بينات من الآيات
في مهب الفساد [30] يبدو ان المجتمع المصري كان قد تعرض آنئذ لموجة فساد عريضة و جاءت قضية يوسف تفضح الحالة المتردية التي بلغها المجتمع ، و كانت كالقشة التي قصمت ظهر بعير الفساد المثقل بالذنوب .
لقد كان حديث المجالس عندهم الفساد الخلقي . اذ انتشر نبأ مراودة امرأة العزيز ليوسف فتاها ، و العامل في بيتها كالنار في الهشيم .
[ و قال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه ]أي تطلب ممن يعمل عندها الفاحشة ليفجر بها .
[ قد شغفها حبا ]
اي دخل حب يوسف شغاف قلبها ، و استولى على فؤادها ، و اذا كان المجتمع سليما من الناحية الخلقية إذا لم يرض باشاعة الفاحشة ، و نشر أنباء الفساد .
[ إنا لنراها في ضلال مبين ]
يبدو ان النسوة كن يرين ضلالة امرأة العزيز لا لأنها تفعل الفاحشة ، بل بسبب هبوطها الى مستوى فعل الفاحشة مع فتاها و هو من عنصر آخر غير عنصرهم .
[31] و عرفت امرأة ملك مصر ان النسوة يتآمرن ضدها ، و يتخذن من قصةعشقها وسيلة للحط من شأنها ، فأرادت أن تورطهن في حب يوسف لتنقذ نفسها من المشكلة ، فأرسلت اليهن و هيأت لهن مائدة ، و اعطت لكل واحدة منهن سكينا ، و أمرت يوسف بأن يدخل عليهن .
[ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن و أعتدت لهن متكئا ]المكر لغة : هو الفتل بالحيلة الى ما يراد ، و انما سميت الاشاعة التي بثتها النسوة حولها مكرا لأنهن اردن شيئا آخرا من الاشاعة . ربما إسقاط هيبتها أو محاولة الوصول الى يوسف ، و معرفة سبب ولهها به .
أما المتكأ : فهو الوسادة و هي كناية عن المائدة أو لا أقل المجلس الطويل الذي يستراح اليه ، و تدل الآية على وجود شيء يؤكل و يهيء قبل الأكل بالسكين .
[ و آتت كل واحدة منهن سكينا و قالت اخرج عليهن ]
و هكذا خرج يوسف على النسوة في وقت إنشغالهن عنه بالطعام .
[ فلما رأينه أكبرنه ]
اي عظمن يوسف أيما تعظيم ، بجلاله و جماله .
[ و قطعن أيديهن ]
فأخذن يجرحن ايديهن بسبب الانشغال بجمال يوسف .
[ و قلن حاش لله ما هذا بشرا ]
أي ان يوسف منزه عما ينسب إليه ، و نزاهته انما هي لله بل انه ليس ببشر .
[ ان هذا إلا ملك كريم ]
اذا فالتعيير الذي تعرضت له امرأة العزيز بسبب مراودتها لفتاها حتى قالت عنها النسوة انها في ضلال مبين . لم يكن في موقعه أبدا . اذ انه أرفع من مستوى البشر ، فكيف يحسب فتى عاملا في بيت العزيز - كما كانوا يزعمون - .
[32] و استفادت امرأة العزيز من الوضع و اجابت عن تعييرهن لها .
[ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ]
ان هذا هو سبب تعييركن لي ، فهل يعير من يعشق مثل هذا الفتى .
[ و لقد راودته عن نفسه فاستعصم ]
أي انه طلب العصمة من الله حتى لا يفعل ما يؤمر به ][ و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين ]و هنا أرادت زليخا ان تأخذ الشرعية من النسوة لفعلها ، و يبدو ان النسوة قد أعطينها تلك الشرعية مما دل على مدى الفساد المنتشر في ذلك المجتمع الجاهلي ، حيث انه يسمح لامرأة تحب الفجور أن تسجن فتى بريئا لمجرد طهارته و استعصامه بالله عن الفحشاء .
السجن أحب الي :
[33] و يبدو أن النسوة أختلين بيوسف الواحدة تلو الاخرى بحجة السعي وراء اقناعه بقبول كلام سيدته ، و لكنهن عرضن ليوسف الفجور بهن ، و الشاهد هو قول يوسف الذي ضاق بهن ذرعا ، و توسل بالله أن ينقذه من أيديهن و لو كان بالسجن .
[ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ]
و بدل ان كانت المشكلة واحدة فقط اصبحت الآن متعددة ، حيث ان الفساد الذي كان شائعا في تلك البيئة قد احاط بشخص يوسف (ع) ، و لكن كانت تلك حكمة بالغة لله حيث ان تحدي يوسف (ع) و هو فتى اشتري للخدمة ، و طالبته سيدات مصر للفاحشة بما فيهن من جمال و شهرة ،ان تحديه للفساد ، و للضغوط المختلفة هز المجتمع الجاهلي من الاعماق و أثار فيهم التساؤلات إذا فوق قيمة المادة . قيمة اسمى هي قيمة الايمان . اذا فنحن على خطا . اذ كيف يرفض هذا الفتى هذا العرض المغري ، ام كيف يتحدى هذه الضغوط الهائلة ، فيعرض نفسه للسجن والأهانة ؟
لقد كانت الأغراءات كبيرة إلى درجة نرى يوسف (ع) ذلك الفتى الصديق يستعين بالله منها و يقول :
[ و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين ]اي : ان لم تدركه رحمة الله و عصمته يكاد يميل اليهن و يصبح جاهلا بذلك ، او يفعل الفحشاء .
[34] و أنقذه الله تعالى في الوقت المناسب و اعطاه القوة الكافية لمقاومة جاذبية المادة الثقيلة و من ثم التحليق في سماء القيم .
[ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ]و هكذا يصرف الله تعالى عن المؤمنين الصادقين كيد شياطين الأنس و الجن ، و يعطي الفرد عصمة عن الذنوب بعد ان يطلب الفرد ذلك من ربه .
|