سيقولون لله قل افلا تذكرون
هدى من الآيات لقد مهد السياق القرآني في سورة ( المؤمنون ) للتذكرة بالله سبحانه ببيان العقبات النفسية التي تعترض سبيل الايمان ، و بعدها جاءت الآيات تستثير أعمق مشاعر الانسان الفطرية . تلك التي تهديه لربه و خالقه . عبر تساؤلات فطرية . تفرض نفسها على وجدان الانسانفرضا ، فمن الذي خلق السموات و الارض ؟ و من بيده حاكمية هذه السماء المترامية الاطراف ، و الكون الذي لا نعلم حدوده ؟ و من هو صاحب القدرة العليا علينا ، فاليه يلتجئ الناس عند الشدائد ؟
و تجيب الآيات على هذه التساؤلات بوضوح : انه ( الله ) القاهر فوق كل شيء ، و ليس كمثله شيء ، و تتوجه اليه قلوب الناس بفطرتهم التي خلقهم الله عليها ، و كما قال الرضا (ع) :
" بالفطرة تثبت حجته " . (1)
(1) بحار الانوار / ج 4 - ص 233
اذن فما العائق امام ذكر الله ؟ و ما هي العقبة التي تقف أمام التقوى ، و تجعلنا غافلين مرة ، و مسحورين أخرى ، قد فقدنا الإرادة نتيجة لضغوط مختلفة داخلية و خارجية ، بل قد نهوى الى حضيض التكذيب و الشرك .
هذا التسلسل الباطل يتدرج عبره الانسان خلال مراحل هي :
1 - الغفلة : فعندما يغفل الانسان فانه يضع لبنة الاساس للحاجز الذي يحول بينه وبين كنه الحقيقة المنشودة ، فينسيه أبرز حقيقة في هذا الكون الواسع ، التي يقول عنها تبارك و تعالى :
" قالت رسلهم افي الله شك فاطر السموات و الأرض " ؟! . (1)مما يمهد للهوى و الشهوة ان يسدلا ستارهما امام نور العقل ، و ضياء الفطرة .
2 - و الذي يجعلنا لا نتقي عذاب الله و سخطه بالتقوى ، هي حجب الغفلة و الشهوة التي تجعل الانسان يتخبط في ظلام الجهل و العناد مخالفا أوامر عقله ، و وخزات ضميره ، و صرخات وجدانه .
3 - السحر : و هي مرحلة فقدان الإرادة الانسانية ، و الوعي البشري ، حيث أن الضالين يحاولون تضليل الآخرين ، فيؤثرون على فئة من الناس بمعتقداتهم ، التي ضلوا بها عن الله ، فيجعلونهم يرتكسون في بؤرة الغفلة و الشهوة ، لتسلب عنهم مشاعرهم ، فألاعين عمياء لا تبصر الحقيقة ، و الأذان صماء لا تسمع وحي الله - سبحانه - و حقائق الحياة ، و الألسن بكماء لا تتكلم ، الا في مجال اللهو و العبث ، و الاهتمامات الشخصية ، و المشاعر الأنانية ، فيدفعهم كل ذلك للمرحلة الاخيرة من مسيرة التسافل و السقوط .
(1) سورة ابراهيم / 10
4 - التكذيب : و نسأل أنفسنا لماذا نكذب بهذه الحقيقة الواضحة ، و نكفر ، و نسخر بهذه العقيدة الراسخــــة فــي اعماق النفس البشرية و نحن على وعي و ادراك بهذه المسألة ؟!
و لكن الخالق البارئ يرجع المسألة لعواملها الأولية ، و يلقي بمسؤولية الإنحراف على نفس الانسان فيقول :
" قـــد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها و ما انا عليكم بحفيــظ " . (1)5 - و تبقى هناك عقبة كأداء و هي عقبة الاعتماد على الآلهة المزيفة ، التي خلقتها شهوات النفس ، و ظلام الجهل لتبرير واقعها المعاش ، و الإعتقاد بأن لله ولدا ، أو وسائل أخرى توصل اليه - سبحانه - غير التي بينها لهم ، و بأن هناك آلهة صغارا يمكن ان يشفعواللانسان من دون الله ، و يحجهم - سبحانه - بقوله : انه لا يتخذ ولدا ، و انتم تعلمون أيها البشر بفطرتكم ، و بهــدي عقولكم بأن الله هو مالك السموات و الأرض ، و صاحب العرش العظيم ، و عالم الغيب و الشهادة ، و الظاهر ، و الباطن . فكيف لا يعلم بوجود ولد لهأو شريك ؟! و انكم انما تخدعون أنفسكم ، و تتوهمون ، و تزعمون بوجود شركاء لله أو اولاد ، لتخلصوا انفسكم ، تنقذوها من غضب الله .
هذه هــي الحجب الخمس و المتدرجة التي لابد ان يخرقها المؤمن بإرادته - بعد ذكر الله - ذلك مما نستوحيه من السياق في هذا الدرس حيث يقول ربنا : " افلا تذكرون " اشارة الى حجاب الغفلة ، و يشير الى حجاب الشهوات بقوله : " افلا تتقون " والى حجاب التضليل و الإسحار بقوله : " فأنى تسحرون " و حجاب(1) سورة الانعام / 104
التكذيب : " و انهم لكاذبون " و بالتالي الى اكبر الحجب و اخطرها و هو الشرك فيقول سبحانه : " فتعالى عما يشركون " .
ان هذه الوساوس من همزات الشياطين ، و الهمزة مفرد همزات ، و هي : الدفعة القوية ، و الشيطان يدفع بالانسان نحو الكفر ، و الشرك بالله دفعا قويا ، فعلى الانسان - الضعيف ، الغافل ، الظلوم ، الكفار - ان يتوسل بقوة الله و قدرته ، ليقيه شر هذه الهمزات لأنه لا حول له ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، و من دون التوكل على الله ، و الإعتماد عليه و الإستعاذة بقوته و الإعتصام بكلمته العليا ، فإنه سينهار أمام هذه الدفعات النفسية الشهوانية للشيطان - و صدق الله العلي العظيم - حينما يقول :
" و قل رب إعوذ بك من همزات الشياطين * و أعوذ بك رب ان يحضرون " . (1)و يلعب الشيطان دورين في حياة الانسان :
الاول : دفعه نحو الاعتقادات الخاطئة ، و الممارسات المنحرفة ، و لو بشكل تدريجي .
الثاني : الحضور الدائم له في النفس البشرية ، و دور المراقبة و المرافقة . حيثما تحرك و تفكر ، و على الانسان ان يستعيذ دائما بالله من الشيطان ، و الوسواس الخناس ، و اللجوء الى حصن الله ، و التمسك بحبله ، و عروته الوثقى .
و لكن كيف يستعيذ الانسان بالله من الشيطان ؟
و كيف يتجاوز عقبة الشرك و الاعتقاد بأن هناك قوة اخرى في هذا الكون تطاول(1) سورة المؤمنون / 97 - 98
قدرة الله سبحانه و تعالى ؟
ان العلاج النفسي لهذه العقبة هو تذكر الآخرة ، و عذاب القبر و البرزخ .
ومن كلام لأمير المؤمنين - عليه السلام - لمحمد بن ابي بكر ( رض ) عن الموت و عذاب القبر :
" يا عباد الله ما بعد الموت - لمن لا يغفر له - أشد من الموت و القبر ، فاحذروا ضيقه ، و ضنكه ، و ظلمته ، و غربته ، فان القبر يقول كل يوم : انا بيت الغربة ، انا بيت التراب . انا بيت الدود و الهوام ، و القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " .
و في مقطع آخر يقول :
" يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة ، و أجسادكم الناعمة الرقيقة . التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا ، فان استطعتم ان تجزعوا لأجسادكم و أنفسكم بما لا طاقة لكم به ، و لا صبر لكم عليه فاعملوا بما أحب الله ، و اتركوا ما كره الله " .
و يصور لنا القرآن مشاهد كثيرة من مشاهد الآخرة ، اذ يصور الانسان عندما تحضره الملائكة لقبض روحه ، فيصيح و يقول :
" رب ارجعوني لعلي اعمل صالحا فيما تركت " .
فهــو يتمنـى ان يعود للدنيا أياما معدودات ، يصرف فيها جميع طاقاته ، و ممتلكاته ، و قدراته في سبيل الله ، فيصرف أمواله صدقة ، و قوة جسمه للعمل الصالح ، و فصاحة لسانه للدعوة و ذكر الله ، و عينه للإعتبار بخلق الله ، و البكاء على ذنوبه التي اقترفها، لكن الجواب صارم ، صاعق . لو نزل على جبل لهده . انها كلمة كلا .. ، و ان الفرصة قد انتهت ، و سنين حياتك قد انصرمت دون عودة .
اما كم يعيش الانسان ؟ و متى تكون الساعة ؟ فالله وحده هو العالم و لا عالم غيره ، و هذه الحقيقة تكشف لنا ان هذه الآلهة المزيفة التي يعتقد الانسان بأنها شريكة ، و امتداد لقدرة الله و قوته ، يجب ان تسقط من أعيننا ، و تتحطم في داخل نفوسنا ، لنعبد اللهمخلصين ، له الدين ، و لو كره المشركون .
|