فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بيوت الله
[36] ان نـــور الرسالة لابد ان يوضع في البيت الرفيع و الاسرة الفاضلة كي يزداد اتقادا ، أما الاسرة المليئة بالعقد النفسية ، و الصفات الرذيلة ، فان النور ليس لا يتقد فيها فحسب ، بل و يخفت حتى ينتهي الى الظلام .

ففي تلك البيوت الرفيعة تنمو النفوس الطيبة ، ينمو العقل النير ، لانها البيوت التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ، فيأذن الله لها بالارتفاع الى سماء الوحي ، فهي محل للعبادة و التسبيح في بدايات النهار و اخرياته ، من رجال جعلوا ذكر الله فوق كل ذكر ، و فوقالتجارة التي لا تمنعهم عن ربهم ، و لا تلهيهم عن اقام الصلاة ، و ايتاء الزكاة .

[ في بيوت أذن الله ان ترفع ]

تلك هي بيوت الانبياء و الصديقين و الصالحين ، ولولا ان الله أذن لها ان ترفع ، و يكون رجالها خير الرجال ، و نساؤها خير النساء ، منهم الائمة و الولاة ، و فيهم سيدة النساء ، و قدوة الصالحات و هم أهل بيت الرسالة .. لولا هذا لما حق لها ذلك ، ان الناس عبيد الله ، و هو الذي يختار لهم الائمة و السادة ، ولا ينبغي ان تكون للناس الخيرة من أمرهم ، و حتى طاعة الناس لرسل الله لا تكون الا باذن الله ، فقد قال ربنا عز و جل " و ما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله " و جاء في حديث مأثورعن الامام الباقر (ع) في تفسير البيوت هنا :

" انها بيوت الانبياء و الرسل و الحكماء و ائمة الهدى " . (1)و لكن لماذا رفعت هذه البيوت ؟ انما بذكر الله .

[ و يذكر فيها اسمه ]

ان ذكر الله ينبعث من قلوب طاهرة هي المشكاة لنور الله .

[ يسبح له فيها بالغدو و الاصال ]

فعندما يستقبلون النهار يسبحون ربهم ، و يحيون صباحهم بتقديسه حتى لا يقدسوا ما سواه ، و اذا مالت الشمس الى المغيب ، و استقبلوا سواد الليل سبحوا ربهم ليغسلوا عن قلوبهم ادران الحياة و يأووا الى فراشهم بأفئدة طاهرة .

[37] ان نور الله يتجلى في ضمير هؤلاء المسبحين لأنهم تعالوا عن ملهيات الحياة ، فلا خشية الخسارة في التجارة ، ولا تبادل المصالح بالبيع يمكن لهما ان يلهياهم عن ذكر الله ، و اداء واجباتهم .

[ رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله ]

فلذلك تراهم يبصرون الحياة من خلال نافـذة الـوحي ، و يجرون عليها شرائع الدين ، فلا تمنعهم ضغوط المعيشة عن تنفيذ الاحكام .

[ و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ]

لان خشية المعاد تفوق عندهم خشية الخسارة ، في التجارة و البيع .


(1) المصدر / ص 608


[ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الابصار ]

فهم حذرون أبدا لانهم يخشون ان يبعثوا على غير دين الله ، و ألا تقبل حسناتهم و لا تغفر سيئاتهم .

[38] [ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله و الله يرزق من يشاء بغير حساب ]فلا يكتفي بأن يجزيهم على أحسن أعمالهم ، بل يزيدهم من فضله لانه الغني الذي لا تزيده كثرة العطاء الا جودا و كرما .

[39] [ و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد الله عنده فوفاه حسابه و الله سريع الحساب ]فبغض النظر عن ايمان الانسان أو كفره ، استقامته أو انحرافه ، فانه يسعى دؤوبا لتكون اعماله مثمرة تصل به الى اهدافه و طموحاته ، و لكن الانسان المؤمن الذي يتبع تعاليم السماء هو وحده الذي يصل الى نهاية سعيدة ، اما الكافر فانه لا يحقق من اهدافه شيئا بالرغم من اجهاده لنفسه .

و ليت الامر يقف عند هذا الحد ، فبالاضافة الى الفشل في الوصول الى السعادة ، فانه يجد نفسه امام رب رقيب قد احصى اعماله ، و اعد له عذابا شديدا جزاء كفره .

و لا يظن المرء ان حساب الله مختص بيوم الآخرة فقط ، بل قد يرى نتيجة عمله في حياته الدنيوية ان خيرا فخير ، و ان شرا فشر ، و الله سريع الحساب .

[40] [ و كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرهاو من لم يجعل الله له نورا فماله من نور ]

كمن يغرق في ظلمات اعماله المنحرفة ، فلم يعد يرى شيئا من طريقه في الحياة ، بل يبلغ حدا لا يرى فيه يده لو قربها من عينه ، و ذلك بسبب عصيانه لربه ، مما سبب في سلب النور من عقله ، و سمعه ، و بصره ، فضل يتخبط في دياجير الظلام الدامس ، و الآية الكريمة تبين ان اعمال الكافر هي بذاتها ظلام ، و هل يهتدي من لم يجعل الله له نورا في الحياة ؟!.

و كلمة أخيرة : نجد في آيات هذا الدرس غرة الجمال و غاية الروعة ، فبعد ان ذكرتنا الآية الاولى بان القرآن آيات مبينات ، و مثل و موعظة ، بصرتنا الآية الثانية تجليات نور الله في السماوات و الارض .. و مثلا منها تجلى بالوحي في مشكاة قلب الرسول فاذا به نور على نور ، و بعد ان ذكرتنا آية النور - التي سميت السورة بها - بتفاصيل هذا النور فسرتها بالمثل الواقعي لتجسيد هذا النور :

الف - فهذه بيوت النبوة سمت بذكر الله ، انه مثل للمشكاة تستقبل المصباح ، " مثل نوره كمشكاة " .

باء - و يزهر فيها ذكر الله كما المصباح يشع في المشكاة " فيها مصباح " .

جيم - و الصالحون في هذه البيوت هم سور ذكر الله ، كما الزجاجة للمصباح ، و هم في ذات الوقت حصون الدين ، و أوتاد العلم و الفضيلة " المصباح في زجاجة " .

لذلك هم يسبحون ربهم بالغدو و الاصال لا تلهيهم تجارة و لا بيع .

دال - و تعلو شعائر الله على اكتافهم من اقام الصلاة و ايتاء الزكاة ، و تلك الشعائر وقود مسيرة التوحيد ، و زيت اتقاد نور الوحي في الآفاق " يوقد من شجرة مبـاركة " .


هاء - ثم يبصرنا السياق بجزاء هؤلاء و ان الله يزيدهم من فضله " نور على نور " .

و يبين القرآن صفات الكفر في الطرف الآخر من الصورة ليرينا مدى اتساع الهوة بين الطرفين :

الف - فبينما نجد هنا المشكاة أو البيوت الرفيعة ، لا نجد هنالك الا سرابا لا حقيقة له في قيعة ، لا سور و لا حدود واضحة ، و لا موانع طبيعية .

باء - و هنا يتسع النور ، اما هنالك فظلمات فوقها ظلمات . امواج البحر تغشاها سحب الليل .

جيم - و هنالك بيوت رفيعة ، يجللها نور الرسالة ، و يسمو بها ذكر الرب على شفاه رجال متعالين عن الدنيا ، يجب على العباد احترامها ، و تعظيم أهلها ، و طاعتهم ، أما هنا فظلمات بعضها فوق بعض ، لا تأوي من شر و لا تحمي من خطر ، و هم الطغاة و ولاتهم الظلمةالذين يجب البراءة منهم ، و قد جاء في تفسير ائمة الهدى ان الظلمات " فتن بني أمية " (1) ، و يجري فيمن يتبع النهج الأموي الجاهلي من الطغاة و الظلمة .


(1) المصدر / ص 611


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس