قل سيروا في الأرض
هدى من الآيات يوصينا القرآن الكريم - مرة بعد أخرى - بضرورة العودة الى التأريخ للاعتبار بسير السابقين بنفس القدر الذي يؤكد فيه على ضرورة البحث المباشر ، و التطلع الى ما يحيط بالانسان من مظاهر طبيعية ، و اثار تحمل اخبار الماضين ، و ما يكتنف الحياة عموما من السنن والحقائق و التطورات .
و التأكيد على هاتين القضيتين تحقق عدة أهداف :
أولا : ان سعة الافق العلمي ، و شمول المعرفة البشرية يساعد الانسان على النهوض من واقع التخلف ، و التسامي الى سمــاء القيـم بعيدا عن الخرافات و الأساطير ، ذلك لانه ليس ايمان الجاهل كايمان العالم ، فكلما تقــدم العالــم في ميدان العلم ، اقترب أكثر فأكثر من حقيقة الايمان بالله ، و نشأة الكون ، و بدء الحياة ، و لذلك فالايمان بالله هو قمة العلم و المعرفة .
ثانيا : معرفة أحوال الأمم السابقة ، و كيفية نشوئها و تطورها ، و الأدوات التي استخدموها ، لا يتم الا بدراسة الآثار التي تحمل مخلفاتهم ، و مطالعة كتاباتهم ، و نوع تفكيرهم و فنونهم ، عبر النقوش على الصخور و الكهوف ، و بتلك الدراسة المستوفاة ، نستطيع التعرف على الامم السابقة ، و كيف تقدمت و لماذا بادت .
ثالثا : ان الحياة لم تكن على وتيرة واحدة ، و انما منح ربنا سبحانه الحياة الكمال شيئا فشيئا ، و خلقا بعد خلق ، و ليس الأمر كما يقول الجاهلون بأن الطبيعة كانت شعلة متوهجة منذ البداية ، و ستبقى هكذا الى النهاية ، و لو كانت شعلة منذ الازل لا نتفى الكمال ، ذلك لان فلسفة الكمال تتخلص في : ان المسيرة ابتدأت من وضع غاية في البساطة ، ثم راحت تتصاعد في مدارج الكمال عبر ملايين السنين ، حتى و صلت الى ما نحن عليه الآن ، و ستواصل المسيرة في المستقبل الى ان تصل القمة التي شاءها الله ، فيأذن بأمره .
و العلم الحديث قد توصل الى هذه النتيجة بدليل علمي و هو قدرة العلماء على اكتشاف عمر الانسان من الحفريات و الاثار التي يعثرون عليها ، عن طريق التحليل الطيفي لذرة الكربون الموجودة في الكائنات العضوية - الحيوان و النبات - و كلما مر قرن من الزمان على ذرة الكربون زاد في عدد نيوتروناتها و احد ، و بقدر ما في الذرة من نيوترونات يعرفون عدد القرون التي مرت على هذه الذرة ، و بالتالي يعرف عمر الجمجمة مثلا بعد معرفة عدد السنين التي مرت على هذه الذرة ، و ان دل هذا الاكتشاف على شيء فانما يحمل دلالة على ان الانسان كانت له بداية و كذلك كل الخلائق ، و السير في الارض هو من اجل معرفة تلك البداية ، و اذا كان الله سبحانه هو الذي أوجد الانسان في البدء و لم يكن شيئا مذكورا ، أو ليس بقادر على أن يعيده مرة أخرى ؟! ولا يستطيع أحد ان يقول ان الله ليس بقادر لأن ابتداعالخلق من بعد العدم اصعب بذاته من اعادته ، بعد ان كان - و بالطبع - ليساصعب على الله سبحانه ، لان الامور عند الباري سواء .
رابعا : لكي نعتبر من التاريخ العام بعد التعرف الدقيق على سير الأمم التي سبقتنا ، يجب ان نتيقن بأننا مسؤولون عن أعمالنا ، و أن السنن التي حكمت السابقين تحكمنا ايضا ، و القرآن الحكيم حينما يحدثنا عن التأريخ فانه لا يتحدث باسلوب علمي محض لمجرد نقل الخبر ، و انما يخترق الفواصل الزمنية ليبين : ان سنة الله تجري فيمن يأتي بمثل ما جرت على من مضى .
و اكتشاف القانون لتطبيقه على الواقع الحاضر هو الهدف القرآني ، من هنا نرى ان النظرة الاسلامية للتأريخ ( نظرة عبرية ) ليتحول التاريخ من حقيقة علمية الى حقيقة سلوكية في حياتنا ، و الى حقيقة ايمانية في اذهاننا .
و من سنن الله :
أولا : ان الله يفعل ما يشاء ، يرحم او يعذب من يشاء ، دون ان يقدر احد على تحدي مشيئة الرب سبحانه ، مما يجعلنا أكثر واقعية وان الناس يرجعون - بالتالي - الى ربهم ليوفيهم الجزاء الوفاق .
ثانيا : ان البشر لا يقدر على مقاومة قدره الالهي ، فاذا نزل به فلا شيء ولا أحد ينصره أو يواليه .
ثالثا : الكفار لن ينالوا رحمة الله في الدنيا ، و ينزل بهم في الآخــرة عــذاب اليم .
كل ذلك قاله ابراهيم ( عليه السلام ) لقومه ، و لكنهم كذبوه ، و ارادوا ان يحرقوه فأنجاه الله من النار .
|