فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
زينة الحياة و الهدى
ان القرآن الحكيم يتابع في سورة الكهف سلسلتين من القضايا :
الأولى : عن زينة الحياة الدنيا ، و موقف الاسلام منها .
و الثانية : عن القضايا التي تتصل بالهدى و العلم و المعرفة .
و لا ريب ان بين هاتين السلسلتين علاقات هامة ، اذ ان الانسان الذي يتسلح بالهدى و العلم يتخذ موقفا ايجابيا و متساميا من زينة الحياة الدنيا ، اما ذلك الذي يفقد هذا السلاح ، فان موقفه من زينة الحياة الدنيا و متاعها الزائل هو موقف الأتباع المطلق و الاستسلام التام .
و الواقع ان هذا من مظاهر اعجاز القرآن ، و بلوغه في البلاغة المنتهى ، حيث ان آياته الكريمة تتبع عدة خطوط متوازية و متناسبة تتظافر على توجيه القلب البشري الى قضية جوهرية واحدة ، الا ان السلسلة الاولى كما يبدو هي المحور في آيات هذه السورة حيث تتحدث سورة الكهف عن الرؤية الاسلامية الى زينة الحياة ، و كيف ينبغي على الانسان ان يتحرر من ضغوط زينة الحياة و حب الدنيا و ينظر الى الحياة نظرة موضوعية قوامها معرفة عاقبة الحياة ، و العلاقة الوثيقة بين زينة الحياة الدنيا و التمتع بها و بين عمل الانسان .
فنجد في هذه السورة قصة اصحاب الكهف و الرقيم الذين تحرروا من حب الجاه الذي كانوا فيه ، و استطاعت ارادتهم السامية ان تقلع بهم من قاع الحياة المادية الى سماء الحقيقة و القيم ، و نجد في هذه السورة ايضا قصة معاكسة لذلك ، و هي قصة صاحب الجنة التي دخلهاو زعم انه خالد فيها ، و كلما نصحه الناصح الأمين و قال : ان هذه الجنة انما هي بأذن الله ، و لولا ان تقول ما شاء الله حين تدخل جنتك ، فانهاسوف لا تنفعك و لكنه لم يقبل هذه النصيحة ، و دخل جنته و هو ظالم لنفسه و قال : ما اظن ان تبيد هذه ابدا ، الى ان انتهيت حياته و جنته جميعا الى الفساد و التلف .
و هناك مثلا عن واقع ذي القرنين لأولئك الذين بلغوا جاها عظيما و ملكا كبيرا ، و لكنهم رفضوا الخضوع لضغوط الجاه و زينة الملك .
و تعطينا السورة الكريمة في اطارها العام نظرة شمولية الى موقف الاسلام من زينة الحياة الدنيا ، اما القسم الأول منها فأنه يلقي نظرة عامة على موضوعات السورة كعادة القرآن في بدايات السور التي تتميز بحسن المستهل ، حيث انها تلقي الضوء على اطار السورة و مجمل الموضوعات التي تبحثها .
حيث تذكر آيات هذا الدرس (1 - 8) بأن القرآن كتاب هداية ، و ان الهداية هي طريق الانسان المستقيم الى نعم الله .
و تحدثت كذلك عن الحوافز التي تدفع الانسان الى الالتزام بهدى الله و منها الأنذار و التبشير .
و اشارت الى أخطار الشرك بنسبة الولد الى الله سبحانه و تعالى عما يشركون ثم اشارت الى ان على الرسول أو القائد الذي يقوم مقامه ، واجب التبليغ و بيان الحقائق ، و ليس له ان يقتل نفسه غما وكمدا ، اذا لم يستجب الناس لهدى الله .
و اخيرا بينت الرؤية الاسلامية لزينة الحياة الدنيا ، و متاعها ، بأنها مادة للابتلاء و الإمتحــان الإلهي بالنسبة للبشر و انها بالتالي زائلة ، لان الأرض سوف تصبح صعيدا جــرزا .
ثــم تحدثـت الآيـات من (9 - 16) عن وجوب ملاحظة الانسان لسنن الله في الكون ، فيسلم لحكم الله مهما كانت الحوادث التي يشاهدها او يسمعها بالغةالغرابة عنده و جديدة عليه و الثورة على الظلم هي احدى سنن الله في الحياة ، لان الله يأمر بالعدل و هو قائم بالقسط . كما بينت الآيات اسلوب الثورة و هو : ان يستجيب الانسان لإلهام فطرته ، و يفجر الثورة على كل ألوان الظلم ابتداء من نفسه ، و يعتزل مجتمع الشرك و الجاهلية ، ثم يأتيه تأييد الله الذي يهديه الى الوسائل المادية و المعنوية للإنتصار .
ثم تحدثت الآيات من (17 - 20) عن الألطاف الإلهية و النفحات الربانية التي يتعرض لها الذين يقومون لله و بأسم الله ، الى الحد الذي قد يوقف الله سبحانه معه بعض السنن الطبيعية او يغيرها لمصلحتهم ، ثم اشارت الى سلاح هام يعطيه الله لأوليائه و هو سلاح الرعب ، و تعرضت الآيات لذكر بعض الصفات الأخلاقية الثورية ، كما بينت ان أول مرحلة من مراحل العلم بالنسبة للانسان هو الاعتراف بالجهل ، ثم اقتباس العلم من منبعه الحقيقي و هو : الله العليم الحكيم .
ثم تابعت الآيات من (21 - 26) عن دور حادثة أهل الكهف كواحدة من الظواهر التي تبيــن للناس صدق وعد الله و ترفع من نفوسهم كل ريب حول قضية الساعة و المبعث ، ثم اشارت بطريقة ايحائية الى موقف القرآن من زيارة قبور الأولياء و الصالحين ثم بينت ان الإسلام يؤيد المنهج العلمي القائم على الحقائق لا على الرجم بالغيب و الجدليات العميقة ، و ان القرآن يدعوا الى المرونة و التكيف السليم مع الحياة و يرفض البرامج الجامدة و الأفكار المتحجرة .
و تحدثت الآيات من (27 - 31) عن الضمانات الوقائية للانسان تجاه ضغوط زينة الحياة ، و هي تلاوة القرآن و الأتصال الدائم بالله ، و الانتماء الى التجمع الايماني القائم على اساس المبادئ الرسالية ، لا الاعتبارات المادية ، و اخيرا التحلي بروح التحدي و الاستعداد للصراع ، ثم بينت المقياس الذي يتبعه الانسان لمعرفة القيادة الصالحة ، ثم عرضت صورا مجسمة للجنة و للنار فيها عبرة لمن اعتبر .
و بينت الآيات من (32 - 44) موقف الانسان من النعمة و المنعم ، و ان من مكر الله بالجاحدين ان يملي لهم فيوسع النعمة عليهم ، و من ثم يؤدي اغترارهم بها الى انزال العقوبة الصارمة بهم ، ثم بينت مراحل التدهور العقيدي و من ثم السلوكي عند الانسان الكفور ، الذييستند على معادلة خاطئة و هي ان العطاء في الدنيا دليل رضى الله ، بينما هو في الواقع امتحان للعباد ، كما بينت ان الخضوع للثروة و الاثرياء فيصبح بمنزلة الشرك بالله ، و ان الولاية الحقيقية على العباد لله الصمد فقط ، لا لغيره من المخلوقات التي يطرأ عليهاالتغيير و الزوال .
و صورت لنا الآيات (45 - 49) الحياة من واقع قصة الطبيعة ، و دعت الى الاهتمام بزينة الآخرة و هي الباقيات الصالحات ، ثم بينت دور العمل الصالح في بناء الحضــارة ، و دعت الى شمول النظرة المستقبلية ، و امتدادها الى ما بعد هذه الحياة الزائلة .
ثم عرضت لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة يبين لنا ان كل شيء في هذه الحياة يتحرك ولا يثبت على حال ، حتى الجبال الراسيات ، اذن فلا مسوغ للأعتماد على زنية الدنيا لأنهــا هي الآخرى تتحرك و تزول ، و حملت الانسان مسؤولية اعماله كاملة امام ربه ، تلك الأعمال التي سيراها مسجلة بالكامل و مجسمة امامه ، ان خيرا فخير ، و ان شرا فشر .
ثم جاءت الآيات من (50 - 56) لتبين موقف الانسان من اصحاب الزينة ، و هم المستكبرون في الأرض و عن طريق الصور التاريخية و المستقبلية ، يحث القرآن على ايجاد فاصل بين المؤمنين و بينهم ، فلا يتبعونهم و لا يتخذون منهم عضدا ، لأنهم اعداء أولا ، و جاهلون مضلون ثانيا .
ثم تحدثت عن دور التصور الذهني في معرفة الحقائق الغيبية ، وبينت ان جدلالانسان لا حدود له ، مهما كانت الحقائق القرآنية كثيرة امامه ، ثم اكدت على ان الانسان ليس مجبرا على الهداية ، و ان الاستهزاء هو اخطر حجاب بين عقل الانسان و بين الهداية . و من أشد ظلما لنفسه و للناس و للحقائق ممن اودع الله قلبه فطرة الايمان ثم ذكره عبررسالاته بآيات ربه فأعرض عنها و نسي ذنوبه فجعل الله على قلبه ستارا ، و منع عنه الفقه و جعل في اذنه وقرا فاذا به لا يهتدي ابدا .
و لان اللــه غفــور ذو رحمــة ، فهــو لا يعاجــل الكافريــن بالعــــذاب إلا أن لهــم موعدا لا يحيدون عنه ، و شاهد ذلك تاريخ القرى التــي اهلكت فـــي الموعد المحدد لهلاكها - (57 - 59) - .
و يستمر السياق القرآني (60 - 64) يحدثنا عن قصة موسى مع العالم ، و من خلالها يبين لنا صفات العالم و المتعلم ، و أهمية العلم ، كما يشير الى وجود خلفيات هامة للتقديرات الإلهية ، والأحكام الشرعية .
فلقد عقد موسى العزم على الرحيل الى مجمع البحرين و أنبأ فتاه و مرافقه بأنه حتى لو مضت حقب من الزمان فلن ينثني عن عزمه هذا ، و عندما بلغا مجمع البحرين نسيا حوتهما الذي سرب في الماء و عندما تركا الموقع طلب من صاحبه الغذاء ، الا أنه أخبره بقصة الحوت التي كان قد نسيها وقال : ان الشيطان هو الذي انساه و حين عرف موسى بقصة الحوت علم بأن موقع قرب الحوت في البحر هو بالذات ميعاده مع العالم فعادا او رجعا اليه .
عند الموقع وجد موسى العالم الذي أتاه ربه الرحمة و العلم ، و حين ساله موسى عما اذا كان مستعدا لتعليم رشدا مما علمه الله ، اخبره انه لن يصبر على ذلك الرشد لأنه لم يحط بذلك خبرا ، و اصر موسى و وعده بالطاعة انشاء ربه .
كان موسى نبيا ، و عارفا باحكام الرسالة الظاهرة ، و من خلال تعلمه لخلفيات الأحكام كان ينتفض مستنكرا لأنه لم يعلم حكم الشريعة .
فلمــا خرق العالم السفينة استعظم الأمر ، اما حينما قتل غلاما فقد استنكر ذلك بقوة ، و هكذا عندما بنى جدارا لقوم لا يستحقون و لم يطالبهم بأجر .
و فــي كل مرة يذكره العالم بوعده و يعتذر منه موسى ، حتى افترقا - (65 - 78) - .
لقد اخبره ان السفينة كانت لمساكين و انه سيقرر الملك مصادرة السفن الصالحة فقط فأردت أن اعيبها لمصلحتهم .
امــا الغلام فقد كان يخشى على ابويه الكفر فأراد الله تبديله بمن هو ازكى و اقرب رحمــا .
اما الجدار فقد كان تحته كنز ليتيمين ، فأراد الله سبحانه و تعالى حصولهما على الكنز كرامة لابيهما الذي كان صالحا - (79 - 82) - .
و في اطار الحديث عن زينة الحياة الدنيا في سورة الكهف تناول السياق اهم زينة منها و هي السلطة و ضرب لنا عن واقع ذي القرنين مثلا ، كيف مكن الله به في الأرض و أتــاه من كل شيء سببا و وسيلة اما هو فقد مضى على طريق الأسباب الى أهدافه النبيلة ، فبلغ مغربالشمس و سار في اهلها بالعدل ، و مضى قدما في اتباع الأسباب حتى بلغ مطلع الشمس حيث وجد الناس يعيشون حياة بدائية ، و حتى انهم لا يجدون ما يسترهم عنها ، و مضى في طريق الأسباب فوجد منطقة جبلية ، كان أهلها يحتاجون الى سد يحفظهـم من غارات يأجوج و مأجوج المفسدين ، فبادر الى بناء السد دون ان يطالبهم بأجر ، بل شكر ربه على نعمة السلطة .
انما يسخر طاقاتهم البشرية و مواردهم في بناء الروم ، فجعل زبر الحديد على بعضها و امرهم بأن ينفخوا في النار التي اججوها حولها فلما تحولت الى نار و التحمت ببعضها افرغ عليها لباسا مصنوعا من النحاس المذاب ، فأصبح سدا مرتفعا و منيعا ، فلا استطاعوا عبوره ولا اختراقه .
و شكر ذو القرنين ربه على هذه السلطة بدل ان يفرض على الشعب حمده و شكره ، و كما يفعله الملوك عادة .
و أنبأهم بأن السد لا يقاوم أمر الرب ، فاذا جاء الوعد الموعود فان الله سيجعله دكاء و اذا بالناس يموج بعضهم ببعض و ينفخ في الصور ، و يجمع الله الناس على صعيد واحد جميعا .
ليعـرض على اولئك العميان الذين لم يبصروا آيات الله ، و لم يسمعوا نصيحة المصلحين ، يعرض عليهم جهنم لكفرهم بالله .
و هكذا ضرب الله لنا مثلا ، للمؤمن الذي تجاوز السلطة فملكها و لم تملكه و استفاد منها لأهدافه ، و لم تستفد منه لها - (83 - 101) - .
و في الدرس الأخير من هذه السورة نجد أهم العبر القرآنية المبثوثة فيها ، و في قصصها العجيبة ، و من ابرزها ضرورة توحيد العبودية لله ، و الا يتخذ العباد اولياء من دون الله ، و يبين القرآن ان الأخسرين اعمالا هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون عملا ، بلى اولئك هم الكافرون بآيات الله ، الذي لا يأبه بهم ربهم يوم القيامة بالرغم من مظاهر الزينة و القوة عندهم في الدنيا لأنهم استهانوا بالآيات و الرسل ، بينما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فان لهم جنات الفردوس نزلا ، يخلدون فيها و لا يبحثون لها عن بديل .
تلك السورة من كلمات الله و كلمات الله كثيرة حتى لو كان البحر مدادا لكتابتها لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات الله .
و خلاصة كلمات الله توحيد الله ، و الإعتقاد بان الرسول بشر اوحي اليه ، و ان مــن يرجــو لقاء الله فعليه ان يعمل عملا صالحا ، خالصا لوجه الله ، و لا يشرك بربه احــدا .
|