بينات من الآيات [72] من العقبات التي تعترض طريق البشر الى الايمان هو زعمه : بأن ايمانه سيكلفه التضحية بالمال ، دون ان يعلم بان الايمان يدفع المجتمع لانتهاج شريعة متكاملة توفر له التعاون ، و العدالة ، و النشاط ، و في مثل هذا المجتمع يستطيع الانسان كسب المزيد من الثروة ، و المزيد من السعادة ، و لو أنه حسب ما ينفقه في سبيل الله خمسا ، أو زكاة ، أو نشاطا ، خسارة و مغرما ، فلأنه لا يعلم بأن تدوير الثروة و توزيعها بالعدل يساعد على نشاط المجتمع ، و بالتالي على نموه الاقتصادي .
إن نظرة الانسان للحياة من خلال معرفته بربه ، تعرفه بأن عطاءه و إنفاقه في سبيل الله لا ينقصه شيئا ، بل يزيده مالا و سعادة ، ذلك انه سيكتشف عبر هذهالمعرفة بــأن الله لا يحتاج الى ماله و لا نشاطه ، وانما ينفق ذلك لنفسه ، و لتدوير الثروة ، و توزيعها العادل ، و لتطهير قلبه من درن البخل ، و المجتمع من آفة الطبقية .
[ أم تسألهم خرجا ]
شيئا ينفقونه و كأنه يخرج من أموالهم ، و هو يقابل ( الدخل ) .
[ فخراج ربك خير ]
كيف يطلب النبي المشمول ببركة الله ، و فيض عطائه من البشر الضعيف الفقير شيئا ، بل ماذا تعني ثروة الدنيا عند نبي تضاءلت الشمس و القمر أمامه .
[ و هو خير الرازقين ]
فالله الرزاق ، الذي لا حد لعطائه ، و لا ذلة ، و هو الغني الحميد .
[73] [ و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ]
انك ايها الرسول تدعوهم الى انتهاج برامج صائبة لحياتهم . تتمثل في الصراط المستقيم الذي يصل بهم لو اتبعوه الى أهدافهم ، و مشكلة الانسان في كثير من الأحيان انه يعرف هدفه ، و لكنه يفتقر الى الطريق و الوسيلة الصائبة في بلوغه ، و رسالات الله تهديه الى السبيل الأقوم الى اهدافه الفاضلة .
و اظهــــر مصاديق - الصراط المستقيم - بل و ميزان الصراط المستقيم . القيادة الرشيدة ، و الامام العادل الذي نصبه الله للناس علما ، يميزون الحق به عن الباطل ، و هو متمثل في شخص الرسول ، و الائمة المعصومين من بعده (ع) و العلماء بالله . الامناء على حلاله و حرامه من بعدهم ، و قد جاء في حديث مأثور عن النبي - صلى الله عليه و آله - انه قال لعلي - عليه السلام - :
" من أحبك لدينك ، و أخذ بسبيلك ، فهو ممن هدي الى صراط مستقيم ، و من رغب عن هداك ، و أبغضك و انجلاك ، لقي الله يوم القيامة لا خلاق له " (1)[74] [ و إن الذين لا يؤمنون بالأخرة عن الصراط لناكبون ]ذلك أن الايمان بالآخرة يشكل حجر الزاوية في كيان الانسان العلمي ، أو ليست معرفة النهاية تســاهم في معرفة حقائق الحياة ، و من لا يعرف حقيقة الدنيا ، يزغم انها دار راحة ، و جزاء ، و حين لا يجدهما فيها يزداد شقاء ، و من لا يؤمن بالآخرة لا يعرف هـــدفالحياة ، فيهدف فيها ما يضره و لا ينفعه ، او يهبط الى مستوى العتو ، و قد ينتحر ، لأنه لا يجد طعما لحياته ، و من لا يعتقد بالآخرة يتوغل في عبادة الشهوات ، و يحتجب بها عن معرفة الله ، و لا يلتزم بشرائعه و لا يهتدي برسالاته ، فهو في ضلال بعيد ، و لعله لذلك لم يقل الرب : ان الذين لا يؤمنون بالله ، بل قال : " و ان الذين لا يؤمنون بالآخرة " .
[75] و ماذا يفعل الله بالانسان حين يتنكب عن الصراط ؟
هل يرزقه النعم و يرحمه ، فاذا به يتوغل في الطغيان ؟!
ام ينزل عليه النقمة فاذا به لا يرتدع و لا يتضرع الى الله ؟!
[ و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر ]
كالفقر ، و المرض ، و الخوف .
[ للجوا في طغيانهم يعمهون ]
(1) المصدر / ص 548
انجلاك : ترك سبيلك ، أي انجلى عنك .
لجو بمعنى : دخلوا و توغلوا ، و الله يشبه الطغيان في هذه الآية كما النفق الموحش ، و هؤلاء بدل ان يرجعوا عن المسيـــر فيه ، كلما رحمهم الله تراهم يتوغلون فيه أكثر فاكثر ، فيفقدون بصرهم و بصيرتهم .
و الواقع ان من العقبات التي تعترض طريق الايمان هو موقف الانسان من النعم ، فاذا رزقه الله نعمة طغى ، و زعم : ان طغيانه هو السبب فيها ، كما تزعم الدول الاشتراكيــة المتقدمة ، ان نظامها الاقتصادي ، و ايدلوجيتها المنحرفة هي السبب في تقدمها ، أو كما تزعم الاخرى الرأسمالية : ان نظامها سبب تقدمها و حضارتها ، و قد ملأوا الدنيا ضجيجا بان الاقتصاد الحر هو سبب التقدم .
بينمـا نجد الرأسمالية حين زرعوها في العالم الثالث ، لم تنبت الا مزيدا من التخلف ، و كذلك الاشتراكية حين حقنوا بها العالم النامي ، لم تلد سوى الدمار ، و هكذا عرفنا بانه لا الاشتراكية و لا الرأسمالية هما سببا تقدم هذه الدولة أو تلك .
و العمه هو : العمى الذي يصيب الشخص منذ ولادته ، فلا يستطيع ان يميز شيئا أبدا ، بينما الذي يدركه العمى بعد أن يكون بصيرا مدة من الزمن ، فانه قد يستطيع ان يميز بعض الاشياء ، اعتمادا على ذاكرته و حواسه .
[76 - 77] و كـذلك لو أخذهم الله بألوان العذاب ، فانهم لا يرجعون عن إنحرافهم ، و لا يتضرعون اليه ، بل تجدهم يعتمدون على هذا و ذاك من دون الله ، فالمجاعة يكون حلها عندهم بالاعتماد على معونات الانظمة الكافرة . بدل ان يكون علاجها بالعودة الى الله ، والتضرع اليه ، و تغيير الذات ، و السعي ، و التعاون ، و العلم ، و العدالة .
[ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ]جاء في رواية عن الامام الباقر - عليه السلام - :
" الاستكانة هو الخضوع ، و التضرع هو رفع اليدين ، و التضرع بهما " . (1)هناك نوعان من العذاب :
1 - عذاب الابتلاء : و هدفه تغيير الانسان " و لقد اخذناهم بالباساء و الضراء لعلهم يتضرعون " و عادة لا ينتفع البشر بهذا النوع من العذاب .
2 - عذاب الانتقام : و هو اذا انزل فلا مرد له ، كالعذاب الذي حل بفرعون و قومه ، لأنه آمن متأخرا ، و من دون فائدة . و هذا النوع من العذاب يهز الانسان من الأعماق الى درجة انه يبلس ، اي تختلط مشاعره ، و يبقى في حيرة ، ولا يعرف كيف يتصرف .
[ حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ][78] و بعد ان ذكرنا القرآن بالعقبات التي تعترض طريق الايمان ، يذكرنا الآن بالله و آياتــه ، فالانسان إذا عرف العقبات و الحجب التي تمنعه من الايمان ، و تحداها بقوة الإرادة ، و بتذكرة الله ، فانه يكون آنئذ مستعدا للتذكرة بالله ، و يفهم القرآن ، ويزداد به إيمانا .
[ و هو الذي أنشأ لكم السمع و الأبصار ]
و هما نافذتا العقل على المعرفة .
[ و الأفئدة ]
(1) المصدر / ص 549
و هي أهم من السمع و الأبصار ، لانه لو عطب عن العمل فلن ينفعا أبدا ، الا اننا قلما نشكر الله على هذه النعم .
[ قليلا ما تشكرون ]
[79] [ و هو الذي ذرأكم في الأرض و إليه تحشرون ]
ذرأ بمعنى : خلق و أظهر ، و لعل كلمة " في الأرض " للدلالة على أن التراب كان أصل خلقة البشر ، و أن اليه يعود ، و منه ينتشر ، و يحشر تأرة اخرى .
[80] [ و هو الذي يحي و يميت ]
ان العالم مع ما فيه من تقدم تكنلوجي ، عاجز باسره ان يضيف الى الانسان لحظة واحدة من الحياة ، لأن هذا الأمر بيد الله وحده ، و هو الذي يميت ايضا ، و ليس الانسان وحده الذي يخضع لإرادة الله ، بل لا تجد ظاهرة في هذا الكون إلا و هي تنتهي اليه .
[ و له اختلاف الليل و النهار أفلا تعقلون ]
فالليل و النهار يتعاقبان ، ليس فقط في التناوب الزمني ، و انما ايضا في القصر و الطول ، و من أوتي البصيرة ، و نظر بعين قلبه الى اتقان تدبير الله في الليل و النهار تبصر أيضا بمعنى الحياة و الموت ، و قدرة الله المهيمنة عليهما .
[81] الانسان يهتدي لهذه الحقائق حينما يستفيد من عقله ، اما حين يعطله بالاسباب المختلفة ، كتقليد الآباء ، فانه أبعد ما يكون عن استيعاب هذه الحقائق الواضحة و القريبة منه .
[ بل قالوا مثل ما قال الأولون ]
[82] ماذا قال الاولون ؟
يرجعنا القرآن هنا الى السبب الجذري لعدم إيمان هؤلاء ، و هو الكفر بالآخرة ، و الذي سببه التشكيك أو الكفر بقدرة الله ، وإرادته اللامحدودة .
[ قالوا أءذا متنا و كنا ترابا و عظاما أءنا لمبعوثون ]يتعجبون كيف أن العظام الرميم تصير بشرا سويا ؟!
[83] [ لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ]لقد زعموا بأن هذه الحقيقة أفكار رجعية متخلفة ، و نسوا ان مبدأهم كان من التراب ، و ان الذي خلقهم أول مرة لقادر على بعثهم من التراب مرة أخرى .
|