فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
و هو الذي مد الظل

[45] الايمان بالله قاعدة كل معرفة و منطلق كل ايمان ، فلا يمكن للانسان ان يؤمن بالوحي قبل الايمان بمن أنزله .

و في أول آية من هذا الدرس نجد قوله تعالى : " الم تر الى ربك " و ذلك مما حير المفســـرين ، و جعلهم يؤولون الكلام تأويلا .. أو يستطيع الانسان - هذا الضعيف المحدود - أن ينظر الى ربه ؟!!

فقال بعضهم : ان في الآية لقلبا ، و معناها : ألم ترى الى الظل كيف مده ربك و قال البعض ان فيه حذفا ، و معناه الم تر الى فعل ربك ولكن يبدولي : ان في تعبير الآية ايحاء لا نجده في غيره ، فالانسان يرى ربه بالفعل و ليس بعينيه و لا بصورة مباشرة ، بل يراه بقلبه المنفتح من خلال آياته في الكون ، فهي لوضوحها الشديد تعبر عن بديع صنع الله ، و تشهد على ما ورائها من قوة مهيمنة عليها ، و هي قوة الله و اسماؤه الحسنى .

و ماذا يحصل للانسان عندما يرى شيئا ما ؟

أوليس يؤمن به ايمانا عميقا ؟

و الا فلماذا يؤمن بالشمس و ظلها ، و بالارض و ما فيها ؟

بالطبع لأنه يرى كل ذلك ، اذن فالرؤية تعطيه هذه المعرفة ، و تصنع هذه الحالة النفسية من الايمان و الاطمئنان لديه حتى يصل الى درجة اليقين الاعمق .

بالطبع أنه لا يرى الا انعكاسا لنور الشمس عليها .


و من الشمس ماذا يرى ؟

اليس نورها دون جرمها ؟

و هكذا بالنسبة للقمر و سائر النجوم و الاشياء .

فمن النجوم ما يحتمل العلم أنها اندثرت ولا نرى منها سوى نورا انبعث قبل مليون عام ليصلنا اليوم مثلا ، فلا نستطيع ان نتأكد من فناء النجم ، الا بعد مليون عام .

و ماذا نرى من التفاحة التي نحملها بين أيدينا غير النور المنبعث من اي مصدر ضوئي انعكس عليها ؟

و حتى جرم التفاحة لا نرى منه غير الاجزاء المحيطة به ، فالثقل ظاهر محيط بالجسم لا ذات الجسم .

و هكذا الحقيقة غيب ، لا يصل اليها الانسان الا عبر الظواهر و الشواهد المرتبطة بها و الدالة عليها ، فهي تشبه أمواج الاثير التي لا ترى الا على شاشة التلفزيون ، و امواج اللاسلكي التي لا تلتقط ولا تسمع بغير المذياع و الاجهزة المشابهة .

و هل هناك حقيقة ترى بأحسن ما يمكن ان يرى الانسان ربه ؟

اذا كانت الشواهد هي التي تحملنا على الايمان و الاعتقاد بكل شيء و ليس الاحاطة به ، و اذا كان الامر هكذا بالنسبة لسائر الاشياء ، كالارض و السماء وما فيها ، فهل لشيء من الآيات و الشواهد و بالتالي من الظهور و الوضوح مثلما لله سبحانه و تعالى ؟!

فلماذا يجوز ان نقول رأينا الشمس و نظرنا الى القمر .. الخ و لا يجوز ان نقول رأيناربنا ؟!

ان ايماننا بالله يجب ان يكون اقوى من ايماننا بأي شيء سواه ، لأننا نجده في كل شيء ، ( و في كل شيء له آية تدل على انه واحد ) .. ففي كل شيء تتجلى آثار القدرة و العظمة ، و الحكمة و النظام ، و الجمال و الروعة و هي من اسماء الله الحسنى .

و نحن عن طريق النور الذي ينبعث مـــن الشمس الى الارض نكتشفها و نؤمن بها ، و الشمس أظهر الحقائق عندنا ، فاذا أراد الواحد بيان وضوح شيء قال : " كالشمس في رابعة النهار " ، و لكن هل رأينا الشمس رأي العين ؟

كلا .. بل ان كل ما نراه هو ظلها الممتد على البسيطة . و قد قال بعض المفسرين ان الظل هو موجود منذ البدء في الكون ، ثم تأتي الشمس لتذهب به ، فكلما ارتفعت انحسر اكثر ، حتى يأتي وقت الزوال فينعدم تقريبا ثم يعود فيئا بعد دوران الارض حول الشمس ، فيصبح الوقت مساء .

الا ان هناك احتمالا آخر لمعنى الظل أطرحه ليتدبر فيه المتدبرون : ان الظل هو انعكاس نور الشمس ، و لذلك جاء في الحديث في تفسير علي بن ابراهيم و في رواية ابي الجارود عن ابــي جعفر ( عليه السلام ) في قوله عز و جل : الم تر الى ربك كيف مد الظل فقال : " الظل ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس " .

و إذا سميت شبح الاشياء ظلا فلأن شعاع الشمس يمتد اليه .

و نسأل : ماذا يرى الناس من ظل الشمس ؟

لا يرون الا نورا منبعثا منها منبسطا على الارض ، و هو في انقباض و انبساط بمشيئة الله فبين الحين و الآخر يتبدل النهار ليلا و الليل نهارا ، و كل ذلك آية دالة على وجود الشمس .


إننا نؤمن بالشمس ، دون ان نرى غير ظلها ، الذي نعرف من خلاله طبيعتها و قوتها ، و مدى دفئها ، كما لو كانت الشمس هي التي نراها ، و كذلك عن طريق اسماء الله و آياته في الكون يجب ان نعرف ربنا و نتيقن يقينا راسخا به ، و كما ان الشمس هي دليل الظل بإذن الله و ليس العكس ، كذلك الرب هو الدليل إلى ذاته بذاته ، و بآياته و اسمائه و ليس العكس .

[ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ]و ذلك بوقف دوران الأرض لتبقى في ليل دائم ، أو نهار مستمر .

[ ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ]

تتماوج التعابير و الايحاءات القرآنية لتبث حزمة نور الى القلب و توصل الانسان الى غيب الحقائق ، فما نراه ظل للشمس ، و آية من آيات الله ، فلماذا عن طريق الظل نكتشف الشمس ولا نعرف وجود الله ؟! و اين نحن من ذلك الإمام الذي قال : " ما رأيت شيئا الارأيت الله قبله و معه و بعده " ؟!

فالمؤمن يعيش محاطا بمعرفة الله ، لأنه أنى ينظر يجد آيات الله الواضحة ، مما يزيده ايمانا الى ايمانه ، فان رأى الجمال و الكمال قال سبحان الله ، و ان رأى العظمة و القدرة قال الله اكبر . و لعل الآية توحي الى التشابه بين شمس الطبيعة و شمس الوحي ، و أنالذي جعل الشمس دليل الظل أوحى بالرسالة لتكون هدى و نورا .

[46] [ ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ]

و هنا تتجلى هيمنة الله ، و كيف أنه ينشر الظل ، ثم يقبضه بصورة سهلة و ميسرة ، دون نصب و تعب تعالى الله عن ذلك .


[47] بيـــن ساعة و أخرى يرتدي الكون ظلمة الليل ، و يتوقف كل شيء في مكانه ، فالنور المنبعث من السماء يخفت ، و زرافات الحيوانات المنطلقة من هنا و هناك تعود الى مهاجعها ، و اسراب الطيور تؤوب الى وكورها ، و يعود الانسان الى بيته يبحث عن ملجأ يأوي اليهو كأنه يخشى من شيء غريب . و بعد لحظات يرى الانسان الذي كان كتلة من النشاط ، قد تراخى على فراش نومه .

و لعل هذا التعبير يشير الى التغيير الذي يحصل في الانسان المؤمن ، فان الذي يهتدي بالقرآن كمن يعيش الصباح و النهار فكله معرفة و حركة و نشاط ، بينما يشبه الكافر و الضال من انغمس في سبات عميق ، في ظلمة ليل بهيم ، فكله سكون عن النشاط و خوف و جمود .


و بين هاتين الحالتين يجب على الانسان التحرك نحو النشاط عبر الوحي ، فالله في هـذه السورة يحدثنا عن القرآن و لكنه يختار ما يتناسب مع موضوعها من آيات الطبيعة .

[ و هو الذي جعل لكم الليل لباسا ]

حيث يشبه ربنا الليل و كأنه لباس يشمل ملايين البشر ، كما يغطي الطبيعة سهلها و جبلها ، برها و بحرها .

[ و النوم سباتا ]

السبات هو الانقطاع عن العمل و الحركة . فاذا توقفت الآلة عن العمل قيل لها سبتت ، و سمي يوم السبت كذلك لان الماضين كانوا ينقطعون عن العمل فيه ، و هكذا تنقطع اعضاء و جوارح الانسان عن النشاط و الحركة ليلا ، و لذا سمي النوم سباتا .


[ و جعل النهار نشورا ]

فهو عكس الليل لانه انبعاث و عمل .

[48] [ و هو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ]ان الانسان ليفرح بالرياح و هي تقل له عرف الورود و الاوكسجين ، كما تحمل السحب المليئة بالمطر ، فهي مصدر بشارة و سرور له .

[ و أنزلنا من السماء ماء طهورا ]

لقد أثبت العلم ان افضل أنواع المياه هو ماء المطر ، لان ما ينزل من السماء بالاضافة الى كونه ماء فانه يحمل الاوكسجين النقي ، فهو نظيف و منظف ، كما هو ان نزوله يزيل الأمراض .

[49] [ لنحي به بلدة ميتا ]

ان التعابير القرآنية هنا اشارات الى رسالة الله - كما يبدو - فالله الذي يطهر الأرض بالماء الذي ينزله من السماء يطهر القلب بالوحي .

[ و نسقيه مما خلقنا أنعاما و أناسي كثيرا ]

خلق الله الماء و أودعه الارض ليسقي به الانعام و الناس .

[50] [ و لقد صرفناه بينهم ليذكروا ]

فماذا صرف الله بينهم ؟

قال البعص ان هذه العبارة تدل على تصريف الله للسحاب ، ينزلها بإذنه علىالمناطق المختلفة من الارض ، و لولا ذلك لتجمعت في مكان واحد و انزلت كل حمولتها من المطــر على بلد واحد حيث تفيض المياه ، بينما تبقى سائر البلاد قاحلة لعدم وصوله لها .

و لكن القرآن يقول : " و لقد صرفناه بينهم ليذكروا " و كلمة صرفناه لا تدل على السحب بقدر ما تدل على الأمثال التي ضربها آنفا .

و المعنى انا صرفنا امثالنا و كلماتنا فبيناها للناس كافة ، و في البلاد المختلفة انزلنا كتابا من الله يحمل رسالته للبشرية عبر رسول منه .

[ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ]

و هنا نرى نوع التشابه و التنسيق ، بين المطر الذي ينزل من السماء ، و عن طريق توزيع القنوات الطبيعية في الارض يجري ليسقي الانعام و الاناسي ، و بين الرسالة التي تهبط من السماء فتستقر في قلوب الناس .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس