بينات من الآيات [ 25] [ و قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ]
حيث اتخذتم وثنا يكون رمزا لعلاقاتكم في الحياة الدنيا ، بيد ان هذه العلاقات غير ثابتة لانها منبثقة عن النزعات النفسية التي تتبخر عند الموت ، فحينما ينزل ابن آدم الى قبره يودعه على حافته ماله ، و عياله ، و ذويه ، و انتماءاته الحزبية ، و ولاءاته السياسية ، ليواجه مصيره وحده .
[ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ]ورد في مواضع أخرى من القرآن تجسيد حي لبعض مشاهد الآخرة ، و هذه الآية تعرض واحدة من تلك الصور التي تجسم النزاع الذي يدور بين الجماعات التي كانت متوحدة في الدنيا على بعض القيم المزيفة ، اذا بهم يتلاعنون يوم القيامة ، أما المؤمنون فيقول عنهم ربنا سبحانه : " و نزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين " (1)و جاء فــي حديــث مأثــور عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام في تفسير الآية :
(1) الحجر / 73 .
عن مالك الجهنمي قال : قال لي ابو عبد الله :
" يا مالك انه ليس من قوم ائتموا بامام في الدنيا الا جاء يوم القيامة يلعنهم و يلعنونه الا انتم ، ومن كان على مثل حالكم " (1)[ 26] كلا الفريقين يعكسان طبيعة ما كانوا يعيشونه في الدنيا من زيف أو حقيقة ، و لكن على الرغم من تكذيب القوم لابراهيم (ع) وجوابه لهم بهذا المنطق الصارم ، الا ان دعوته لم تذهب سدى حيث آمن به لوط (ع) .
[ فامن له لوط و قال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ]و لوط (ع) بايمانه قد حقق هجرتين لا هجرة واحدة ، فالاولى هجرة معنوية حيث هجر المجتمع الفاسد رافضا تمحوره حول الأوثان ليتصل بالمجتمع الصالح المتمحور حول الايمان الحق ، و الهجرة الثانية هجرته الجغرافية حيث ترك مدينة بابل ليرحل الى مصر ففلسطين مع ابراهيم (ع) لكي يقوم ببناء محور جديد لتجمع يقوم على أساس الايمان بالله ، و ليقوم بدوره في تبليغ رسالات ربه .
[ 27] [ و وهبنا له إسحاق و يعقوب و جعلنا في ذريته النبوة و الكتاب و ءاتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين ]و يشير القرآن هنا الى امتداد ابراهيم عبر الزمن عن طريق اسحاق و يعقوب ، بينما كان اولاده بالفعل ( اسماعيل و اسحاق ) و لكن الله سبحانه و تعالى ركز على اسحاق ، و لم ينف اسماعيل و ذلك لان التجمع الرسالي امتد عبر الزمن عن طريق اسحاق ، و وراءه يعقوب ، ومن بعده ذرية طيبة كانت فيهم النبوة و الكتاب ،
(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 151 .
فتصدوا بذلك مسرح لاحداث ، و كل اولئك كانوا من ذرية اسحاق (ع) في الوقت الذي كانت فيه ذرية اسماعيل (ع) تغط في سبات و جهل و خمول الى ان بزغ نور رسول الله (ص) فيهم ، فكان رحمة للعالمين ، و سيد المرسلين ، و هكذا بارك الله في امة ابراهيم بحيث اصبح ذكره اليوم محمودا عند أكثر من ملياري انسان . هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فهو عند الله من الصالحين و كفى بذلك مقاما كريما .
[ 28] [ و لوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ]بدأ لوط ( عليه السلام ) باستنكاره على قومه الاتيان بالفاحشة ، فقال لهم : يا قوم انكم ترتكبون من الفواحــش ما لم يسبقكم اليها احد من العالمين ، فانتم أعظم خطرا ، و اسوء شرا لانكم ابتدعتم جرائم عديدة .
و جاء في حديث مروي عن الامام الصادق ( عليه السلام ) :
" ان ابليس اتاهم في صورة حسنة ، فيه تأنيث ، عليه ثياب حسنة ، فجاء الى شبان منهم فأمرهم ان يقعوا به ، ولو طلب منهم ان يقع بهم لأبوا عليه ، و لكن طلب منهم ان يقعوا به ، فلما وقعوا به التذوه ، ثم ذهب عنهم و تركهم فأحال بعضهم على بعض " (1)
[29] [ أئنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل ]
اضافة الى فاحشة اللواط كانوا يقطعون الطرق الآمنة على الناس ، لأن قراهم كانت في مركز جغرافي حساس ، فلا يسمحون بمرور القوافل .
[ وتأتون في ناديكم المنكر ]
(1) المصدر / ص 157 .
أي تجاهرون بالمنكرات ، و تقترفونها في نواديكم التي تجتمعون فيها بكل صراحة ، فمن يعمل المنكر و يخفيه عن اعين الناس فان أمره هين و قد يغفر الله له ، أما ان يفعل المنكر أمام الناس فذلك تعد على الحرمات و القيم .
و ذكر في بعض الروايات : " انهم كانوا يحذفون الحصاة على بعضهم ، و انهم كانوا يتضارطون في مجالسهم " (1)[ فما كان جواب قومه إلا ان قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ]فوق ما اقترفوا راحوا يستكبرون ، و يتوغلون في التحدي ، إذ أن من يعمل السيئات ثم يندم عسى الله ان يتوب عليه ، اما ان يعمل السيئات ، ثم يتحدى الله ، فهو مخلد في النار .
[30] [ قال رب انصرني على القوم المفسدين ]
هناك انهى لوط (ع) رسالته ، واوكل الأمر الى الله ، و متوكلا عليه ، طالبا منه النصرة . و قد بقي ينصحهم ثلاثين عاما فلم يقبلوا .
[ 31] [ و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ]الحسم لا يتم الا بمعرفة القيادة العليا ، فالملائكة الرسل الذين جاؤوا لنصرة لوط ، و اهلاك قومه مروا في طريقهم على ابراهيم لكي يوعز ربنا سبحانه لابراهيم : بأنك انت القائد الاعلى للتجمع الايماني في الارض ، و قد كان بامكان هؤلاء(1) المصدر .
الملائكة ان يذهبوا رأسا ناحية لوط ، و لكنهم مروا على إبراهيم جزاء من الله له على ايمانه الصادق و اخلاصه .
و هؤلاء الرسل لم يبدأوا ابراهيم بالانذار ، و انما ابتدأوه بالبشرى بان الله سيهب له اسحاق و من ورائه يعقوب والذرية الصالحة ، رغم انهم يحملون العذاب لقوم لوط ، ولا تخلو هذه اللفتة من مفارقة كريمة و هي : ان ربنا سبحانه و تعالى قبل ان يهلك قوما كفرواو عاندوا بشر رئيس ذلك المجتمع ابراهيم (ع) بانه سيعطيه ذرية صالحة ، تحمل راية الحق ، و تنشر كلمة الله في الارض ، فتلك هي المفارقة ، و يبشره بالعطاء أولا ، ثم ينذره بانه سوف يهلك الظالمين ، و لكن ابراهيم (ع) حينما عرف ان الله مهلك قوم لوط فزع .
[ 32] [ قال إن فيها لوطا ]
و ذلك هو سلوك المؤمنين الصادقين ، فمن صفات الانبياء (ع) انهم رحماء بالبشر غيورون على المؤمنين ، بحيث لم يتمالك نفسه ، و اندفع قائلا : وما هومصير لوط ؟!
و جاء في حديث ماثور عن الامام الصادق عليه السلام : ان ابراهيم كان يسعى لدرء العذاب عن قوم لوط ، يقول الحديث ( بعد بيان جوانب من قصة لوط ) :
" فقال لهم ابراهيم : لماذا جئتم ؟ قالوا في اهلاك قوم لوط ، فقال لهم : ان كان فيها مأة من المؤمنين اتهلكونهم ؟ فقال جبرئيل عليه السلام : لا ، قال : فان كان فيها خمسون ؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها ثلاثون ؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرون؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرة ؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها خمسة ؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها واحد ؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها لوط ، قالوا : نحن اعلم بمن فيها لننجينه و اهله الا امرأته كانت من الغابرين "قال الحسن بن علي (ع) :
" لا اعلم هذا القول الا وهو يستبقيهم و هو قول الله عز وجل : " يجادلنا في قوم لوط " " (1)[ قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امراته كانت من الغابرين ]وفي هذه الآية عودة للتذكر : بأن التجمع الاسري مطلوب ، ولكن في حدود الايمان الحقيقي ، ولان امرأة لوط كانت سيئة فقد اصبحت من الغابرين و استبعدت من الصالحين .
[ 33] [ و لما أن جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا ]كان لوط يحرث الارض ، و اذا به يرى مجموعة من الرجال يأتون اليه ، فاستقبلهم بحفاوة و طلب منهم النزول عليه في بيته ضيوفا ، و لكن ما ان سمع القوم بقصتهم حتى هرعوا اليه يريدون ان يفعلوا الفاحشة ، فضاق بهم ذرعا ، و لم يدر ما يصنع ، و لكن حينما رأى الضيوفحيرة لوط طمأنوه ..
[ و قالوا لا تخف ولا تحزن ]
لا تخف على المستقبل ، و لا تحزن على الماضي ، فنحن رسل السماء اليك ..
[ إنا منجوك و أهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ]
[ 34] [ إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما(1) المصدر / ص 158 .
كانوا يفسقون ]
ولابد من ملاحظة الفرق بين " منزلين " بالتخفيف " و منزلين " بالتشديد ، الاولى من ( انزل ) أي دفعة واحدة ، بينما الثانية من (نزل ) اي على فترات شيئا فشيئا ، و الملائكة هنا اخبروا لوطا ان العذاب سينزل من السماء رجزا على الفاسقين دفعة واحدة .
أما كيف نزل بهم العذاب ؟ فقد روى ابو حمزة الثمالي قصة ذلك مفصلا في رواية :
عن ابي جعفر عليه السلام قال :
" ان رسول الله صلى الله عليه وآله سأل جبرئيل كيف كان مهلك قوم لوط ؟ فقال : ان قوم لوط كانوا أهل قرية لا ينتظفون من البول و الغائط ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء اشحاء على الطعام ، و ان لوطا لبث فيهم ثلاثين سنة ، و انما كان نازلا عليهم و لم يكنمنهم ولا عشيرة له فيهم ثلاثين سنة ولا قوم ، و انه دعاهم الى الله عز وجل والى الايمان و اتباعه ، و نهاهم عن الفواحش و حثهم على طاعة الله فلم يجيبوه و لم يطيعوه ، و ان الله عز وجل لما أراد عذابهم بعث اليهم رسلا منذرين عذرا نذرا ، فلما عتوا عن امره بعثاليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين ، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين فاخرجوهم منها ، و قالوا للوط : " اسر باهلك " من هذه القرية الليلة " بقطع من الليل سار لوط ببناته ، و تولت امرأته مدبرة فانقطعت الى قومها تسعى بلوط ،و تخبرهم ان لوطا قد سار ببناته ، و اني نوديت من تلقاء العرش لما طلع الفجر : يا جبرئيل حق القول من الله تحتم عذاب قوم لوط ، فاهبط الى قرية قوم لوط وما حوت فاقلبها من تحت سبع ارضين ، ثم اعرج بها الىالسماء فاوقفها حتى يأتيك امر الجبار في قلبها ، ودع منها اية بينة من منزل لوط عبرة للسيارة ، فهبطت على أهل القرية الظالمين فضربت بجناحي الايمن على ما حوى عليه شرقها ، و ضربت بجناحي الايسر على ما حوى عليها غربها ، فاقتلعتها يا محمد من تحت سبع ارضين الامنزل لوط اية للسيارة ، ثم عرجت بها في حوافي جناحي حتى اوقفتها حيث يسمع أهل السماء زقاء ديوكها ونباح كلابها فلما طلعت الشمس نوديت من تلقاء العرش : يا جبرئيل ! اقلب القرية على القوم ، فقلبتها عليهم حتى صار اسفلها اعلاها و امطر الله عليهم حجارة من سجيلمسومة عند ربك وما هي من الظالمين من امتك ببعيد " (1)[ 35] [ و لقد تركنا منها ءاية بينة لقوم يعقلون ]
تركناهم عبرة لمن يستفيد من التجارب و الدروس التاريخية . و قد أكد الله سبحانه هذه الحقيقة في آية متقدمة من هذه السورة : " و ان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم " ثم قال : " قل سيروا في الارض " .
فعلينا أن نسير في الارض ، و ننقب في الآثار ، و نكتشف الى أي مدى من التحضر أو التخلف و صلوا ، حتى نفهم كيف كان هؤلاء ، و لماذا هلكوا .
وما احوج البشرية اليوم للإعتبار بمصير قوم لوط و هي تنزلق في وحل الرذيلة و الفحشاء ، و تراها استمرات الخلاعة و استباحت الزنا و انتشر فيها الشذوذ الجنسي و بدأ يكتسب وضعا قانونيا في بلاد عديدة ، و بالرغم من تحذير الحكماء ، و انذار الرب بانتشار مرض الايدز فانهم لا يزالون يهبطون نحو الهاوية ، حيث غضب الله الذي لا يقدرون على رده - أنجانا الله منه - .
(1) المصدر / ص 158 - 159 .
|