بينات من الآيات [ بسم الله الرحمن الرحيم ]
تشير هذه البسملة الى ما تحمله هذه السورة من معان من تجاوز عقبة الذات ، و ترك الدنيا و زينتها ، ولا يتم ذلك الا بالتوكل على الله ، و إعمار القلب بالإيمان ، و بالتالي باسمه سبحانه .
[ 1 - 2] [ الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا و هم لا يفتنون ]كان بعض اتباع الرسل من المؤمنين المخلصين يلقى في قدور الزيت ، و تحفر للبعض أخاديد تسعر نارا ، و يلقون فيها أحياء ، و كان البعض ينشرون بالمناشير ، أو يقتلوا ، أو يصلبوا ، و لم يفتنوا في دينهم أو يتركوه لما يلاقونه في سبيله ، فثبت الله في اللوح ايمانهم ، و قيل لهم ادخلوا الجنة مع الداخلين ، و هذه السنة جارية في كل زمان و مكان ، مهما اختلفت الظروف و تعددت المشارب .
فبعض كان يستمر على الايمان رغم الفتن ، و البعض عندما يجد ان السجن و التعذيب و التشريد و القتل ثمن إيمانه ، ينهار إلا من رحم ربك .
جاء في الأثر المروي عن الامام أبي الحسن عليه السلام في تفسير الآية انه قال لمعمر بن خلاد : " ما الفتنة ؟ " قلت : جعلت فداك الفتنة في الدين ، فقال : " يفتنون كما يفتن الذهب " ثم قال : يخلصون كما يخلص الذهب " (1)و حكمة الفتنة في الدنيا أنها تطهر القلب كما يطهر الذهب ، و قد صنع الله الدنيا بطريقة تتناسب و الفتنة ، يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام :
" و لكن الله - جل ثناؤه - جعل رسله أولى قوة في عزائم نياتهم ، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملأ القلوب و العيون غناؤه و خصاصة يملأ الأسماع و الأبصار أداؤه ، و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، و عزة لا تضام ، و ملك يمد نحوه أعناق الرجال ، و يشد اليه عقد الرحال لكان أهون على الخلق في الإختبــار ، و أبعــد لهم في الاستكبار ، و لآمنوا عن رغبة قاهرة لهم أو رهبة ماثلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، و الحسنات مقتسمة ، و لكن الله أراد أن يكون الاتباع لرسله ، و التصديق بكتبه ، و الخشوعلوجهه ، و الاستكانة لأمره ، و الاستسلام اليه أمورا خاصة لا يشوبها من غيرها شائبة ، و كلما كانت البلوى و الإختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل ألا ترون ان الله جل ثناؤه اختبر الأولين من لدن آدم الى آخرين من هذا العالم بأحجار ما تضر ولا تنفع ، ولاتبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ، ثم جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا ، و أقل نتائق الدنيا مـــدرا و أضيــق بطون الأودية معاشا ، و أغلظ محال المسلمين مياها ، بين جبال خشنة ، و رمال دمثة ، و قرى منقطعة ، و أثر من مواضع قطر السماء دائر ، ليس يزكو به خف ولا ظلف ولا حافر ، ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 148 .
نحوه " .
و بعد أن بين الامام انه لو كانت مكة في مناطق ذات بهجة و ثمر لسقط البلاء قال :
" و لكــن الله جل و عز يختبر عبيده بأنواع الشدائد ، و يتعبدهم بألوان المجاهد ، و يبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، و اسكانا للتذلل في أنفسهم ، و ليجعل ذلك أبوابا [ فتحا ] إلى فضله ، و أسبابا ذللا لعفوه ، و فتنة كما قال : "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين " (1)أجل يتبين الايمان المستقر من العواري حين تجرد العوائل من فلذات أكبادها ، و حين يهجرون خلال حقول الألغام ، ليكونوا طعمة يقتات عليها المتحاربون ، و التعبير القرآني " أحسب الناس أن يتركوا " استفهام استنكاري على أولئك الذين يتصورون ان طريق الإيمان مليء بالورود . إن طريق الإيمان صعب .
و قد قال الامام الصادق (ع) :
" هلك العاملون إلا العابدون ، و هلك العابدون إلا العالمون ، و هلك العالمون إلا الصادقون ، و هلك الصادقون إلا المخلصون ، و هلك المخلصون إلا المتقون ، و هلك المتقون إلا الموقنون ، و إن الموقنين لعلى خطر عظيم " (2)و يشرح الرسول - صلى الله عليه و آله - أنواع الفتن التي سوف تبتلى الأمة بها كما جاء في نهج البلاغة : و قام إليه عليه السلام رجل فقال : أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول الله - صلى الله عليه و آله - عنها ؟ فقال عليه السلام : " لما أنزل الله(1) المصدر / ص 150 - 153 .
(2) بحار الانوار / ج 70 / ص 245 .
سبحانه قوله : " ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون " علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله - صلى الله عليه و آله - بين أظهرنا ، فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي، فقلت : يا رسول الله : أوليس قد قلت يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، و أحيزت عني الشهادة فشق ذلك علي فقلت لي : أبشر فان الشهادة من ورائك ، فقال لــي : إن ذلك لكذلك فكيــف صبــرك إذا ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا [ من ] مواطن الصبر ، و لكن من مواطن البشرى و الشكر ، و قال : يا علي سيفتنون بعدي بأموالهم ، و يمنون بدينهم على ربهم ، و يتمنون رحمته ، و يأمنون سطوته ، و يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، و الأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، و السحت بالهدية ، و الربا بالبيع ، قلت : يارسول الله فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ، قال : بمنزلة فتنة " (1)[ 3] ثم يبين الله سبحانه إن الفتن تصيب الإنسان . عمل السيئات أو الخيرات ، و ان مشكلة الذين يعملون السيئات أو ينهارون أمام المشاكل أكبر لأنهم يخسرون الدنيا و الآخرة .
[ و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ]و الفتن تتباين اشكالها وصورها و جوهرها واحد ، كما أن فتن السابقين كانت مختلفة ، فقد جاء في جوامع الجامع ، و في الحديث : " قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، و يمشط بامشاط الحديد ما دون عظمه من لحمو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه " (2)
(1) المصدر / ص 148 .
(2) المصدر / وجوامع الجامع هو مختصر تفسير مجمع البيان للعلامة الطبرسي .
و نحن نرى اليوم من المجاهدين الصامدين تحت تعذيب الجلادين من البطولات النادرة ما يجعلنا نزداد يقينا بصدق الأخبار هذه ، التي أنبأت عن صبر و صمود المجاهدين السابقين .
يضعونهم في توابيت مغلقة لعدة أشهر بل لعدة سنوات ، أو يسمرونهم على الحيطان خلال أعوام السجن ، لا ينظفون تحتهم ، أو يلقون بهم في أحواض الأسيد ، أو يعذبونهم باجهزة تدار بالكمبيوتر لتزرع أجسامهم بالألم الشديد و تمنع عنهم النوم و الراحة لأسابيع ، أو يحرقون أشد أجزاء بدنهم حساسية باعقاب السجائر ، أو يعتدون على شرفهم و شرف أخواتهم و أزواجهم أمام أعينهم .
و لكنهم لا يزالون صامــدين بتــوفيق الله ، لأن أرواحهم قد صفت من حب الدنيا ، و ربتهم هذه الآية الكريمة ، و عرفوا حقيقة الدنيا و حقيقة الآخرة ، فلم يختاروا على الآخرة شيئا .
و ليس المهم أن يعلم الناس إيمانك ، بل الأهم أن يعلم الله صدقك .
[ 4] مسكين ابن آدم يزعم انه يهرب من حكومة الله ، أو يعجزه هربا ، و يسبق قضاءه و قدره ، و انما مثله مثل الرجــل الذي جاء إلى الامام الحسن (ع) فقال له : أنا رجل عاص ، ولا أصبر عن المعصيــة ، فعظنــي بموعظة ، فقال - عليه السلام - : " إفعل خمسة واذنب ما شئت : فأول ذلك : لا تأكل رزق الله و أذنب ما شئت ، و الثاني : اخرج من ولاية الله و اذنب ما شئت ، و الثالث : اطلب موضعا لا يراك الله ، و اذنب ما شئت ، و الرابع : إذا جاءك ملك الموت يقبض روحك ، فادفعه عن نفسك ، و اذنب ما شئت ، و الخامس : إذا أدخلك مالك في النار ، فلا تدخل في النار ، و اذنب ما شئت " (1)(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 126 .
[ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ]
يفوتوننا . كلا ..
[ ساء ما يحكمون ]
ما من يوم يمر على الصابرين حتى يقتربوا يوما إلى رحمة ربهم ، ولا يمر يوم على الجلادين حتى يقتربوا خطوة إلى العذاب .
[ 5] [ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لأت وهو السميع العليم ]و تعطي هذه الآية أملا لمن يرزح تحت سياط الجلادين ، أو في دهاليز المخابرات ، أو المنبوذون بسبب إيمانهم ، فمتى ما تناهى البلاء قرب الفرج ، وان جهادك و صبرك إنما هو بعين الله .
لقد بعث الطاغية العباسي هارون الرشيد إلى الامام موسى بن جعفر (ع) الذي كان معتقلا عنده من يستميله ، فرفض الامام و قال : ما محتواه : لا يمر علي يوم إلا وأزداد عند ربي ثوابا ، و تزداد عند ربك عقابا ، و سنلتقي عند ربنا للحساب .
[ 6] [ و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه ]
عندما يقاوم المؤمن سلبيات نفسه ، و يتحدى ضغوط الحياة يكتب عند الله مجاهدا ، و الجهاد : بذل الجهد قدر الطاقة في سبيل الله ، و جهاد الانسان يحسب له ، و لن يضيع الله عمل عامل .
و أيام الانسان كالأوراق النقدية التي تسقط بسقوط نظام و قيام آخر ، فهو إن لم يسارع إلى تغييرها ، أو تحويلها إلى بضاعة ، ستصبح مجرد أوراق ملونة بدونرصيد ، و أيام ابن آدم ان ذهبت فلن تعود ، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
" ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم : يابن آدم ! أنا يوم جديد و أنا عليك شهيد ، فقل في خيرا ، و اعمل في خيرا أشهد لك به يوم القيامة " (1)فلسنتغل الفرصة كيلا تتحول أيامنا إلى أوراق نقدية لا رصيد لها ، جاء في الحديث : " الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة " (2)و لا يزيد ربنا بأعمالنا غنى .
[ إن الله لغني عن العالمين ]
[ 7] و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم و لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ]و هذه هي البشارة الكبرى ، فان ربنا - عز وجل - سيمحي السيئات عمن آمن و عمل صالحا ، و يعطيهم بدل سيئاتهم حسنات ، و هذه أسمى نعم الله على المؤمن ، فلو أن شخصا انتبه ذات صباح عند أذان الفجر فتماهل قليلا ، و أخذته الغفوة ، ثم انتبه ثانية ، و اذا بالشمسقد طلعت فان عليه أن يصمم لمحو أثر هذا الذنب من نفسه بأن يقوم بعمل عظيم لئلا يفتضح في يوم البعث على رؤوس الأشهاد بانه لم يصل الصبح ذلك اليوم إلا قضاء ، آنئذ لا ينفعه الكذب ، و لا تجديه الواسطة ، و أين هي تلك الواسطة التي تستطيع أن تغير ما في الكتاب ؟!
بلى . في ذلك اليوم ينفع شيء واحد ألا وهو الله الكبير المتعال ، و الواسطة هي(1) سفينة البحار / الشيخ عباس القمي / ص 739 .
(2) بحار الأنوار / ج 77 / ص 164 .
العمل الصالح ، فمن عمل صالحا فان الله يبدل سيئاته حسنات ، و تكتب له في قائمة أعماله .
اذن فلنبادر إلى استغلال الفرصة ، فكلنا مسيء ، و من منا من لم يعمل السيئات ؟! كلنا خطاؤون ، فلابد أن نغسل خطايانا بالمزيد من الأعمال الصالحة ، و العطاء في سبيل الله - جهادا و تضحية - عسى ربنا أن يغفر لنا خطايانا .
[ 8] و وصينا الإنسان بوالديه حسنا ]
إن أصعب الحالات التي تعترض الانسان هي مقاومة المجتمع الذي ينشأ فيه ، و هنا يشير القرآن الحكيم إلى ان الله يطلب من الانسان أن لا يجعل والديه مبررا لتنازله عن مسؤوليته ، بالرغم من ضرورة الاحسان إليهما و الاهتمام بهما ، فالوالدان ليسا بالضرورة مثالا يحتذي بهما الابن حتى لو ضغطا عليه خضع إليهما .
[ و إن جاهداك ]
أي أكثرا عليك الضغوط .
[ لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ]
أي ضغطا عليك لتشرك بالله - أيا كان نوع هذا الشرك - و إن ذكراك بالتعب الذي تعبا عليك في تربيتك ، و إن عابا عليك انتماءك إلى تجمع إسلامي .
[ فلا تطعهما ]
فهذا شرك خفي .
[ إلي مرجعكم ]
فيوم القيامة لن يحاسبك أبواك ، فأنت و هما سيحاسبكم الله جميعا .
[ فأنبئكم بما كنتم تعملون ]
و الأب الذي يجعل ابنه نصرانيا ، أو يهوديا ، أو مجوسيا ، أو طاغوتيا ، أو مشركا مسؤول يوم القيامة عما فعل ، ولا تسقط من مسؤولية الابن شيء .
[ 9] [ و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ]لا تفكر بما أصابك في جنب الله ، فان الله سوف يبدلك بما هو أحسن ، لقد كان مصعب بن عمير وحيد والديه الثريين ، و لكنهما طرداه بعد أن لم ينصاع إليهما ، فجرداه من كل ما أسبغا عليه ، و أخرجاه من البيت ، و لكن ما ان أصبح وحيدا ، فاذا بمجموعة من المؤمنين الصادقين ممن تصافت قلوبهم ، و تلاقت أفكارهم على الإيمان يحتضنون مصعبا ، فيتحول من طريد أهله إلى أول مبعوث لرسول الله (ص) إلى أهل يثرب .
و كان بذلك أول فاتح إسلامي حقيقي للمدينة المنورة ، و أول رجل يمهد الأرضية لهجرة الرائد العظيم رسول الله (ًص) .
فلا تتلف أعصابك ، ولا تخف ، ولا تحزن أيها المؤمن المجاهد فالمسألة هينة ، فاذا أخرجتك عائلتك ، فسوف تحتضنك القلوب و الأفئدة ، كما قال الامام علي (ع) : " من تهجره الأقران احتضنه الأبعاد " .
|