فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
الحشر و الشفاعة
[ 85 - 86] [ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا ]
هذا منظر من ذلك اليوم حيث يرى المتقون وفودا مكرمة ، يحشرون الى لقاء ربهم ، بينما يساق المجرمون كما تساق البهائم الى جهنم . إن هذا المنظر وحده يكفينا عبرة لكي نختار طريق المتقين و وفدهم ، على طريق المجرمين و وردهم جاء في حديث شريف ماثور عن تفسير عليبن إبراهيم عن أبي عبد الله (ع) قال : سأل علي ( صلوات الله عليه ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن تفسير قوله عز وجل : " يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا " قال :
" يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا ، أولئك رجال إتقوا الله عز وجل فأحبهم و أخصهم و رضي أعمالهم ، فسماهم الله متقين ، ثم قال : يا علي أما والذي فلق الحبة و برىء النسمة إنهم ليخرجون من قبورهم بياض و جهوههم كبياض الثلج ، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن ، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلألأ "وفي حديث آخر قال :
" إن الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق الجنة ، عليها رحائل الذهب مكللة بالدر و الياقوت ، و جلالها (1) الاستبرق و السندس و خطامها جذل الارجوان (2)(1) جلال - ككتاب - جمع الجل و هو للدابة - كالثوب للانسان تصان به .
(2) الجذل - أصل الشجر الخشبي والارجوان : شجرة صغيرة الحجم من فصيلة القرنيات زهرها وردي يظهر في مطلع الربيع قبل الاوراق .
و أزمتهم من زبرجد ، فتطير بهم الى المحشر ، مع كل رجل منهم ألف ملك من قدامه و عن يمينه وعن شماله ، يزفونهم (1) حتى ينتهوا بهم الى باب الجنة الأعظم ، وعلى باب الجنة شجرة ، الورقة منها يستظل تحتها مأة ألف من الناس . و عن يمين الشجرة عين مطهرة مكوكبة (2)قال : فيسقون منها شربة فيطهر الله عز وجل قلبوهم من الحسد و يسقط عن أبشارهم الشعر . و ذلك قوله عز وجل : " و سقاهم ربهم شرابا طهورا " من تلك العين المطهرة ، ثم يرجعون الى عين أخرى عن يسار الشجرة فيغتسلون منها: وهي عين الحيوة، فلا يموتون أبدا((.
ثم قال:
))يوقف بهم قدام العرش وقد سلموا من الآفات والأسقام والحر والبرد، قال فيقول الجبار جل ذكره للملائكة الذين معهم: أحشروا أوليائي إلى الجنة ولا تقفوهم مع الخلائق، قد سبق رضائي عنهم ووجبت لهم رحمتي، فكيف أريد ان أوقفهم مع أصحاب الحسنات والسيئات، فتسوقهم الملائكة إلى الجنة، فإذا انتهوا إلى باب الجنة الأعظم ضربوا الملائكة الحلقة ضربة فتصر صريرا فيبلغ صوت صريرها كل حوارء خلقها الله عزوجل وأعدها لأوليائه، فيتباشروا اذ سمعوا صوت صرير الحلقة ويقول بعضهم لبعض: قد جاءنا أولياء الله فيفتح لهم الباب، فيدخلون الجنة ويشرف عليهم أزواجهم من الحور العين والآدميين، فيقلن: مرحبا بكم فما كان أشد شوقنا إليكم، ويقول لهم أولياء الله مثل ذلك).
فقال علي (صلوات الله عليه): من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(يا علي هؤلاء شيعتك المخلصون في ولايتك، وأنت إمامهم وهو قول الله عزوجل: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) على الرحائل، (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا).
من يملك الشفاعة؟
[87] [لا يملكون الشفعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا]الشفاعة في الدنيا نوعان: شفاعة باطلة وشفاعة صحيحة، فاذا قلت: انا إبن فلان، وأنتمي إلى الدين الكذائي دون أن أعمل بتفاصيله وأعماله، فهذه شفاعة باطلة، وكذلك لو قلت: إنني أنتمي إلى هذا الحزب او تلك المنظمة مما تعبد من دون الله، فأنت لا تشفع لهم ولا هم يشفعون لك وإنما أنت شفيع عملك، أي انك قرين عملك، وهو الذي يبقى معك، ومن عمل الإنسان إنتماؤه الصحيح إلى الرسالة، فإذا انتميت إنتماءا صحيحا إلى قائد او إمام عادل، وأطعته طاعة مخلصة لوجه الله سبحانه، ثم أذنبت ذنبا صغيرا فإن الله يعهد إلى ذلك الإمام بالشفاعة لك، وهذه هي الشفاعة الصحيحة. ومن ثم فأنت في وفد المتقين، وهذه فكرة الطاعة الواعية، التي تستتبع الشفاعة حتى ولو لم يكن هناك رابطة عنصرية ولا عصبية ولا قومية بينك وبين ذلك الأمام، ولكنك تطيعه لوجه الله، فأنت تكون ولياله، وفي وفده يوم القيامة ومن هنا جاء في حديث شريف تفسير العهد بإتباع الأمام العادل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: قوله: (لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال:
(الا من دان الله بولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده، فهو العهد عند الله).
الشفاعة الباطلة:
[88] ثم يعود القرآن –بعد ذلك- لينسف فكرة الشفاعة الباطلة فيقول:
[وقالوا اتخذ الرحمن ولدا]
انما قالوا ذلك ليكرسوا فكرة الشفاعة اذ انهم يقولون: لأننا أولاد الله، او أبناء المتقين، فسوف ندخل الجنة ولا يعذبنا الله شيئا!
والقرآن ينفي هذه الفكرة أساسا فيقول:
[89] [لقد جئتم شيئا أدا]
أي ان فكرتكم هذه كذب عظيم فالله هو الذي خلق السماوات والأرض، وخلق المنظومات الشمسية والمجرات والفضاء اللامتناهي، ولو كان له ولد سبحانه لوجب ان يكون ولده بمستواه سبحانه.
[90] [تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا]السماوات والأرض والجبال لا تتحمل تلك الكذبة المبتدعة، والقرآن الحكيم يعطينا هذه الصورة ليوضح لنا: بأن هذه الكلمة ليست صغيرة في مقياس الحق، فالذي خلق السماوات التي لا يمكن ان تحصى نجومها، والذي خلق الأرض الواسعة، هل يمكن ان يتخذ ولدا؟!
ان هذه فكرة غير متناسبة وعظمته سبحانه، ولا مع أية قيمة من قيم الفكر، واي مقياس من قياييس العقل!!
يتفطرن: أي يتفتتن ويتشققن.
ولعل هناك ايحاء آخر في هذه الآية، هو: ان الكذبة الكبيرة هذه، قد سببت جرائم كبيرة، بحجم تفطر السماوات وانشقاق الأرض، وهد الجبال، مثل الجرائم التي قامت بها النازية في العالم، او التي قام بها العنصريون في جنوب أفريقيا، وحتى الجرائم التي تقوم بها أمريكاوروسيا وسائر المستكبرين في العالم. وكلها، حين نبحث عن جذورها، نجد أنها تنمو من أرض العنصرية الخبيثة، حيث انها ناشئة من تمحور الإنسان حول ذاته، واعتقاده بأنه أفضل من نظائره.
أنظر –مثلا- إلى الأفكار العنصرية التي زعمت بأن الحضارة، انما تنشأ من العنصر الآري لأنه العنصر الذي خلقه الله بشكل أفضل، هذه السفاهة التي انتشرت بعد الثورة الفرنسية، والتزم بها بعض النبلاء والأشراف، وتورط فيها بعض علماء الاجتماع والتاريخ علما بأن الآريين لم يخلقوا الحضارة أصلا في أي فترة من فترات التاريخ، وغاية ما في الأمر انهم كانوا أسلاف اليونان الذين صنعوا الحضارة في التاريخ، ومن بين واحدة وعشرين حضارة نشأت في العالم، فإن هذه واحدة منها فقط أما العشرون الباقية فهي غير أوربية، وانما الأوربيون استفادوا منها، كما انهم قد اقتبسوا من الحضارة الاسلامية كثيرا.
[91/92] [ان دعوا للرحمن ولدا* وما ينبغي للرحمن ان يتخذ ولدا]الرحمن الذي شملت رحمته كل عباده، لا يمكن ان يفرق بين جنس وآخر، ولا يمكن ان يقول ان البيض او السود، او الأوربيين او الآسيويين او غيرهم، هؤلاء دون غيرهم، يستحقون رحمتي.. انه الرحمن وآثار رحمته موجودة في كل مكان.
-نعم- اذا رأيت الشمس أشرقت فقط على آسيا، او على أوربا او ان الرياح حملت السحب إلى المدينة الكذائية، او ان قارة أوربا فقط هي التي انبتت الزرع واحتوت على المعادن، اذا رأيت مثل ذلك فربما يكون لك الحق في ان تقول: ان أولاد هذه القارة هم أبناء الله سبحانه،لكن شيئا من ذلك لا يشاهد، فآثار رحمة الله تشمل كل شيء. اذن فهولا يتخذ من بين عباده ولدا دون آخر وهذه هي العلاقة بين فكرة نفي الولد عن الله، واستخدام كلمة الرحمن المكررة في هذه الآيات، فلأنه الرحمن، فهولا يفضل بعض الناس على بعضهم دون ان يكون ذلك التفضيل نابعا من عملهم وسعيهم.
[93] [ان كل من في السموات والأرض الا ءاتي الرحمن عبدا]هؤلاء جميعا متساوون أمام الرحمن في عبوديتهم له.
[94] [لقد أحصهم وعدهم عدا]
ان الله لا يمكن ان ينسى أحدا من عباده أبداً، سواء كان في غابة او في كهف فهو عبد الله والله قد كتب له اسماً، وقرر له مواهب، وأجرى له رزقا، وكذلك المتربع على الكرسي في قصره العظيم. والذي ملأ أرصدته البنوك الأجنبية أحصاه الله وأحصى ذنوبه.
ولعل تكرار الآية بمعنى الأحصاء ثلاث مرات (احصاهم –وعدهم- عدا) يعني انه لا يمكن ان يفلت من حساب الله شخص أبدا لا صغير ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فكلهم سيحاسبهم ويجازيهم بما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيا.
[95] [وكلهم ءاتيه يوم القيمة فردا]
كل العلاقات الدنيوية المزيفة ستتساقط، وسيأتون الرحمن بشكل أفراد –نعم- ان العلاقة الوحيدة المجدية بعد علاقة الخلق والعبودية التي تربط العبيد بربهم هي علاقة الإيمان والعمل الصالح.
[96] [ان الذين آمنوا وعملوا الصلحت سيجعل لهم الرحمن ودا]ان الله يحب هؤلاء وهم يحبونه، وهذه هي العلاقة الصحيحة بين العبد وربه، لذلك أمر الرسول (ص) عليا (ع) ان يدوعو ربه ليرزقه الود في قلوب المؤمنين كما جاء في الحديث التالي:
في تفسير علي بن إبراهيم وأما قوله: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)) فإنه قال الصادق (عليه السلام) كان سبب نزول هذه الآية إن أمير المؤمنين كان جالساً بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له:
((قل يا علي: اللهم اجعل لي في قلوب المؤمنين وداً))فأنزل الله: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)) ثم خاطب الله نبيه (ص) فقال: ((فانما يسرناه بلسانك)) يعني القرآن ((لتبشر به المتقين وتنذر قوماً لداً) قال: أصحاب الكلام والخصومة.
[97] ومن مظاهر رحمة الله، انه يسّر القرآن، وسهّل آياته وأوضحها، لكي يستطيع الرسول أن يبشربها المؤمنين وينذر بها المعاندين.
[فانما يسَّرنه بلسانك لتبشر به المتّقين وتنذر به قوماً لداً]قوماً لدّاً: جماعة معاندين وجاحدين:
إن أكبر ما ينذر الانسان هو الموت، (( كفى بالموت واعظاً)) لكن بعض الناس يقولون، ليس من المهم أن نموت فأولادنا سوف يبقون، وخطنا سوف يبقى، وبهذه الأفكار يهوّنون على أنفسهم الموت، ولكن القرآن، ينفي ذلك ويقول: ليس أنتم وحدكم الذين تموتون، بل سيموت معكم أبناؤكم وعشيرتكم، ونهجكم وخطكم، وكل شيء يرتبط بكم، يهلك ويفنى، وهذا أكبر إنذار للإنسان، وإذا لم يتعظ الإنسان بذلك، فإنه سوف يواجه مصيره الرهيب.
[98] [وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحدٍ او تسمع لهم ركزا]قد لا يبقى من الأمة أحدٌ، ولكن يبقى أثر من الآثار في بعض الصور أو بعض الكتابات او.. او، ولكن القرآن يقول: صفّيناها تصفية كاملة، ولا حتى صوت يخرج منها لا عالٍ ولا خفيّ، جاء في حديث مأثور عن أئمة آل البيت (عليهم السلام) فيما وعظ الله عزوجل به عيسى (عليهالسلام):
((وطئ رسوم منازل من قبلك وادعهم وناجهم هل تحس منهم من أحد، وخذ موعظتك منهم، واعلم أنك ستلحقهم في اللاحقين))وكلمة أخيرة: إنَّ فكرة إتخاذ الولد لها وجهتان:
الأولى: إنها تعطي للظالم حق الظلم.
الثانية: إنها تلسب من المظلوم حق التمرد ولذلك نجد المستعمرين أشاعوا هذه الفكرة بين الشعوب المستضعفة، وانهم إنما تقّدموا لأن الله أراد لهم ذلك، ولأن الطبيعة التي كانت حولهم كانت أسخى، ولأن عقولهم كانت أكبر ولأن حظهم كان أوفر، ولأي شيء.
وينسف القرآن الحكيم هذه الفكرة ويقول: لا تفكر أيها الإنسان، إن للجنس الفلاني ميزة عليك وإن الله فضّله عليك تفضيلا، كلا.. بل ربما يكون أقل منك عقلا، وأرضه أقل سخاءا وبالتالي فهو أقل تعرضاً لرحمة الله منك، وبالتالي فإن الحضارة أقرب إليك، وإنما تقدم من تقدم، وتأخر من تأخر بسبب عمله..
وأتصوّر إن إشاعة هذه الفكرة المعاكسة وترسيخها في الشعوب المستضعفة، تلهمهم الاندفاع وتعطيهم الدافع نحو بناء حضارتهم والتخلص من نير المستكبرين.