فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
و نجعلهم الوارثين :

[ 1-2] [ طسم * تلك ءايات الكتاب المبين ]

ان هذه المقطعات اشارة الى القرآن ، بل هي جوهره ، و بتعبير أفضل هي المادة الأولية التي يتألف منها القرآن الحكيم ، و تكتب بها كلماته ، و هي تحمل في طياتها النور و الهدى ، و هو رموز و إشارات يعرفها اولياء الله ، و لعلها مفاتيح علومالسورة .

[ 3] و هذا الكتاب سوف يكون ، أداة لنقل التجربة العظمى لكم أيها البشر ، و لك انت يامن تخوض صراع الحق ضد الباطل .

[ نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحق لقوم يؤمنون ]فالحياة قائمة على الحق ، و يجري الحق على كل اجزائها ، و لكن من الذي يستفيد من هذه القصص ؟

انهم المؤمنون ، فلو لم تكن استجابة للحق من قبل الناس ، فانهم لا يستفيدون من القرآن الكريم ، حتى ولو قرأوه الف مرة ، أو حفظوا آياته حروفا و كلمات .

اذن حتى تستفيد من القرآن يجب ان تؤمن و تسلم له ، و ما دام هذه القصص حقا فلا يجد لها انعكاسا إلا في قلوب المؤمنين الذين يملكون قابلية فهم الحق .

[ 4] ثم يبدأ القرآن بالحديث عن فرعون رمز الفساد و الباطل :

[ إن فرعون علا في الأرض ]

لقد استعلى فرعون و سيطر على الناس ، و لكن لم يستفد من السلطة في خير شعبه ولا نفسه ، و في آية قرآنية تاتي في آخر هذه السورة يقول ربنا : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا و العاقبة للمتقين " .

ان الذي يحب الرئاسة و السيطرة ، و يتحول الحكم عنده من وسيلة إلى هدف ، فإنه ينشــر الفســاد ، و كــم من الجرائم وقعت في التأريخ ، ولا زالت على مذبح حب الرئاسة .


ومن طرائف التأريخ : ان الامام موسى الكاظم - عليه السلام - دخل يوما على الرشيد ، فأجله و احترمه بصورة أدهشت الجالسين حوله ، و لما أراد الإمام أن يقوم من مجلسه ، قام الرشيد و اٌقبل على الامين و المأمون قال : يا محمد و يا إبراهيم ! سيروا بين يدي عمكم، و سيدكم ، و خذوا بركابه و سووا عليه ثيابه .

فاستغرب المامون من أبيه هذا الصنيع ، فسأله عن سبب هذا الإحترام و التقدير ، فقال الرشيد : يابني انه صاحب الحق ، فقال له المأمون : اذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه ، فنظر اليه والده و قال : الملك عقيم ، و الله لو نازعتني الذي انا فيه لأخذت الذي فيه عيناك .

و هذه صورة من التأريخ عن الانسان حينما يضحى الحكم عنده هدفا ، فهو يتشبث به حتى لو خالف العقل و الشرع في وسائله اليه للوصول ، و فرق كبير بين الذي يريد الحق و الآخر الذي يريد العلو و التسلط .

و فرعون كان يريد العلو ، لذلك أفسد في الأرض ، و أعظم افساده التمييز الطائفي ، حيث جعل فريقا من الناس متسلطا على الفريق الاخر ، ويبدو أن هذه طريقة كل نظام فاسد و هو تقسيم الناس إلى فريقين ، فريق يحكم و فريق يستضعف ، و قد يكون هذا التقسيم على أساس طائفي ، أو عنصري ، أو حزبي أو غيرها ، حيث تتعدد الصور ولا يختلف الجوهر ، و هو صنع أداة للسلطة الفاسدة يتحكم بها الطاغوت على الناس .

[ و جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ]

إذا كانت الأمة متحدة ، فان الطاغوت لا يستطيع التسلطة عليها ، لذلك سعى فرعون لتفريق بني إسرائيل أحزابا ، عملا بالقاعدة الجهنمية ( فرق تسد ) التي هيأداة السلاطين في جرائمهم ، إلا أن فرعون لم يكتف بالتفرقة وحدها ، و إنما أضاف لها سياسة أخرى هي الارهاب .

[ يذبح أبناءهم ]

لــو كان فرعون يذبح الاطفال الرضع الذين عادة ما تكون عواطف البشر مركزة فيهم . في هذا البرعم الصغير ، و في هذه البراءة النقية .

لكن الذي يريد السلطة ، تتبلد مشاعره و يموت فيه الضمير .

[ و يستحي نساءهم ]

أي يبقيهن أحياء للخدمة في البيوت .

[ إنه كان من المفسدين ]

هذا هو الفساد و الذي يلخصه القرآن في ثلاثة أمور :

1 - التفرقة ، و بالتالي تحطيم الكيان الإجتماعي الموحد .

2 - القضاء على النفوس البريئة .

3 - الاستثمار الطاقات البشرية بطريقة غير مشروعة .

وهذه سنة القدر ، أن يأتي فرعون ، و يستخدم هذه الوسائل المنكرة في تدعيم نظامه و هي : افساد المجتمع بعدم وحدته ، و الإخلال بالأمن ، و تحطيم أسس الإقتصاد .

