فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[63] [ بل قلوبهم في غمرة من هذا ]

تلفها الشهوات ، من كل جانب ، كما لو انها رسبت في لجة آسنة .

[ و لهم اعمال من دون ذلك هم لها عاملون ]

أعمال الانسان تنطلق من فكره و قلبه ، و ما دامت قلوب هؤلاء مغمورة فيالشهوات فانها لا يصدر عنها الا السيئات ، و لعل كلمة " من دون ذلك " تشير الى هذه الحقيقة ، أو الى ان الاعمال الاجرامية التي يمارسونها على فضاعتها تعتبر دون أفكارهم الضالة ، فإن خبث العقائد الفاسدة أشد من خبث الافعال المنكرة .

[64] [ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون ]و لم يقل الله ( حتى اذا أخذناهم بالعذاب ) و هذا التحويل في لحن السياق القرآني لعله يدل على فكرة معينة هي ان الله لا يأخذ كل المغمورة قلوبهم بالعذاب ، بل يأخذ المترفين منهم ، و الآيات التي تلي هذه الآية تفسرها ، و هذه من خصائص السياق القرآني أنه يفسر بعضه بعضا .

و الجأر هو : نهاية حالة الضراعة ، و الطلب الملح .

[65] و لكن ليس ينفع المترف دعاؤه حين يحل به العذاب .

[ لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ]

[66] و الآية التالية ، جواب على سؤال يفترض أنه يصدر عن المترفين ، حين يجدون انفسهم بين يدي العذاب ، إذ يتساءلون عن سبب رد الله لاستجارتهم و تضرعهم ، فيأتيهم الجواب :

[ قد كانت ءاياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ]ان الآيات القرآنية و هي وقود الإنطلاق و التقدم ، يفترض انها تدفع الانسان نحو الأمام ، اما إذا كان قلبه مطبوعا بالتخلف و الإنحراف فهي لا تنفع معه ابدا ، بل تزيده طغيانا و كفرا ، و النكوص على الأعقاب ، كناية عن المشي القهقرى .

[67] لذلك يقول القرآن :


[ مستكبرين به ]

اي بالقرآن .

[ سامرا تهجرون ]

ان تكبر الانسان على القرآن شيء ، و تكبره بالقرآن شيء آخر - و هو أعظم - حيث تتحول هذه الرسالة الإلهية العظيمة الى أداة للإستكبار ، و هذا نقيض أهداف القرآن في تحرير الانسان من عبودية الجبت و الطاغوت ، و قد فسر بعضهم كلمة " به " هنا بالكعبة، حيث ان المشركين اتخذوها وسيلة استكبارهم في الارض ، بينما فسره البعض بالقرآن الذي يشير اليه كلمة " آيات " و تدل عليه كلمة " القول " في هذا السياق .

و كانوا إذا جن عليهم الليل و اختلط ظلامه بنور القمر الهادئ ، و هيئت لهم ظروف السمــر ، تحلقوا حول الكعبة ، و أخذوا يتداولون كلاما هجرا ، كأنه هذيان المرضى ، لا يقصدون به معنى حقيقيا .

ذلك الكلام الفارغ الذي كان يكشف عن مدى غفلتهم و خوضهم في غمرات - اللهو ، و الهوى ، و اللاهدفية - ارداهم الى هذا الحضيض السافل من العذاب ، الذي لا خلاص لهم منه . تدبروا في حالتي - الجأر و الهجر ..

[68] [ أفلم يدبروا القول ]

في مقابل هؤلاء نرى المؤمنين الذين يتدبرون القرآن ، و التدبر من كلمة الدبر ، اي النهاية فمن القرآن يبدأ المؤمنن فيسير بعقله ، و على ضوء الآية ، الى الحقائق ، فيرى ماذا تريد الآية و أين هو واقعها الخارجي ، و تطبيقها الحي .

إن القرآن لم يكن بدعة ، فهو امتداد لرسالات الله لبني البشر ،عبر الزمان و لاحجة لأولئك الذين يتنصلون عن تطبيقه أو يتكبرون عليه ، و يفرغونه من معانيه .

[ أم جاءهم مالم يأت ءاباءهم الأولين ]

ان البشر يقدر - عادة - السلف الصالح ، و تزخر ذاكرته بقصص الأتقياء و المصلحين و في طليعتهم الرسل و لكنه - في ذات الوقت - يكفر بالرسول الذي يأتيه بآيات الله ، و يتساءل عن صحة رسالته ، و انما هي تكميل للرسالات السابقة .

[69] [ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ]

كلا .. فالناس كانوا يعرفون رسول الله بصدقه و أمانته و أخلاقه ، و الرسالة التي جاءهم بها هي عينها التي تدعوا إليها عقولهم ، و الله الذي يبعث بقرآن من السماء قد أنشأ عقلا في داخل الانسان يصدقه ، فيعرف الانسان ان الذي جاء به هو الحق ، و هكذا يستطيع كل انسان بشيء من التعقل ان يهتدي الى رسول الله ، و ان الذي ينصحه هل هو رسول الله أم داعي الشيطان ؟ و لكن بشرط ان يخرج من سجن الشهوات التي تغمره ، و عند ذلك فقط سوف يرى الحقائق بوضوح .

[70] [ أم يقولون به جنة ]

و هل هذا قول مجنون ، و فيه من ينابيع الحكمة ، و خزائن المعرفة ، و برامج الحياة ، ما يعجز عن اكتناهه أولوا الالباب ؟‍‍!

و هل المجنون يفعل ما قام به الرسول من تنظيم لحياة الناس ، ثم قيادة المجتمع على أفضل وجه ؟!

[ بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون ]

كلا .. انهم يكرهون الحق و لذلك يجادلون فيه ، و ينكرون الرسول الداعياليه ، و لا يتدبرون في القول الذي يحتويه و لماذا يكره الحق أكثرهم ؟ لانهم يعيشون في غمرة منه تحيط بهم شهواتهم ، و هذا هو الفرق بين المؤمنين و الكافرين .

[71] [ و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهن ]ليس فقط من الناحية الغيبية الإلهية فقط ، بل من الناحية الواقعية أيضا لان الحق الذي تنزل به القرآن تعبير عن حقائق الانسان و الحياة ، فالعدل يقيم الحياة ، بينما الظلم يؤدي بها إلى الدمار ، و الصدق يعود على الناس بالنفع بينما الكذب يعود عليهم بالضرر، و هكذا سائر القيم السلبية و الايجابية .

[ بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ]

البعض يفسر هذه الآية بان : القرآن جاء شرفا للناس ، و لكنهم معرضون عن شرفهم ، و هذا صحيح ، اما التفسير الآخر - حسبما ارى انه اقرب - فهو ان القرآن جاء مذكرا لهم بما نسوه ، و غفلوا عنه ، و لكي ينورهم فلماذا يعرضون عنه ؟!

و هذا التفسير تأكيد للفكرة السابقة و هي : ان الله الذي يرسل رسالة على يد رسول ، اودع رسالة اخرى في قلب الانسان ، و انطباق هاتين الرسالتين دليل على صدق الرسول .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس