وليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين
هدى من الآيات تأكيدا لامتحان الله للانسان في إيمانه تذكرنا آيات هذا الدرس ان الإيمان انما هو و قر في القلب ، و ملكة نفسية قبل أن يكون شعارا ، و ان بعض الناس الذين يدعون الإيمان حينما يفتنون في سبيل الله بسبب إيمانهم ينهارون أمام الفتن ، و يتنصلون عن إيمانهم ، وإن ربنا سبحانه يرد على هؤلاء مستنكرا : ان هذا العذاب البسيط الذي لا يعدو كونه فتنة لا يساوي ذلك العذاب الشديد الدائم الذي ينتظركم .
إن هناك فرقا في التعبير القرآني بين الفتنة و العذاب ، حيث نستوحي من لفظة الفتنة محدوديتها زمانا و مكانا ، بالنسبة للفرد أو الجماعة ، و أن الهدف منها هو اختبار الانسان في إيمانه ليس إلا ، أما العذاب فانه نتيجة لتلك الفتنة ، فحينما يذهب المرء إلى قاعة الامتحانات فانه لا يلبث إلا قليلا ثم يعود بعدها إلى منزله ، و لكن نتيجة تلك السويعات القليلة تستمر معه بعد ذلك و ربما تصل إلى سنينعديدة ، فالفتنة إذا تساوي بمحدوديتها العذاب بدوامه و استمراره ، و قد ورد في الدعاء :
" يا رب و انت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا و عقوباتها ، و ما يجري فيهامن المكاره على أهلها ، على أن ذلك بلاء و مكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة ؟! و جليل وقوع المكاره فيها ؟! و هو بلاء تطول مدته ، و يدوممقامه ، ولا يخفف عن أهله ، لأنه لا يكون إلا عن غضبك و انتقامك و سخطك " (1)و تشير الآيات القرآنية بعد ذلك إلى الأخطاء المنتشرة في المجتمع ، و لكنها قبلئذ تذكر بان الأفكار الخاطئة تشبه الجرائم الخطيرة التي إذا تكاثرت على قلب الانسان حجبته عن الخير ، و قضت على كل أثر للسلامة عنده " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" و مثل على هذه الأفكار أن يقول إنسان لآخر : اعمل ما آمرك به و أنا المسؤول عن ذلك غدا عند الله . إن هذا القول لا ينفي مسؤولية المنفذ ، إذ أن من يتبع إنسانا مفسدا فانه لا يستطيع الإدعاء بأنه بريء ، ولا شك ان المتبوع مسؤول عند الله سبحانه ، ذلك لأن الإنسان يتحمل تبعة تضليل الآخرين فيعاقب عليها ، دون أن يسقط عنهم العقاب .
و حين يبين القرآن الكريم هذه الحقيقة فلكي نتجنب الأفكار التبريرية التي تحول بين الإنسان و رؤيته للحقيقة ، و التي تجعل الفكر مقيدا بحدود ضيقة ، لا يرى خلالها الواقع كما هو .
بدلا من تبني هذه الأفكار الخاطئة أو اعتناقها ، فان على الإنسان أن ينفتح على الحياة ، و يرى الحقائق ببصيرة ثاقبة دون حجب ، و ينزع عن عينيه تلك النظارات القاتمة .
(1) مفاتيح الجنان / دعاء كميل .
و هناك كثير من الناس يضع على عينيه نظارات حمراء و خضراء و سوداء ، و لكن على شكل مجلات ، و جرائد ، و إعلام مضلل ، فلا ينتبهون لذلك الاعلام المضلل ، إن تلك المجلات الزاهية ذات الورق المصقول ، و الصور الملونة ، تزرق في الأذهان تفسيرات خاطئة للأحداث وتبريرات مبتدعة للجرائم و تشويه للحقائق الواضحة ، هذا عدا اللغو و الكذب و البهتان .
فعلى المؤمن أن لا يعطل عقله و يأخذ ما في هذا الاعلام أخذ المسلمات ، بل عليه أن يستخدم عقله ، و يعمل على تغذيته بقراءات موجهة هادفة ، ليرى العالم على حقيقته لا كما يراه الآخرون .
و بعد عرض و جهات النظر القرآنية حول بعض الأفكار ، يضرب ربنا سبحانه و تعالى الأمثال من واقع الأمم السابقة ، و كيف ان المؤمنين قاوموا الصعوبات وهم يدعون إلى ربهم ، دون أن ينهاروا إزاء الأذى و الصعوبات التي تعرضوا لها .
استمر نوح ( عليه السلام ) خمسين و تسعمائة سنة . يدعو قومه دون أن يستجيبوا له ، حتى اضطر أن يستقل ظهر السفينة عندما أراد الله إهلاكهم ، فأنقذه الله سبحانه و الذين آمنوا معه من الطوفان ، و هذا النبي إبراهيم ( عليه السلام ) يمكث في قومه زمنا طويلا فلميكن جزاؤه إلا الإلقاء في النار ، و لما نجاه الله نفوه بعيدا عن بلاده ، و هذه الامتحانات لا تدل على ان الله سبحانه لا يحب الانسان ، بل على العكس تماما ، فقد تكون الفتنة في كثير من الأحيان دليلا على حب الله للمفتون ، و لرفع درجته عنده .
جاء في الأثر : ان الامام الحسين (ع) رأى جده رسول الله (ص) في المنام ذات مرة فشكا إليه جفاء قومه ، فقال له الرسول (ص) : " يا بني ! إن لك عند الله درجةمغشاة بنور الله و لست تنالها إلا بالشهادة " (1)و جاء في الحديث المعروف : " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل " (2) |