فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
ركيزة الحضارة
[61] من ميزات رسالات الله ، انها تأتي بلغة الذين تهبط لهم ، و على يد واحد منهم ليكون ابلغ في التأثير ، و ابعد عن العصبية .
[ و إلى ثمود أخاهم صالحا ]
يقال بان ثمود قوم عرب عاشوا في القرى بين الشام و المدينة .
[ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]
و نزلت هذه الكلمة على رؤوسهم كالصاعقة لأنها استهدفت تغيير مسار تفكيرهم ، و منهج حياتهم و قيم سلوكهم ، و نظام مجتمعهم السياسي و الإقتصادي .
عبادة الله يعني القبول بمناهجه و قيمه . عبادة الله تعني نبذ المسلمات الثقافية التي يؤلهها الناس ، و يعتبرونها مقدسة لا يحوم حولها ريب ، و لا يقترب اليها التفكير ، و لا يتناولها النقاش ، تلك المقدسات الموجودة في كتب الكهنة ، و التي يحكم من يخالفهابالخروج عن المجتمع ، و يجازى بأشد العقاب .
و عبادة الله تعني بالتالي رفض سلطة رؤساء العشائر و وجهاء البلد ، و اصحاب الثروة و القوة ، لذلك كانت ردود الفعل الاولية لهذه الدعوة ، هي الرفض المطلق خصوصا و ان المستكبرين و المفسدين يوهمون الناس أبدا بأن التقدم و الرفاه و الأمن و الإزدهار و حتى الرزق الطبيعي الذي يوفر لهم كل ذلك جاء نتيجة الكيانالاجتماعي و الثقافي ، و النظام السياسي و الإقتصادي الذي يشرفون على تسييره ، فلو تزلزل الكيان و انهدم النظام فان كل الخيرات مهددة بالزوال هي الأخرى . لذلك ذكرهم رسولهم صالح (ع) بأن الخيرات إنما هي من الله الذي انشأهم ، و جعلهم قادرين على عمارة الأرض .
[ هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها ]
فاللــه هو الذي اودع في البشر الطموح و اعطاه القدرة ، و طوع له ما في الأرض ، و تلك هي شروط عمارة الارض و بناء المدينة ، و ليس النظام الفاسد سوى سارق لخيرات الناس ، و هاد لهم الى الهلكة . و لو لا رفض الناس للنظام الفاسد ، و عودتهم الى الطريق المستقيم فان المدينة مهددة بالفناء .
[ فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ]
فمن أسماء الله الحسنى ، و كذلك من نعمه الكبرى هي انه سبحانه و تعالى فتح امام النـــاس باب الإستغفار و التوبة ، و اعطى الناس القدرة على تصحيح مسيرتهم الضالة ، و تطهير آثار الماضي الفاسد ، كما اعطاهم الفرصة لفتح صفحة جديدة مع الله ، و مع سنن الله ،و لنا في هذه الآية وقفتان للتدبر :
الاولى : ان ما في عالم اليوم من مدنية مزدهرة ، ليست بسبب الأنظمة الجاهلية الحاكمة هنا و هناك ، فليست الرأسمالية المادية ، و لا الإشتراكية الجاهلية هما سبب تقدم امريكا و أوروبا و اليابان من جهة ، و روسيا و أوروبا الشرقية من جهة ثانية ، و لقد رأيناكيف ان بلدانا كثيرة في العالم الثالث ازدادت تخلفا لما قلدت الغرب في ماديتها الرأسمالية، أو الشرق في جاهليتها الشيوعية أو الاشتراكية ، فمصر عبد الناصر لم يزدها تقليدها للشرق إلا سوء ، و كذلك مصر فاروق و أنور السادات ، ما ازدادت بالرأسمالية إلا سوء ،و السبب : أن التقدم لم يكن بسبب النظام
المادي و لا حتى بسبب فصل الدين عن السياسة ، أو الانفصال عن الجذور التاريخية مثل ما فعلته تركيا اتاتورك ، و انما السبب وراء المدنية و التقدم هو السعي من أجل عمارة الأرض عبر الإلتزام بسنن الله الصالحة، كالعمل و الاجتهاد و التعاون و التطلع ، و ما دامتهذه الشعوب ملتزمة بهذه السنن فهي تحافظ على مكاسبها ، و حين تنحرف و تعوض عن السعي بالفخر ، و عن الاجتهاد بالغرور ، و عن التعاون و التطلع بالمفاخرة و الإستغلال ، فانه مهددة بفقدان مكاسبها ، و هذه الحقيقة تدعونا الى الإعتقاد بأن الأنظمة المادية ، و العادات الجاهلية السائدة على الشعوب المتقدمة سوف تضيع مكاسبها و تفسد مدنيتها ، و ان بداية الضياع هو تجيير جهود الناس و مساعيهم لمصلحة فئة الأغنياء المتسلطين في الغرب ، أو حزب المستكبرين الحاكم في الشرق .
الثانية : ان الحضارات البشرية تبدأ بتطبيق سنن الله في تسخير الحياة كالسعي و التعاون و لكنها تنسى دور هذه السنن في تقدمها ، و تتوجه الى الاصنام و تزعم انها هي واهبة التقدم و الرفاه ، و هذا الإنحراف عادة بشرية تكاد تكون سنن ثابتة لو لا حرية البشر التي تتحداها ، و لولا رسالة الله التي تذكر البشر بهذه الحرية ، و من هنا لا يعترف الإسلام بحتمية الانهيار في الحضارات ، بل يضع لها فرصة الاستمرار عن طريق اصلاح نفسها ، و التوبة الى سنن الله ، و هذا ما تشير اليه هذه الآية التي تعطي المزيد من الأمل في الاستمرار في نهايتها و تقول : إن الله قريب مجيب ، أي ان إصلاح الفاسد ، و تجديد الحضارات ( بالإستغفار و التوبة ) أيسر مما يزعم البشر .
ضلالة الآباء أم هدى الرسالة :
[62] و كان قوم صالح غارقين في الماضي يعتزون بامجادهم الغابرة ، و يقلدون آباءهم ، و لذلك عادوا صالحا بالرغم من ثقتهم بشخصه .
[ قالوا يا صالح قد كنت فينــا مرجــوا قبـــــل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد أباؤنـــا ]و لقدسية الماضي في أعينهم ارتابوا في الرسالة سلفا و من دون تفكر ، وقالوا :
[ و إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ]
ربما تشير الآية الى ان قوم صالح لم يكتفوا بالشك فيه ، بل اتهموه بالباطل ردا على تجهيل آبائهم ، و رميهم بالضلالة .
[63] و دافع صالح عن نفسه ، و بين سبب استقامته على هدى الرسالة رغم ضغوطهم ، و ضرب لهم مثلا بعمله هذا ، لكي يقاوموا ضغط الماضي ، و يتحرروا من قيوده ، فبين انه على سبيل واضح بينه له ربه ، و قد انتهى به السير في السبيل الى تحقيق مكاسب عملية من الهدى والطمأنينة و .. و .. و انه يخشى ربه ان عصاه ، و أنهم لا يقدرون على تقديم العون له .
[ قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي و ءاتاني منه رحمة ]فلماذا لا تشكون في طريقتكم ، و تفكرون بأن هذا الطريق قد يكون صحيحا ؟! لا سيما و هناك خوف الضرر .
[ فمن ينصرني من الله إن عصيته ]
ان البشر يفكر في تغيير طريقته لو أحس بالخطر و خاف منه ، و لذلك ينبه القرآن الى إحتمال الخطر في حالة عدم التفكير في صدق الرسالة .
[ فما تزيدونني غير تخسير ]
فبالإضافة الى إحتمال الخطر ، هناك إحتمال الضرر و الخسارة ، و انعدام الربح و الكسب .
[64] و كآخر محاولة لهدايتهم ، و لقطع حجتهم ، و بعد أن طالبوه بالآية الواضحة ، أخرج الله لهم ناقة ، و قال لهم صالح (ع) :
[ و يا قوم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في ارض الله و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ]
|