فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


القرآن رسالة الى العالمين
و تشير الآية الكريمة الى أن القرآن ليس رسالة موجهة الى طائفة من بني البشر


دون أخرى ، انما هي رسالة مترامية الابعاد ، تسع البشرية كلها ، فهي شاملة و عامة ، و هذه الميزة من أكبر الدلائل الواضحة على انها وحي ارسله الله سبحانه ، و انها ليس من اصطناع الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لأن الانسان لا يمكنه الوصول الى مستوى متقدم من التجرد عن الذات و المصلحة العنصرية و الاقليمية و غيرها من الانتماءات المادية ، و انما يستطيع ذلك عندما يتصل بمشكاة النور ، و يتنصل من اي انتماء مادي و يرتبط بالله المهيمن على جميع الحدود و القيود و الولاءات .

فكون القرآن حديثا للبشرية دليل على صدقه ، و انه مرسل من عند الله ، ثم إن من يضع المنهج للحياة ، و يفرضه على الانسان لابد ان يكون مطلعا على شيئين : الانسان و الكون ، فلابد ان يعرف طبيعة الانسان ، و مكنوناته من الطاقات و التطلعات ، اما الكون فــلابدان يكـون مهيمنا عليه ، عارفا بسننه و انظمته ، ولا يتسنــى هذا الامـــر لغير الله - سبحانه - الذي أودع السنن و الانظمة و قدرها تقديرا .

[ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ]لماذا اختار الله سبحانه كلمة " عبده " ؟

يبدو لي أن الهدف من هذا التعبير أمران ، هما :

أولا : ان عظمة الرسول (ص) نابعة من عبوديته لربه ، و اخلاصه له سبحانه .

ثانيا : ان القرآن ليس من فكر الرسول ، و لا هو افراز طبيعي يعلمه ، و كمال عقله ، او دليل على اختلاف عنصره .

" الفرقان " كلمة مشتقة من فرق يفرق مفارقة ، و قد سمي الذكر فرقانا لأنهيهب الانسان قدرة على التمييز ، و عليه مسؤولية الاختيار .

جاء في النص المأثور عن ابي عبد الله (ع) في معنى الفرقان :

في قوله " انزل الفرقان " قال :

" هــو محكــم ، و الكتــاب هو جملة القرآن ، الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء " . (1)وفي الصحيفة السجادية عن ابي محمد الباقر زين العابدين - عليهما السلام - :

" و فرقانـــا فرقت به بيـن حلالك و حرامك ، و قرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك " . (2)[2] و اذا عرف الانسان رب العزة الذي انزل الفرقان عرف صدق هذا الكتاب ، و كلما زادت معرفته بربه كلما زادت قدرته على الاستفادة من كتابه ، و تحول الكتاب عنده الى مقياس سليم لمعرفة الخير والشر ، و النفع و الضر . ذلك لان من عرف ربه باسمائه الحسنى ثم تليت عليه آيات الكتاب ، رأى تجليات ربه فيها ، و عرفا انه لا يكون مثل هذا الكتاب الا من الله الخبير ، فلا يخالجه ريب في صدق رسالة ربه .

و هكذا ذكرتنا سورة الفرقان أولا بمن انزل الكتاب .

[ الذي له ملك السموات و الارض و لم يتخذ ولدا و لم يكن له(1) تفسير نور الثقلين / ج 1 - ص 310

(2) المصدر


شريك في الملك و خلق كل شيء فقدره تقديرا ]

ان من الناس من يعبد الآخرين باعتقاد ذواتهم الالوهية - كما يزعمون - أو ان شرعيتهم نابعة من الله ذاتا ، كالاعتقاد بأن السلطان ظل الله في الارض ، أو ان الله أمر بعبادة التراب ، و تقديس القوم و العشيرة .

و عندما ينسف الله هاتين الفكرتين ، فانه ينسف بذلك قاعدة التمايز الطبيعي بين العناصر البشرية ، أو القوميات و الوطنيات ، أو أي شيء آخر .

و يأتي عجز الآية الكريمة مكملا - بتناغم و تناسب - مع كلمة " الفرقان " التي مر ذكرها في الآية الاولى ، فهي ليست بعيدة عما تهدف اليه كلمتي " فقدره تقديرا " في آخر هذه الآية ، لأن الفرقان جاء لتعريف الانسان بالتقديرات الالهية ، والأنظمة الربانية ، و التقادير هي الانظمة و السنن .

و قد اضافت الأحاديث في معنى التقدير و حدوده و نذكر فيما يلي بعضا منها :

روي عن علي بن ابراهيم الهاشمي قال : سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام يقول :

" لا يكون شيء الا ما شاء الله و اراد و قدر و قضى " .

قلت : ما معنى شاء ؟ قال : " ابتدء الفعل " .

قلت : ما معنى قدر ؟ قال : " تقدير الشيء من طوله و عرضه " .

قلت : ما معنى قضى ؟ قال : " اذا قضى امضاه فذلك الذي لا مرد له " (1)(1) المصدر / ج 4 - ص 3


و التقدير الالهي سبق الخلق بمدة طويلة ، هكذا يروى مسندا عن ابي علي بن موسى الرضا عن ابائه عــن علـــي ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آلـه و سلم ) :

" ان الله عز و جل قدر المقادير ، و دبر التدابير قبل ان يخلق آدم بألفي عام " (1)و قال الامام الرضا عليه السلام ليونس :

" تدري ما التقدير ؟ قلت : لا ، قال : هو وضع الحدود من الآجال و الأرزاق و البقاء و الفناء " (2)واتخذوا من دونه آلهة :

[3] [ و اتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ]و ينساب السياق القرآني ليطهر الافئدة من الاساطير الجاهلية ، فلا آلهة من دون الله تخلق و تصنع . كلا .. انما هي التي تخلق و تصنع ، بل قد يكون الانسان هو الذي يصنعها كما تشير اليه آيات أخرى ، و التي توحي بأن الله يخلق الآلهة خلقا أوليا من العدم ، و لكن الانسان يعطيها منصب الألوهية ، و ليس الله الذي لبس رداء الوحدانية ، و تسربل بالعزة و الفردانية ، و لا من قبل أنفسهم .

اننا نجـــد هجوما قرآنيا شديدا بين الحين و الآخر على الأساطير و الخرافات انما لإبطالها ، و الأخذ بيد الانسان الى الحقيقة بعد اسقاط الآلهة الكاذبة التي نبتت في مستنقع أوهام البشر البدائي ، الانسان ذو الذهنية الساذجة و المحدودة .

تخلف الانسان هو المسؤول الاول و الاخير عن ضلالاته و فساده سواء على صعيد(1) المصدر / ص 4

(2) المصدر / ص 5


الأفراد و المجتمعات و الامم ، اذ لا وجود لهذه الآلهة المزيفة لولا جهله و ضيق افقه ، و توجهاته المنحرفة في قوالب الشهوة و المصلحة .

و الا فما تفسير ظاهرة الطغيان . اذ يعتلي فرد أو تتكبر جماعة لتتحكم بمصير مجاميع بشرية هائلة و كأنها آلهة ، فيتزلف له أولهم الناس ، و يتسكعون على أبوابه ، متناسين الحقيقة العظمى في هذا الكون ، و متغافلين عن واقع الذين يعبدونهم بأنهم أناس مثلهم ، خلقوا من طين لازب ، و هم الآن من لحم و شحم ، و عظم و دم . تحكمهم ذات القوانين و الانظمة الجسدية و النفسية التي تحكم سائر الناس ، و انما اصبحوا بهذه الهالة من التقديس الأجوف بخوف الناس منهم ، و رغبتهم في خيرهم .

و اذا أراد مجتمع ما ان يكتشف هذه الحقيقة ، فما عليه الا ان ينفض غبار التخلف عن نفسه ، و ينتفض لله ضاربا بالخوف عرض الحائط ، متنازلا عن المصلحة و الشهوة العاجلة في سبيل هدف مقدس هو رضوان الله ، فان الطاغوت آنئذ لا يمكنه الوقوف على عرش السلطة لحظة واحدة ، لان عوامل انهياره موجودة - اذا - في ضمير الانسان و المجتمع و في سنن الحياة .

و لا يقصد بالآلهة المزيفة الحاكمين فقط بقدر ما يعنى بهذه الكلمة كل شيء يقدسه الانسان الى حد العبودية له ، سواء تجسد ذلك في الحاكم كفرعون ، أو القبيلة كقريش ، أو العنصر كاليهود ، أو الاقليم أو الحزب أو ما أشبه .

فلــربما يشرد بالانسان خياله في مغبات الانحراف ليصور له الوطن شيئا قائما بذاته ، أو العلم المصنوع من القماش هو الذي يحفظ البلاد و الانسان ، هكذا قد يتصور الانسان قطعـــة القماش التي لا تعدو كونها رمزا لما في قلوب الناس من حب مكنون للوطن .




فاذا اصبح حب الوطن بغضا للاوطان الاخرى ، أو التضحية من أجله بطشا و عدوانا على الآخرين بغير الحق ، فانه بذلك يصبح إلها يعبد من دون الله .

و يدرك البشر بفطرته ان لا اله في الكون الا الله ، فهو خالقه ، و مقدر سننه ، و المهيمن عليه ، و انه قد بعث نبيه برسالة تبين تلك السنن ، إلا ان الانسان قد يستجيب لدعوات الشيطان و النفس التي تتحول الى آلهة مقدسة بعد تبلورها في الواقع الخارجي .

ولو وقف الانسان ساعة تفكر لنفسه ، و عرض دعوات الشيطان ، و ضغوط النفس على ضوء الفطرة و العقل لتبدد ظلام الانحراف عن قلبه ، و لوجد الآلهة التي تعبد من دون الله لا تملك شيئا ، بل الله يملكها ومن يعبدها من دونه .

و ينثني السياق ليهتف بالانسان قائلا : مادمت انت الذي تعطي لهذه الآلهة الشرعية ، فلماذا تخضع لها تارة خوف البطش ، و تستجيب لها أخرى رغبة في الخير ؟! و لكن لا يستجيب لهذا الهتاف المقدس الا من هدى الله قلبه للايمان ، اما من غرق في بحر الجحـود و الكفر، و توغل في الضلالة و الهوى ، فانه بالاضافة الى رفضه هذا النداء ، يتهم القرآن بالإفك و الرسول بالإفتراء ، و انما يأفك الانسان الذي يفتري على الله تكذيبا و زورا ، من اجل لذة عابرة ، إذ لا يكذب كذاب لغير مصلحة و رغبة .

اما الرسول ذلك الانسان العظيم الذي تجرد عن رغباته و ذاته ، فاصبح موضوعيا في كــل شــيء لا يمكنه ان يختلق هذه الفرية الكبيرة ، و لماذا يختلقها و قد تجرد عن المصلحة ؟!

وانه من السخف ان يتهم احد رسول الله بالفرية و الكذب ، فان القرآن لا يولي اهتماما بالغا لتهمة هؤلاء الرسول بذلك ، بل يمر عليها مرور الكرام ، و اي مصلحةله من ذلك و قد وهب حياته كلها وما يملك من أجل الناس ؟!

و كذلك لا يولي اهتماما لمن اتهموا الرسول بأنه يقتبس هذا القرآن ليلا ، من مجموعة عبيد كانوا في مكة بينهم عبد بن طحي " مولى طحي " ، و رحب " مولى عبد شمس " و أناس آخرين لم يكونوا يميزون الهر من البر ، لقصور افكارهم عن إنتاج فكري اقل من إنتاج انسان عادي ، فكيف بالقرآن العظيم الذي هو ضمير الحياة ، لان من خلق الحياة هو الذي بعث رسوله محمد (ص) به ؟!

إن القرآن حق لا ريب فيه ، و كلما توغل الانسان في الحياة اكثر ، و تدبر في آيات الذكــر اكثر كلما اكتشف العلاقة الوثيقة بين السر الذي يكتشفه عندما يتوغل في الحياة ، و الآخر الذي يعثر عليه عندما يتدبر في القرآن ، و كلما نمى عقل الانسان و زاد علمه ، وتكاملت شخصيته كلما كان اقرب الى فهم القرآن و معرفة آياته الكريمة .

و يبقى الانسان هو المسؤول عن تسلط الآلهة ، و تلبسها بالقداسة المزيفة ، و هي ليست اكثر من حجر يتحطم بضربة .

و صدق ابــو ذر الغفاري ( رضوان اللــه عليــه ) حيث قــال عنــدما رأى الثعلب - الثعلبان - يبول على راس صنم قبيلته :

ارب يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب[ و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا ]

اذا كانــوا لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، فكيف يستطيعون الحاق الضر بغيرهم ؟!


انهم أعجز ، و لكن الثقافة الجاهلية هي التي تهول الاصنام و تعظمها ، و هي التي ترمز للقوى الاجتماعية الحاكمة حتى اننا نقرأ في التاريخ : ان بعض القبائل العربية كانت تدخل الاسلام و لكنها ترفض تحطيم اصنامها بايديهم خشية نزول العذاب عليهم ان هم كسروا تلك الأحجار التي صنعتها أيديهم ، و في التاريخ ان الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قبل من ثقيف شرطهم عليه الا يتولوا هم تكسير اصنامهم ، فأمر بعض أصحابه بذلك ، و كانوا يزعمون ان الجدب و البلاء سيحلان بهم لو اهانوا تلك الأحجار الصماء بسبب كثافة الاعلام السلطوي الذي مارسه بحقهم المترفون الذين كانوا يحكمون البسطاء باسم تلك الأصنام .

و اليوم نرى بعض الشعوب تقدس أصناما بشرية ، و يظنون انهم مصدر الاستقرار و الرخاء ، فمنهم من يقول : " الله يعز الملك " أو " الله يعز الشيوخ " أو " الله ، المليك ، الوطن " بدلا من التوجه الى الله ، و الدعاء للمؤمنين ، ثممن هو الملك و من هو الرئيس و من هو الامير حتى نعتقد انه اساس كل خير و بركة ؟!

بلى . ان سلبية الناس هو انسحابهم من الساحة السياسية ، و هي التي صنعت الأجواء المناسبة لنمو الانظمة الفاسدة ، و انتفاخ الطاغوت .

[ و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا ]

و لعل المقصود من الآلهة التي ذكرها القرآن في قوله : " و اتخذوا من دونه آلهة " الرموز الاجتماعية المعبودة من دون الله لا الاصنام الحجرية ، اذ ليس للصنم موت ولا حياة ، بل هما من طبيعة الانسان .

و النشور هو البعث بعد الموت ، و كيف يعبد من لا يملك لنفسه ذلك ؟

[4] [ و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قومءاخرون فقد جاءو ظلما و زورا ]

من الناحية اللغوية الإفك هو : الكذب ، و الافتراء هو : اصطناع الكذب من غير أساس .

و كما هي العادة يسم الكفار الرسول بهذه الخصال الرديئة ، ولا يكتفون بذلك بل يدعون اعانة مجموعة من موالي مكة للرسول على هذه الامور ، ولا يستمهلهم القرآن دون رد ، بل يجيبهم : انكم جئتم ظلما و زورا ، و لعل الآية تشير الى ان الإنحراف هو وليد الظلم العملي و الزور الفكري .

[5] [ و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا ]اتهموا الرسول بأنه يتلقى القرآن من جماعة تأتيه أول النهار و آخره ، ثم يطلع عليهم ليسميها وحيا نازلا من عند الله ، لا لشيء الا لتبرير الكفر و الجحود بآيات الله ، اذ ان اعترافهم بالقرآن و الرسول - انهما من عند الله - يكلفهم الكثير .

[6] [ قل أنزله الذي يعلم السر في السموات و الأرض إنه كان غفورا رحيما ]لان الله عالم السر في السماوات و الارض و لانه غفور رحيم ، يريد الغفران لذنوبنا ، و الرحمة لنا . لهذا و ذاك كشف لنا سر الحياة دون ان يجهدنا في البحث عنه ، و كان ذلك عبر رسوله محمد (ص) و الصالحين من اوليائه الذين جعلهم نورا و سراجا منيرا ، كي ينقذواالناس من الضلالة و الضياع .

فكيف يكون من اساطير الاولين التي لا تكشف سرا ولا تهب نورا ؟!


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس