فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 10] [ و من الناس من يقول ءامنا بالله ]

إدعاء و ليس إعتقادا .

[ فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ]

و هل تقاس الفتنة التي يمتحن الله بها عباده بعذابه ؟! انه قياس باطل ، فأين الفتنة المحدودة البسيطة التي قد تنطوي على هدف كريم من العذاب الشديد الدائم ، الذي يعني نقمة الله و هوانه على من فشل في دار الفتنة ، و ما الأذى الذي كان يلحق بالمؤمنين الصادقين من العلويين إلا لأنهم كانوا يثورون ضد السلطات الجائرة الفاسدة ، و لا يتوانون عن الثورة رغم ما كانوا يلاقونه من قمع وإرهاب . كانوا يلقون بالثلاثة أو الأربعة منهم في سجن مظلم لا يميز فيه الليل عن النهار ، كانوا يتناوبون على قراءة القرآن لتحديد مواعيدالصلاة ، فمثلا يقرأ الأول ثلث القرآن فيصلون الصبح ، و يقرأ الثاني الثلث الثاني من القرآن فيصلون الظهر و العصر ، و يقرأ الثالث الثلث الأخير من القرآن فيصلون المغرب ، أما غذاؤهم فلا يأتيهم إلا مرة واحدة في اليوم يرمى به إلى طامورتهم المغمورة الرطبة ، التي تنتشر فيها الجراثيم و الحشرات السامة ، وفي تلك الظروف الحرجة حيث القاذورات(1) مقتل أبي مخنف / ص 24 .

(2) الكافي / ج 2 / ص 252 .


و الروائح الكريهة و اذا مات أحدهم ، يبقى على وضعه حتى ينتن جثــمانه ، و يتــفسخ ، ثم يموت الآخرون الواحد بعد الآخر فيهدم عليهم السجانون الطامورة بعد أن أضحى الجميع رميما .

و بالرغم من تلك الفتنة المجهدة كان الواحد منهم - لو كتب له الخروج من تلك الطامورة - انما يخرج ليشهر سيفه ثائرا ، و ما كان ذلك الارهاب ليلويهم عن أهدافهم ، لانهم قد اختاروا طريقهم بوعي ، و آمنوا بما عملوا إيمانا حقيقيا ، و لأنهم عرفوا أن هذا الأذىالدنيوي أمره حقير ، و خطره يسير ، و أمده قصير ، إذا ما قورن بما ينتظر أعداءهم يوم القيامة ، ذلك العذاب الذي يتمنى الإنسان لو أن عنده ملء الأرض ذهبا فيفدي نفسه به .

[ و لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم ]

أيتصور هؤلاء إن إدعاءهم الإيمان سينقذهم ؟! يقولون : نحن مع المؤمنين حينما تكون عند المسلمين دولة ، و لكنهم مع الكفار حينما يتعرض المسلمون للسجن و القتل !!

[ أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ]

بلى ان الله سبحانه يعلم ما في صدر هذا و ذاك ، وما يكنونه من الايمان أو الكفر .

[ 11] [ و ليعلمن الله الذين ءامنوا و ليعلمن المنافقين ]فالله يعلم من الذي آمن و صبر ، كما يعلم من هم الذين آمنوا ثم انهاروا ، و المنافقون هم اولئك .

[ 12] [ و قال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا و لنحملخطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ]

تعال معي و انا اتحمل عنك تبعات عملك . انه منطق مرفوض قرآنيا ، و هل يعمل الانسان عملا دون ان يسأل عنه و يحاسب عليه ؟! انك ستحاسب عليه يوم القيامة مع من اغواك ، و يتبرأ منك .

[ 13] [ و ليحملن اثقالهم و اثقالا مع اثقالهم و ليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون ]كل مخطــىء يتحــمل خطاياه بقدر عمله و نيته ، و يحمل مع اوزاره اوزار من تبعوه .

ان كل خطيئة تتحول يوم القيامة الى غل يناط بعنق المذنب ، فكم سيحمل الجاني المضلل من اغلال يوم القيامة ؟!

من يظلم انسانا ، أولا يعطي حقا من حقوق الله كالزكاة أو الخمس ، أو يغتصب أرضا فان ذلك يتحول الى ثقل يحمله على ظهره يوم القيامة . وفي الحديث : روى الطبرسي عن رسول الله (ص) انه قال :

" ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله الا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة " (1)ثم يذكرنا الرب - مرة أخرى - بقصة نوح فابراهيم ، و يعود السؤال الى اذهاننا : لماذا هذا التكرار ؟ و نقول : ان الحوادث التي خلدها القرآن كانت ذات أهمية قصوى ، فليست حادثة الطوفان ، أو مجمل قصص إبراهيم و سائر المسلمين هينة نسمعها مرة و نمضي عنها ، لابدأن تحفر في قلوبنا ، و تتحول الى وعي ايماني عميق ، يسمو بالبشرية أبدا الى التكامل المعنوي ، و هكذا يكرر الذكر هذه الظواهر المرة تلو(1) شجاع بضم الشين و كسرها : ضرب من الحيات . بحار الانوار / ج 7 / ص 141 الحديث طويل اخذنا موضع الحاجة .


الاخرى ، و يعتصر منها عبرها و آياتها و حكمــها ، و يلعــن الظالمين ليصبحوا عبرة ، و يكرم انبياءه الكرام ليصبحوا أئمة و هداة .

[ 14] [ و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ]و رغم هذه المئات التسع و الخمسين سنة لم يؤمن قوم نوح به ، فاضطر (ع) ان يدعو ربه لينزل عليهم العذاب .

[ فأخذهم الطوفان و هم ظالمون ]

لم يأخذهم الطوفان الا لانهم كانوا ظالمين .

[ 15] [ فأنجيناه و أصحاب السفينة و جعلناها ءاية للعالمين ]حيث اهلك الله أولئك الظالمين جميعا بذلك الطوفان الرهيـــب الذي وسع البسيطة ، الا فئة محدودة كان الله قد أمرها بصنع سفينة في الفلاة ، ثم ركبوها وبدأ الطوفان . أوليس في ذلك آية للعالمين ؟!

[ 16 - 17] [ و إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله و اتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا ]دعا ابراهيم (ع) قومه الى عبادة الله و تقواه ، مبينا ان ذلك افضل لهم ، ثم حدد لهم ماهية افكارهم و واقعها عبر الاسلوب الرسالي الذي يتكرر في كل رسالة ، و الذي يعتمد على نقطتين :

الف : بيان بصيرة التوحيد التي تحقق للمجتمع حريته و استقلاله ، و تمنحه القيم الانسانية الراقية من الحق ، و العدالة ، و السلام .


باء : تعرية الواقع الفاسد ، و تسليط الضوء عليه ليتبين لأفراد المجتمع خطورة الفساد الذي هم فيه .

أوضح النبي ابراهيم (ع) لقومه و ضعهم المزيف بقوله : " انما تعبدون من دون الله اوثانا " .

ثم ان هذه الاوثان التي تعبدون انتم صنعتموها ، ثم اضفيتم عليها صبغة الواقعية ، و لكن مهما فعلتم فانها تفتقر الى الواقعية ، و لعلنا نستوحي من قوله سبحانه : " و تخلقون إفكا " حقيقة نجدها في آيات اخرى أيضا هي : أن الناس هم الذين يخلقون الطاغوت دون نفسه ، لأن الطاغوت أضعف من ذلك ، ان الذين يرضون بالطاغوت ، و يسكتون عليه ، و الذين يلتفون حوله ، و يسمعون أوامره ، و يحاربون معه اولئك هم الذين يخلقونه .

[ و تخلقون إفكا ]

أي تخلقون كيانا باطلا كذبا .

[ إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ]انكم انتم الذين تعطون لما خلقتم القوة ، و انتم الذين تقتطعون لهم من ارزاقكم وليسوا هم ، و هل يستطــيع الطاغــوت ان يعــيش دون ضرائـب يفرضها على ابناء الشعب ؟!

[ فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه ]

فانبذوا هذا الواقع المزيف ، و اطلبوا من بارئكم الحق رزقكم ، فهو الجدير بالطاعة ، و الخضوع ، و التسليم ، ثم ...


[ و اشكروا له ]

و الشكر هو العبادة العملية ، كما قال : " اعملوا آل داود شكرا " و هذا يعني : ان تكون أعمالكم و سلوكياتكم بحيث تجلب لكم المزيد من النعم و البركات ، و كذلك فان من يشكر يزداد رزقه ، و نستوحي هذا المعنى من قوله تعالى : " فابتغوا عند اللهالرزق و اعبدوه و اشكروا له " أي أن من يريد الرزق فليبتغه من الله بالعبادة و الشكر ، و قد قال تعالى : " و لئن شكرتم لازيدنكم " .

[ إليه ترجعون ]

و بالتالي ستعودون الى ربكم .

و مرة أخرى يؤكد الذكر الحكيم ان كل الصفات الحسنة ، و الاخلاق الفاضلة انما تأتي من الايمان الصادق بالله و اليوم الآخر ، فمن يؤمن بيوم الجزاء سيجعل من حياته هذه مزرعة للخيرات ، و قنطرة للسعادة في الآخرة ، كما يستمر السقف صحيحا ما دامت أسسه سليمة ، فكذلك حياة الانسان تعمر و تزدهر كلما كانت عقائده صحيحة و واقعية .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس