فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
فرددناه إلى أمه :

[ 10] [ و أصبح فؤاد أم موسى فارغا ]

افرغته من كل اهتمام وانصب تفكيرها على مصير ولدها الصغير ، وهكذا يكون الانسان حينما يواجه مشكلة أو أمر هام في حياته ، و يقال : فارغا أي مهموما و حزينا ، و ربما فسرت الآية " فاذا فرغت فانصب " أي إذا حزنت و غممت ، و هذا التفسير يتناسب و موضوع سورة الإنشراح .

[ إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ]


أي أعطيناها الصبر و المقدرة على كتمان السر .

[ لتكون من المؤمنين ]

و القرآن يبين في هذا المقطع من الآية أهمية الكتمان في انتصار الثورات ، و كيف أنه شرط الإيمان . اذا لو أبدت أم موسى مشاعرها تجاه ولدها اذن لما كانت من المؤمنين .

و في الحديث عن الرسول (ص) :

" استعينوا على أموركم بالصبر و الكتمان "[ 11] و بعد أن القت أم موسى (ع) بوليدها لم تترك الأمر هكذا تنتظر وليدها حتى يعود إليها ، بل أمرت أخته أن تلحق بالتابوت ، و لكن بسرية تامة .

[ و قالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب و هم لا يشعرون ]حتى لا تكون العلاقات بينهما و بينه واضحة ، فلا يقبل منها اقتراحها بأن تدلهم على من يرضعه مثلا ، لو عرفوا أنها أخته ، وربما يقتلونه .

[ 12] و هكذا عملت أم موسى كل ما في وسعها ، فكان ذلك تهيئة لتدخل الإرادة الإلهية في الأمر ، أما لو كانت تنتظر كل شيء ، يأتي من عند الله ، دون أن تقوم هي بدور معين ، فلربما لم يرجع لها وليدها ، لأن سنة الله في الحياة قائمة - في التغيير - على السعي منجهة الإنسان نفسه اولا " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (1)(1) الرعد / 11


[ و حرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم و هم له ناصحون ]و كلمة " يكفلونه لكم " تدل على أن اخت موسى حاولت جهدها أن تخفي علاقتها به أمام الآخرين ، فلم تقل أنه أخوها ، بل ملكته فرعون بكلمة " لكم " كما نستفيد من الآية الشريفة أهمية المتابعة للأعمال و القرارات الرسالية حتى لا تموت في الأثناء ، بل تظل يد الرساليين ترعاها . لحظة بلحظة إلى أن تصل الى نهايتها .

ان موسى الذي حرم الله عليه المراضع ربما كان يموت جوعا و عطشا لو لم تتدارك أخته الأمر بالمتابعة ، و على أحسن الأحوال يصبح مصيره مجهولا عندهم .

[ 13] في آية سابقة قال تعالى :

" و أوحينا الى أم موسى ان ارضعيه فأذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه اليك و جاعلوه من المرسلين "وفي هذه الآية يقول :

[ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ]

تطمئن ، و يذهب عنها الخوف و الوجل .

[ و لتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ]

الآية الاولى تبين أن هناك وعدا من قبل الله ، أما الثانية فهي تشير الى تحقق هذا الوعد و هنا نستفيد أمرين :

1 - صحيح ان الله يعد المؤمنين بالنصر و لكنه يطالبهم بالعمل لا ان يكونوعده لهم مدعاة للكسل ، و التوقف عن العطاء و السعي ، بل منطلقا للسعي الحثيث و الجهاد .

ان أم موسى أعطت من جهدها المادي و المعنوي حتى تكون أهلا لوعد الله .

2 - حينما يعد الله بشيء ما يجب ان نطمئن الى وعده ، فهو تعالى لن يخلف وعده ، و لماذا يخلف وعده و هو القوي العزيز ، الحكيم القاهر ؟! فلا يعجزه شيء ، و هو الصادق ، و من أصدق من الله قيلا ؟!

