وجئئك من سبأ بنبأ يقين
هدى من الآيات لقد ملك سليمان جنودا لم يملكها أحد قبله ، و لن يملكها أحد بعده ، و حشر له جنود منظمون من الجن و الانس و الطير ، و كانوا يسيرون في الأرض ، و يسعون فيها عمرانا و بناءا . وفي بعض أسفارهم مروا بواد النمل فاذا بملكتهم تناديهم : ان يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، فان سليمان و جنوده قادمون ، و أخشى ان يحطموكم باقدامهم و حوافر خيولهم ، فتبسم سليمان منها حين سمعها .
قد تكون للانسان معارف و أفكار لا تستثار الا بحوادث تطرأ على حياته ، فينتبه لها ، و قد يكون غافلا عن نفسه فاذا بظاهرة أو حادثة طارئة تثيره لتفتح له أبواب المعرفة و العلم ، فقد بدأ العالم المعروف ( نيوتن ) أبحاثه عن الجاذبية لأنه شاهد تفاحة تسقط من الشجرة الى الأرض ، فتساءل : لماذا لا تصعد الى السماء ؟! وانتهى الى نظرية الجاذبية .
و قد بلغ سليمان (ع) من القوة و السلطة شأنا بعيدا ، فغفل أو تغافل حدود سلطانه - و هذا هو شأن الانبياء و الصالحين - فهم كلما زاد ايمانهم زاد تواضعهم لله ، و لم يأبه سليمان (ع) بالجوانب المادية للملك ليخرجه عن توازنه و عبادته لله - كما هــو شأن سائر الملوك - بل لم يكن الملك بالنسبة اليه وسيلة للتكبر و الاستعلاء ، بل وسيلة لإقامة العدالة على الارض ، فقد كان يقضي النهار صائما و الليل قائما متعبدا لله سبحانه ، و لم يتذكر (ع) مدى سلطانه الى ان سمع خطاب النملة مما أثر فيه ، فاندفع نحو ربه شاكرا له على نعمه المتوالية ، و هذا يؤكد حقيقة هامة و هي : انعكاس ما يحدث للانسان على العوالم المحيطة به ، فالعدالة تشمل الانسان و الطبيعة من حوله ، و هكذا الظلم . و قد تعجب سليمان (ع) من خطاب النملة ! فكيف به وهو العبد الضعيف ان تبلغ قوته حدا يخشاه حتى النمل! لذلك اندفع نحو الشكر لله ، خشية ان يكون شعوره بالقوة سببا للكفران بالنعم و الطغيان . لذلك بادر طالبا من الله التوفيق الى شكره ، ليس فقط شكرا نفسيا و لفظيا بل وعمليا أيضا ، و ذلك بأن يستخدم ما وهبه الله من القوة و المنعة و الملك في سبيل عمل صالح يرضيه تعالى ، فليس كل عمل صالح بذاته يرضي الله ، فلو انقطع شخص لله بالعبادة صياما و صلاة ولكنه انعزل عن الناس و الكد على من يعولهم ، فان هذا العمل لا يرضي الله و ان كانت الصلاة في ذاتها عملا صالحا .
كما جرت لسليمان (ع) حادثة اخرى تكشف لنا عن ملكه و طريقته في الحكم ، حينما غاب الهدهد فظن في بادىء الامر انه خالف قواعد الانضباط ، فهدده و توعده بالعذاب حتى يصير عبرة لسائر الجنود ، فلا يفكرون في مخالفة النظام فتعم الفوضى في الجيش ، و كان من عادة سليمان (ع) نتف ريش الطائر المخالف و المتخلف ، الا ان الهدهد فاجأ سليمان (ع) حين نقل له خبرا مفاده : انه رأى مملكة سبأ في بلاد اليمن ، و لم يكن لدى سليمان علم ظاهر بها ، لانه كان يعيش فيفلسطين ، اذ يجب ان تلتقي الحضارتان ( و هذه سنة الحياة ) و أضحى الهدهد هو الرابط .
بعد ذلك قرر سليمان (ع) ان يتبين الامر ، فان صدق أكرمه و الا أحل به العذاب ، لذلك دفع اليه رسالة و أمره ان يلقيها الى ملكة سبأ ، و في القصة عبر و دروس سنتعرض لها في البينات .
|