[ 5] [ و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهمأئمة ]


ان يشافى بسبب الطبيب مريض أمر معروف ، أما أن يدعي بأنه سوف يجعل هذا المريض الذي يرتجف من مرضه أقوى رجل في العالم ، فذلك أمر مستبعد ، و القرآن يقول إن إرادة اللــه لا ترفــع عن المستضعفين استضعافهم و حسب ، بل تجعلهم أئمة وقادة للبشر ، و هذا هو الهدفالأسمى لحركة التأريخ .

انهم سوف يغنمون كل ما لدى المستكبرين من نعم ، و رياش ، و أمتعة .

[ و نجعلهم الوارثين ]

[ 6] و حينما يصل المستضعفون الى السلطة فإنهم يتمكنون في الأرض ، و يثبتون سلطتهم ، و ذلك حينما يقتلعون جذور الفساد ، و ينبذون المستكبرين في العراء كما فعل الله بفرعون و ملئه .

و من حقائق التأريخ : أن الأقباط الذين تحكموا في بني إٍسرائيل ، ظلوا محكومين إلى يومنا هذا ، و لم ترجع السلطة مرة أخرى اليهم أبدا .

[ و نمكن لهم في الأرض و نرى فرعون و هامان و جنودهما ]و سائر المستكبرين على مر العصور .

[ منهم ]

أي من المستضعفين .

[ ما كانوا يحذرون ]


حينما يصل المستضعفون إلى السلطة فسيذيقون المستكبرين العذاب الشديد ، و سيرون منهم كل ما كانوا يحذرونه .


أنا رادوه و جاعلوه من المرسلين :

[ 7] و لكن كيف يتم ذلك ؟

يتم عندما يوجد إمام و قائد رسالي ، يتحمل المسؤولية ، و يفجر الثورة في الجماهير ، لننظر كيف أنبت الله شجرة هذا القائد الكريم في أرض صالحة .

[ و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فإلقيه في اليم و لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين ]لقد سبق الذكر بأن قضاء الله بغلبة المستضعفين ، و اندحار المستكبرين يتحقق غيبيا و بشريا ، أما غيبيا : فان الله لم يرسل رجلا من وزراء فرعون ليقوم بانقلاب عسكري ، مع انه ممكن عند الله ، بل أرسل طفلا من بني إسرائيل ، في ظروف كان فرعون يذبح الأبناء فيها. و كيف أرسله ؟

أوحى الله إلى أمه أن تلقيه في اليم ، ليتربى في قصر فرعون ، و انتهى هذا الأمر بانتصار بني اسرائيل على فرعون بسببه ، و أساسا كلمة ( موسى ) في اللغة العبرية تعني ابن الماء و الشجر ( فمو) : تعني الماء ( وشي ) : تعني الشجر .

ان هذا الولد الذي لا يملك شيئا هو الذي يحطم سلطة الطاغوت .

وأما بشريا : فالله لم يرسل الملائكة ، ولا الرياح لتقضي على فرعون ، بل أرسل بشرا قائدا هو موسى (ع) .


[ 8] و بالفعل استجابت أم موسى الى وحي الله ، كما وألقت بإبنها في اليم الذي حمله الى سواحل قصر فرعون .

[ فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم ]

في المستقبل :

[ عدوا ]

ينهض ضدهم و يقود المعارضة ، و إنما يكون عدوا لهم لأنه يحمل قيم الحق التي تتناقض و نهجهم الباطل و المنحرف .

[ وحزنا ]

يسبب لهم القلق الشديد ، و سوف يأخذهم الأسف على قرارهم بعدم ذبحه ، و هكذا نجد الأمور تسير كما يشاء الله - بإرادته - لا حسب ما يريد الفراعنة ، فهم التقطوا موسى ليكون لهم ولدا ، بينما أراد الله أن يجعله عدوا ، و ارادوه انه يدخل السرور على فرعون الذي ربما كان يقلقه عقمه ، فجعله الله حزنا و مصدرا للقلق بالنسبة اليهم .

و نجد لهذه الإرادة صورا هنا و هناك حينما نقلب صفحات التأريخ على الحقائق .

[ إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين ]

الظلم خطأ لا تقتصر آثاره على المحرومين و حسب ، بل تطال الظالم نفسه .

[ 9] فلقد احضروا موسى إلى فرعون ، فلما عرف انه من بني اسرائيل - اذكانت ملامحهم واضحة - قال : خذوه و اقتلوه .

[ و قالت امرات فرعون قرت عين لي و لك ]

الحــق يتجــسد مــرة فــي امــرأة هــي أم موسى (ع) و مرة أخرى في امرأة فرعون ( آسية بنت مزاحم ) حيث أصرت على فرعون الا يقتله ، و استجاب لها فعلا :


[ لا تقتلوه عسى أن ينفعنا ]

عندما يكبر .

[ أو نتخذه ولدا ]

فقد كان فرعون عقيما ، ليس له ولد .

[ وهم لا يشعرون ]

ولا يحسون بقدر الله و قضائه في مستقبــل هــذا الطفل ، الذي يريدونه ولدا لهم ، هم يخططون لهدف ، بينما يجعله الله أماما يزيل سلطانهم على يديه ، و أيدي المؤمنين تحت قيادته .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس