فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


القذف بين الحد و التوبة
[4] [ و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون ]هنا يفرض الله عقوبة شديدة على من يرمي المحصنات ، بتهمة الزنا دون ان يأتي بأربعة شهداء عدول على ذلك ، ممن شهدوا الحادثة بأم أعينهم .

و لا يكتفي بذكر هذه العقوبة الشرعية ، بل يذكر عقوبة قضائية رديفة لها ، اذ يجب نبذ مثل هذا الانسان بعد اجراء حد القذف عليه ، باسقاط اعتباره في المجتمع ، لانه بعمله هذا يكون قد فقد عدالته ، فلا شهادة له بعد ذلك ، ليس فقط في قضية الزنا ، بل و ايضا فيسائر القضايا الاجتماعية ، كالعقود المالية ، و اثبات الهلال ، و سائر الموضوعات . و في ذلك تأديب معنوي له ، بالاضافة الى التأديب البدني بالجلد .

و لا نجد كالقذف ، عقوبة صارمة على اللسان في التشريعات الاسلامية ، فلو قال شخص : ان فلانة زنت . عليه ان يحضر العدد الشرعي من الشهود العدول ، و لو شهد أثنـان بالزنا ثم قالا ان هناك شخصين آخرين رأيـا ما رأينـــاه ، و هما في الطريق لا يمهلان ، انما يجلد كل منهما ثمانين جلدة على الفور ، اذ لا تثبت شهادتهما الا اذا(1) المصدر / ص 572


دخل أربعتهم دفعة واحدة ، ليشهدوا لدى الحاكم على عملية الزنا . و الاسلام الذي فرض عقوبة الجلد أو الرجم على مرتكب الزنا ، هو الذي منع قبول الشهادة لأقل من أربعة ، و هل تقع عملية الزنا علانية حتى يتمكن هذا العدد من الشهادة عليها ؟

ان الجرائم الاخرى كالقتل و السطو يمكن ان تحدث أمام الناس ، أما الزنا فان الحياء البشري الذي أودعه الله في فطرة كل انسان يمنع وقوع هذه العملية جهارا أمام الآخرين ، فكيف يرى هذه العملية أربعة و بكل وضوح ؟ انه لا يقع الا في حالات نادرة جدا مما يدل على ان هذه العقوبة الشديدة سوف تختص واقعيا بالذين يستهترون الحدود الشرعيـــة ، و بآداب العرف العام ، دعنا نقرأ النصوص التي تبين أحكام الشهادة على الزنــا :

عن ابي بصير عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام :

" لا يرجم الرجل و المرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الايلاج و الادخال كالميل في المكحلة " . (1)وعن حكمة اشتراط الشهود الاربعة ، يروي ابو حنيفة امام المذهب الحنفي عن الامام الصادق عليه السلام ، فيقول قلت له : ايهما أشد الزنا أو القتل ، قال : فقال : " القتـــل " ، قــال ( ابو حنيفة ) فقلت : فما بال القتل جاز فيه شاهدان ، و لا يجوز في الزنا الا أربعة ؟ فقال لي : " ما عندكم فيه يا ابا حنيفة ؟ " قال : قلت ، ما عندنا فيه الا حديث عمر : ان الله اجرى في الشهادة كلمتين على العباد ، قال : " ليس كذلك يا ابا حنيفة ، و لكن الزنا فيه حــدان و لا يجوز ان يشهد كل اثنين على واحد . لأن الرجل و المرأة جميعا عليهما الحد ، و القتل انما يقام الحد على القاتل ، و يدفع عن المقتول " . (2)(1) المصدر / ص 569

(2) المصدر / ص 574


و انما يقصد الاسلام من هذا التشدد في مسألة الشهادة على الزنا ، المحافظة على الحياة الاسرية في المجتمع من التفتت ، و الانهيار . و كما ان الزنا من أشد عوامل انهيار الاسرة فان الاتهام به يؤدي الى ذات النتيجة تقريبا ، إذ انه من الجرائم التي يمكن الاتهام بها سريعا ، و هي تدغدغ غرائز الناس خصوصا المعقدين جنسيا ، و ليست مثل جريمة القتل و غيرهــا ، لذلك شدد الاسلام على العقوبة من جهة ، و على الشهادة من جهة أخرى ، و كلا الامرين يهدفان الى شيء واحد هو صيانة الاسرة ، و المحافظة على العفة و الشرف في الحياة الاجتماعية .

وقد اعتبر القرآن من يقذفون المحصنات بالزنا ، دون الاتيان باربعة شهود بأنهم فاسقون ، لانهم بعملهم هذا يوجهون أكبر ضربة لشرف المجتمع ، الذي جاءت الاديان السماوية لاصلاحه ، و احكام بنائه .

[5] [ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم ]ليس جديدا على من يقرأ القرآن ، ان يلحظ لحوق كلمة الاصلاح بالتوبة ، فكثيرا ما تكرر ذلك في مواضع مختلفة من القرآن الكريم ذاته ، ذلك لان شرط قبول التوبة ان يصلح الانسان ما أفسده بذنوبه ، و الله سبحانه يؤكد لفئة التائبين ، بأن مغفرته و رحمته سوف تشملهم ان هم رجعوا الى طريق الحق بعد الانحراف ، و تداركوا ما فاتهم بالجهد المخلص و العمل البناء ، و اصلاح ما أفسدوه بذنوبهم ، فاذا اتهموا المحصنات بالفاحشة و سقط شرفهن بذلك ، و جب عليهم الاعلان عن كذبهم ، و الاستعداد لأجراء الحد عليهم ، لإعادة الاعتبار اليهن ، فقد قال سماعة : سألته عن شهود الزور ؟ قال : فقال : يجلدون حدا ليس له وقت ، و ذلك الى الأمام و يطاف بهم حتى يعرفهم الناس ، و اما قول الله عز و جل : " ولا تقبلــوا لهــم شهادة أبدا الا الذين تابوا " قال : قلت : كيف تعرف توبته ؟ قال : يكذب نفسه


على رؤوس الخلائق حتى يضرب و يستغفر ربه ، و اذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته . (1)فمن يتوب بعد الزنا يوفر الله له اسباب الزواج ، كما يرزق من تاب عن السرقة و اعاد الحقوق للناس رزقا حلالا ، و كذلك من تاب من بعد ان استسلم لضغوط السلطة التي تعرض لها ، يوفر له مكانا آمنا يأوي اليه و يرفع عنه الضغوط .

و هكذا يشجع الله عباده على التوبة ، و الرجوع اليه ، حينما يعدهم بالمغفرة و الرحمة اذا ما تابوا و اصلحوا .


(1) المصدر / ص 575


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس