فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الموقف السليم من السلطة
هدى من الآيات

في سياق الحديث القرآني عن موقف الانسان من زينة الحياة الدنيا ، تتناول هذه الآيات الموقف السليم من شهوة التسلط ، و التي هي أكثر إثارة و أشد جاذبية من أية زينة أخرى فــي الحياة الدنيا ، و ضرب الله لنا مثلا من ذي القرنين الذي كان في العهود السالفة ،و الذي لا نعلم بالضبط فيما إذا كان هو الإسكندر المقدوني الذي فتح كثيرا من بلاد العـالم إنطلاقا من اليونان أو هو ملك من حمير ، أو هو الملك الفارسي كورش الأول - كما تؤكده الدراسات الحديثة - أو هو رجل آخر لم يذكر التاريخ لنا المزيد من قصصه ، ســواء كــان هــذا أو ذاك فلقــد كـان رجلا صالحا ، لم تخدعه بهارج السلطة ، و لم تخرجه الزعامة و السيطرة عن حدود الشرع ، و في هذه القصة يذكرنا القرآن بعدة حقائق منها : -أولا : ان ما حصل لذي القرنين من سلطة ، إنما كان بسبب منه و سبب من الله ، أما السبب الذي كان منه فهو : إتباع هدى الله ، و الاستفادة من الإمكانات المتوفرة في الطبيعة ، و أما السبب الذي كان من الله : فقد علمه الله طريق الحياة و سننها ،و أساليب السيطرة عليها و تسخيرها ، فعمل في سبيل ذلك بهمة فكان العمل منه و كان من الله التوفيق و البركة .

ثانيا : أن ما قام به ذو القرنين من أعمال كان ضمن إطار قدرة الله ، و علمه ، و إحاطته ، فلا أحد يبلغ من السلطة مكانا في ملكوت الله الواسعة إلا بإذن من الله .

ثالثا : كان ذو القرنين رجلا صالحا ، لم ينظر الى الدنيا نظرة منحرفة ، فحينما أوتي السلطة ، أوحى إليه الله ( الهمه الهاما ) : أن بقدرتك أن تسير في الناس بما شئت ، أما أن تعذب ، و أما أن تعمل بالحسنى .

فقال ذو القرنين : إنني سوف أسير في الناس بالعدل ، فمن ظلم فاني أعذبه ، و من لم يظلم فسوف أرحمه .

و انطلق الرجل في عملية تعميقية للسلطة من قاعدة : انها نعمة و فضل من الله ، و أنه يجب أن يستفيد منها إستفادة مشروعة ، فجعلها لاقامة العدل ، و دحض الباطل .

هذه المقالة توحي إلينا بحقيقة أخرى و هي عبرة هذه القصة ، و هي : إن الانسان قادر على التغلب على شهواته ، و على موقعه الاجتماعي ، فلأنك من طبقة الأثرياء او من حاشية السلاطين و شريف من الأشراف ، هل يجب عليك ان تخضع حتما لسلبيات طبقتك او مركزك أو مالك؟ كلا .. إن بإستطاعتك أن تنفلت من قيود المادة و ان احاطت بك ، و ان تحلق في سماء القيم ، باستطاعتك أن تكون سلطانا أو غنيا و تقاوم سلبيات طبقتك ، و ان تكون شريفا و لا يستبد بك حب الشرف و الجاه فيخرجك عن طاعة الرب .

و القرآن الكريم يعطي الانسان الثقة بأنه قادر على أن يتفوق على جاذبية الأرض و المادة ، أن هذا الايحاء المكرر و المستمر في القرآن الكريم هو حجر الأساسفي تربية الانسان ، فلولا شعور الانسان بالثقة بذاته ، و بقدرته على التغلب على ضغوط الحياة ، لما استطاع أن يصبح إنسانا صالحا مستقيما .

رابعا : أن على المؤمنين أن يعملوا من أجل رفاهية الانسان في الأرض ، و أن الاسلام لم يأت لمصلحة طائفة معينة من البشر و ليس هدف الحكومة الاسلامية بناء دولة قوية ذات صناعة متقدمة ، بل عليها أن تسعى من أجل كل المستضعفين في الأرض ، سواء كانوا مسلمين أولم يكونوا ، لأن الانسان كأنسان محترم في الاسلام و على المؤمن ان يعمل من أجل رفاهية الانسانية عامة .

و كذلك الحزب الاسلامي و التجمع الايماني ليس هدفه السلطة ، انما عليه السعي من أجل الناس ، لرفع الضيم عن كل الناس سواءا وصل الى السلطة أو لم يصل ، نعم .. قد تصبح السلطة أداة لتنفيذ هذه المهمة ، و لكن السلطة بحد ذاتها ليست هدفا .

ان الاسلام لا يدعوك الى العنصرية بأن ترى نفسك أحسن من الآخرين ، و تعتبر نفسك مركز الدنيا فتسعى من أجل إيصال نفسك الى مركز القدرة ، ان تلك العنصرية يعارضها الاسلام بقوة ، و هي الانحراف الذي وقع فيه اليهود في التاريخ ، فبعد أن كانوا مجموعـة عاملة منأجل الناس اصبحوا مجموعة عاملة من أجل أنفسهم على حساب الناس ، فاعتبروا أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار .

لقد كان ذو القرنين عبدا صالحا ، تحرك في العالم شرقا و غربا ، و من الطبيعي ان أبناء العالم ذلك اليوم لم يكونوا مؤمنين ، و لكنه حينما وصل الى منطقة معينة ، و طلب منه أهلها أن يبني لهم سدا ، لم ينهرهم بل قال : نعم ، أن الله مكنني و أعطاني السلطة من أجل رفاهية الانسان ، من أجلكم أيها المحرومون سواء كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين ، فبنى لهم السد و لم يطالبهم بأجر ، و هذا مثل أعلى للدولةالإسلامية .

فلنفتــرض أنه قد أصبحت دولة إسلامية بمثابة أمريكا و روسيا في القوة و السلطة ، فهل تبحث كأمريكــا و روسيا عن أسواق جديدة لتصدير سلعها ؟ و مواد خام جديدة لتستفيد منها ؟ أو شعوب جديدة لتستعمرها ؟ كلا .. إنما يجب أن تسعى تلك الدولة المسلمة الغنية من أجل رفاهية الانسانية في العالم ، و تبحث عن أي مظلوم في العالم فتهرع إليه لتنقذه من الظلم ، و تبحث عن أي محروم لتنتشله من الجوع و الحرمان .

هذا هو هدف الأمة الاسلامية ، و هذه في الواقع هي الحدود التي تفصل بين الايمان و الجاهليــة ، فليست الحدود هي الشعارات و الكلمات ، و حتى الطقوس و العبادات ، إنما المؤمن هو الذي يخرج من ذاته من أجل الآخرين ، و إنما " المسلم من سلم الناس من يده ولسانـه " و الدولة الاسلامية هي التي تخرج من ذاتها من أجل رفاه الآخرين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس