بينات من الآيات [ 7] لكي لا يستغرب احد كيف يتلقى الرسول الوحي من لدن حكيم عليم ،
ولكي يعرف المؤمنون مزيدا من خصائص الوحي و كيف يتلقاه الرسول ، و ما هي ظروف التلقي ! يبين ربنا قصص الانبياء ، و ها هو موسى (ع) يسير بأهله فيأنس نارا فيذهب ليأتي منها بخبر ( عن الطريق ) أو قبس ليصطلي و يستضيء به .
[ إذ قال موسى لأهله إني ءانست نارا سآتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ][ 8] [ فلما جاءها ]
حين اتجه موسى (ع) نحو النار و و صل على مقربة منها .
[ نودي أن بورك من في النار و من حولها ]
قال البعض ان من في النار هم الملائكة ، و من حولها هو موسى (ع) .
و قال البعض ان " من في النار " هو الله الذي تجلى هنالك ببعض اسمائه ، و قد قال ربنا : " وسبحان الله رب العالمين " و قد جاءت الخاتمة لبيان تقديس الرب من الحلول في مكان .
و يحتمل ان يكون المقصود بمن في النار هو موسى ، و من حولها الذين يقتبسون منه ، وينتهجون خطه .
[ و سبحان الله رب العالمين ]
أي تعالى الله ان يكون حالا في النار ، لانه أكبر من ان يحده شيء .
[ 9] ان النداء الذي تلقاه موسى (ع) هو المسؤولية التي تتمثل في الرسالة الالهية المنزلة اليه ، ينذر بها قومه ، و يتحدى بها النظام الفاسد .
[ يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ]
وهذا هو المنطلق .
[ 10] [ و ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ]
يقول المفسرون ان الجان هي الحية الصغيرة سريعة الحركة ، و لكنا نعلم ان عصى موسى (ع) تحولت الى ثعبان ضخم ، و عليه فقد يكون التعبير بكلمة " جان " و هي الحية الصغيرة لبيان معنيين الاول : جانب الخفة و السرعة في الحركة حتى كأن هذا الثعــبان الضخم في خفته حية صغيرة ، و ا لثاني : انه كان في ضخامته كأنه الجن .
و موسى (ع) حين رأى هذا المنظر الرهيب :
[ ولى مدبرا و لم يعقب ]
أي هرب و لم يلتفت الى خلفه ، أو لم يتعقب الامر و يتابعه مرحلة فمرحلة و لحظة فلحظة ، الا ان العناية الالهية تحوط موسى و تمده بالعون في كل حين ، لذلك جاءه النداء تثبيتا له :
[ يا موسى لا تخف إنى لا يخاف لدي المرسلون ]
الرسالة هي عطاء الهي جديد يضاف الى الرسول ، و ليست نبوغا فطريا ، ولا نموا طبيعيا في حياته ، لذلك نجد موسى (ع) يخشى و يخاف من العصا التي القاها هو نفسه ، اذ لم يكن يعلم انها ستتحول الى جان .
لقد سما موسى (ع) في لحظة الى أفق النبوة ، من حملة الرسالات الالهية فأضحى ينفذ الأمر بلا خشية ولا تردد ، حقا ما اعظم التحول الذي ينشؤه الوحي في هذاالبشر الضعيف . ان يعرج به الى قوة تتسامى فوق كل قوة مادية لانه يقربه الى رب القدرة و الجبروت .
و الرسول يجب ان لا يخاف ، لانه يعتمد في تحركه على قوة غيبية مطلقة .
[ 11] [ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ]الذي ينبغي ان يخاف امام الله ليس موسى (ع) ولا الانبياء و المرسلون ، و انما الظالون بسبب ذنوبهم و سيئاتهم ، و لماذا نخاف من الله و هو ارحم الراحمين ؟! الا ان المشكلة تبدأ منا و تنتهي إلينا بسبب الذنوب و المعاصي ، فالطبيعة مثلا خلقها الله لنا فلا نخاف منها ، بل نخاف من عدم قدرتنا على الإستفادة السليمة منها .
و حتى الظالم صاحب الذنوب يمكنه أن يتوب ليجد الله غفورا رحيما ، فلا يبقى ما يقلقه أو يخيفه .
[ 12] وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ]
قد يصيب البياض يد الانسان بسبب البرص و هذا سوء ، و لكن يد موسى لم يكن بها ذلك المرض ، و انما خرجت بشعاع من نور .
[ في تسع ءايات ]
سبــع منهــا آيات انذار و عذاب و هي : الدم ، و القمل ، و الجراد ، و الضفادع ، و ا لطوفان ، و الثعبان ، و انفلاق البحر ، و اثنتان منها آيتان للرحمة و هما : اليد البيضاء ، و انبجاس عيون الماء من الصخرة حين ضربها موسى (ع) بالعصا .
[ إلى فرعون و قومه إنهم كانوا قوما فاسقين ]
والفسق هو تجاوز الحد ، و انحراف السائر عن الطريق يسمى فسقا .
[ 13] [ فلما جاءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين ]الآيات كانت جلية و لا تقبل الشك ، ولكنهم اتهموا موسى (ع) بالسحر ليبرروا كفرهم بها ، ولانهم ارادوا ظلم الناس والاستكبار في الارض فكانت الرسالة الالهية تمنعهم منها لذا فانهم اتهموا الرسالة بالسحر ، و كفروا بها بعد ان ايقنت أنفسهم بصدقها ، و افسدوا ،و انهى الله كيانهم ، و اغرقهم في اليم ، و جعلهم عبرة للمؤمنين .
[ 14] [ و جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما و علوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ][15] ان فرعون و ملأه استكبروا ، و حاولوا فرض سيطرتهم الفاسدة على الناس ، بينما داود و سليمان شكروا الله حينما منحهم العلم و الهدى والسلطة ، و هذا هو الفرق بين البركة الالهية واتباع خط الشيطان في نعم الدنيا .
[ و لقد ءاتينا داوود و سليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ][ 16] [ وورث سليمان داوود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ان هذا لهو الفضل المبين ]و بهذه الكلمة أعلن سليمان (ع) أنه ملك الناس . لماذا ؟
لأنه وصل الى أرفع مستوى من العلم ، حتى صار يعلم منطق الطير ، ولانه صار لديه كل ما يحتاجه الناس كالإدارة ، و قيادة الحرب ، و هذا يدل على ان الاسلامينظر الى القيادة من خلال الكفاءة لا النسب و الحسب ، فسليمان لم يرث الحكم لو لم تكن لديه الكفاءة .
و يبدو من بعض النصوص : ان سليمان ورث أباه منذ صباه لما أودعه الله فيه من علم و كفاءة .
في اصول الكافى عن بعض اصحابنا عن ابي جعفر الثاني (ع) قال قلت له : انهم يقولون في حداثة سنك ؟ فقال : " ان الله تعالى أوحى الى داود ان يستخلف سليمان و هو صبي يرعى الغنم ، فأنكر ذلك عباد بني اسرائيل وعلماؤهم ، فأوحى الله الى داود : أن خذ عصى المتكلمين و عصى سليمان واجعلها في بيت ، واختم عليهما بخواتيم القوم ، فإذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد أورقت و اثمرت فهو الخليفة ، فأخبرهم داود (ع) فقالوا : قد رضينا و سلمنا " (1)[ 17] [ و حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ]وربما كانت مهمة الطيور إيصال الرسائل كالحمام الزاجل ، أو التجسس كما فعل الهدهد .
[ فهم يوزعون ]
أي يوزعون حيث يقسم سليمان المهام على جنوده ، و الحشر لا يعني انهم مجموعون بشكل فوضوي ، بل انهم موزعون بشكل منظم .
و يبدو ان الحضارة قد تطورت في عهد سليمان (ع) وانه كان خبيرا بلغات شتى .
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 75 .
جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن الصادق (ع) :
" أعطي سليمان بن داود - مع علمه - معرفة المنطق بكل لسان ، و معرفة اللغات ، و منطق الطير و البهائم و السباع ، و كان اذا شاهد الحروب تكلم بالفارسية ، واذا قعد لعماله و جنوده و اهل مملكته تكلم بالرومية ، واذا خلا بنسائه تكلم بالسريانية والنبطية ،واذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلم بالعربية ، واذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية " (1)وجاء في حديث آخر :
" أعطى داود و سليمان (ع) مالم يعط أحد من أنبياء الله من الآيات ، علمهما منطق الطير ، وألان لهما الحديد و الصفر من غير نار ، وجعلت الجبال يسبحن مع داود (ع) " (2)(1) و (2) المصدر / ص 78 .
|