لو كان الناس يعلمون بان وعد الله حق ، و يتحسسون بامل الانتصار لما تسلط عليهم الطغاة أمثال فرعون ، لكن مشكلتنا هو ضعف اعتقادنا بالله ، فاذا بأحدنا يقول : و ماذا استطيع ان أعمل ، و أغير مقابل هذا الارهاب ، والنظام القائم ، و أنا شخص واحد ؟ بلى .. الله يؤيدك و يسدد خطاك .

ان الثقة بنصر الله ، و التوكل عليه هو وقود الحركة ، و الذي يفقده يفقد كل شيء .


و كذلك نجزي المحسنين :

[ 14] لقد عاد موسى كما وعد الله الى أمه ، و ترعرع في حجرها .

[ و لما بلغ أشده ]

صار بالغا من الناحية الشرعية بتكامله العضوي .

[ و استوى ]

تكامل عقله .


[ ءاتيناه حكما و علما ]

حيث صار نبيا ، و ليس رسولا .

[ و كذلك نجزي المحسنين ]

ليس هناك قرابة بين الله و موسى حين اعطاه النبوة ، و إنما استحقها موسى بعمله و احسانه و كل انسان يعمل من اجل الآخرين يجازيه الله خيرا ، و هذه الحقيقة نجدها في التأريخ و بالذات في تأريخ الانبياء ، بل و في حياتنا اليومية أيضا ، كما أن أفضل ما يتعبد بهالإنسان ربه ، و يستدر به رحمته هو الإحسان للناس .

و هذه الآية نجدها في أكثر من موضع من القرآن الحكيم ، ففي سورة يوسف يقول تعالى : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما و كذلك نجزي المحسنين " و نحن يمكننا أن نجرب هذه الحقيقة : لنحسن الى الناس ، ثم لننظر كيف يعاملنا الله . إن الصدقة تزيد في العمر ، و تدفع البلاء ، و تزيد في المال حتى لو كانت الصدقة هي أماطة الأذى عن الطريق ، أو مساعدة الأعمى و الطفل على عبور الشارع ، اذ ليس شرطا ان تكون الصدقة مالا .

ان أي خدمة يقوم بها الإنسان للآخرين يجد جزاءها سريعا فكيف إذا كرس حياته من أجل خير الناس و صلاحهم . ان الأنبياء لا يفكرون في مصالحهم الشخصية في الدنيا ، و انما يفكرون في خير الناس و مصلحة الرسالة التي يحملونها ، و نقرأ في سيرة نبينا الأكرم محمد (ص) : أنه عندما حضرته الوفاة ، و جاءه ملك الموت ليقبض روحه سأل ملك الموت : و هل تلقى أمتي أذى في مثل هذا الامر فاجابه : بلى و لكن الله أمرني ان اقبض روحك باسهل ما يكون فيه قبض الروح ، قال له رسول الله (ص) :


" شدد علي و خفف على أمتي "

و هذه سنة الأنبياء ، كما يجب ان يكون هذا ديدن من يسير على خطهم في الحياة .

[15] و من علامات إحساس موسى (ع) انه كان يبحث عن الخير ، ولا يبالي بعدها بما يمكن أن يجره ذلك عليه من اذى إذا كان يرضي الله ، لقد كان يبحث عن المحرومين حتى ينتصر لهم .

[ و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ]

والذي يحمل قضية رسالية حينما يدخل بلدا يسيطر عليها الطاغوت بالخصوص . اذا كان يريد القيام بعمل كعملية عسكرية ، أو توزيع منشور ، أو عملية استطلاع و تجسس يجب ان لا يكون ساذجا بل حذرا نبها ، و يختار الوقت الأنسب الذي يعينه في إخفاء نفسه ، و كتمان أمره، و ربما كان دخول موسى للمدينة ليلا أو في اول الصبح ، وربما كان في مناسبة انشغل بها أزلام النظام عن الوضع .

[ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذامن شيعته و هذا من عدوه ]بسبب ما قامت به الحركة الرسالية من أعمال سياسية وثقافية ، و ربما ميدانية في عملية الصراع بينها و بين فرعون حينذاك ، استطاعت أن توجد في المجتمع تيار مناهضا للسلطة ، بل و أكثر من ذلك أن ترفع مستوى الصراع بين تيارها والتيار الآخر الى حد المواجهة المباشرة ، و من أهم مسؤوليات و واجبات الحركة الرسالية حين تصعد بمستوى جماهيرها في الصراع ان تسيطر على الساحة حتى لا يكون للصراع مردود سلبي على خططها و تحركها .


و يبدو من الآية الكريمة : ان موسى (ع) منذ البداية كون الحركة الرسالية ، فكان له حزب و شيعة ، حيث استطاع ان يجمع شمل بني اسرائيل تحت لوائه ، و يتصدى للنظام الطاغوتي .

و ربما يكون معنى يقتتلان يتضاربان ، و لكن ظاهر الأمر يدل على أن أحدهما يريد قتل الآخر .

[ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ]

و أمام هذه الإستغاثة وجد موسى (ع) نفسه مضطرا للدفاع عن الذي من شيعته . لهذا بادر لدفع ضرر القبطي .

[ فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان ]

الفرد الرسالي يريد الخير لحركته و شيعته ، و لكن لا يعني ذلك أنه يريد الانتقام من الناس ، و قد يصل الأمر أن يقوم الرساليون بحرب فدائية و لكن عن اضطرار و ليس بهدف التخريب أو الارهاب ذاته ، بل لإزالة العوائق التي تعترض طريقهم .

لهذا قال موسى (ع) حينما وقع القبطي ميتا : " هذا من عمل الشيطان " .

يقصد بذلك العمل الذي دعى هذين ( الاسرائيلي و القبطي ) للاقتتال ، واذ ضربته فانما للدفاع عن المظلوم و المستضعف ، و قد قال بعض المفسرين : ان سبب الاقتتال هو محاولة القبطي تسخير الإسرائيلي ليحتمل شيء بلا أجر .

و عندما قتل موسى القبطي و لم يكن يريد قتله ، بل ردعه قال :

[ إنه عدو مضل مبين ]


[ 16] لقد انتصر موسى على عدوه الا أن ذلك لم يدعه للإغترار بهذا النصر ، بل أراد أن يقتل الغرور الذي عادة ما يصيب المنتصرين ، و ذلك عبر الإستغفار ، و اتهام النفس بالتقصير ، و ربما لذلك أمر الله رسوله محمد (ًص) بالإستغفار بعد النصر . اذ قال : " اذاجاء نصر الله و الفتح * و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا " .

و هنا نجد نبي الله موسى (ع) يستغفر الله بعد انتصاره على عدو الله و عدوه .

[ قال رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ]و جاء في التفاسير : ان موسى (ع) قد اخطأ فعلا بدخوله المدينة ، حيث كان لا يزال في طور الإختفاء ، لأن فرعون كان قد علم بانه يخالفه ، و قد اجتمع اليه شيعته من بني إسرائيل فهم بقتله ، فلما دخل المدينة على حين غفلة كان ذلك خطأ منه استغفر الله منه ، و معنى المغفرة هنا ان يستر عليه الله سبحانه .

و قد روي مثل هذا التفسير عن الامام الرضا (ع) (1) و نستوحي من هذا التفسير مدى أهمية الكتمان في العمل الرسالي .

[ 17] ثم عاهد الله ان لا يستخدم القوة و العلم و الحكمة التي وهبها الا من أجل الخير و في سبيل الله و الدفاع عن المستضعفين .

[ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ]

و كانت هذه الحادثة بالإضافة إلى مواقف أخرى سبقتها ، أدت بموسى الى الهجرة عن بلده ، لتبدا الحركة الرسالية مرحلة جديدة من الصراع و الجهاد .


(1) راجع نور الثقلين / ج 4 / ص 119 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس