فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

بينات من الآيات
[ 92] بالرغم من ان الناس يختلفون في إنتماءاتهم ، و ولاتهم - كل يدعي انتماء لرسول و ولاء لإمام - فان المهم في الملإ الأعلى ، ليست هذه الانتماءات النظرية و الولاءات الصورية ، و إنما المهم هو العمل الصالح الذي يكون خالصا لوجه الله سبحانه و تعالى ، تحت ظل الانتماء و الولاء المشروع . إن العمل هو الذي يفرق بين أخوين ، كما يجمع بين رجلين غريبين ، يختلف كل شيء في حياتهما باستثناء ( العمل الصالح ) .

فالصــبر يجمع بين اسماعيل و ادريس و ذي الكفل - كما بينا في الدرس السابق - بالرغم من إن إدريس في بلد آخر ، و ربما في عصر ما قبل التأريخ المكتوب ، بينما ذو الكفل كان في عصر متأخر ، و في بلد ثان .

و يعود القرآن الى التأكيد على فكرة المسؤولية ، و تحطيم الأصنام النفسية ، التي تحول دون إيمان الانسان بمسؤوليته ، و من تلك الأصنام ( صنم الطائفية ) .

بعض الناس يتهربون من مسؤولياتهم في الحياة ، إعتقادا بأن دينهم الذي يلتزمون به و يتمسكون بعقائده أفضل من دين الآخرين ومن عقائدهم ، و أن نبيهم أفضل من سائر الأنبياء ، و أن إمامهم أفضل من سائر الأئمة ، و يحسبون أن ذلك يغنيهم عن العمل ، و عن تحمل مسؤوليتهم الجدية في الحياة ، و يأتي القرآن ، ليهدم هذه العقدة النفسية ، و يبين بأن الأنبياء هم أمة واحدة ويشكلون القدوة الحسنة للبشرية . فاذن ، لا مجال هناك لأيجاد خلاف بين الأنبياء ، لكي نقول : إنا ننتمي الى هذا فنحن أفضل منكم . كلا ! إن الذي ينتمي الى محمد (ص) ينتمي الى عيسى (ع) و موسى (ع) و إبراهيم (ع) و إدريس (ع) و نوح (ع) ، و جميع الأنبياء و الصديقين عليهم الصلاة و السلام ، و من ينتمي إليهم صادقا فهو ينتمي الى محمد (ص) ، و الانتماء الحقيقي هو العمل الصالح ، لذلك يربط القرآن بين فكرة و حــدة الأنــبياء و فكرة الجزاء ، و فور ما يحدثنا عن وحدة الأنبياء ، يقول الله تعالى :

[ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ]

ويحدثنا في آيات تالية عن الآخرة ، و عن أشراط الساعة ، لان الاقتصار على الولاء النظري الجامد إنما هو صنمية يجب أن تحطم في نفوس البشر لكي لا يلجأ إليها الانسان خشية تحمله المسؤولية ، ذلك لأن القرآن يعالج الفكرة الخاطئة بأمرين :

أولا : يكشف القرآن الحكيم زيف الفكرة التي يعتمد عليها البشر ، و يبرر بها لا مسؤوليته ، ولا جديته في الحياة .

فمثلا يقول : إن الهروب الى ظل التفرقة الطائفية و المذهبية ، للتخلص من ثقل المسؤولية خطأ ، ذلك لان الرسالات الالهية إنما هي واحدة .

ثانيا : يقتلع الجذر النفسي الذي تعتمد عليه هذه الفكرة .

لماذا يهرب الانسان الى ظل الطائفية ، و المذهبية ؟ ولماذا يريد أن يفرق بين الله و رسله ؟ لأنه لم يستوعب حقيقة الجزاء بصورة جدية .

فاذا عرف الانسان : إن عمله سوف يجازى عليه جزاء حقيقية مؤكدا وإنه لا يستطيع أن يهرب من جدية الحياة و تحمل مسؤوليتها فانه لا يبرر تقاعسه بهذه الأفكار الخاطئة ، و هكذا استخدم السياق القرآني هذين الاسلوبين كما سوف نرى .

و الآية تدعو الى وحدة الأمة الإسلامية ، أما ما نراه اليوم من تعدد الدول الإسلامية و تعدد ألانــظمة الحاكمة فيها فهو خلاف المنهج القرآني القويم و هو السر في تخلفنا و شقائنا .

[ 93] [ و تقطعوا أمرهم بينهم ]

بدل أن يقول القرآن " و تقطعوا رسالاتهم " قال : " و تقطعوا أمرهم " ، لعله لكي يوضح بانه حتى ولو اختلف الناس في الدين ، فان الدين لا يختلف لأنه واحد ، و عندما يتقطع الناس أمرهم ، و يختلفون في الرسالات و الرسل ، إنطلاقا من أهوائهمو مصالحهم المادية في الدنيــا ، فهذا سيضــعهم أمام مسؤولية خطيرة بين يدي الله سبحانه و تعالى يوم القيامة .

[ كل إلينا راجعون ]

الجميع يعودون إلينا ، و لكن لا نقيسهم بأمرهم ، إنما نقيسهم بامرنا ( أي برسالاتنا ) و رسالاتنا واحدة ، و حكمنا واحد .

[ 94] و حينما يقول الانسان : أنا مسلم ، نسأله أولا : ما هو عملك ؟ ، أو يقول : أنا أنتمي الى السيد المسيح (ع) ، نقول له : المسيح يجازى بعمله و أنت تجازى بعملك و حدك .

[ فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه ]إعمل أي شيء من الصالحات قليلا كان أو كثيرا فانك ستراه و ستشكر على سعيك و تعطى عليه الجزاء المناسب ، إن كنت مؤمنا .

[ و إنا له كاتبون ]

مادام القلم بيد الله ، و السجل بيده ، فهو لا ينسى عملك ، فلا تقل : إن هذا العمل لا أحد يعلم به ، فما الفائدة من القيام به ؟ ، و نجد في كلمة " من الصالحات " إشارة الى إن على الانسان أن لا يستصغر أي عمل يكون فيه خير ، لأن أعمال الخير الصغيرة عندما تتجمع فانها ستكون أعمالا عظيمة ، يظهر أثرها في المجتمع على المدى القريب أو البعيد .

دع هذا الاحساس ينمو عندك : بأن الله يراقبك و يسجل كل كبيرة و صغيرة من أعمالك الحسنة ، آنئذ تندفع الى العمل بروح عالية و أمل مشرق .

[ 95 ] [ و حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ]إن تلك القرى ( أي الأمم و المجتمعات التي يدمرها الله بسبب كفرها و أعمالها المنحرفة ) لن تعود الى الحياة أبدا ، و هذا ما يؤيده حديث منقول عن الامام أبي جعفر الباقر (ع) حول القيامة الصغرى (1) ، و هناك معنى آخر للآية الكريمة قاله بعض(1) راجع تفسير نور الثقلين / ج 3 / ص 460 .


المفسرين :

" إن القرية التي تهلك تعود الى الجزاء ، و هذا المعنى يفهم من سائر الآيات القرآنيــة أيضا ، فتكون الآية مشيرة الى إن هناك ساعتي هلاك للأمم الظالمة : ساعة خاصة بها ، و ساعة للكون كله ، وهي الساعة العظمى و القيامة الكبرى .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس