هدى و بشرى للمؤمنين
هدى من الآيات تتمحــور دروس سورة النمل - كما هي سورة الشعراء - حول الرسالات الالهية ، ميزاتها و خضائصها ، و بالتالي الشواهد الفطرية و الوجدانية التي تدل على صدقها .
و تبدأ السورة بالاشارة الى القرآن الحكيم ، ذلك الكتاب الذي تكفينا الاشارة اليه و الى واقعه علما و معرفة بحقيقته ، لأننا لسنا بحاجة إلى أكثر من الاشارة للحقائق الواضحة في الكون - و التي حجبتنا عنها الاهواء و الغفلة - لكي نعرفها ، بالذات اذا كنا ممنيلقي السمع و هو شهيد ، لان العقل و الوجدان و الفطرة ، و بالتالي لان الانسان بما يمتلك من ادوات الفهم ، و وسائل المعرفة ، هو الذي ينبغي ان يتعرف على الحقائق ، و انما الهادي و المنذر و المذكر ليس عليه سوى البلاغ و التذكرة " فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر " و هكذا تبدأ كثير من سور
القرآن الحكيم بالإشارة الى القرآن ذاته .
ان في القرآن آيات و تشريعات ، فهو من جهة علامات و اشارات تهدينا الى الله ، و الى اسمائه الحسنى ، و الى السنن الكونية و غيرها التي أجراها في الحياة ، و هو من جهة أخرى دساتير ثابتة ، و قوانين مستمرة في حياة الانسان التشريعية .
و في البدء يهدينا القرآن الى الله عن طريق اعطاء الامل و الهداية " هدى و بشرى للمؤمنين " ثم يامرنا بمختلف الفرائض كالصلاة و الزكاة .
أما لماذا لا يؤمن فريق من الناس بالقرآن ؟ فلأن أعمالهم السابقة - اجرامهم و فسقهم و ضلالتهم - التي اكتسبوها باختيارهم تصبح حجابا بينهم وبين الحقيقة ، و المشكلة الحقيقية اذا تحولت هذه الاعمال الى عادة ، ذلك ان حجاب العادة من أمتن الحجب و اصعبها أمامالانسان ، و الذي ينتصر على عاداته و سابقياته الفكرية فانه يتجاوز سائر الحجب و المشاكل بسهولة ، الا ان اختراق هذا الحجاب من أصعب الاشياء على البشر .
وفي الوقت الذي تشير هذه الآيات لهذا الحجاب تبين ان هذه سنة كونية جعلها الله في الحياة ، فالذي يبدأ بالصلاة تخف صعوبتها عليه شيئا فشيئا حتى يصير من المستأنسين بها ، وأما حين يقدم الانسان على الفاحشة فانه يستوحش منها ويلاحقه تأنيب الضمير بسببها في بادىء الأمر ، ولكنه لو عاد اليها المرة تلو الأخرى فسوف تتحول الى عادة عنده لا يحس حين ممارستها بأدنى تأنيب ، و مثال على هذه الفكرة هو ادمان الجريمة لدى الطغاة ، فهم أول ما يقدمون على جريمة القتل يكون الامر بالنسبة اليهم صعبا ، و لكن حينما تتكرر منهم الجريمة يصل بهم الامر الى حد يقول أحدهم : ( لكي ابقى حاكما لا يضر لو قتلت ثلثي الشعب ) و ليس لا يستقذر هذا العمل بل و يستأنس به ، و تلك سنة الهية ان يزين الشيطان للانسان عمله .
و الشجاع الحق هو الذي يغلب نفسه و هواءه ، فيخترق سد العادة ليصل الى نور الحقيقة ، و يتمسك بها حتى لو كلفه ذلك التنازل عن كل سابقياته الخاطئة .
ثم تشير الآيات الى ان التدبر في القرآن يصل بالانسان الى معاني الحكمة و العلم التي يشتمل عليها ، فآيات الحكمة و شواهدها واضحة في القرآن عبر الاحكام التي نجدها فيه ، فكل حكم يراعي كل الجوانب و الجهات من دون ان يحيف بأحد لحساب أحد ، أو لجانب على حسابجانب آخر ، و أما حقائق العلم فهي باطن آيات الحكم ، و من خلال هذا و ذاك يعرف المؤمنون اسمي الحكيم العليم لربهم .
وفي نهاية هذه الآيات يضرب الله مثلا من واقع موسى (ع) فموسى كان طاهرا و نقيا ، الا ان الوحي أوقد مصباح عقله بنور الله ، اذ نزل عليه في عمق الصحراء وفي الليل المظلم ، حيث البرد و الضياع و الزوجة الحامل ، و هكذا يهبط الوحي على الانبياء عند لحظات النقاء و الطهر و التجرد و التي ترافق لحظات الشدة و العسر .
ان الوحي الذي تلقاه موسى لم يكن ليعالج مشاكله الشخصية ، بل جاءه الوحي ليعالج مشاكل الامة كلها ، و هذا دليل على انه اتصال غيبي من الأعلى ، فلو ان الرسالة التي جاء بها كانت من عنده كنا نجد فيها اثار الظروف الصعبة المحيطة به ، و ما كان ليهتم بمشاكل الامة جميعا بل البشرية كلهم ، لان الثقافة الارضية تنبع من وسط الانسان و تتأثر به ، أما موسى (ع) فانه يسمع نداء في ذلك الحين : انني انا الله رب العالمين ، و هنالك ينسى كل شيء ، و يتوجه الى ربه خالصا ، و يهدف حل مشاكل امته ، متجردا عن ذاته الى الله ، و هذه هي خلاصة قصة الرسالة : من جهة الخروج عن الوسط الذي يعيشه الفرد ، و من جهة أخرى تلقي فكرة شاملة مطلقة لا تحدها الظروف الخاصة التي يعيشها الفرد ذاته ، و عبر هذه القصة و القصص المشابهة يكشف لنا القرآن الحكيم عن حقيقة الوحي ، و جوهر فرقهعن الثقافات البشرية .
|