أشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك " ( 1)وجاء في دعاء آخر :

" و يحملني و يجرأني على معصيتك حلمك عني ، و يدعوني الى قلة الحياء سترك علي ، ويسرعني الى التوثب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك ، و عظيم عفوك " (2)أنما المؤمنون يقاومون هذه الغفلة بذكر نعماء الله ، و التنبه الى احتمالات ذهابها .

[ 10] و من آيات رحمة الله أنه بعث انبياءه الى عباده الظالمين ، أو ليس الظلم ينغص النعم ، و يستدرج العذاب ؟ فمن أولى من الرب الرحيم بأن يبعث الى(1) مناجاة الشاكرين / الصحيفة السجادية ص 122

(2) من دعاء ابي حمزة الثمالي / مفاتيج الجنان 187


عباده من ينذرهم عاقبة ظلمهم .

[ وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ]

النداء الواضح الذي لا يرتاب فيه السامع ، ولا يختلط بحديث النفس او وساوس القلب ، يهبط هذا النداء الى موسى من الرب الذي لا تزال نعمه تتواتر على البشر ، طورا فطورا ، و مرحلة بعد أخرى .

[ 11] و الهدف واضح هو مقاومة الظلم ، ليس لمصلحة المظلومين فقط ، و إنما أيضا لمصلحة الظالمين الذين سيهلكهم ظلمهم .

لقد عاش موسى ردحا من عمره بين أولئك الظالمين ، دون ان يحمل رسالة ، أنها - اذا - رسالة الله ، و ليست من عبقرية موسى .

[ قوم فرعون ألا يتقون ]

هؤلاء الذين يظلمون الناس لماذا لا يخشون عذاب ربهم و يتقونه ؟!

[ 12] وأول ما يخشاه الإنسان قبل ان يشرع في العمل هو الفشل ، فكثير من الناس يتركون العمل لمجرد الخشية من فشلهم فيه ، ولأن القرآن يعالج كل أمراض البشر ، ولأن هذه السورة المباركة برنامج عمل متكامل للدعاة الى الله ، فإنها تفصل القول في العقبات التي لابد من تذليلها عبر قصة موسى و هارون . كيف دعيا الى الرب .

و تهدينا هذه الآية اولا : الى ضرورة مقاومة خوف الفشل ، الذي يعتري حتى الأنبياء قبل اعتصامهم بالله .


[ قال رب إني أخاف أن يكذبون ]

و تأتي في نهاية السياق معالجة هذا الخوف بقوله سبحانه : " كلا " .

[ 13 ] ثانيا : حمل رسالات الله إلى الظالمين لا يتم بسهولة ، انما يسبب المزيد من الصعاب لحاملها ، و بالرغم من أن قدرات الفرد تتسع لكل تلك الصعاب إلا أن المقياس هو مدى قدرة استيعاب صدره لمشاكل العمل .

[ و يضيق صدري ]

ثالثا : لعل شدة تكذيب الناس تكون سببا في انعقاد اللسان ، أو ان هذا التكذيب بحاجة الى لسان طلق بليغ .

و قالوا : كان موسى - عليه السلام - ألثغا ، حيث لم يكن قادرا على الإفصاح عن بعض الحروف .

و إذا كان الأمر هكذا فان الدرس الذي يعطيه السياق هنا هو : ان هناك معوقات جسمية قد تقف حاجزا دون القيام برسالة الله ، و علينا تحديها .

[ ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ]

ان حمل رسالات الله بحاجة الى إعلام قوي ، و كان موسى - عليه السلام - يعلم مدى صعوبة الأمر ، فبادر الى طلب المساعدة في هذا الحقل بالذات .

[ 14] رابعا : ليس بالضرورة ان يكون حامل الرسالة مقبولا حسب الأعراف و القوانين المرعية في البلد ، و ليست تلك عقبة كأداء لا يمكن تجاوزها . إذا استصغرك القوم ، أو استهزؤوا بك ، أو حتى إذا اعتبروك مجرما فلا تأبه ، و أمض في طريقك ،فهذا النبي العظيم موسى بن عمران - عليه السلام - يعتبر من الناحية القانونية خارجا على الشرعية ، و هو من عنصر مستضعف و مستعبد ، و قد قتل منهم واحدا ، مما يعرضه للقصاص حسب قوانينهم ، و مع ذلك يؤمر بحمل الرسالة .

لقد قال موسى و هو يعبر عن هذه العقبة :

[ و لهم علي ذنب فأخاف ان يقتلون ]

[ 15] تلك كانت العقبات اجتمعت أمام موسى . دعنا نستمع إلى الرب و هو ينسفها بكلمته نسفا :

[ قال كلا ]

أنها ليست عقبات في الواقع بقدر ما هي مخاوف في النفس ، لا تلبث ان تتلاشى بالتوكل على الله .

أولست انت واخوك تحملان رسالات الله فلماذا الخوف اذا ؟! [ فاذهبا بأياتنا إنا معكم مستمعون ]

ذلك هو ضمان الانتصار .

فمن كان مع الله كان الله معه ، و من كان الله معه فلا قوة في الأرض تقف أمامه .

و انت أيها الداعية الكريم تجرد عن ذاتك في الله ، و هب لله نفسك وما تملك تجد الله نعم المولى و نعم النصير .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس