فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
إن من طبيعة البشر هي التمحور حول الأشياء دون القيم ، و إن ارتفاع الانسان الى مستوى الايمان بالغيب ، و عبادة الله تعالى متجردا عن الأهواء و تحدي المصالح و الضغوط المتخلفة ، يعتبر قمة الحضارة الانسانية . حيث ينهي الانسان صراعه الداخلي لمصلحة عقله ،و يتحدى كل الشهوات المحيطة بقلبه ، و كل الضغوطات المحيطة به في مجتمعه ، حتى يخلص عبادته لله سبحانه ، و لا يهبط الى مستوى الشيئية في الحياة ، و هذا الأمر يحتاج الى مزيد من التوجيه و التربية ، كما هو بحاجة الى عزيمة شديدة ، و إرادة حديدية !
و لو ترك الانسان و طبعه لهبط الى مستوى عبادة الأصنام ، لأنها تعني الالتفاف حول الأشياء ، و الخضوع لسلبيات الحياة و ضغوطها ، بينما الايمان بالله يعني الارتفاع عن هذه الضغوط ، و النظر الى الأشياء نظرة متسامية ، باعتبارها ليست سوى مخلوقات يدبرها اللهسبحانه .
و هكذا هبط بنو اسرائيل مرة أخرى الى حالتهم البشرية ( عبادة الأشياء ) حينما تركهم موسى (ع) و لم يصمدوا كثيرا أمام اغراءات العجل . و انما تؤكد آيات القرآن دائــما على ربوبية الله و حاكميته لكي يعرج الانسان الى قمة العبودية له تعالى ، و يقوم بعمل جادمن أجل الوصول الى ذلك المستوى ، و الاكتفاء به عن الأشياء حوله .
ومــن العجب أن بعض المؤرخين يفلسف عبادة الطوطم ، و الكواكب ، و الأصنام ، و ببعض التحليلات المعقدة ، علما بأنها لا تحتاج الى كل ذلك أذ انها من طبيعة الانســان ، ففي يوم كانوا يعبدون الحيوان الذي يخافونه لأنه كان يرمز الى القوة . فبعضهم كان يعبد الفيل و يعتبره رمزا للقوة ، و بعضهم كان يعتبر الأسد رمزا للقوة فيعبده . أما هذا اليوم فيعتبرون الأباطرة و الملوك رمزا للقوة فيعبدونهم . فاذا أردنا أن نصــل الى عبــودية الله علينا أن نتجاوز الأشياء لخالقها ، و الشيئية الى القيم ، و الشهود الى الغيب .
و هكذا هبط بنو اسرائيل الى درك الشرك ، فور ما تعرضوا لفتنة السامري . فلما عاد إليهم موسى ( عليه السلام ) ، و جه خطابه الى هارون أولا :
[ 92 - 93] [ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري ]و لعل السبب كان :
أ - أن هارون كان خليفة عليهم و القيادة الشرعية المسؤولة عنهم فكان أول من يسأل عنهم .
ب - أن موسى (ع) لن يهادن أحدا في قضايا التوحيد حتى ولو كان وصيه و خليفته هارون .
ج - أن موسى (ع) أراد أن يوضح لجماهير بني اسرائيل ، أن قضية التوحيد ليست هينة ، و أنه حتى هارون (ع) ، يتعرض للسؤال بل للمحاكمة ، حتى يثبت أنه قد أدى و ظيفته بالنسبة اليها ، كيف و أن الله سبحانه يسأل المرسلين في يوم القيامة عن أممهم ، و كان موسى (ع)قد أوصى أخاه قبل مغادرته الى الطور قائلا :
" أخلفني في قومي و أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " و جاء الآن يسأل عما قام به .
أما هارون فقد أجاب موسى (ع) بأن بني اسرائيل لا يخضعون إلا لك ولا يزالون معتقدين بك ، لذلك اذا أمرتهم بترك عبادة العجل قالوا سنعكف على عبادته حتى يرجع الينا موسى ، فأشاع السامري بأنك مت و اعرف أنك ستعود و يكون ذلك دليلا على كذبه ، و لعل موسى (ع) كان يعرف بأن هارون (ع) شديد الغضب في الله ، لذلك و صاه باصلاحهم دون القيام ضدهم ، و نستوحي من هذا السؤال و جوابه ان الثورة ضرورة في المجتمعات المنحرفة ، و لكن على الثوار أن ينتظروا الأوقات المناسبة لتفجير ثورتهم ، ذلك لأنه عندما تشيع فكرة باطلة في مجتمع ما ، فان الجماهير تلتف حولها فلكل جديد لذة ، مما يسقط خيار المقاومة لو تعجلوا في محاربتها ، فاذا انتظروا قليلا حتى يذهب بريقها و تظهر عيوبها ، فان مقاومتها آنئذ ســتكون ناجحة ، و لذلك جاء في الأحاديث ما مضمونه ( لا تقاوم الدول في بداية أمرها ) ، لأنها شابة و تمتلك الجماهير و هي مستعدة لحماية مكتسباتها ، اما إذا ظهرت سلبياتها فان الناس سيتحركون ضدها و يساعدون على اسقاطها ، اضافة الى تنامي عوامل الانهيار فيها بسبب انحراف مسيرتها .
[ 94] عندما عتب موسى على هارون ( عليهما السلام ) ، و أخذ بلحيته و برأسه يجــرهمــا اليه ، طلب هارون من أخيه الا يغضب معللا بأن قومه لم يستجيبوا له ، و لو أنه أخذهم بالقوة لتفرقوا اجتماعيا و لنفروا من الدين نفسيا ، و أن الحركة المضادة قد تكرس فيهمالواقع السلبي ، فانتظر حتى يعود موسى (ع) اليهم .
و يبدو أن الخلاف بين هارون و موسى ( عليهما السلام ) بادىء الأمر كان في فهم الموقف و ليس في الحكم الشرعي ، فبينما كان هارون يرى أن الموقف يستدعي التريث ، لكي لا تنهار وحدة الأمة ، و لذلك طبق موقف وصية موسى (عليه السلام ) حيث قال له : " و أصلحولا تتبع سبيل المفسدين " ، تساءل موسى ( عليه السلام ) :
كيف ســكت هارون عن انحراف كبير ، كتغيير القيادة ، و الشرك بالله ، و عبادة العجل ، و أن على هارون أن يتبع نهج موسى (ع) في مقاومة الانحراف ، و أراد أن يتأكد بأن الضعف البشري لم يدفع بهارون الى التهاون في مسألة التوحيد ، فلما عرف موسى (ع) أن مصلحة الرسالة وليس الخوف من الطغاة هو الذي أسكت هارون عن حقه سكن غضبه .
[ قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسٍي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إٍسرائيل و لم ترقب قولي ]حينما قال له : " اصلح " .
وهكذا كانت حكمة غضب موسى (ع) الظاهري توضيح الموقف للناس و لذلك سكت .
[ 95] بعد أن أنهى موسى (ع) الحديث مع أخيه التفت الى السامري .
[ قال فما خطبك يا سامري ]
لماذا فعلت الذي فعلت ؟
[ 96] [ قال بصرت بما لم يبصروا به ]
أي رأيت شيئا لم يروه .
[ فقبضت قبضة من أُثر الرسول ]
أي من التراب الذي داست عليه خيل جبرائيل .
[ فنبذتها ]
قذفتها في داخل العجل .
[ و كذلك سولت لي نفسي ]
زينت لي أهوائي الانحراف .
لقد كان السامري - الذي ينتمي الى سمرون ، و هو ابن يشاكر من أولاد يعقوب - و كما يبدو من الآية ممن بلغ به الإيمان درجة عالية إذ أبصر ما لم يبصره الآخرون حيث رأى أثر الرسول ، و لعل السامري كان ممن ساءت عاقبته ، و هو مثال للخط المنافق في الأمة ، و الذي يسعى منتهزا الفرص ، كغياب القيادة ليصل الى مطامعه و مصالحه المادية ، و لكن السؤال هو لماذا ينحرف كثير من المؤمنين بعد ايمانهم ، أمثال بلعم ابن باعوراء و السامري و الزبير ابن العوام ؟!
و الجواب كالتالي :
أولا : الانحراف في مسيرة البشر شيء ممكن لأن عوامله كثيرة ، فربما يواجه فتنة معينة فيتحداها ، و لكنه حينما تترى عليه الفتن المختلفة ينهار امام بعضها ، و أصعب فتن الحياة ، هي فتنة الرئاسة .
بلعم كان مؤمنا ، و لكن حينما رأى ان موسى (ع) أصبح نبيا دونه ، دفعه نحو الانحراف ، حتى قال عنه الله : " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " (1) ، و هكذا كان السامري من أصحاب موسى (ع) و لكنه لم يرضى أن يكون هارون رئيسا عليهفاصطنع حادثة العجل ، و خدعته شهوة الرئاسة ، و كذلك الزبير فلقد كان مع رسول الله (ص) يقاتل معه و يذود عنه ، ولكن حينما أراد السلطة إنحرف .
(1) سورة الأعراف آية / 176 .
و جرت عليهم الامتحانات لكي يتحدوه و يصبح ايمانهم خالصا ، و لكنهم انهزموا بتكرس الانحراف في انفسهم .
و الصديقون هم الذين يقاومون عوامل الانحراف - من الحسد و حب الدنيا ، و اذا تحدوا و استقاموا دخلوا الجنة والا سقطوا في النار .
ثانيا : أن ينحرف في آخر لحظة من حياته ، و يدخل النار ، فالذين يحسنون الظن بانفسهم عادة ما ينحرفون ، وعلى عكسهم المتهمون لها .
ثالثا : من الأسباب الرئيسية للانحراف طول الأمل ، و الحرص على الدنيا ، لأنهما من بواعث التسويف بالتوبة .
[ 97] أما كيف عالج موسى الموقف مع السامري ؟ فلقد قام بخطوتين رئيسيتين هما :
1 - عزل السامري عن المجتمع لأنه جذر الانحراف :
[ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه ]و هكذا يجب ان تكون الحلول التي تضعها الحركة الثورية ، حلولا جذرية تتعدى الآثار السلبــية و ازالتها ، الى اجتثاث جذر الفساد ، فبدل أن تحارب الخمر ، و الفساد الخلقي ، و البرامج المضللة في وسائل الاعلام ، حارب الطاغوت الذي يقف خلفها ، لأن القضاء عليهيعني نهايتها جميعا .
ولم يقتل موسى (ع) السامري ليبقى عبرة حية الى كل الانتهازيين من بني اسرائيل ، و لكي تتضح عدالة الرسالات الالهية و كيف أن مواقفها عقلانية ، ففي إن انحــراف هؤلاء يدل على وجود إنحراف نفسي عميق في قلوبهم لما يقاوموه ، الخبر أن موسى (ع) هم بقتل السامري، فأوحى الله له أن لا تفعل فانه كان سخيا ، و ثالثا حتى يكون عذابه شديدا يوم القيامة بحيث يستوفي كل ماله في الدنيا ولا يلقى في الآخرة إلا العذاب . و لعل السامري ابتلي بمرض جسدي أو روحي يؤدي الى عذابه باقتراب الناس اليه ، فكان يهرب من الناس ويصيح اذا اقترب منه أحد لا مساس : أي لا تمسوني أو لا تقتربوا مني !
2 - تحطيم رمز الواقع السلبي ..
[ و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ]أخذ موسى العجل الذي عبد من دون الله و حرقه ثم ذره في اليم لكي يقتلع جذر الفتنة ، خشية أن يقدس العجل او قطعاته أو حتى رماده في المستقبل ، كما يقدس المرتبطة مصالحهم بنظام الطاغوت آثارة بعد الثورة .
و نستوحي من هذه العملية أن على السلطات الرسالية أن لا تكتفي بتصفية شخص الطاغوت فقط ، بل تحاول اقتلاع جذوره و تصفية آثاره و رموزه ، كقصوره ، و تماثيله ، و لو كان في ذلك بعض الخسارة المادية للثوار ، لأن الخسارة الحقيقية أن تبقى هذه الأشياء تقدس من قبل المنحرفين الذين لا يزالون يتعلقون بالطاغوت بسبب عدم استجابتهم للتطور الثوري الذي حدث .
[ 98] كان الخطاب الأول موجها الى هارون القيادة الرسالية ، و الخطاب الثاني الى السامري القيادة المنحرفة ، أما الخطاب الثالث فلبني اسرائيل أنفسهم ، لأن هذه الجهات هي المسؤول الحقيقي عن أي تغير سلبي في الأمة .
فلابد أن تحاسب الحركة الثورية هل أنها تحملت مسؤوليتها أم لا ، و كذلك القيادة المنحرفة لماذا أقدمت على الانحراف ، و الجماهير لماذا استجابت الى ذلك ؟!
قال تعالى :
[ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ]
فلا تعبدوا العجل ، ولا المال ، و لا من يملك المال ، و العبادة تبدأ من حب الشيء ، حبا ذاتيا في القلب ، فلتذكر أن الله محيط علما بكل شيء ، حتى بخفايا القلوب التي قد تميل الى الباطل .
[ و سع كل شيء علما ]
أي وسعه من كل صوب و جانب .
خاتمة الآية متناسبة مع أجواء الحدث ، حيث كان الذنب و تبرير الذنب مما لا يخفى على الله الذي أحاط علمه بكل شيء .