فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[58] بعد ان ذكرنا الرب سبحانه ببعض حقائق الايمان في آيات آنفة ، جاءت هذه الآية تذكرنا بدور الهجرة في الله . لماذا ؟

لان الطريق الى الايمان يمر عبر الهجرة و الجهاد . إذ أن الطغاة لا يدعونك حرا تؤمن بالله وحده ، و تطبق منهجه فقط ، إنما يريدون ان تميل عن عبادة الله الى الشرك به بعبادتهم ، و لابد من تحديهم حتى تصبح مؤمنا بالله و حده . و من هنا تبدأ مرحلة الجهاد بالهجرة من ديار الكفر الى بلاد الاسلام . و الواقع فالهجرة ذاتها مرحلة متقدمة من مراحل الايمان ، فليس كل مؤمن مستعدا للهجرة الى الله بعيدا عن اهله و وطنه ، و الهجرة لا تتم من دون معاناة ، فالمهاجر عادة يتعرض للقتل بسبب أو بآخر .

و ليس هناك ما يعوض القتل أو الموت الا الرزق الحسن من الله ، فهذا المهاجر الذي ترك موارده الخصبة في بلده ، يعوضه الله خيرا منها دار الخلود ، و بدل خروجه من وطنه ساخطا يدخله تلك الدار راضيا مرضيا .

هذا لمن يهاجر و يلقى حتفه ، اما الذي يبقى حيا فأن الله سوف ينصره نصرا مؤزرا على من كانوا السبب في تهجيره و تشريده ، و بما أن الهجرة من دار الكفر الى دار الايمان تنشأ من السخط على الاوضاع الفـاسدة - السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية - فان الهجرةفي عرف الطغاة تشكل سن الحربة لذا فهم يسعون لوأد هذه الحركة بقتلهم المهاجرين ، او التضييق عليهم كأن يبرموا الاتفاقات مع الدولة الاخرى كي يسلموهم ، أو يضيقوا عليهم حتى يستحيل عليهم النصــر فيمــوتوا بعد سني النضال الطويــل .

[ و الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم اللهرزقا حسنا و إن الله لهو خير الرازقين ]

هكذا يعرفنا الله نفسه .

من الآية (58) الى الآية (65) يذكرنا القرآن بـ (15) اسما من الاسماء الحسنى ، هي خيــر الــــرازقين ، العليم ، الحليم ، العفو ، الغفور ، السميع ، البصير ، العلي ، الكبير ، اللطيف ، الخبير ، الغني ، الحميد ، الرؤوف ، الرحيم .

و نستوحي من منهج القرآن في ذكر اسماء ربنا هنا و في سائر السور ، ان الله يريد ان يعرفنا نفسه في مختلف جوانب الحياة التشريعية و الاجتماعية ، أو المادية التكوينية ، و ان هناك مسافة تفصل بين الايمان و المعرفة ، كما تفصل مسافة مماثلة بين الاســلام ، والايمان ، فليس كل مسلم مؤمنا ، و ليس كل مؤمن عارفا و ان للعرفان درجات .

ان الله سبحانه و تعالى قد تجلى في آيات القرآن لعباده ، كما تجلى في آيات الحياة ليعرفنا نفسه ، فكيف نعرف الله ؟

باستطاعتنا ان نعرف الله سبحانه عبر صفاته و اسمائه الحسنى ، المبثوثة في آياته القرآنية و الكونية ، فكل شيء و كل آية هي تجل واضح لأسماء الله و صفاته .

جمال الربيع ، و بهجته ، و عبق ازهاره ، يقودنا الى جمال الله ، و عظمة الليل و النهار ، و دوران الفلك العظيم بشموسه و أقماره ، يهدينا الى عظمة الله ، و انه علي كبير .

و قطرات المطر التي تنزل من السماء ثم تستقر في رحم الأرض ، و تتفاعل مع حبات التراب ، و اذا بتلك البذرة الصغيرة ترتفع نحو السماء ، فتصبح شجرة عظيمة ، كل ذلك يقودنا الى لطف الله في صنعه .


اما اذا نظرنا الى ما في الجبال من خزائن ، و ما في البحار من ثروات معدنية و حيوانية ، و ما في الارض من كنوز و معادن ، فسنعرف آنذاك أن ربنا غني حميد . و انه على كل شيء قدير .

و حين نعرف بأن ربنا سبحانه قد جعل في السموات و الارض أنظمة و سننا - يحفظنا بها - و لو لا ذلك لانتهت حياتنا على الارض ، أو تحولت في أحسن الظروف الى جحيم لا يطاق .

ان نظام الغلاف الجوي كأبرز مثال من الدقة بحيث لو انه كان اقل سمكا لتهافتت النيازك و الشهب فاحرقت الارض ، و لو انه كان اسمك قليلا لما استطاعت الارض ان تأخذ قدرا كافيا من اشعة الشمس فكانت تتجمد ، و هكذا الجاذبية ، و سماكة الارض .. اقول اذا عرفنا كلذلك هدانا الله الى انه سبحانه رؤوف رحيم .

و كذلك تحولات حياتنا من الموت الى الحياة ، و من الحياة الى الموت ، يدلنا على ان تدبير الامور بيد غيرنا لا بيدنا نحن ، و ان الرحمن على العرش استوى . و هكذا نجد في هذه الآيات منهجا قرآنيا عظيما . حيث يذكرنا بآية من الآيات ، ثم بصفة من صفات الخالق، واسم من اسمائه ، و هذا هو الاسلوب المناسب لمعرفة الله سبحانه ، و بتعبير آخر التحول من درجة الايمان الى درجة المعرفة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس