بينات من الآيات
المقاييس الخاطئة [7] لقد أراد الكفار أن يكون الرسول الذي بعث إليهم كأحد قياداتهم
المزيفة ، أو بالأحرى آلهتهم التي تعبد من دون الله ، و بالتالي خاضعا للمقاييس الجاهلية لاختيار القيادة ، و من أهم المقاييس التي كانوا يعتمدونها في تمييز القيادة :
1 - القوة البشرية ( عدد التابعين و الأصحاب ) .
2 - القوة الاقتصادية ( الثروة و المال ) .
3 - السيطرة السياسية ، و عادة ما تكون نابعة من القوتين السابقتين .
ومادام الرسول لا يمتلك الجنود المجندة حتى يخضعوا لقمعها ، ولا تلك الثروة التي تستعبدهم بها الطبقة الرأسمالية ، ولا تلك الأراضي الواسعة حتى يحترموه كما يحترمون اقطاعييهم الكبار ، فهو لا يستحق - اذا - قيادتهم ، و لكنهم لم يعلموا أن هناك فرقا شاسعا بين الرسول و قادتهم الجاهليين ، فقد ضلوا السبيل لما ضربوا له الأمثال .
[ و قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ]فمن جانب يتعجبون لان الرسول (ص) يشبههم في حياتهم و معيشتهم ، يأكل الطعام ، و يبحث عن رزقه في الأسواق - و كأنهم كانوا يريدون له الاقامة في البروج العاجية ، و ان يجعل بينه و بينهم عشرات الحجب ، كما يفعل الملوك و السلاطين - و من جانب آخر يتساءلون لماذا لم ينزل معه مخلوق غيبي ، يتوعد كل من يعرض عن دعوة الرسول .
و لعلنا نستوحي من قوله تعالى " نذيرا " عن لسان الكفار ، و لم يقولوا " بشيرا " انهم أرادوا أن يكون للرسول قوة قامعة تدعم الرسالة باذلال الرقاب ، و كانوا يريدونها قوة مادية يشاهدونها بأعينهم ، اما ان تكون قوة الغيب الالهية هي السند ، فهذا مالم تستوعبه عقولهم التي لم تتحرر من قيد المفاهيم المادية .
[8] [ أو يلقى إليه كنزا أو تكون له جنة يأكل منها ]و اذا لم تهبط عليه الثروة بصورة كنز يلقى له من السماء ليجعله من طبقة الأثرياء ، فليكن عنده بستان يدر عليه من الدخل ما يغنيه عن الأكتساب لطعامه الخاص ؟!
وقد أغفل هؤلاء بهذه التخرصات كرامة الانسان التي هي فوق القوة و المال وما تغله الأرض من ثمرات .
[ و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ]
و قد نسب القرآن صفة الظلم لهم دون الاكتفاء بضمير يعود على ما تقدم ذكره لان لكلامهم جانبين :
الأول : المطالبة بحجة قاطعة على صدق الرسالة ، وقد يتصور لها جانب الموضوعية .
الثاني : اتهامهم الرسول بأنه رجل مسحور . أي فاقد العقل و الارادة الحقيقيين ، و هذا ظلم في حق الرسول ، و من يدعي باطلا مقابل الحق يتحول من مجرد منكر باللسان الى محارب بكل معنى الكلمة ، و حين يدعو شخص أحدا إلى فكرة فإما يرفض أو يقبل ، و أما ان يعلنالحرب ضده ، و يتهمه بالجنون ، فإنه الظلم ذاته ؟ لأن عدم اقتناعه بالدعوة - لو افترضناه - لا يسمح له أن يمنع الناس من قبولها .
[9] عندما بدل الكفار المقاييس ، ضربوا الأمثال لمقاييسهم الخاطئة ، حيث أرادوا الرسول قيادة كقياداتهم ، كي يستجيبوا له ، فطالبوا بملك كرمز لقيادة أصحاب القوة ، أو كنز كرمز لقيادة أصحاب الثروة ، أو جنة كرمز لقيادة أصحابالأرض ، و لكن ماذا كانت تبعة هذا الخطأ الفادح ؟ إنها الضلالة لا غير .
[ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ]وحينما قاسوا قيادة الرسول بالقوى المادية ، حرموا أنفسهم من فهم الحقيقة ، و لا سبيل لهدايتهم مادامت الأفكار الجاهلية تستبد بعقولهم .
[10] [ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار و يجعل لك قصورا ]أذا شاء الله جعل للرسول جنات و قصورا و لكن أين كل ذلك ؟
قال بعض من المفسرين : ان المراد من ذلك - جنات و قصورا - في الدنيا و ذلك محتمل ، إلا أن الافضل القول : بأن ربنا يذكر بالآخرة ، فليست الدنيا آخر المطاف بالنسبة للانسان .
لهذا جاء الرد الالهي بأن الرسول كريم على الله و هو يحبه ، و لكنه لا يعطي له الدنيا جزاء لعمله ، لعدم كونها في مستواه ، بما فيها من زخرف و زينة ، و كذلك يتعامل الله مع المؤمنين ، و يسند هذا الراي قوله تعالى مباشرة بعد هذه الآية :
[11] [ بل كذبوا بالساعة و أعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ]فهم انما اقتصروا في مقاييسهم على الدنيا لتكذيبهم بالعالم الآخر ، و ما جزاؤهم سوى السعير .
ان آيات الذكر تعالج الأمراض النفسية التي تصيب القلب و تمنع عنه الرؤية . أرأيت من غرق في لجة ، و تكاثفت عليــه الأمواج ، هل يقدر على الاستقرار ، أو السيطرة على نفسه . كذلك الذي تتقاذفه أمواج الشهوات ، و تعصف به عواصفالعداوة و الغيظ .
فلكي يستقر هذا القلب الذي يتقلب على كف الشهوة و الغضب ، حتى يفكر بموضوعية ، و يستضيء بنور العقل المودع فيه ، و يعود الى فطرته التي خلق عليها ، لابد له من مرساة يحفظ سفينته عن هيجان الأمواج . لابد له من قوة تصونه من التقلبات .
و ان الايمان بالساعة لهو تلك المرساة و انه لتلك القوة .
ان الايمان بالساعة يعطي النفس موضع استقرار ينطلق منه نحو تقييم سائر الأشياء ، انه يعطيه قوة ، لتتعالى بها عن أمواج الشهوة و العصبية . كيف ؟
لنضرب مثلا : من لا يملك الا دينارا واحدا و خشي عليه من السرقة ، يكون كل تفيكره في ديناره ، حتى يكاد ينظر الى الدنيا كلها من خلالها ، اما من يملك مليون دينار غيره فهو يتغافل عن ذلك الدينار الواحد ، فحتى لو سرق منه فله ما يسليه عنه .
هكذا الذي يؤمن بالجنة ، يتسلى عن شهوات الدنيا ، و يتغلب نفسيا عليها ، و بالتالي يقوى على مقاومة ضغوطها .
كذلك من يخشى النار ، فان قلبه يلهو عن مصيبات الدنيا . أو ليست هي حقيرة جدا إذا قيست بسعير جهنم ؟!
وهكذا يسمو قلبه عن الحب و البغض ، و عن الشهوة و الغضب ، عن العصبية و العداوة ، و يتعالى على الخوف و الطمع ، فيرى الحقائق كما هي لا كما توحي به مصالحه الآنية .
كذلك الذين كفروا بالرسالة لأن الرسول لا يملك كنزا أو جنة يأكل منها ، أولم ينزل معه ملك نذير . انما هم مرضى القلب ، و لا بد أن يستشفوا و شفاؤهم في التذكرة بالساعة . حيث تتضاءل عندها ثروة الدنيا و مصيباتها ، و عندها تتحرر افئدتهم من قيود الشهوات .
ومن هنا كانت الآية هذه و التي نتلوها بيانا لسبب كفرهم ، و أيضا شفاء لمرض كفرهم .
و يستمر السياق في وصف النار ليزداد القارئ تجردا عن أغلال القلب ، و بالتالي يزداد إيمانا بالكتاب . ذلك ان القرآن لا يجادل الكفار بالرسالة فقط ، و انما هو يزيد ايمان المؤمنين بها عبر انذارهم بالساعة ، فكلما وعوا حقيقة العذاب كلما أبصروا بنور قلوبهمحقائق الوحي أوضح و أجلى .
|