فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 35] [ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ]

قالت : انني سأرسل الى سليمان و حاشيته بهدية ، و انتظر رد الموفدين .

[ 36] [ فلما جاء سليمان قال اتمدونن بمال فما ءاتان الله خير مما ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ]و عندما وصل المرسلون الى سليمان وقدموا هداياهم لم يأبه بها ، و قال لهم : إنكم تريدون ان تغروني بالمال ، و أنا لست بحاجة إليه ، فالله منحني من الملك و المال ما هو خير من هديتكم التي لا قيمة لها . إن المال لا يفرحني ولا يسرني ، ولكنكم أنتم الذين تفرحون بالمال ، لأنكم عبيد الدنيا ، و متاع الدنيا لا قيمة له عندي ، و إنما يفرح بالمال من اتخذه هدفا و غاية و معبودا .

بلى . إنه لم يغتر بزخارف زينة الحياة الدنيا ، و فدى نفسه من أسرها ، و لهذا فقد استصغر إغراءات الملكة و تابعيها لسببين :

1 - فما يملكه أفضل من هدايا بلقيس بكثير ، إذ أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، و لم يبلغه أحد قبله .

2 - ولأنه لم يكن يبحث عن الملك ، بل كان يسعى لنشر الرسالة و الوعي ،لذلك أجابهم : بأنكم أنتم الذين تفرحون بالهدية ، أما نحن فلا نفرح بالدنيا وما فيها ، و إنما هدفنا نشر الرسالة ، و إقامة الحق .

[ 37] [ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ]لم تكن غاية سليمان المال ، و إنما كانت غايته إرشاد الضالين إلى الطريق الصحيح ، فلذلك أمر رئيس الوفد البلقيسي بالعودة إلى ملكته ، و هددهم بالحرب ، و تسيير جيش جرار إلى بلادهم لا يستطيعون مقاومته .

[ و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون ]

و نخرجهم من أرضهم وهم مهانون و محقرون ، و هنالك فارق كبير بين بلد يفتح عنوة فيمتلكه الفاتحون بقيمة الدم الذي أراقوه ، و بين بلد يصطلح أهله عليه ، حينئذ تترك البلاد بيد اهلها فيتمتعون بحريتهم و كرامتهم ايضا .

هكذا عرفت بلقيس أن عليها أن تسير الى سليمان طوعا قبل ان تساق إليه كرها ، فلما حزمت حقائبها ، و علم سليمان ذلك طلب ممن حوله إحضار عرشها .

[ 38] [ قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ]ثم التفت الى من بحضرته من حاشيته ، طالبا أن يتبرع أحدهم بإحضار عرش بلقيس قبل أن تأتي مستسلمة مع جماعتها .

[ 39] [ قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ]قال جــني قــوي بأنه يستطيع أن يحمل عرش بلقيس إليه قبل أن ينقضي مجلسه ، الذي اعتاد أن يجلسه للقضاء بين الناس ، أي في غضون ساعات ، و إنه سيأتي بالعرش بعظمته دون أن يسرق من مجوهراته و زينته شيئا .

كيف يقتدر الجن على حمل هذا العرش العظيم خلال ساعات من اليمن إلى فلسطين ؟! هذا مما لم يتعرض له السياق القرآني ، و لعل الأمثل بنا أن نتركه بعد أن نؤمن به إجمالا لعدم وجود ما يدلنا على استحالته .

[ 40] [ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ]و قال الذي عنده علم من الكتاب - و الكتاب هنا اللوح المحفوظ عند الله سبحانــه - بأنه سيحضــره قبل طرفة عين واحدة ، وأحضره في الحال بإسم الله الأعظم ، و جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر عليه السلام - انه قال :

" إن آصف بن برخيا قال لسليمان (ع) : " مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد عينيه فنظر نحو اليمن ، و دعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرد طرفه " (1)و يبقى سؤال : هل كان سليمان أعلم أم وزيره آصف بن برخيا ؟ و يجيب عن ذلك الإمام الهادي (ع) في الحديث التالي :

روى العياشي في تفسيره قال : إلتقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ، و يحيى بن أكثم فسأله ، قال : فدخلت على أخي علي بن محمد عليهما السلام - اذ دار -(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 87 .


بيني و بينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته ، فقلت له : جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيــه فيها ، فضحك ثم قال : هل أفتيته فيها ؟ قلت : لا ، قال : و لم ؟ قلت : لم أعرفها ، قال هو : ما هي ؟ قلت : قال : أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصفبن برخيا ؟ ثم ذكرت المسائل قال :

" أكتــب يا أخــي : بسم الله الرحمن الرحيم ، سألت عن قول الله تعالى في كتابه : " قال الذي عنده علم من الكتاب " فهو آصف بن برخيا ، و لم يعجز سليمان عن معونة ما عرف آصف ، لكنه - صلوات الله عليه - أحب أن يعرف من الجن و الانس أنه الحجة من بعده ، و ذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ، ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته ، كما فهم سليمان في حياة داود ، و لتعرف إمامته و نبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق " (1)بلى . إن سليمان (ع) اختار آصف بن برخيا للقيام بذلك الدور من أجل أن ييبين للناس أنه الوصي من بعده ، و حين نقرأ تأريخ الأنبياء (ع) نجد انهم يختارون مواقف معينة يظهرون فيها أوصياءهم ، حتى يكون واضحا عند الناس من هو الخليفة من بعدهم ، وهكذا لايرحلون إلا بعد أن يجعلوا لمستقبل الرسالة ضمانا .

و نستوحي من سورة النمل بأن الملك يقوم على ثلاثة أركان هي : العلم ، و أعلى مراتبه أن يستفيد الانسان من خبرات الآخرين و عقولهم " و شاوروهم في الامر " و الحزم " فاذا عزمت " و التوكل " فتوكل على الله " ولقد اجتمع لسليمان (
ع) الملك و القوة و الطاعة من رعيته ، و كان في جنده من يستطيع أن يحمل عرشا كعرش بلقيس ، و يأتي به من بلد بعيد كاليمن - خلال طرفة عين - و لكن ذلك كله لم يكن أساسا حقيقيا لملكه ، بل ان القوة الحقيقية التي استند عليها هي الامداد(1) المصدر / ص 91 .


الغيبي من الله ، قال تعالى : " وان يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين " (1) و الملاحظ أن القرآن قدم نصر الله على عون المؤمنين لأن الاول هو الأهم .

و نحن حين نبدأ بأي عمل ترانا نستعين ببسم الله الرحمن الرحيم ، و سليمان بدوره استعان بقدرة الله و قوته - حين أرسل كتابه الى بلقيس - اذ قال : " انه من سليمان و انه بسم الله الرحمن الرحيم " ليبين لها أن سلطانه ليس ماديا ، و هكذا نجد نوحا يخاطب أصحابه قائلا : " اركبوا فيها بسم الله مجريها و مرسيها " (2) لأن كل شيء لا يتم إلا باسم الله ، ولولا اسم الله لم يستطع آصف بن برخيا إحضار عرش بلقيس في لحظة من اليمن الى أرض فلسطين .

[ فلما رءاه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ]فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه ، قال : إن إحضار العرش لم يتم بقوة مادية أو أرضية ، ثم إن نعم الله على المرء ليست دليلا على سلامة النية بل إنها ابتلاء ، فسلامة الجسم والغنى والأمان كلها نعم للإبتلاء ، و اختبار الإرادة ، و الفتنة ، فلا ينبغي للمرء أن يغتر بها ، إنما يجب أن يؤدي حقها بشكرها .

[ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ]

و من شكر نعم الله ، فإن فائدة الشكر تعود عليه .

[ ومن كفر فإن ربي غني كريم ]


(1) الأنفال / 62 .

(2) هود / 41 .


فلو أن جميع العالم كفر بالله ، فإنه لا يضره من كفرهم شيئا ، و تبقى رحمته تسعهم ، و يظل يلطف بالكافرين ، و يعطيهم الفرصة بعد الأخرى ، لأن رحمته وسعت كل شيء .

[ 41] [ قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ]أي غيروا شكل عرشها و مظهره حتى يبدو مختلفا لنختبر عقلها ، و نتعرف على طبيعتها ، و نهديها الى الحق و الرسالة .

[ 42] [ فلما جــاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين ]و عندما جاء بلقيس سئلت عن السرير الذي أتى به آصف بن برخيا ، و هل أنه يشبه سرير ملكها ، فقالت : كأنه هو بعينه ، ثم يقول سليمان (ع) : أنه تفوق على هذه المرأة بدرجتين : العلم و هي خلو منه ، و الإيمان وهي تفقده ، و أساس الملك هو العلم المقرون بالإيمان.

[ 43] [ و صدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ]إن بلقيس كانت وثنية على دين آبائها و قومها ، و لذلك عبدت الشمس و النجوم ، و لم تعبد الله الذي خلقهن ، و ضربت تلك العبادة الخاطئة بينها و بين العلم حجابا منعها عن معرفة الله التي هي أول العلم .

[ 44] [ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة و كشفت عن ساقيها ]الصرح : القصر الكبير الواسع ، حسبته لجة : أي مياه عميقة ، و رفعت ذيل ثيابها لئلا تبتل حين تخوض فيه .

[ قال إنه صرح ممرد من قوارير ]

ممرد : مستوي ، و هي لفظة ماخوذة من الأمرد ، و الأمرد الذي ليس عليه شعر ، و بلغت الارض الزجاجية حدا من الإستواء بحيث لا يبدو فيها أثر للتعرج ، و يبدو أن الزجاج كان معروف الصناعة على عهد سليمان (ع) و كانت صناعته متقدمة كالكثير من الصناعات الاخرى .


[ قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ]و هنا عرفت بلقيس الحقيقة ، و تبدد الضباب الذي كان يلف عقلها و يحجبها عن رؤية الحق و معرفته ، و أخذت تنظر إلى الحياة بمنظار جديد ليس فيه مكان للكبرياء .

لمــاذا حدث هذا التحول التام الذي يشبه لحظة الاعتراف عند المجرمين بعد طول المراوغة ؟

حينما يصطدم الانسان بقضية ما كان يجهلها فإن هذه القضية تثير عقله ، فيبدأ بإعادة النظر في أفكاره و معتقداته ، و تؤدي إعادة النظر هذه الى انهيار النظام الفكري الذي كان يعتمد عليه ، فيتحرر عقله من الأغلال القديمة ، و يأخذ بالتفكير من جديد حتى ينتهي الى الحقيقة .. هكذا آمن السحرة بموسى حين هزموا ، وهذا ما حدث لبلقيس حين اصطدمت بما أعده لها سليمان من اختبار ، حيث أخذت تجدد نظرتها للحياة ، بعد أن وجدت أن نظرتها السابقة لها كانت غير صحيحة ، فقررتان تتبنى الفكر الصحيح الذي يستند على الإيمان بالله ، و نبذ عبادة الأنداد ، فآمنت و أسلمت و جهها لله رب العالمين .




فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس