فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

بينات من الآيات
[ 99] [ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق و قد ءاتيناك من لدنا ذكرا ]

البشر انما يضل عن سواء السبيل حين يغفل و يخرج عن تمام وعيه ، و انما ابتليت الأمم بمختلف النكسات بسبب الغفلة ، و النسيان ، و لكي يعي الانسان واقعه و مستقبله لديه و سيلتان :

الأولى : النظر في التأريخ برؤية و تفكر ، فالتأريخ هو ذلك المصباح الذي يضيء للعقلاء درب المستقبل ، و التأريخ هو ذلك المعهد التجريبي الذي يتخرج من أروقته افضل العلماء ، و التأريخ هو ذلك الناصح الأمين الذي يوقظ فطرة الخير في ضمير النابهين .

انه الذكر الذي يتجلى في آيات القرآن حين تبين لنا سنن الله فيما مضى ، و كيف سعــد من سعد من الأمم ، و كيف شقي من شقي منهم ، يقول الأمام أمير المؤمنين ، و هو يبين لولده الحسن المجتبى (ع) أهمية التجارب التأريخية :

" أي بني اني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، و فكرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كاني بما إنتهي الي من أمورهم ، قد عمرت مع أولهم الى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، و نفعه من ضرره ، فاستخلصت لك منكل أمر نخيله " (1)

و حين ننظر الى التأريخ ، علينا أن نعتبر بالجوهر ، و من الخطأ أن نعلق بكل التفاصيل و الجزئيات .


(1) نهج البلاغة - رسالة / 31 .


الثانية : القرآن ، و سمي بالذكر ، لأنه ينبه المؤمنين من نومه الغافلين ، فيوقض الضمير، و يستثير العقل ، مذكرا الانسان بعهده مع الله ، وما أودع فيه الله من الفطرة .

و كما تتجلى الحقائق و سنة الله عبر أحداث التأريخ ، و مسيرة الحياة ، فانها موجودة في كتابه أيضا ، و الذي هو بمثابة الخارطة التي تقود الانسان الى الهدف .

و لتوضيح مفهوم الذكر بصورة واضحة يمكننا ان نشبهه بالخريطة التي يحملها الشخص و هو يريد اجتياز حقل من الالغام ، فهو ينظر اليها باستمرار ليحدد المواقع التي زرعت فيها العبوات الناسفة فيتجنبها ، و بكل حذر و ارادة ، ان لا يغفل عنها لحظة واحدة ، لأن ذلكيعني : أن يطير اشلاء في الهواء .

و الحياة التي نعيشها أشبه ما تكون بذلك الحقل الملغوم ، و اذا أردنا أن نجتازها بسلام يجب أن يكون الذكر نصب أعيننا باستمرار ، و الانسان العاجز بذاته ، الذي يعيش على أرض محفوفة بالأخطار ، و مليئة بالصعوبات ، لهو بأمس الحاجة الى الله القوي ، مطلق العلم ، و الارادة و .. و .. ليمد له يد العون ، فيدفع عنه الخطر ، و الذكر هو الوسيلة التي يرتبط بها البشر الضعيف بربه العزيز القادر .

[ 100 - 101] [ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه و ساء لهم يوم القيامة حملا ]يتنور قلب الانسان بالمعرفة التي يكتسبها عبر التجربة و التفكير ، و عبر النظر للتأريخ و الحياة ، و أهم من كل ذلك ، عبر رسالات الله ( الذكر ) ، بينما تصنع الغفلة حجبا كثيفة عليه تمنع عنه نور الحقيقة ، و سحبا متراكمة من الحسد و الحقد و العقد و حب الدنيا و التعلق بزينتها ، و هذه الحجب التي تتراكم فوق القلب ، و تدعو الى ارتكاب المعاصــي ، تصــبح هي أوزارا باهضة تثقل كاهل صاحبها في الدنيا وفي الآخرة .

و الوزر هو الحمل الثقيل ، الذي يضغط على صاحبه بقوة ، فمن حمل كيسا كبيرا من التراب فوق كاهله ينهار من شدة الضغط ، كذلك الحاسد و الحاقد و عبد الشهوات ، و السائر في ظلمات الغفلة ، يتعرض قلبه لضغط معنوي هائل لا يكاد يتحمله .

و التعبير القرآني عن الغفلة ( بالوزر ) أبلغ تعبير ، أو ليست الغفلة تأتي نتيجة ضغط العوامل المادية ؟ كذلك الوزر ( الحمل الثقيل ) هو من الضغط المادي .

ولا يقتصر ضرر الاعراض عن ذكر الله على الدنيا فقط بأن يفقد الانسان البصيرة فيها ، بل و يمتد ذلك الى يوم القيامة حيث تتجسد الحقائق ، و حيث يحمل من غفل عن ذكر ربه اثقالا باهضة على كتفيه ، كما يفقد البصر و هو يحاول أن يجتاز الصراط فيقع في جهنم ، يتذوقألوان العذاب .

و التعبير القرآني من الدقة بمكان اذ يقول تعالى ( خالدين فيها ) و الضمير يعود الى الوزر ، اذ ذنوبه هنا هي اداة تعذيبه هناك ، حيث يخلد فيها مهانا ، أعوذ بالله .

[ 102] [ يوم ينفخ في الصور ]

ولا مناص يومها لأحد الا أن يخرج من قبره شاء أم أبى ، فكما يولد الانسان و يموت من دون ارادته ، كذلك يبعث من دون أرادته .

[ ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ]

أي زرق عيونهم من شدة الخوف ، و لعل أهوال القيامة تسبب في زرقة أجسادهم أيضا .

[ 103] [ يتخافتون بينهم ]

يتحدثون لبعضهم همسا ، فيقول بعضهم لبعض :

[ إن لبثتم إلا عشرا ]

اذ يتضح لهم تفاهة و قصر العيش في الدنيا ، التي طالما اعتبروها آخر المطاف ، و توهموا أنفسهم باقين فيها ، و ذلك حين يقيسونها بالأخرة دار الخلد ، إن ملايين السنين لا قيمة لها ، أمام الخلد ، فكيف و الانسان لا يعيش في الدنيا الا بضع عشرات من السنين فقط؟!

[ 104] [ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ]ان علم الله سبحانه و تعالى يحيط بكل شيء و كل زمان ، فهو غير خاضع لقانون الزمن ، كما نحن البشر ، فالماضي و الحاضر و المستقبل في علمه سواء ، فهو يعلم الآن ما سيقوله المجرمون يوم القيامة الذي ربما يأتي بعد ملايين السنين .

و لفظة أمثلهم طريقة ، ترفع شبهة قد تتولد في الذهن ، بأن المتكلم الأول كان فاقدا للعقل عندما قدر عمره في الدنيا بعشرة أيام ، فهذا ( أمثلهم ) أعقلهم و أفهمهم يقدر الفترة بيوم واحد لا بعشرة أيام .

ان على الانسان أن يعلم بأن حياته قصيرة جدا ، وان أمامه حياة أخرى لا حصر لأمدها ، و ان سعادته أو شقاءه فيها مرهون بعمله في الدنيا ، فيسعى جاهدا من أجل أن يكون سعيدا فيها .

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس