بينات من الآيات
الله نور السموات و الارض :
[34] [ و لقد أنزلنا إليكم ءايات مبينات ]
ان الآيــات المبينات هي التي توضح الطريق للناس ، و تجعلهم قريبين من الحقائق ، و اسلوب القرآن في تفهيم الحقيقة هو اسلوب التذكرة ، و اثارة العقل ، بتوجيهه لها ، فالحقائق موجودة و الانسان يمتلك ما يكشفها ، و لكنه بحاجة الى من يدله عليها ، و يذكره بها، و ذلك عن طريق الآيات التي تشير اليها ، كالعبر التاريخية .
[ و مثلا من الذين خلوا من قبلكم ]
لتتعظوا بتجارب الآخرين ، و تزدادوا معرفة و رشدا .
[ و موعظة للمتقين ]
الذين يخافون عقاب الله ، اما من لا يخاف عقابه ، فانه لا يستفيد من القرآن ، فهو كالاعمى لا يستفيد من نور الشمس ، و هكذا القرآن علم و حكمة و موعظة ، ففيه آيات تبين سنن الله ، مما يزيد البشر علما ، ثم يضرب الامثال من الامم الغابرة ، مما يزيد البشر حكمة ، ثم يوصل ذلك العلم و تلك الحكمة بحياة القارئ مباشرة فيكون موعظة لمن يتعظ .
[35] [ الله نور السماوات و الارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ]يفيض من نوره بمشيئته المطلقة على السماوات و الارض خلقا بعد خلق ، و لحظة بلحظة ، و كما يفعل ذلك في عالم التكوين ( الطبيعة ) فانه يفعــــل ذلــك في عالم التشريع ( الاحكام ) اذ يفيض علينا برسله و رسالاته ، فيعطي الانسان النــور ( العقل ) لحظة بلحظة ،ليفهم الرسالة به .
ان نور الله يتجلى في الطبيعة كما يتجلى في التشريع . و ربما تبين هذه الآية المثال الثاني ، فلقد جاء في بعض التفاسير ان المقصود من المشكاة هو قلب الرسول (ص) اما المصباح فانه رسالات الله التي أنزلها على ذلك القلب الطاهر .
[ المصباح في زجاجة ]
يمكننا تأويل الزجاجة بالعقل الذي يستقبل نور الرسالة ، أوليس هو الرسول الباطن ، أوليس هو الحجة الباطنة ، و عنده تصديق ما أنزل الله ؟! كما يمكن تأويله بالرجال الصالحين ممن يحفظون رسالات الله ، و هذا هو المأثور .
[ الزجاجة كأنها كوكب دري ]
في نقائها و تلألئها ، فعندما تتلوث هذه الزجاجة فان النور يخبو ، و هكذا الامربالنسبة للعقل عندما يتلوث بالاهواء . لا يرى الحقيقة بعينه ، و لا يسمعها بأذنه ، و لذا فان مصباح الوحي لا ينفعه الا قليلا ، و انما يؤيد الرسالة من ذكر نفسه ، وتلألا عقله ، و لم يلهه عن رسالات ربه شيء .
[ يوقد من شجرة مباركة زيتونة ]
لانه يحتاج الى زيت يتقد به ، واذا أردنا ان نؤول الشجرة المباركة نقول أنها شجرة العلم أو التقوى . اذ ان المعرفة تمد مصباح الوحي بالوقود فيزداد بهاء و نورا في مشكاة القلب ، و بهذا جاءت الرواية المأثورة .
[ لا شرقية و لا غربية ]
بل في مكان تنشر بركاتها على العالم أجمع ، دون ان تختص بها ارض دون أخرى ، و لعل هذه الكلمة تشير الى الاستقامة في التقوى ، حيث ان المتقين لا تميل بهم ضغوط الحياة يمينا أو شمالا ، و قد تعددت النصوص التي فسرت هذه الآية الكريمة ، و نذكر فيما يلي ما جاءعن الامام علي بن الحسين (ع) في تفسيرها :
" في قوله عز و جل " كمشكاة فيها مصباح " قال : المشكاة نور العلم في صدر النبي (ص) .
" المصباح في زجاجة " : الزجاجة صدر علي ، صار علم النبي الى صدر علي ، علم النبي عليا .
" الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة " قال : نور العلم .
" لا شرقية و لا غربية " قال : لا يهودية و لا نصرانية .
" يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " قال : يكاد العالم من آل محمديتكلم بالعلم قبل ان يسأل .
" نور على نور " يعني اماما مؤيدا بنور العلم و الحكمة في اثر إمام من آل محمد (ص) و ذلك من لدن آدم إلى أن تقـــوم الساعـة ، فهؤلاء الاوصياء الذين جعلهم الله عز و جل خلفاء في ارضه ، و حججــه على خلقه ، لا تخلو الارض في كل عصر من واحد منهم " . (1)
[ يكاد زيتها يضيئ و لو لم تمسسه نار ]
فالانسان السوي - صاحب العقل النظيف - يمتلك علما نقيا ، بعيدا عن الاهواء و الخرافات ، فنفسه الشفافة تنتظر ادنى اشارة لتستوعب الحقائق ، و الآية تشير - فيما يبدو لي - الى ان التقوى - و هي زيت مصباح الوحي الزلال النظيف - هي طريق الهدى و سبيل المعرفة ،و مهد الحكمة و السداد ، فانها تكاد تضيء الحقائق للبشر ولو لم تمسسه نار الوحي و نوره ، لذلك قال ربنا بعدئذ :
[ نور على نور ]
فنور الوحي يتقد بنور التقوى ، و الوحي يتألق بنور العقل ، الا ان التوفيق للهداية لابد ان يأتي من الله سبحانه .
[ يهدي الله لنوره من يشاء ]
فالله هو الذي يهدي من يشاء من عباده للنور الذي أرسله ، و هو نور الوحي و نور محمد (ص) و سنته الرشيدة ، و نور أهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) .
[ و يضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم ](1) المصدر / ص 604
فبعلمه اضاف نور الرسالة الى نور العقل ، و لا يمكن لاحد ان يستفيد من هذا النور دون مشيئته ، فلابد من التوجه له حتى يفيض على الانسان من نوره ، و لا يكون ذلك الا عندما يخلص الانسان العبودية له .
و لعلـــه انما قال تعالى : " لنوره " و لم يقل : ( بنوره ) لانه يهدي الانسان بنور رسالته ، لنور رحمته .
|