فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


وجعلنا في ذريته النبوة و الكتاب
هدى من الآيات

يواصل السياق بيان قصة ابراهيم (ع) و قومه و كيف هاجر مجتمعه الفاسد ، فآمن له لوط ، و يبين ان التجمع الصنمي لا ينفع شيئا عند الله ، اذ يكفرون ببعضهم يوم القيامة ، ويتلاعنون ، و مصيرهم جميعا جهنم ولا يتناصرون ، و لقد هاجر هو و لوط الذي آمن معه ، و رزقه الله اسحاق و يعقوب ، و جعل النبوة و الرسالة في ذريتهما ، و آتاه أجره في الدنيا ، و ادخله في الآخرة في زمرة الصالحين ، ثم يبين قصة لوط و كيف واجه فساد قومه الفاحش من اتيان الرجال ، و قطع السبيل ، والاجهار بالمنكرات . اما قومه فقد طالبوه بالعذاب ، فدعا ربه فنصره إلا أن الملائكة أصروا على ابراهيم قبل ان يصبوا العذاب على قوم لوط (ع) فجادلهم بان في القرية لوطا ، فاخبروه بأن الله سوف ينجيه و اهله إلا امرأته ، و هكذا انجاهم الله و دمر الباقين .

ولان سورة العنكبوت تشدد على ضرورة جعل محور العلاقة بين الانسان و نظيره الانسان علاقة الايمان بالله ، و رفض المحاور الوثنية الآخرى ، لأنها زائلة وضارة ،و تستدرجنا الى عذاب الله الاليم ، فإننا نجد إبراهيم (ع) يبين فكرة هامة هنا هي : ان اتخاذ الأوثان انما تم بهدف المودة المتبادلة بين المشركين ، و ان هذا الهدف باطل ، اذ يكفر المشركون ببعضهم يوم القيامة .

ان البشر خلق اجتماعيا ، و لعل اسم الانسان و الناس مستوحى من هذه الفطرة الراسخة فيه ، اما كلمة الحضارة أو المدنية فانها تشير الى حضور الانسان عند نظيره ، و هو بعيد عن ذات الفطرة ، الا ان هذه النزعة الاجتماعية تضل سبيلها و هي كسائر الغرائز البشرية بحاجة الى توجيه و تزكية ، فكما غريزة الجنس يهذبها الاسلام و يهديها الى السبيل القويم لها بالزواج ، كذلك النزعة الاجتماعية ، و لكن بسبب انفلات هذه النزعة عن قنواتها المحددة ، جرت البشرية الى مآسي مروعة .

كيف ذلك ؟

قبل ان نجيب عن هذا السؤال نوضح حقيقتين :

الف : النزعات الفاسدة في قلب البشر هي التي تضحى علاقات اجتماعية شاذة في حياته ، فحب المال حبا جما يفرز الطبقية ، و التكبر يولد الاستكبار و العلو في الارض ، و الجبن يسبب الاستضعاف ، و الحرص يجر الى الفساد الاقتصادي و .. و .

و لذلك كان الجبت و الطاغوت وجهان لعمله فاسدة واحدة ، فعبادة المال و التسليم للصولجان هو جبت القلب ، بينما الديكتاتورية والاستبداد طاغوت المجتمع .

باء : ان الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان لم يكونوا ناقصي العقول الى هذه الدرجة ليزعموا ان هذه الاحجار التي يصنعونها بايديهم هي التي خلقتهمفعلا .

كلا .. انما كانت الاوثان رمزا لتجمعهم ، و تعبيرا عن نوع العلاقة التي ارتضوها لأنفسهم ، ولذلك كانت الاصنام تكبر و تصغر حسب حجم القبيلة ، فهناك صنم قريش ( هبل ) يعتبر اكبر الاصنام في الجزيرة ، لان تلك القبيلة كانت تزعم انها كبرى قبائل العرب ، و اصغرمنها حجما كان صنم ثقيف ( مناة ) لان تلك القبيلة كانت اقل مستوى من قريش ، و كلما صغرت القبيلة تضاءلت اهمية اوثانها ، حتى بلغ بتجمع صغير حقير ان صنع لنفسه صنما من التمر ، فاذا اصابتهم مخمصة وقعوا على إلههم المزعوم و التهموه عن آخره .

بعد بيان هاتين الفكرتين نجيب عن السؤال السابق :

باستثناء التجمعات التوحيدية انحدرت البشرية الى درك الوثنية بطريقة أو باخرى ، اذ انها ارتبطت ببعضها عبر المصالح و العصبيات و الخرافات البعيدة عن العلاقة التوحيدية ، ما الذي جمع طبقة المترفين الى بعضهم ؟ أوليس الحرص على تكديس الثروة ؟! اذا المحور هنا حب المال ، والعلاقة بالانسان تمر عبر قناة جمع الثروة ، ولا يحترم الانسان كإنسان بل بصفته صاحب ثروة ، اذ ان الاحترام هو للثروة ذاتا و لم يملكها بالتبع اليس كذلك ؟! اذا الثروة معبودة ، و هي محور العلاقة ، و لابد ان يختاروا الها رمزا يحترمونه و يكرمونهو يقدسونه ، و بالتالي يعبدونه . ذلك الرمز قد يكون صنما من ذهب او فضة أو احجار كريمة - كما كان يصنعه الانسان البدائي - و لكن قد يكون رمزا متطورا يسمونه بـ ( العلم ) كما تصنعه امريكا ، أو بتمثال الحرية ، و برج ايفل ، أو تمثال النيل أو التمساح .

و قد يختار تجمع المترفين شخصا يسمونه بالملك و يصبغون عليه قدرا من القداسة المزعومة ، و الجلالة المزيفة ، فيجعلونه رمزا لتجمعهم .


و كما محور الثروة كذلك محور القومية و الوطنية وما اشبه ، تنفلت من اطارها السليم ، و تتحول الى صنم يعبد من دون الله .

اما والان وقد عرفنا ان هذه الأوثان التي كانت تعبيرا عن نزعات نفسية شاذة و منحرفة جرت المزيد من الويلات على البشرية ، فكم ارتكبت بإسمها الجرائم و كم سوغت باسمها المجازر ، و كم اشعلت نار الحروب الضارية ولا تزال .

و قد بين ربنا على لسان محطم الاصنام ابراهيم (ع) ان اتخاذ الاصنام انما تم " مودة بينكم " فالهدف هو إيجاد العلاقة ، ثم أوضح أن الكفار سوف يتبرؤون من بعضهم يوم القيامة .

و من هنا نعرف العلاقة بين الآية الاولى و الثانية في هذا السياق ، اذ ان رفض الاسلام للمودة الوثنية يقابله تشجيعه على المودة الرحمانية ، القائمة على أساس التوحيد . فكما حارب إبراهيم الوثنية آمن به لوط ، و رزقه الله اسحاق و يعقوب ، و من ورائهما الاسباط ، و التجمع الايماني ، ذلك التجمع الذي باركه الله في الدنيا ، حيث اعطي جزاء ابراهيم (ع) وافيا ، و في الآخرة ادخله في الصالحين . أولئك الذين لا يتبرأ بعضهم من بعض .

أي تجمع يباركه الاسلام ؟ وهل كل تجمع مفيد ؟ و على أي أساس ؟

ان التجمعات اليوم قائمة على محاور وثنية ، كالتجمع حول ( وثن الوطنية ، أو صنم الاقليمية ، أو القومية ، أو العنصرية ، أو الطبقية ) هذه الأوثان التي قد يرمز لها بعلم ، أو شخص ( طاغوت ) أو مسميات اخرى ( الجندي المجهول ، أو تمثال الحرية ، أو تمثال الفيل، أو التمساح ، او ابي الهول ، أو شجرة الأرز ) .

ولا تعني هذه الرموز سوى النزعة الصنمية ، ذلك لأن أولئك الذين كانوايقدسون الاصنام في الجاهلية ، التي كانوا يصنعونها من التمر ثم يأكلونها اذا جاعوا ، هل كانوا يعتقدون فعلا انها آلهتهم ؟!

كلا .. فلو كانوا يعتقدون حقيقة أنها آلهتهم لم ياكلوها عندما يجوعون . انهم كانوا يزعمون أنها رمز تجمعهم ، لذلك كانت كل قبيلة لها صنمها الخاص .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس