فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

موسى يحمل رسالات الله
هدى من الآيات

وجد موسى عليه الصلاة و السلام عند ربه في تلك الليلة المظلمة الشاتية دفئا و أنسا و هدى ، وحينما سأله الله عن عصاه فاذا به يسترسل في حديثه ، بلى ان الفائدة الأولى التي يحصل عليها المؤمن من إيمانه ، هي السكينة القلبية و الاطمئنان النفسي .

لكن سرعان ما امتحنه الله و ابتلاه بأمره الصعب ، إذ لا يكفي للانسان أن يدعي الإيمان من دون أن يحمل - بقدر إيمانه - مسؤولية و بلاء ، و كلما كان الإيمان أعمق ، كلما كان البلاء أشد " البلاء للأنبياء ثم الأولياء الأمثل فالأمثل " .

و قد مر موسى (ع) بامتحان عسير ، ففي البدء أمره الله أن يخلع نعليه ، لأنه في الوادي المقدس طوى ، و ربما خشي موسى أن يؤمر من قبل الله سبحانه بترك عصاه كما فعل بنعليه ، فلذلك حينما سأله الله عنها إذا به يبين فوائدها العديدة : إنه يتوكأ عليها ، و يهشبها على غنمه ، وله فيها حاجات أخرى غير تلك ، فأمره الله أن يلقي عصاه فألقاها ، و سرعان ما رأى أن تلك العصا قد تحولت الى ثعبان ضخم ، حيث جاء في النصوص إنه كان من القوة ، بحيث يحطم الحجر ، و يقتلع الشجر ، و تتوقد عيناه في الليل المظلم ، كان هذا امتحانا: حيث أمره الله بأن يلقي عصاه فامتثل موسى ، و الامتحان الآخر كان حيث أمره بأن يأخذ الثعبان فيمسكه من حلقه ، و هو أخطر عضو فيه . ترى كم ينبغي أن يكون إيمان الانسان بالله و بالرسالة ، و تغلبه على طبيعته البشرية كبيرا حتى يتمكن من أن يقدم على هذه العمليةالصعبة ؟!

إن الانسان بطبيعته يشكك نفسه - ألف مرة - في مثل هذه الحالات ، فاذا تعرض لامتحانات صعبة كما تعرض لها موسى (ع) ، يقول لنفسه : من يقول بان هذا هو الله ؟ و من يقول بأن الأمر واجب ، و من يقول بأن الأمر فوري ؟ و هكذا .. ولكن موسى بالرغم من خوفه الشديد النابع من طبيعته البشرية تحدى و أخذ الثعبان فتحول - بمجرد أن أمسك به - الى عصا كما كانت .

لقد اجتاز موسى في لحظات معدودة تلك المراحل التي اجتازها إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام في سنين ، فأمر بحمل الرسالة الى البشر . لقد تعرض إبراهيم الخليل (ع) لخطر شخصي حينما ألقي به في النار ، و كذلك موسى تعرض لهذا الخطر حينما أمر بأن يأخذ الثعبان ، و إبراهيم ترك زوجته و طفله الرضيع و حيدين في الصحراء ، و انفلت عنهما و توجه الى الله ، و كذلك موسى ترك أهله و هم في ظروف صعبة ، و توجه الى الله .

إبراهيم الخليل تعرض - مرة أخرى - للغربة و الابتعاد عن بلده ، و كذلك موسى تعرض لذلك حيث بقي ظالا في الصحراء مدة الى أن اهتدى بفضل الله ، هذا غير فراره الى مدين و بقائه هناك لمدة عشر سنين .

هكــذا اجتاز موسى مراحل الاختبار ، و تخطى إمتحانات الرسالة بسهولة و يسر ، فلما اجتازها جميعا بنجاح ، حمله الله الرسالة ، و بعد أن حمل الرسالة ، طلب موسى من ربه أشياء لم تكن مجرد طلبات ، بل كانت أيضا قرارات أقرها موسى على نفسه .

إنك لا تدعو ربك بدعاء إلا بعد أن تقرر الوصول الى ما تدعو الله له بكل وسيلة مادية مقدورة لك ، و تدع بقية الوسائل التي لا تستطيعها الى الله سبحانه . اذا دعوت الله أن يطعمك فلا يعني ذلك بأن تجلس في بيتك إنما عليك أن تبحث عن أرض صالحة و عن طريقة لتوصيل الماء اليها ، و عن حب تزرعه فيها ، و عن عملية مبتكرة للزراعة و السقاية و الحرث و الحصاد ، ثم تطحنه و تخبزه و تحضره ، وآنئذ تأكله .

وأنت في هذه المسيرة الطويلة تتعرض لصعوبات و عوامل مضادة لعملية الزراعة ، تلك العوامل المضادة التي ليس في وسعك التغلب عليها ، فتدعو الله أن ينصرك عليها ، اما العوامل التي تستطيع أن تقوم بتوفيرها عمليا فينبغي أن تسعى من أجلها ، هذا هو جوهر الدعاء .


لقد طلب موسى من الله سبحانه مجموعة طلبات كانت في نفس الوقت مجموعة قرارات أقرها لنفسه كي يقوم بما طلب : أن يشرح له صدره ، و يحل عقدة من لسانه ، و ييسر أمره ، و يجعل له و زيرا من أهله و هكذا ، هذه الطلبات كلها كانت تعني حيث علم موسى : ان حمل الرسالةبحاجة الى هذه الشروط الخمسة .

الشرط الأول : سعة الصدر ، فسعة الصدر آلة الرئاسة ولا يستطيع الفرد أن يصل الى الرئاسة الحقيقية بحمل الرسالة و تبليغها الى الناس ، من دون أن يكون صدره واسعا ، و سعة الصدر تعني الصبر ، و عدم الحزن أو التأثر من كلام المخالفين و الجاهلين ، و بالتالي فان صاحب هذه الصفة يستطيع أن يصدع بالحق دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، أو يتأثر باعلام الناس .

الشرط الثاني : هو القدرة على الحديث ، فلقد كان موسى تمتاما لا يحسن الإعراب و الافصاح في حديثه عما يريده .

الشرط الثالث : بذل الجهود المكثفة لإفهام الناس رسالة الله و أحكام شريعته ، فليس وظيفة حامل الرسالة أن يكره الناس على تطبيقها تحكما و استبدادا ، و عوها أم لم يعوها .

الشرط الرابع : هو أن يبحث حامل الرسالة عمن يؤازره ، و يشترك معه في أمره ، و ينبغي أن يكون أقرب الناس إليه .

الشرط الخامس و الأخير هو : أن يكون هو مع هذا الوزير بهدفان الى تسبيح الله و ذكره ، و الدعوة اليه لا الاستعلاء في الأرض ، و الطغيان على الناس .

و هذه الشروط تنبه اليها موسى عليه الصلاة و السلام حينما حمل الرسالة ، و كان في ذلك دليل على أن اختيار الله موسى لرسالته انما تم بحكمته البالغة ، إذ ان الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فلننظر كيف يحاور موسى ربه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس