فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


منطق الطغاة
[ 18] يبدو من السياق ان فرعون - شأنه سائر شأن الطغاة - حاول ان ينسب نعم الله الى نفسه ، و يمن على موسى بأنه أنعم عليه بالتربية و التغذية .


(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 48 .


[ قال ألم نربك فينا وليدا ]

فلماذا خرجت على أسس المجتمع و قيمه مادمت تربيت في احضانه ، و تغذيت من أفكاره و ثقافته ، و لعلنا نستوحي من هذه الآية مدى اعتماد الطغاة على عامل التربية في إفساد ضمير الناس ، و بالرغم من أهمية هذا العامل إلا أن رسالات الله تتحداه ، فاذا بموسى الذي كان ينسب الى فرعون عند الناس حينا يخرج عليه ، و يهدم سلطانه ، و إذا بمؤمن آل فرعون يعيش في بلاطه ثم يثور عليه ، و اذا بزوجته آسية بنت مزاحم تكون نصيرة الحق ، و تضحي بنفسها في سبيل الله ، و اذا بأصحاب الكهف و هم وزراء طاغوت دهرهم ( دقيانوس ) ينقلبون الىربهم .

ثم قال فرعون :

[ ولبثت فينا من عمرك سنين ]

وهكذا يقول الطغاة : الم نعبد الشوارع ، و نبني المستشفيات . الم يتخرج من جامعاتنا كذا طالب ، ألم يتقدم اقتصاد بلادنا ؟!

انهم يخطئون مرتين : اولا : حين يجعلون التقدم المادي دليلا على سلامة نهجهم ، بينما التقدم المادي قد يكون وليد عوامل أخرى كانبعاث ابار البترول ، أو جودة موســم الزراعة ، أو حتى جهود الناس من علماء ، و مدراء ، و تجار ، و عمال ، و فلاحين . الناس يعملونو الحكام يفتخرون ، و انما فخر الحكام بإشاعة العدل ، و المحافظة على الحرية ، و توفير فرص الكمال الروحي .

ثانيا : حين يعطون الناس أرقاما خاطئة ، و يذكرون فقط الجوانب المشرقة ويسكتون عن الجوانب السلبية ، و يرهبون من يتحدث عنها حتى لا تبدو فضائحهم .


لقد من فرعون على موسى انه سمح له بأن يعيش مستضعفا في بلاده ، و كأن القاعدة كانت تقضي بقتل موسى ، أما ان يبقي حيا يتنفس فانها نعمة يمن بها عليه .

[ 19] وذكره بقتل القبطي ، و اعتبرها جريمة كبيرة تجعل صاحبه في مصاف الكفار ، فقال :

[ و فعلت فعلتك التي فعلت و أنت من الكافرين ]

ان حكام الجور يضعون قوانين يحكمون بها سيطرتهم على الناس ، ثم يعتبرون الخروج عليها جريمة بل كفرا - و لعل فرعون أراد ان يعير موسى بأنه لم يكن يومئذ يؤمن بالله - و يفتشون في ملف الثائرين ليجدوا فيها ثغرة يدخلون منها عليهم ، و ينسون ان بقاءهم في السلطةرغما على الناس أكبر جريمة ، وأعظم كفرا .

و قد يكون القانون سليما ، و لكن لا يحق للسلطان الجائر ان يكون منفذا له . اذ ان سلطته ليست شرعية ، و حين ينفي الثائر شرعية السلطة لا ينبغي الحديث عما يترتب عليها من الانظمة السائدة .

ولكــن الطغاة يريدون تضليل الناس بذلك ، و على الرساليين الا يأبهوا بذلك أبدا ، و يعيدوا إلى أذهان الناس أصل وجود النظام ، و الذي لو لم تثبت شرعيته لا يحق له تنفيــذ القانون ، بل تنفيذ القانون بذاته يصبح جريمة تسجل عليه و على أركانه .

[ 20] لقد قتل موسى القبطي الذي أراد سخرة الإسرائيلي ، و لعله كان يقتله ان لم يقبل بسخرته ، و بذلك كان الرجل يستحق القتل بحكم القيم الحق التي فطر الله الناس عليها ، و جاءت بها شرائع الله . أوليس من قتل دون نفسه او عرضه أو ماله فهو شهيد ؟


ويبدو ان موسى تجاوز الحديث عن مقتل القبطي ، وركز على أمرين :

الاول : انه لم يكن كافرا بالله يومئذ ( ان كان مراد فرعون بقوله : " من الكافريــن " الكفر بالرب ) و انما كان ضالا بسبب فقدانه للرسالة التي هي الهدى و الضياء ، فقال :

[ قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ]

ان الضلال ليس كالجحود و الكفر انما هو عدم الهدى و هو ليس عيبا ، و قد قال ربنا عن نبيه الأكرم - صلى الله عليه و آله - : " و وجدك ضالا فهدى " ولم يكن الرسول ضالا ، انما لم يكن يحمل رسالة فهداه الله اليها .

و كل أنبياء الله بشر يفقدون العلم و الحكم قبل النبوة و الرسالة ، و إنما يتميزون على سائر الناس بالوحي ، و ليس بعنصر إلهي يتداخل فيهم ، و القرآن حافل ببيان هذه الحقيقة تصريحا أو بالاشارة ، و قد قال سبحانه : " قل انما أنا بشر مثلكم يوحي الي " .

و دليل صدقهم أساسا هو ان الوحي يحدث تحولا فجائيا فيهم ، فبينما الرسول يلبث في قومه دهرا ، لا يدعوهم الى شيء ، تراه يبعث اليهم برسالة متكاملة ، من المستحيل ان يكون قد ابتدعها من نفسه بين عشية و ضحاها .

و هــذا بخــلاف العلماء و الباحثين الذين تتكامل أفكارهم و بحوثهم يوما بعد يوم .

و لعل في قوله : " اذا " دلالة على أنه رد التهمة أساسا ، و أجابه : انه اذا سلم بوجود نقص عنده - جدلا - فانما هو الضلال ، و عدم الوحي .


وجاء في حديث ماثور عن الامام الرضا عليه السلام :

" انه اراد انه ضل عن الطريق بوقوعه الى مدينة من مدائن فرعون " (1)[ 21] و قد فر موسى عن مدائن فرعون خشية عنصريته ، التي كان يدين - بموجبها - أي واحد من بني اسرائيل بمجرد الصراع بينه و بين الأقباط .

[ ففررت منكم لما خفتكم ]

والآية تدل على أن الفرار من الظلم فضيلة ، أولا اقل لا بأس به .

و نستوحي أيضا من الآية : ان التمرد على قوانين الانظمة غير الشرعية عمل شريف .

ولأن موسى نصر الحق ، و رفض الخضوع لنظام الطاغوت ، و لأنه توكل على الله ، و هاجر عن بلاد الكفر ، فان الله أكرمه بالنبوة و الرسالة .

[ فوهب لي ربي حكما ]

أن حرف الفاء يوحي الينا بأن هناك علاقة بين فراره من ظلم فرعون و بين الحكم الذي وهبه الله له ، و لعل الحكم هو العلم ، و لعله النبوة التي تسبق الرسالة .

[ و جعلني من المرسلين ]

و نستوحي من كلمة " جعلني " ان صاحب الرسالة هو الحاكم و الخليفة في الأرض ، و ان هذا المنصب بحاجة الى قرار و جعل و تنصيب .


(1) المصدر / ص 48 - 49 .


[ 22] ورد موسى جدل فرعون اذ قال : " الم نربك فينا وليدا " : بان استعبادك لبني اسرائيل ، و ذبح أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، و استخدام بعضهم لتربية البعض الآخر كرها ، أعيب عليك ذلك ، واين تلك من هذه ، تمن علي التربية و لكني أعيرك بما فعلت ببني اسرائيل .

من الذي ربى موسى ؟ أليس بنو اسرائيل أنفسهم بأمر من فرعون ، ثم ما الذي الجأ أم موسى لتجعله في التابوت ، ثم تقذفه في اليم ، و ما الذي أعطى الحق لفرعون ان يقنل هذا و يعفو عن ذلك ، و يسرق أموال هذا و يضعها عند ذاك . أو ليس كل ذلك جريمة لابد ان يعاقب عليها فرعون ، ذو الظلم و الطغيان ، و ليس ثمة نعمة يشكر عليها .

[ و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ]

و نستوحي من الآية فكرتين :

أ - ان فراعنة كل عصر يجب ان يلقموا حجرا كلما زعموا ان عليهم منة على الناس ، ذلك أن جميع تقلباتهم في البلاد و تصرفاتهم في شؤون العباد جرائم لانها ليست بإذن الله ، و لا بتخويل من الناس .

ب - ان موسى تجاوز نفسه و تحدث عن كل بني إسرائيل ، كما تجاوز الحديث عن قضية محدودة الى بيان جذرها ، و هكذا ينبغي الا يقع الفرد الرسالي في الخطأ بالحديث عن ذات القضية التي يتحدث عنها الظالمون ، ولا بالحديث عن أنفسهم بل يتحدثوا عــن جــذور المشكلة حسبنهجهم الاعلامي المستقل ، و عن آلام الشعب جميعا . انهم - وحدهم - ممثلوا الناس ، و عليهم ان ينطقوا بإسمهم و عن مشاعرهم .


[ 23] لم يجد فرعون نفعا توسله بالقضايا الجانبية ، لأن موسى جاء بحجة أبلغ ، فاضطر الى الجدل حول جوهر الرسالة ، و يبدو من سياق الحديث انه اتخذ نهج الإستهزاء و سيلة لجدله .

