فوقع السحرة ساجدين [ 38] [ فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ]
و لعله كان يوم عيد قومي لهم .
[ 39] كان بإمكان فرعون أن يجري الصراع على حلبة قصره ، بين النبي موسى و السحرة من انصاره ، و لكنه دعا الناس جميعا ليشهدوا المنافسة ، كما فعل من قبل نمرود حيث لم يكتف حين أراد حرق إبراهيم - عليه السلام - بقليل من الحطب ،(1) بحار الانوار / ج 12 / ص 32
بل أشعل نارا كانت تلتهم الطير على بعد أميال ؟ لماذا ؟
لأن الطغاة يعيشون أبدا حالة الهلع ، فإن قلوبهم تهتز من أدنى معارضة ، فيتظاهرون بالقوة لتعديل توازن أنفسهم ، و لكي يرهبوا الناس أن يتأثروا بإعلام المعارضة ، و هكذا فعل فرعون :
[ و قيل للناس هل أنتم مجتمعون ]
كان التعبير - هذه المرة - رقيقا ، لما أحس به فرعون من خطر محدق ، فأراد استمالة الجماهير .
بلى .. ان الطغاة يريدون تمرير قراراتهم من خلال رأي الناس ، لكي يوهموهم أنهم هم أصحاب القرار ، و مسكينة هذه الشعوب الجاهلة كم و كم تمر عليها هذه اللعبة و حتى هذا اليوم .
[ 40] لم يكن هدف حشد الناس جعلهم الحكم بين الناس و المعارضة ، ليختاروا ما يرونه حقا . كلا .. انما كان الهدف تكريس سلطة فرعون ، لذلك قالوا :
[ لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ]
و لعل هذه الآية تشير الى الهجمة الإعلامية التي قامت بها أجهزة السلطة ضد موسى - عليه السلام - و صنعت أجواء رفض رسالة الله ، و اتباع السحرة حتى قبل نزولهم الى حلبة التنافس .
[ 41] وجاء السحرة ، و اجتمع الناس ، و عبئت الأجواء لتأييد فرعون ، و تكونت فرق التشجيع على أطراف الحلبة لصالح السحرة ، و دقت الطبول ، و استعد الجلادونلإنزال اقسى العقوبات بموسى و أخيه ، و التنكيل ببني إسرائيل ، و خنق كل صوت للمعارضة ، و تمثل السحرة أمام فرعون يطلبون أجرا . أو ليسوا قد سخروا طوال الفترة للعمل في البلاط بلا أجر ، أو لم يكن عمل السخرة شائعا في عهد فرعون . أو لم تنتشر على أطراف أهرامات مصر التي بناها الفراعنة قبور المحرومين على امتداد أميال ، من أولئك الذين كان يجمعهم النظام من أطراف مصر ليبنوا مقابر لأركانه ، و ليعلو بذلك مجده ، ثم يسخرهم بلا أجر في ظروف قاسية ، فاذا ماتوا أهال عليهم حفنة من التراب و جاء بغيرهم ؟! آه كم استخف الظالمون بأرواح البشر ، و الى اليوم ، و الى متى ؟!
كلا .. هذه المرة نطالبه بأجر . فرعون هذا اليوم يختلف عنه بالأمس ، انه مضطرب . دعنا نستغل ذلك لمطالبته بأجر على الأقل .
[ فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ]فاذا كان الأمر كذلك فسوف نبذل المزيد من الجهد للغلبة .
لقد اهتز ضميرهم منذ اللحظة الأولى التي واجهوا فيها موسى .
فمن هذا الراعي الذي جاء بعصاه يتحدى أكبر طاغوت ، و أعظم امبراطور ، و لماذا عجز فرعون عن التنكيل به كما ينكل بألوف الناس من بني قومه ؟!
و جاء في تفسير علي ابن ابراهيم : " ان السحرة حين بصروا بموسى ، رأوه ينظر إلى السماء ، قالوا لفرعون : انا نرى رجلا ينظر الى السماء ، و لن يبلغ سحرنا الى السماء " (1)(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 51
[ 42] فرعون يعرف - كما سائر الطغاة - بان العرش انما يصنعه هؤلاء ( ادعياء الدين و العلم ) الذين يسرقون سلاح الرفض من أيدي المحرومين ، و يزرعون فيهم الخوف و الخنوع ، و انه لابد من شراء ضمائر هذه الطائفة المخاسرة بأي ثمن . لذلك ...
[ قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ]
ان القيمة الحقيقية لهذه الضمائر الخائنة هي المشاركة في الملك ، و هذا ما تبرع به فرعون ، و وعد به السحرة ، أو ليسوا قد شاركوا في صنع العرش و في كل الجرائم التي يرتكبها صاحبه ، فلماذا لا يشاركونه في غنائمه .
و لكن العلماء الفسقة لا يعرفون عادة القيمة الحقيقية لما يبيعونه ، فتراهم يرضون بالثمن الزهيد ، فيخسرون الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين .
[ 43] من أعظم صفات الأنبياء (ع) التي تشهد بصدقهم : تحديهم لقوى أعظم منهم - كبشر - اضعافا مضاعفة ، مما يشهد باعتمادهم على رب القدرة و العظمة سبحانه .
هكذا تحداهم موسى .
[ قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ]
و ما عسى ان ينفعكم ما تلقون أمام قدرة الرب ؟!
[ 44] و لم يكن يملك أولئك البؤساء غير مجموعة حبال و عصي فألقوها .
[ فألقوا حبالهم و عصيهم ]
و قد استنفذوا كل جهدهم بذلك ، و أضافوا اليه القول قسما :
[ و قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ]
كانت عزة فرعون - في زعمهم - منتهى القوة الموجودة في الأرض ، فأقسموا بها ، و حين يصل الانسان الى الاعتزاز بقوة مادية بهذه الدرجة التي يحلف بها فان نهايته قد آنت . أو ليس من أعتز بغير الله ذلك ؟!
جاء في الحديث القدسي :
" العظمة ردائي و الكبرياء ازاري فمن نازعني فيها لعنته "[ 45] هنالك أمر الله موسى بأن يلقي عصاه .
[ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ]
[ 46 - 47] خلق الانسان على الفطرة التي تتجلى فيها آيات الله ، و لو لم تلوث الصفحة البيضاء ، التي يتكون منها قلب البشر بالتربية الفاسدة ، و النظام الفاسد ، و الشهوات و .. و .. فسوف تنعكس عليها تجليات الرب .
و حتى لو تورط الإنسان في الذنوب فإن نفسه تظل تلومه ، و في لحظات خاصة يتعرض القلب لشلال من نور الحقيقة يكاد ينصدع به ، حيث يستيقظ فيه ذلك الوجدان ، و ينهض متحديا حجب الذنوب ، و اذا وفقه الله حدث فيه تحول مبارك و عظيم .
و هكذا خر السحرة ساجدين لله ، في وسط دهشة الجميع .
[ فألقي السحرة ساجدين * قالوا ءامنا برب العالمين ]هكذا ينبغي على من يحمل مشعل الثقافة الرسالية الا يهن ، ولا يني يهاجم الظلام الشيطاني . ذلك أن النور سيطوي الظلام أنى كان متراكبا .
[ 48] ولأن السحــرة آمنوا بالله بدلالة موسى ، و حيث تجلت آية الله على يده ، فإنهم ذكروه ، و لأن هارون - بدوره - كان و زيرا لموسى فقد جاء ذكره عند هذه اللحظة . لحظة المفاجئة الكبرى .
[ رب موسى و هارون ]
هكذا يقدر الرب أعمال عباده الصالحين .
[ 49] كان فرعون موغلا في الضلالة و الجحود ، فلم يهتد بكل تلك الآيات ، بل ظل يعاند بما أوتي من قوة .
[ قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون ]و توعدهم بالعذاب الاليم ، حيث لم يبق أمامه حجة يبرر بها مخالفته للرسالة ، فقال :
[ لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف ]
يدا من اليسار ، و رجلا من اليمين .
[ و لأصلبنكم أجمعين ]
[ 50] كان العقاب شديدا ، و لكن التقدير قضى ان يستقبله أولئك الذين كانوا الى عهد قريب من ركائز النظام ، لكي لا يرتاب أحد في صدق إيمانهم ، و بالتاليصدق الرسالة ، و تتم حجته على الناس .
[ قالوا لا ضير إنا الى ربنا منقلبون ]
كيف بلغ السحرة هذه الذروة من الإيمان بالله و رسالاته في لحظة ، كيف ايقنوا بالنشور الى درجة استساغوا الشهادة ، و اعتبروها عودة الى الله ؟!
حين تتساقط حجب حب الذات ، و عبادة الأهواء ، و الخضوع للطاغوت ، فان الحقائق تتجلى مباشرة للقلب ، و يكون للعلم بها علما شهوديا ، و اليقين صادقا .
[ 51] ثم لأن السحرة طالما مشوا في ارض الله ، و انقلبوا في نعمه ، يأكلون رزقه ، و يعبدون غيره ، فلما تذكروا كانت الصدمة في نفوسهم قوية فأرادوا تكفير ذنوبهم التي أحسوا الآن بثقلها على كواهلهم ، و تطهير صفحة حياتهم بدم الشهادة ، فقالوا :
[ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ]و نستوحي من هذه الآية ان هناك مؤمنين آخرين اتبعوا نهج السحرة التائبين ، و انما كان هؤلاء طلائع في مسيرة الايمان .
|