بينات من الآيات
اغويناهم كما غوينا [ 62] في يوم القيامة يجمع الله الآلهة المزيفة ، و الذين عبدوهم من دون الله ، ثم تبدأ فصول المحاكمة التي تجري على الملأ العام ، و نستفيد ذلك من كلمة " يناديهم " .
[ ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي الذين كنتم تزعمون ]و التعبير القرآني ذروة في البلاغة ، ان ربنا يسميهم بالشركاء ، و يتساءل أين هم الآن ليجعل وجدانهم يجيب قبل ألسنتهم ، بل ليجعلهم يبلغون الحقيقة اليوم بنقلة و جدانية خاطفة قبل ان يتورطوا في العذاب في ذلك اليوم ولات حين مندم .
في ذلك اليوم ليس فقط
يتبرأ التابعون حين يرون العذاب من المتبوعين ، بل يبادر هؤلاء بالاعتراف الصريح بغوايتهم .
[ 63] فيجيب الذين سبقوا الى الضلالة ، و هم طلائع أهل النار و أئمتها :
[ قال الذين حق عليهم القول ]
هؤلاء قد ثبت عليهم القول في الدنيا قبل الآخرة . إذ اضلهم الله بظلمهم ، و سلب منهم مصباح العقل ، و نور القلب ، و تركهم في ظلمات يعمهون .
و نجد هؤلاء ينطقون في الموقف . أو ليسوا في الدنيا و ضعوا ناطقين باسم تابعيهم ؟! دعهم اليوم يعترفون بأنفسهم على غوايتهم ، وهؤلاء يدخلون النار من دون حساب .
و تلخص الآية موقفهم في نقطتين :
الاولى : الاعتراف بالضلالة :
[ ربنا هؤلاء الذين أغوينا ]
أي اضللناهم عن الطريق المستقيم .
[ أغويناهم كما غوينا ]
فنحن بدورنا كنا ضالين ، و ما فعلناه أننا عكسنا ضلالتنا عليهم ، و هكذا تنكشف الحقائق كلها يوم القيامة ، قال تعالى : " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (1)الثانية : البراءة من المشركين :
[ تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ]
لعل معناه : انهم في قرارة أنفسهم كانوا يعلمون بأننا لسنا بآلهة ، و انما عبدونا(1) ق / 22
لشهواتهم و اهوائهم ، و اذ ينقل القرآن هذا المشهد من القيامة ، فلكي يستثير وجدان الانسان نحو عدم اتباع الآلهة المزيفة من الطغاة و القوى الاجتماعية المختلفة . اذ كيف يتبع شخصا أو جهة تتبرأ منه حين العسرة ؟!
[ 64] ثم يتوجه الخطاب الى التابعين و المشركين بالله :
[ و قيل ادعوا شركاءكم ]
ليخلصوكم من العذاب .
[ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأؤا العذاب لو انهم كانوا يهتدون ]و تحتمل الآية معنيين :
1 - ان المشركين حينما يرون العذاب يتمنون في أنفسهم لو كانوا مهتدين من قبل في الدنيا .
2 - ان المشركين كانوا يرون هذه النتيجة منذ كانوا في الدنيا لو أنهم كانوا يتبعون الهدى ، لم يقعوا فيها الآن ، لان الذي يتبع هدى الرسالة يكتشف نتائج الشرك و هو العذاب .
[ 65] تجري محاكمة المشركين الذين اطاعوا كبراءهم و مترفيهم من دون ان يأذن الله لهم في ذلك ، و يسألون عن موقفهم من الرسل و خلفائهم الشرعيين الذين هم القيادة الحق لهم .
[ و يوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ]
فهل اطعتموهم ؟
ان القيادة المنتخبة من قبل الله ميزان في الدنيا بين الحق والباطل ، و ميزان في الآخرة بين الجنة و النار ، و لذلك يسأل الناس عنها يوم القيامة .
نقرأ في النصوص ان أبا حنيفة - امام المذهب - يحاور الامام الصادق (ع) في الآية " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " .
فيسأله الامام عنها
" ما النعم عندك يا نعمان " ؟ قال : القوت من الطعام و الماء البارد ، فقال الامام (ع) : " لئن اوقفك الله بين يديه يوم القيامة ، حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها ، أو شربة شربتها ليطولن و قوفك بين يديه " قال : فما النعيم جعلت فداك ؟ قال :
" نحن أهل البيت النعيم الذي انعم الله بنا على العباد ، و بنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين ، و بنا ألف الله قلوبهم فجعلهم إخوانا بعد ان كانوا اعداء ، و بنا هداهم الله للاسلام ، و هم النعمة التي لا تنقطع ، و الله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم بهعليهم و هو النبي (ًص) و عترته (ع) " (1)
[ 66] [ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لايتساءلون ]فهناك خرست ألسنة الأنباء ، و عميت عيونها ، و توقفت المصادر الخبرية فلم تحمل حقيقة ، لذلك عاشوا في منتهى الحيرة ، و لم يسأل بعضهم بعضا شيئا ، لانهم جميعا في الجهل شرع سواء ، و ذلك لبلاغة الحجة الإلهية التي لا تترك لهم مجالا للتبرير .
(1) بح / ج 7 / ص 258 .
[ 67] نعم لو ضل الانسان لفترة من الزمن عن اتباع القيادة الرسالية أو الانتماء الى صفوف التجمعات الرسالية ، لكنه تاب بعد ذلك ، فان الله يقبل توبته :
[ فأما من تاب وءامن و عمل صالحا ]
و شرط قبول التوبة هو الرجوع عن الخطأ بمحو آثاره الباطنية من النفس عن الايمان بالرسالة ، و آثاره الظاهرية من السلوك بالعمل الصالح ، اذ لا يكفي ان تفتح مع الله صفحة جديدة ، بل لابد ان تملأها بعمل الصالحات .
فالضباط الذين أنتموا الى جيش الطاغوت يمكنهم ان يتوبوا بالتمرد على النظام الفاسد ، و الانتماء و العمل في صفوف الحركة الاسلامية ، كما فعل الحر بن يزيد الرياحي (رض ) حينما ترك معسكر ابن زياد ، و حارب بين يدي الامام الحسين (ع) حتى الشهادة .
[ فعسى ان يكون من المفلحين ]
و يستخدم القرآن كلمة " فعسى " التي يستفاد منها الإمكان ظاهرا و ليس التحقيق ، حتى يتضح لنا عظم الذنب فلا نصاب بالغرور ، أو الرجاء المفرط الذي لا تقل نتيجته سوءا عن القنوط التام من رحمة الله ، كما ان بقاء عقدة الذنب في نفس الإنسان من صالحهاذا كان يدفعه للعمل و السعي الاكثر في سبيل الله . طمعا في مرضاته عز وجل .
|