بينات من الآيات [34] إن الله يسلب العقول و الأبصار من الذين يكفرون بالقرآن في الدار الدنيا
بصورة معنوية ، أما في الآخرة فانهم يفقدون كل ذلك بالصورتين المعنوية و الظاهرية ، فاذا بهم يمشون مكبين على وجوههم .
[ الذين يحشرون على وجوههم الى جهنم ]
قـــال بعض المفسرين : أنهم يمشون بعكس الآخرين ، فتكون رؤوسهم إلى الأرض . و ارجلهم الى السماء ، و لعل التفسير الأحسن للآية : انهم لا يرون أمامهم ، فهم مكبون على وجوههم .
[ أولئك شر مكانا ]
إذا توقفوا .
[ و أضل سبيلا ]
إذا تحركــوا و ساروا ، و يبدو أن الآيات التالية شواهد تاريخية على حقيقة هؤلاء ، و لعل هذه الكلمة لا تخص الآخرة بل تشمل الدنيا أيضا ، فإن للكفار بالوحي عقبى الشر في الدنيا كما في الآخرة .
[35 - 36] ثم تتعرض الآيات إلى قصة قوم فرعون الذين كذبوا موسى (ع) كمثال على عاقبة السوء التي تنتظر المكذبين بالرسالات ، و يلاحظ الاختصار الشديد في القصة ، و ذلك من أجل الاعتبار بالنهاية . إذ هي الهدف من بيان هذه القصص هنا .
[ و لقد ءاتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا باياتنا فدمرناهم تدميرا ]و يوحي هذا التصوير القرآني البليغ بفكرة هامة ، و هي أن المقياس عند الله هوالايمان بآياته ، أما السلطة و الثروة و غيرهما فلا قيمة لكل ذلك عنده تعالى .
[37] و تستمر الآيات تضرب لنا الأمثال من واقع الذين هلكوا بكفرهم ، و كيف أنهم دمروا بسبب تكذيبهم لرسل الله و آياته . أوليس خلق الله الخلق لعبادته ؟! بلى . إذن فاذا كذبوا بالوحي فقدوا مبرر وجودهم ، فلا ضير أن يهلكهم الله .
[ و قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ]
بالطوفان .
[ و جعلناهم للناس ءاية ]
علامة و شاهدا على مصير المكذبين برسل الله و رسالاته .
[ و اعتدنا للظالمين عذابا أليما ]
و يبين هذا الشطر من الآية ان العذاب لا ينحصر في الماضين فقط ، بل يطال كل من يسير في خطهم ، و ذلك حتى لا نتصور أنفسنا فوق سنن الله ، أو قادرين على الفرار منها .
و لكن لماذا يقول القرآن عذابا أليما و ليس عظيما مثلا ؟
ربما لان الذي يكذب بآيات الله بهدف التمتع بحرام الدنيا و من يفعل ذلك لابد و أن يؤلم بالعذاب في الآخرة ، و هذه الفكرة تتجلى في مواقع كثيرة من القرآن ، فغالبا ما يتطرق الذكر للعذاب الأليم بعد استعراض لذة حرام مباشرة ، ليبين ان الله يؤلم الانسان في مقابل تلك اللذة .
[38] [ و عادا و ثمودا و أصحاب الرس ]
الرس : تعني البئر ، و أصحاب الرس قوم كانت لهم بئر يعيشون عليها ، فأنذرهم رسولهم ، فلم يؤمنوا ، فهدم الله عليهم بئرهم و أهلكهم و مواشيهم .
و يظهر من حديث مفصل يرويه الامام الرضا (ع) عمن سأل جده الإمام علي (ع) و نختصره هنا :
إن اصحاب الرس كانوا يعبدون اثنتي عشرة شجرة صنوبر ، سموا أشهر العام باسمها ( و هي الأسماء الفارسية المتداولة للأشهر ) و زعموا ان نوحا (ع) قد زرعها ، و أنهم حرموا على أنفسهم مياه نهر لهم ، و جعلوها خاصة بتلك الأشجار المقدسة في زعمهم !
و ان الله بعث اليهم نبيا ، من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب ، فدعاهم الى التوحيد فرفضوا ، فدعا ربه أن يهلك معبودهم فيبست كبرى الاشجار ، فزعموا انها غضبت عليهم لدعوة الرسول بنبذها ، و قالوا : دعنا ندفن نبينا تحتها حيا فلعلها ترضى ، فحفروا حفيرةفي وسط النهر ، و ألقوا نبيهم فيها ، و وضعوا عليها حجرا كبيرا ، فغضب الله عليهم و عمهم بعذاب شديد ، حيث هبت عليهم ريح عاصف ، شديدة الحمرة ، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد ، و اظلتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب ، فذابت أبدانهم كمايذوب الرصاص . (1)
و يبين حديث آخر أن من أفعالهم القبيحة فعل السحاق ، و هو الشذوذ الجنسي عند النساء ، و ذكر الامام الصادق (ع) أن حدها حد الزانية . (2)(1) راجع تفسير نور الثقلين / ج 4 ص 16 - 19
(2) المصدر / ص 19
[ و قرونا بين ذلك كثيرا ]
فكل هؤلاء جرت عليهم سنة الله ، حيث دمرهم لتكذيبهم بآياته ، و رفضهم لما أتى به رسله .
و يبدو ان المقصود من كلمة القرن في القرآن الحكيم هو الجيل حسب تعبيرنا اليوم ، و هم الذين يقارن بعضهم بعضا . و قيل ان القرن مئة عام أو سبعون سنة ، و قيل خمسون خريفا ، و لعله اربعون عاما لأنه الجيل من الناس يتبدلون كل اربعين عاما ، و سبق ان فصلنا القول في قصة تيه بني اسرائيل .
[39] [ و كلا ضربنا له الأمثال ]
و يبدو ان المراد من المثل هنا إنذارهم ببيان مصير المكذبين من قبلهم .
[ و كلا تبرنا تتبيرا ]
التبر هو : القطعات المفتتة من الذهب ، و يسمى بالتبر لأنه ينقطع ، و التتبير يعني التقطيع الكامل ، فالله قطع هؤلاء القوم تقطيعا .
و الملاحظ تحول القرآن من اسلوب لآخر ، فمرة يقول " دمرنا " و أخرى " عذابا أليما " و ثالثة " تبرنا تتبيرا " و رابعة " يحشرون على وجوههم " فهل في ذلك ما يزجرنا عن التكذيب بآيات الله ؟
و كم يجب أن يكون قلب الانسان قاسيا حتى يمنعه من الهداية أو للتأثر بهذه التهديدات المتتالية .
[40] [ و لقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ]لقد كانت القرية هذه آية من آيات الله التي يجب على الانسان الاتعاظ بها ، و هي كما يذكره الحديث قرية سدوم لقوم لوط ، و لكن هؤلاء لم يعتبروا بما يرون من آثارها ، ليس لأنهــم لــم يروها و انما لأنهم يعتقدون ان الدنيـا آخر المطاف ، فلا حساب و لا نشور .
و لا تشمل هذه السنة من يكفرون بالوحي جملة و تفصيلا فحسب ، بل كل واحد يتخذ القرآن مهجورا تشمله هذه السنة ، و نذكر بهذه الحقيقة لان مشكلة الكثير منا اعتقاده باقتصار الانذار و التبشير على الآخرين .
فنرتل القرآن ليستمعه غيرنا ، و كأننا أنهينا واجبنا بمجرد لقلقة لسان اعترفنا عبرها بالشهادتين . كلا .. لابد ان يعرف كل فرد منا أنه لا يمكنه الوصول الى درجة الايمان إلا بالجهد الكبير و العمل الجاد ، و يعتقد كل منا ان القرآن حديث الله إليه .
فالذي لا يقرأ القرآن أو يقرأه دون تدبر ، أو يتدبره دون عمل ، أو يعمل ببعضه دون بعض ، أو يعمـــل به كله دون استمرار و تحمل للصعاب ، كل أولئك يشملهم قوله تعالى : " إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " لان من كفر بالقرآن سابقا ليس لأنه من طينة تختلف عن طينتنا ، بل مثله كأي بشر وجد صعوبة الايمان بالقرآن ، و تطبيق آياته و مناهجه ، فتركه و لذلك تشمله سنة العذاب .
و نحن عندما نتبع ذات الخطوات فنحن مثله . بلى . اننا عشنا في بيئة مسلمة تشهد بالشهادتين ، و تقول بنزول القرآن من الله ، فآمنا بذلك ايمان التقليد و الوراثة ، و تتضح حقيقتنــا عند ساعات الحرج التي يسميها القرآن بالعقبة ، و التي من واجبنا اقتحامها ، وفي الآية إشارة الى ان الكفر بالنشور سبب سائر مفردات الكفر .
[41] و بعد أن ذكرنا الوحي بمصير المكذبين بالوحي . لعل القلوب تلينفتستقبل الرسالة . أخذ يداوي أمراض القلوب الجاحدة .
ذلـــك أن مرض الاستهزاء بصاحب الرسالة ، يقف حاجزا دون استقبال نور الوحي . أرأيت لو استصغرت أحدا . و استهنت بكلامه أيضا ، و لكن لماذا استهزأوا بالرسول الكريم ؟ لأن قلوبهم أشربت بحب المادة ، فلم تعد تعترف إلا بالثروة و القوة و الجاه العريض ، و يهذهالمقاييس وزنوا العلم و الفضيلة ، و ارادوا أن تكون موازين الرب تابعة لأحداثهم الشاذة ، و نظراتهم الضيقة .
وقد بين القرآن في مطلع السورة هذه سخف تلك المقاييس المادية ، و لكنه - كما يبدور لي - عاد هنا الى ذات الحديث ليذكرهم بخطأ منهجهم العلمي ، فهل من الصحيح ان نرفض أنـــذارا وراءه التدمير و التتبير عبر الاستهزاء بمن يحمله . هب إنه كما يحسبون - حاشا لله- فهل من العقل ان نقع في البئر لمجرد اننا لا نكرم من أنذرنا ؟
[ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ]من هذا حتى نتبعه ، أو نستجيب لإنذاره .
[42] و كم هؤلاء غارقون في الغباء و الضلال فلقد كاد الوحي يصل قلوبهم ، و كادت أنوار الهداية تخترق حجب العناد في أنفسهم ، و لكنهم صبروا على آلهتهم ، و استقاموا على الضلال بعناد و جحود ، فرأوا الهداية ضلالا ، و الاصرار على الضلال صبرا على الحق . يا ويلهم ما أكفرهم قالوا :
[ إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا ان صبرنا عليها و سوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ][43] و ان هذه العقبة النفسية منشؤها عقبة أخرى تحصل بتغيير محور الانسان من القيمإلى الهوى . فيتبع أهواءه بدل عقله ، مما يجعله لا يميز الحق من الباطل .
إن عبــادة الاهــواء أسـاس كفر الانسان ، لان مقياسه في تقييــم الحياة سيكــون - آنئذ - شهواته ( حبه و بغضه ) لا عقله و علمه ، فلأن فلانا محبوب لديه فهو جيد ، و أفكاره سليمة ، فيتبعه ، و لأن فلانا الآخر مبغوض عنده ، فهو خبيث و كل أفكاره خاطئة ، و سلوكه منحرف .
[ أرءيت من اتخذ إلهه هواه ]
و نرى الآن و بوضوح أن اساس الانتماء و الولاء في عالمنا اليوم قائم على الحب و البغـض و ليس العقل و العلم ، و قد عرف أولوا السياسة و انصار الثقافة الجاهلية ، ان مفتاح شخصية المجتمع الجاهلي هو ا لحب و البغض ، فسعوا لزخرفة أفكارهم الخاطئة بما يثير شهواتهم ، فشوهوا تقييمهم للأفكار ، و جعلوهم يلهثون وراء كل مجلة تنشر الصور المثيرة ، و اتبعوا أجهزة الاعلام بالغناء و الرقص و صور الفاتنا ، وما يثير شهوة الجنس أو السيطرة أو الطعام و .. و ..
و هكذا ضلوا و أضلوا ، ولم يكتفوا بتضليل الناس في القضايا المختلفة حتى سلبوهم قدرتهم على أن يسمعوا أو يعقلوا .
فلو ذهب شاب مثقف الى مكتبة ما و رأى فيها كتابا قيما يحوي أفكارا هامة ، و لكنه مطبوع قبل مئتي عام و على ورق اصفر رديء ، فانه قلما يجد دافعا لشرائه و قراءته . و ان تجشم الصعاب و ضغط على نفسه ليقرأ بعض صفحاته ، فانه يشمئز من جراء الأخطاء المطبعية أوعدم الوضوح في كلماته حتى ليكاد أن يخطئه .
و كذلك إذا وصلت بيده ورقة منشور لحركة إسلامية ، و من جماعة مؤمنة لم تسرق أموال الناس لتطبع أفكارها على الأوراق المصقولة الجميلة ، أو في المجلاتذات الأغلفة الملونة ، فانه يتركها جانبا ليقرأ بدلا عنها مجلة تمولها أجهزة الاستكبار لتضليل الناس ، و تصرف عليها بعض ما سرقته من الشعوب المستضعفة ، او تمولها اعلانات المترفين الذين يمتصون ثروات الفقراء و المساكين ، و ينفقون جزء منها على وسائل الاعلام الجاهلية لتبرر للناس أفعالهم القبيحة .
وهكذا تجد المجتمع الجاهلي يتردى في بؤر الجهل بسبب طاعة أبنائه الشهوات و الأهواء بدل العقل و العلم .
و هنا يتضح اساس الخطأ في المحور المعتمد للتقييم . فهل المحور الصحيح ان كل ما تحبه حق ؟ أم الحق هو الذي ينبغي أن تحبه ؟
[ أفأنت تكون عليه وكيلا ]
و مثل هذا الانسان لا تنفعه شفاعة الشافعين ، و رسول الله لا يشفع له و لو استغفر له سبعين مرة ، بسبب تولية عن القيم و اتباعه الهوى .
[44] الذي يترك عقله لهواه ، و الحق لما يحب و يبغض ، فانه يجعل نفسه اضل سبيلا من الأنعام ، لانها أوتيت مقدارا من الشعور و الفهم تعتمد عليه ولا تحيد عنه ، فلم نر الأنعام يوما تدخل جحيما من النار أو تتبع مضرتها لحبها ، و لكن الانسان يستخدم ما يؤذيه ويتبع ما يضره .
[ أم تحسب أن اكثرهم يسمعون أو يعقلون ]
كلا إنهم لا يسمعون العلم و لا يعقلونه إن سمعوه ، و هم بلا علم يستفيدونه من الآخرين و لا عقل يستوعب ذلك العلم .
[ إن هم إلا كالأنعام ]
و هذه نتيجة اتباعهم الهوى . إذ جعلهم يبدلون مقاييسهم ، فبدل أن يحبوا الحق يعتبرون ما يحبونه حقا .
و يبقى سؤال :
أيهما أفضل الأنعام تتبع شعورها القليل ، أم البشر يتركون عقلهم المنير ؟ و ندع الاجابة للقرآن حيث يقول :
[ بل هم أضل سبيلا ]
الأنعام تعمل بغرائزها بصورة شبه إجبارية ، بينما أوتي الانسان العقل ليقوم بدور الغرائز و افضل منها ، فاذا ترك عقله هلك ، لأنه لا يملك كالأنعام دافعا غريزيا ، أما هو قد أفقد نفسه نعمة العقل البديل عنه .
|