[ قال فرعون وما رب العالمين ]

لم يقل : ومن رب العالمين لجهله المفرط ، و اسلوبه الساخر ، و لعله سأل عن طبيعة الله ، فلم يسترسل موسى معه ، لأن معرفة الذات مستحيلة .

[ 24] إنما مضى موسى قدما في دعوته الى الله عبر آياته ، و بين أن جهلهم بالله آت من نقص في أنفسهم .

[ قال رب السموات و الأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ]و هكذا ينبغي ان يستدل المؤمن على ربه بآياته و افعاله ، مقتديا بنهج أنبياء الله .

جاء في حديث ماثور عن أمير المؤمنين - عليه السلام - ، في صفة الله سبحانه :

" الذي سئلت الأنبياء عنه ، فلم تصفه بحد ، ولا ببعض ، بل و صفته بفعاله ، و دلت عليه بآياته " (1)و حين قال موسى : " ان كنتم موقنين " أشار إلى أن الإيمان بالله لن يبلغه من لا يجهد ولا يبحث عن علم و يقين ، وان جهلهم بربهم ناشىء من نقص فيهم ، حيث سدوا منافذ قلوبهم عن نور المعرفة .

[ 25] كان الحديث بين موسى و فرعون ، فأدار فرعون رحاه باتجاه الملأ من(1) المصدر / ص 49 .


حوله ، لماذا ؟ هل خشي ان ينقلبوا عليه ، أم أراد ان يتظاهروا على موسى حين شعر بضعف حجته ؟

[ قال لمن حوله ألا تستمعون ]

اسأله عن شيء فيجيبني عن شيء آخر . وفي حديثه نبرة استهزاء ، و كأنه يقول : ان حجته ضعيفة .

[ 26] لم يأبه موسى - عليه السلام - بسخريته ، و التزم نهجه القويم في التذكرة بالرب ، و تحطيم اغلال الجهل عن أنفسهم .

[ قال ربكم و رب ءابائكم الأولين ]

فهو الله الذي كان على آبائكم التسليم له ، فلا يجوز التسليم لابائكم إن كانوا كافرين به ، ولا ينبغي تقديسهم ، و الجمود على أفكارهم البالية ، واذا شمل آباءكم العذاب بسبب كفرهم بالرب فان ذات العذاب سينزل عليكم لذات السبب ، هكذا فك غل عبودية الآباء عنهم، و حذرهم من مغبة الجحود .

[ 27] و خرج فرعون عن طوره ، واتهم موسى بالجنون ، مستخدما أسلوبه الساخر ، اذ وجه الخطاب الى الملأ كي يثير فيهم العصبية .

[ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ]

هكذا بلغت الرعونة عند فرعون ذروتها حيث أنهم أتهم رسول الله رب العالمين بالجنون .

[ 28] أما موسى الذي لم يرهب إعلام فرعون التظليلي ، و لم يغضب لنفسه ، فقد مضى في سبيله يدعو الى ربه بالتذكرة تلو التذكرة .


[ قال رب المشرق و المغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ]وهذا بذاته دليل صدق دعوته انه لم يقم لنفسه بل لربه ، ولا يدعو الى ذاته بل الى الله ، و هكذا ينبغي ان يتحمل الرساليون كل أذى ، ولا ينهاروا بسبب تهم الطغاة انى كانت كبيرة .

[ 29] و انقلــب فرعــون خائبا من أسلوبه التضليلي الساخر ، فاتجه الى التهديد :

[ قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ]

ان الطغاة يرهبهم قوة المنطق فيلجؤون الى منطق القوة ، و يخافون على عروشهم فلا يتورعون عن أرتكاب اية جريمة .

و لكن موسى - عليه السلام - و كل الدعاة الى الله سوف يبلغون مستوى عاليا من النصر يعرون النظام من لباس التضليل ، و يلجؤونه الى استخدام آخر و سيلة لهم للسيطرة الا وهي الارهاب .

[ 30] و كما الجبل الأشم صمد موسى امام تهديد فرعون ، كما صمد آنفا أمام سخريته و تهمه ، فلم يزل يواجهه بسلاح المنطق .

[ قال أولو جئتك بشيء مبين ]

فيه دلالة ملموسة ، تكون أقرب إلى عقولكم المغلقة الجامدة .

[ 31] و هنا أيضا خسر فرعون الموقف ، إذ طالبه فعلا بذلك الشيء المبين ، ماضيا في غروره و ظنه أن الباطل لا يغلب .

[ قال فأت به إن كنت من الصادقين ]


[ 32] استجاب النبي موسى للتحدي فورا .

[ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ]

كان ثعبانا ضخما ، قد فغر فاه ، كاد يلتهم قصر فرعون بما فيه .

[ 33] [ و نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ]

و بهت فرعون ، و فلحت حجة موسى ، و ظهر برهانه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس